فلما كانت الليلة ٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب المسحور قال للملك: لما ضربتُ العبد لأقطع رأسه، قطعتُ الحلقوم والجلد واللحم، فظننت أني قتلته، فشخر شخيرًا عاليًا فتحركت بنت عمي، وقامت بعد ذهابي، فأخذَتِ السيفَ وردَّتْه إلى موضعه، وأتَتِ المدينة، ودخلَتِ القصر، ورقدَتْ في فراشي إلى الصباح. ورأيتُ بنتَ عمي في ذلك اليوم قد قطعت شعرها، ولبست ثياب الحزن، وقالت: يا ابن عمي، لا تلُمْني فيما أفعله؛ فإنه بلغني أن والدتي توفيت، وأن والدي قُتِلَ في الجهاد، وأن أخويَّ أحدهما مات ملسوعًا، والآخَر رديمًا، فيحقُّ لي أن أبكي وأحزن. فلما سمعت كلامها سكتُّ عنها، وقلتُ لها: افعلي ما بَدَا لك؛ فإني لا أخالفك. فمكثتْ في حزن وبكاء وعديد سنة كاملة من الحول إلى الحول، وبعد السنة قالت لي: أريد أن أبني لي في قصرك مدفنًا مثل القبة، وأنفرد فيه بالأحزان، وأسميه بيت الأحزان. فقلتُ لها: افعلي ما بَدَا لك. فبَنَتْ لها بيتًا للحزن، وبَنَتْ في وسطه قبة ومدفنًا مثل الضريح، ثم نقلت العبد وأنزلته فيه وهو ضعيف جدًّا، لا ينفعها بنافعة، لكنه يشرب الشراب، ومن اليوم الذي جرحتُه فيه ما تكلَّمَ، إلا أنه حي؛ لأن أجله لم يفرغ، فصارت كل يوم تدخل عليه القبة بكرة وعشيًّا، وتبكي عنده، وتعدد عليه، وتسقيه الشراب والمساليق، ولم تزل على هذه الحال صباحًا ومساءً إلى ثاني سنة، وأنا أطول بالي عليها إلى أن دخلتُ عليها يومًا من الأيام على غفلة، فوجدتها تبكي وتلطم وجهها، وتقول هذه الأبيات:
فلما فرغَتْ من شعرها قلتُ لها وسيفي مسلول في يدي: هذا كلام الخائنات اللاتي ينكرن العِشرة، ولا يحفظن الصحبة. وأردتُ أن أضربها، فرفعت يدي في الهواء، فقامت وقد علمت أني أنا الذي جرحتُ العبدَ، ثم وقفَتْ على قدمَيْها، وتكلَّمَتْ بكلامٍ لا أفهمه، وقالت: جعل الله بسحري نصفك حجرًا، ونصفك الآخر بشرًا. فصرتُ كما ترى، وبقيتُ لا أقوم ولا أقعد، ولا أنا ميت ولا أنا حي، فلما صرتُ هكذا سحرَتِ المدينة وما فيها من الأسواق والغيطان، وكانت مدينتنا أربعة أصناف: مسلمين، ونصارى، ويهودًا، ومجوسًا. فسحرتهم سمكًا، فالأبيض مسلمون، والأحمر مجوس، والأزرق نصارى، والأصفر يهود، وسحرَتِ الجزائرَ الأربعة أربعةَ جبال، وأحاطتها بالبِركة، ثم إنها كلَّ يوم تعذِّبني وتضربني بسوطٍ من الجلد مائةَ ضربة حتى يسيل الدم، ثم تلبسني من تحت هذه الثياب ثوبًا من الشعر على نصفي الفوقاني. ثم إن الشاب بكى، وأنشد هذا الشعر:
