فلما كانت الليلة ٧٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال للملك ضوء المكان: فنظر المرحوم والدك إلى الجواري فسرَّته رؤيتهن، وقال لهن: كل واحدة منكن تُسمِعني شيئًا مما تعرفه من أخبار الناس الماضين والأمم السابقين.
حكاية الصبية الأولى
فتقدَّمَتْ واحدة منهن وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، وقالت: اعلم أيها الملك أنه ينبغي لذي الأدب أن يجتنب الفضول، ويتحلَّى بالفضائل، وأن يؤدِّي الفرائض، ويجتنب الكبائر، ويلازم ذلك ملازمةَ مَن لو أفرد عنه لَهَلك، وأساس الأدب مكارم الأخلاق، واعلم أن معظم أسباب المعيشة طلب الحياة، والقصد من الحياة عبادة الله، فينبغي أن تُحسِن خُلُقك مع الناس، وألَّا تعدل عن تلك السُّنَّة، فإن أعظم الناس خطرًا أحوجهم إلى التدبير، والملوك أحوج إليه من السُّوقة؛ لأن السُّوقة قد تفيض في الأمور من غير نظر في العاقبة، وأن تبذل في سبيل الله نفسك ومالك. واعلم أن العدو خصم تخصمه بالحجة، وتحترز منه، وأما الصديق فليس بينك وبينه قاضٍ يحكم غير حُسْن الخُلُق، فاختر صديقك لنفسك بعد اختياره، فإن كان من إخوان الآخرة فليكن محافظًا على اتباع ظاهر الشرع، عارفًا بباطنه على حسب الإمكان، وإن كان من إخوان الدنيا فليكن حرًّا صادقًا، ليس بجاهل ولا شرير، فإن الجاهل أهل لأن يهرب منه أبواه، والكاذب لا يكون صديقًا؛ لأن الصديق مأخوذ من الصدق الذي يكون ناشئًا عن صميم القلب، فكيف به إذا أظهر الكذب على اللسان؟! واعلم أن اتباع الشرع ينفع صاحبه، فأحِبَّ أخاك إذا كان بهذه الصفة، ولا تقطعه، وإنْ ظهر لك منه ما تكره؛ فإنه ليس كالمرأة يمكن طلاقها ومراجعتها، بل كالزجاج إذا تصدَّع لا يتجبَّر، ولله در القائل:
قالت الجارية في آخِر كلامها وهي تشير إلينا: إن أصحاب العقول قالوا: خير الإخوان أشدهم في النصيحة، وخير الأعمال أجملها عاقبةً، وخير الثناء ما كان على أفواه الرجال، وقد قيل: لا ينبغي للعبد أن يغفل عن شكر الله؛ خصوصًا على نعمتين: العافية، والعقل. وقيل: مَن كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته، ومَن عظَّم صغائر المصائب ابتلاه الله بكبارها، ومَن أطاع الهوى ضيَّع الحقوق، وَمَن أطاع الواشي ضيَّع الصديق، ومَن ظنَّ بك خيرًا فصدِّق ظنَّه بك، ومَن بالَغَ في الخصومة أَثِمَ، ومَن لم يحذر الحيف لم يأمن السيف.
وها أنا أذكر لك شيئًا من آداب القضاة: اعلم أيها الملك أنه لا ينفع حكم بحقٍّ إلا بعد التثبيت، وينبغي للقاضي أن يجعل الناس في منزلة واحدة حتى لا يطمع شريف في الجور، ولا ييأس ضعيف من العدل، وينبغي أيضًا أن يجعل البيِّنة على مَن ادَّعى، واليمين على مَن أنكَرَ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، وما شككت فيه اليوم فراجع فيه عقلك، وتبيَّنْ به رشْدَك لترجع فيه إلى الحق؛ فالحق فرض، والرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطن. ثم اعرف الأمثال وافْقَهِ المقال، وسوِّ بين الأخصام في الوقوف، وَلْيكن نظرك على الحق موقوفًا، وفوِّض أمرك إلى الله عز وجل، واجعل البيِّنة على مَن ادَّعى، فإن حضرت بيِّنته أخذتَ له بحقه، وإلا فحلِّف المدَّعَى عليه؛ وهذا حكم الله، واقبل شهادة عدول المسلمين بعضهم على بعض؛ فإن الله تعالى أمر الحكام أن تحكم بالظاهر وهو يتولى السرائر، ويجب على القاضي أن يجتنب القضاء عند شدة الألم والجوع، وأن يقصد بقضائه بين الناس وجه لله تعالى، فإن مَن خلصت نيته، وأصلح ما بينه وبين نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس. وقال الزهري: ثلاثٌ إذا كنَّ في قاضٍ كان منعزلًا: إذا أكرَمَ اللئامَ، وأحَبَّ المَحامِدَ، وكره العزْلَ. وقد عزل عمر بن عبد العزيز قاضيًا، فقال له: لِمَ عزلتني؟ فقال عمر: قد بلغني عنك أن مقالك أكبر من مقامك. وحُكي أن الإسكندر قال لقاضيه: إني ولَّيتك منزلة، واستودعتك فيها روحي وعرضي ومروءتي، فاحفظ هذه المنزلة لنفسك وعقلك. وقال لطباخه: إنك مسلَّط على جسمي، فارفق بنفسك فيه. وقال لكاتبه: إنك متصرِّف في عقلي، فاحفظني فيما تكتبه عني.
ثم تأخرت الجارية الأولى، وتقدَّمَتِ الثانية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.