فلما كانت الليلة ٥٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العلماء والحكماء لما حضروا عند الملك حردوب أكرمهم إكرامًا زائدًا، وأحضر الجواري بين أيديهم، وأوصاهم أن يعلِّموهن الحكمة والأدب، فامتثلوا أمره.
هذا ما كان من أمر الملك حردوب، وأما ما كان من أمر الملك عمر النعمان، فإنه لما عاد من الصيد والقنص وطلع القصر، طلب الملكة إبريزة فلم يجدها، ولم يخبره أحد عنها، فعظم عليه ذلك وقال: كيف تخرج هذه الجارية من القصر ولم يعلم بها أحد؟ فإن كانت مملكتي على هذا الأمر، فإنها ضائعة المصلحة ولا ضابط لها! فما بقيتُ أخرج إلى الصيد والقنص حتى أرسل إلى الأبواب مَن يتوكَّل بها. واشتد حزنه، وضاق صدره لفراق الملكة إبريزة، فبينما هو كذلك وإذا بولده شركان قد أتى من سفره، فأعلمه والده بذلك، وأخبره أنها هربت وهو في الصيد والقنص؛ فاغتمَّ شركان لذلك غمًّا شديدًا. ثم إن الملك صار يتفقَّد ولديه كلَّ يوم ويكرمهما، وكان قد أحضر العلماء والحكماء ليعلموهما العلم، ورتَّب لهما الرواتب، فلما رأى شركان ذلك الأمر غضب غضبًا شديدًا، وحسد أخوَيْه على ذلك إلى أن ظهر أثر الغيظ في وجهه، ولم يزل متمرِّضًا بسبب هذا الأمر، فقال له والده يومًا من الأيام: ما لي أراك تزداد ضعفًا في جسمك، واصفرارًا في لونك؟ فقال له شركان: يا والدي، كلما رأيتك تقرِّب أخويَّ، وتُحسِن إليهما يحصل عندي حسد، وأخاف أن يزيد بي الحسد فأقتلهما وتقتلني أنت بسببهما إذا أنا قتلتهما، فمرض جسمي، وتغيَّرَ لوني بسبب ذلك، ولكن أنا أشتهي من إحسانك أن تعطيني قلعةً من القلاع حتى أقيم بها بقيةَ عمري؛ فإن صاحب المثل يقول: بُعدي عن حبيبي أجمل لي وأحسن من عين لا تنظر وقلب لا يحزن. ثم أطرق برأسه إلى الأرض.
فلما سمع الملك عمر النعمان كلامه، عرف سبب ما هو فيه من التقصير، فأخذ بخاطره وقال له: يا ولدي، إني أجيبك إلى ما تريد، وليس في ملكي أكبر من قلعة دمشق، فقد ملكتَها من هذا الوقت. ثم أحضر الموقِّعين في الوقت والساعة، وأمرهم بكتابة تقليد ولده شركان ولاية دمشق الشام، فكتبوا له ذلك وجهَّزوه، وأخذ الوزير دندان معه وأوصاه بالمملكة والسياسة، وقلَّده أموره، ثم ودَّعه والده وودَّعته الأمراء وأكابر الدولة، وسار بالعسكر حتى وصل إلى دمشق، فلما وصل إليها دقَّ له أهلها الكاسات، وصاحوا بالبوقات، وزينوا المدينة، وقابلوه بموكب عظيم سار فيه أهل الميمنة ميمنة، وأهل الميسرة ميسرة.