فعند ذلك التفت الملك إلى الشاب، وقال له: أيها الشاب، زدتني همًّا على همي. ثم قال له: وأين تلك المرأة؟ قال: في المدفن الذي فيه العبد راقد في القبة، وهي تجيء له كل يوم مرةً، وعند مجيئها تجيء إليَّ وتجرِّدني من ثيابي، وتضربني بالسوط مائةَ ضربة، وأنا أبكي وأصيح، ولم يكن فيَّ حركة حتى أدفعها عن نفسي، ثم بعد أن تعاقبني تذهب إلى العبد بالشراب والمسلوقة بكرة النهار. قال الملك: والله يا فتى لَأفعلن معك معروفًا أُذكَر به، وجميلًا يؤرِّخونه سِيَرًا من بعدي. ثم جلس الملك يتحدَّثَ معه إلى أن أقبل الليل، ثم قام الملك وصبر إلى أن جاء وقت السحر، فتجرَّدَ من ثيابه، وتقلَّدَ سيفه، ونهض إلى المحل الذي فيه العبد، فنظر إلى الشمع والقناديل، ورأى البخور والأدهان، ثم قصد العبد وضربه فقتله، ثم حمله على ظهره، ورماه في بئر كانت في القصر، ثم نزل ولبس ثياب العبد وهو داخل في القبة، والسيف معه مسلول في طوله، فبعد ساعة أتَتِ العاهرةُ الساحرة، وعند دخولها جرَّدت ابن عمها من ثيابه، وأخذت سوطًا وضربته، فقال: آه، يكفيني ما أنا فيه فارحميني. فقالت: هل كنت أنت رحمتني، وأبقيتَ لي معشوقي؟! ثم ألبسته اللباس الشعر والقماش من فوقه، ثم نزلت إلى العبد، ومعها قدح الشراب، وطاسة المسلوقة، ودخلت عليه القبة، وبكت وولولت، وقالت: يا سيدي كلِّمني، يا سيدي حدِّثني. وأنشدت تقول:
ثم إنها بكت وقالت: يا سيدي، كلمني وحدثني. فخفض صوته، وعوج لسانه، وتكلم بكلام السودان وقال: آه، آه، لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما سمعت كلامه صرخت من الفرح، وغشي عليها، ثم إنها استفاقت، وقالت: لعل سيدي صحيح. فخفض الملك صوته بضعف، وقال: يا عاهرة، أنت لا تستحقين أن أكلمك. قالت: ما سبب ذلك؟ قال: سببه أنك طول النهار تعاقبين زوجك، وهو يصرخ ويستغيث حتى أحرمتِني النومَ من العشاء إلى الصباح، ولم يزل زوجك يتضرع، ويدعو عليك حتى أقلقني صوته، ولولا هذا لكنتُ تعافيتُ، فهذا الذي منعني عن جوابك.
فقالت: عن إذنك أخلصه مما هو فيه. فقال لها الملك: خلِّصيه وأريحينا. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم قامت وخرجت من القبة إلى القصر، وأخذت طاسة ملأتها ماء، ثم تكلمت عليها، فصار الماء يغلي كما يغلي القدر، ثم رشته منها وقالت: بحقِّ ما تلوته أن تخرج من هذه الصورة إلى صورتك الأولى. فانتفض الشاب وقام على قدمَيْه وفرح بخلاصه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ. ثم قالت له: اخرج ولا ترجع إلى هنا وإلا قتلتك. وصرخت في وجهه، فخرج من بين يديها، وعادت إلى القبة، ونزلت وقالت: يا سيدي، اخرج إليَّ حتى أنظرك. قال لها بكلام ضعيف: أي شيء فعلتِه أرحتِني من الفرع ولم تريحيني من الأصل. فقالت: يا حبيبي، وما هو الأصل؟ قال: أهل هذه المدينة، والأربع جزائر، كل ليلة إذا انتصف الليل يرفع السمك رأسه ويدعو عليَّ وعليك، فهو سبب منع العافية عن جسمي، فخلِّصيهم وتعالي خذي بيدي وأقيميني، فقد توجَّهت إليَّ العافية. فلما سمعت كلام الملك وهي تظنه العبد، قالت له وهي فرحانة: يا سيدي، على رأسي وعيني، باسم الله. ثم نهضت وقامت وهي مسرورة تجري، وخرجت إلى البركة، أخذت من مائها قليلًا … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.