فلما كانت الليلة ٦٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أمر بكتابة منشور للتاجر على طِبق مراده من أنه لا يدفع على تجارته عُشْرًا أبدًا، ولا يتعرَّض له أحد بسوء في تجارته. وبعد ذلك أمر له بخلعة سنية، ثم صرف جميع مَن عنده، ولم يَبْقَ عنده غير القضاة والتاجر، وقال للقضاة: أريد أن تسمعوا من ألفاظ هذه الجارية ما يدل على علمها وأدبها من كل ما ادَّعَاه التاجر لنحقِّق صدْقَ كلامه. فقالوا: لا بأس بذلك. فأمر بإرخاء ستارة بينه هو ومَن معه، وبين الجارية ومَن معها، وصار جميع النساء اللاتي مع الجارية خلف الستارة يقبِّلن يديها ورجليها لمَّا علموا أنها صارت زوجة الملك. ثم دُرْنَ حولها، وقمن بخدمتها، وخفَّفن ما عليها من الثياب، وصرن ينظرن حُسْنَها وجمالها. وسمعت نساء الأمراء والوزراء أن الملك شركان اشترى جاريةً لا مثيلَ لها في الجمال والعلم والأدب، وأنها حوَتْ جميعَ العلوم، وقد وزن ثمنها ثلاثمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وأعتقها، وكتب كتابَه عليها، وأحضر القضاة الأربعة لأجل امتحانها حتى ينظر كيف تجاوبهم عن أسئلتهم. فطلب النساءُ الإذنَ من أزواجهن، ومضين إلى القصر الذي فيه نزهة الزمان، فلما دخلن عليها وجدن الخدم وقوفًا بين يديها، وحين رأت نساء الأمراء والوزراء داخلات عليها قامت إليهن وقابلتهن، وقامت الجواري خلفها، وتلقت النساء بالترحيب، وصارت تتبسم في وجوههن، فأخذت قلوبهن وأنزلتهن في مراتبهن كأنها تربَّتْ معهن، فتعجَّبن من حُسْنها وجمالها، وعقلها وأدبها، وقلن لبعضهن: ما هذه جارية، بل هي ملكة بنت ملك. وصرن يعظمن قدرها، وقلن لها: يا سيدتنا، أضاءت بك بلدتنا، وشرَّفتِ بلادنا ومملكتنا، فالمملكة مملكتك، والقصر قصرك، وكلنا جواريك، فبالله لا تخلينا من إحسانك والنظر إلى حُسْنك. فشكرتهن على ذلك.
هذا كله والستارة مرخاة بين نزهة الزمان ومَن عندها من النساء، وبين الملك شركان هو والقضاة الأربعة والتاجر، ثم بعد ذلك ناداها الملك شركان، وقال لها: أيتها الجارية العزيزة في زمانها، إن هذا التاجر قد وصفك بالعلم والأدب، وادَّعَى أنك تعرفين في جميع العلوم حتى علم النجوم، فأسمعينا من كل باب طرفًا يسيرًا. فلما سمعت كلامه قالت: سمعًا وطاعة أيها الملك. الباب الأول في السياسات والآداب الملكية، وما ينبغي لولاة الأمور الشرعية، وما يلزمهم من قِبَل الأخلاق المرضية؛ اعلم أيها الملك أن مقاصد الخَلْق منتهية إلى الدين والدنيا؛ لأنه لا يتوصل أحد إلى الدين إلا بالدنيا؛ فإن الدنيا نِعْمَ الطريق إلى الآخرة، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال أهلها، وأعمال الناس تنقسم إلى أربعة أقسام: الإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة. فالإمارة ينبغي لها السياسة التامة، والفراسة الصادقة؛ لأن الإمارة مدار عمارة الدنيا التي هي طريق إلى الآخرة؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا للعباد كزاد المسافر إلى تحصيل المراد، فينبغي لكل إنسان أن يتناول منها بقدر ما يوصله إلى الله، ولا يتبع في ذلك نفسه وهواه، ولو تناولها الناس بالعدل لانقطعت الخصومات، ولكنهم يتناولونها بالجور، ومتابعة الهوى؛ فتسبَّبت عن انهماكهم عليها الخصوماتُ، فاحتاجوا إلى سلطان لأجل أن ينصف بينهم، ويضبط أمورهم، ولولا ردع الملك الناس عن بعضهم لغلب قويهم على ضعيفهم، وقد قال أزدشير: إن الدين والملك توءمان؛ فالدين كنز، والملك حارس، وقد دلَّتِ الشرائع والعقول على أنه يجب على الناس أن يتخذوا سلطانًا يدفع الظالم عن المظلوم، وينصف الضعيف من القوى، ويكفُّ بأس العاتي والباغي.
واعلم أيها الملك أنه على قدر حسن أخلاق السلطان يكون الزمان، فإنه قد قال رسول الله ﷺ: شيئان في الناس إنْ صلحَا صلحَ الناسُ، وإنْ فسدَا فسَدَ الناسُ: العلماء والأمراء. وقد قال بعض الحكماء: الملوك ثلاثة؛ ملك دين، وملك محافظة على الحرمات، وملك هوى، فأما ملك الدين فإنه يلزم رعيته باتباع دينهم، وينبغي أن يكون أدينهم؛ لأنه هو الذي يُقتدَى به في أمور الدين، ويلزم الناس طاعته فيما أمر به موافقًا للأحكام الشرعية، ولكنه ينزل الساخط منزلة الراضي بسبب التسليم إلى الأقدار. وأما ملك المحافظة على الحرمات، فإنه يقوم بأمور الدين والدنيا، ويُلزِم الناسَ باتِّبَاع الشرع والمحافظة على المروءة، ويكون جامعًا بين القلم والسيف، فمَن زاغ عمَّا سطَّرَ القلمُ زلَّتْ به القَدَم، فيقوِّم اعوجاجه بحدِّ الحسام، وينشر العدل في جميع الأنام. وأما ملك الهوى فلا دين له إلا اتباع هواه، ولم يخشَ سطوة مولاه الذي ولَّاه، فمآلُ ملْكِه إلى الدمار، ونهاية عتوه إلى دار البوار. وقالت الحكماء: الملك يحتاج إلى كثير من الناس، وهم محتاجون إلى واحد، ولأجل ذلك وجب أن يكون عارفًا بأخلاقهم ليردَّ اختلافهم إلى وفاقهم، ويعمهم بعدله، ويغمرهم بفضله.
واعلم أيها الملك أن أزدشير وهو الثالث من ملوك الفرس، قد ملك الأقاليم جميعها، وقسَّمَها على أربعة أقسام، وجعل له من أجل ذلك أربع خواتم، لكل قسم خاتم؛ الأول: خاتم البحر والشرطة والمحاماة، وكتب عليه النيابات. الثاني: خاتم الخراج وجباية الأموال، وكتب عليه العمارة. الثالث: خاتم القوت، وكتب عليه الرخاء. الرابع: خاتم المظالم، وكتب عليه العدل. واستمرت هذه الرسوم في الفرس إلى أن ظهر الإسلام. وكتب كسرى لابنه وهو في جيشه: لا توسعنَّ على جيشك، فيستغنوا عنك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.