هذا ما كان من أمر شركان، وأما ما كان من أمر والده عمر النعمان، فإنه بعد سفر ولده شركان أقبل عليه الحكماء، وقالوا له: يا مولانا، إن أولادك تعلَّموا العلم والحكمة والأدب. فعند ذلك فرح الملك عمر النعمان فرحًا شديدًا، وأنعم على جميع الحكماء؛ حيث رأى ضوء المكان كبر وترعرع، وركب الخيل، وصار له من العمر أربع عشرة سنة، وطلع مشتغلًا بالدين والعبادة، محبًّا للفقراء وأهل العلم والقرآن، وصار أهل بغداد يحبونه نساءً ورجالًا، إلى أن طاف ببغداد محمل العراق من أجل الحج، وزيارة قبر النبي ﷺ، فلما رأى ضوء المكان موكب المحمل اشتاق إلى الحج، فدخل على والده وقال له: إني أتيتُ إليك لأستأذنك في أن أحجَّ. فمنعه من ذلك، وقال له: اصبر إلى العام القابل، وأنا أتوجه إلى الحج وآخذك معي. فلما رأى الأمر يطول عليه، دخل على أخته نزهة الزمان فوجدها قائمةً تصلي، فلما قضت الصلاة قال لها: إني قد قتلني الشوق إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي — عليه الصلاة والسلام — واستأذنت والدي فمنعني من ذلك، فالمقصود أن آخذ شيئًا من المال وأخرج إلى الحج سرًّا ولا أُعلِم أبي بذلك. فقالت له أخته: بالله عليك أن تأخذني معك، ولا تحرمني من زيارة النبي ﷺ. فقال لها: إذا جنَّ الظلام فاخرجي من هذا المكان، ولا تُعلِمي أحدًا بذلك.
فلما كان نصف الليل قامت نزهة الزمان، وأخذت شيئًا من المال، ولبست لباس الرجال، وكانت قد بلغت من العمر مثل عمر ضوء المكان، ومشت متوجهة إلى باب القصر، فوجدت أخاها ضوء المكان قد جهَّز الجِمال، فركب وأركبها، وسارا ليلًا واختلطا بالحجيج، ومشيا إلى أن صارا في وسط الحج العراقي، وما زالا سائرين، وكتب الله لهما السلامة حتى دخلَا مكة المشرَّفة، ووقفَا بعرفات، وقضيَا مناسِكَ الحج، ثم توجَّها إلى زيارة النبي ﷺ، فزاراه. وبعد ذلك أرادَا الرجوع مع الحجاج إلى بلادهم، فقال ضوء المكان لأخته: يا أختي، أريد أن أزور بيت المقدس والخليل إبراهيم — عليه الصلاة والسلام. فقالت له: وأنا كذلك. واتفقا على ذلك، ثم خرج واكترى له ولها مع المقادسة، وجهَّزا حالهما، وتوجها مع الركب، فحصل لأخته في تلك الليلة حمَّى باردة فتشوَّشت، ثم شُفيت، وتشوَّشَ الآخَر، فصارت تلاطفه في ضعفه، ولم يزالا سائرين إلى أن دخلا بيت المقدس، واشتد المرض على ضوء المكان، ثم إنهما نزلا في خان هناك، واكتريا لهما فيه حجرة واستقرَّا فيها، ولم يزل المرض يتزايد على ضوء المكان حتى أنحله وغاب عن الدنيا، فاغتَمَّتْ لذلك أخته نزهة الزمان، وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا حكم الله.
ثم إنها قعدت هي وأخوها في ذلك المكان، وقد زاد به الضعف وهي تخدمه وتنفق عليه نفسها، حتى فرغ ما معها من المال وافتقرت، ولم يَبْقَ معها دينار ولا درهم، فأرسلت صبي الخان إلى السوق بشيء من قماشها فباعه وأنفقته على أخيها، ثم باعت شيئًا آخَر، ولم تزل تبيع من أمتعتها شيئًا فشيئًا حتى لم يَبْقَ لها غير حصير مقطَّعة، فبكت وقالت: لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ. ثم قال لها أخوها: يا أختي، إني قد أحسستُ بالعافية، وفي خاطري شيء من اللحم المشوي. فقالت له أخته: والله يا أخي، إني ما لي وجه للسؤال، ولكن غدًا أدخل بيت أحد من الأكابر وأخدم وأعمل بشيء نقتات به أنا وأنت. ثم تفكَّرت ساعةً وقالت له: إني لا يهون عليَّ فراقك وأنت في هذه الحالة، ولكن لا بد من طلب المعاش قهرًا عني. فقال لها أخوها: أَبَعْدَ العزِّ تصبحين ذليلةً؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم بكى وبكت، وقالت له: يا أخي، نحن غرباء، وقد أقمنا هنا سنة كاملة ما دقَّ علينا البابَ أحدٌ، فهل نموت من الجوع؟ فليس عندي من الرأي إلا أني أخرج وأخدم، وآتيك بشيء نقتات به إلى أن تبرأ من مرضك، ثم نسافر إلى بلادنا. ومكثت تبكي ساعة.
ثم بعد ذلك قامت نزهة الزمان، وغطت رأسها بقطعة عباءة من ثياب الجمَّالين كان صاحبها نسيها عندهما، وقبَّلت رأسَ أخيها واعتنقَتْه، وخرجت من عنده وهي تبكي، ولم تعلم أين تمضي. وما زال أخوها ينتظرها إلى أن قرب وقت العشاء ولم تأتِ، فمكث بعد ذلك وهو ينتظرها إلى أن طلع النهار فلم تَعُدْ إليه، ولم يزل على هذه الحالة يومين، فعظم ذلك عنده، وارتجف قلبه عليها، واشتدَّ به الجوع، فخرج من الحجرة وصاح على صبي الخان وقال له: أريد أن تحملني إلى السوق. فحمله وألقاه في السوق، فاجتمع عليه أهل القدس وبكوا عليه لمَّا رأوه على تلك الحالة، فأشار إليهم بطلب شيء يأكله، فجاءوا له من بعض التجار الذين في السوق ببعض دراهم، واشتروا له شيئًا وأطعموه إياه، ثم حملوه ووضعوه على دكان وفرشوا له قطعة برش، ووضعوا عند رأسه إبريقًا، فلما أقبل الليل انصرف عنه كلُّ الناس وهم حاملون همَّه، فلما كان نصف الليل تذكَّرَ أخته، فازداد به الضعف، وامتنع من الأكل والشرب، وغاب عن الوجود، فقام أهل السوق وأخذوا له من التجار ثلاثين درهمًا واكتروا له جملًا، وقالوا للجمَّال: احمل هذا وأوصله إلى دمشق، وأدخله المارستان لعَلَّه أن يبرأ. فقال لهم: على الرأس. ثم قال في نفسه: كيف أمضي بهذا المريض وهو مُشرِف على الموت؟! ثم خرج به إلى مكان واختفى به إلى الليل، ثم ألقاه على مزبلة مستوقد حمَّام، ثم مضى إلى حال سبيله.
فلما أصبح الصباح طلع وقَّاد الحمَّام إلى شغله، فوجده ملقًى على ظهره، فقال في نفسه: لأي شيء ما يرمون هذا الميت إلا هنا؟ ورفسه برجله فتحرَّك، فقال له الوقَّاد: الواحد منكم يأكل قطعةَ حشيش ويرمي نفسه في أي موضع كان! ثم نظر وجهه فرآه لا نبات بعارضيه، وهو ذو بهاء وجمال، فأخذته الرأفة عليه، وعرف أنه مريض وغريب، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني دخلت في خطيئة هذا الصبي، وقد أوصى النبي ﷺ بإكرام الغريب، لا سيما إذا كان الغريب مريضًا. ثم حمله وأتى به إلى منزله، ودخل على زوجته وأمرها أن تخدمه وتفرش له بساطًا، ففرشت له وجعلت تحت رأسه وسادةً، وسخَّنت له ماء وغسلت له به يديه ورجلَيْه ووجهه، وخرج الوقَّاد إلى السوق، وأتى له بشيء من ماء الورد والسكر، ورش ماء الورد على وجهه وسقاه السكر، وأخرج له قميصًا نظيفًا وألبسه إياه، فشمَّ نسيمَ الصحة، وتوجَّهَتْ إليه العافية، واتكأ على المخدة، ففرح الوقَّاد بذلك، وقال: الحمد لله على عافية هذا الصبي، اللهم إني أسألك بسرِّكَ المكنون أن تجعل سلامة هذا الشاب على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.