فلما كانت الليلة ٨٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: إن الجارية قالت لوالدك: إنَّ أخت بشر الحافي قصدت أحمد بن حنبل فقالت له: يا إمام الدين، إنَّا قوم نغزل بالليل، ونشتغل بمعاشنا في النهار، وربما تمرُّ بنا مشاعل ولاة بغداد، ونحن على السطح نغزل في ضوئها، فهل يُحرَّم علينا ذلك؟ قال لها: مَن أنت؟ قالت: أخت بشر الحافي. فقال: يا أهل بشر، لا أزال أستشف الورع من قلوبكم. وقال بعض العارفين: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، فتح عليه باب العمل. وكان مالك بن دينار إذا مرَّ في السوق ورأى ما يشتهيه يقول: يا نفس اصبري، فلا أوافقك على ما تريدين. وقال رضي الله عنه: سلامة النفس في مخالفتها، وبلاؤها في متابعتها. وقال منصور بن عمار: حججتُ حجة فقصدت مكة من طريق الكوفة، وكانت ليلة مظلمة، وإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل ويقول: إلهي، وعزتك وجلالك، ما أردتُ بمعصيتي مخالفتَك، وما أنا جاهل، ولكن خطيئة قضيتها عليَّ في قديم أزلك، فاغفر لي ما فرط مني، فإني قد عصيتك بجهلي. فلما فرغ من دعائه تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ. وسمعت سقطة لم أعرف لها حقيقة، فمضيت، فلما كان الغد مَشَيْنا إلى مدرجنا وإذا بجنازة خرجت، ووراءها عجوز ذهبت قوتها، فسألتها عن الميت، فقالت: هذه جنازة رجل كان مرَّ بنا البارحة وولدي قائم يصلي، فتلا آيةً من كتاب الله تعالى، فانفطرت مرارةُ ذلك الرجل فوقع ميتًا.
حكاية الصبية الخامسة
ثم تأخَّرت الجارية الرابعة وتقدَّمت الجارية الخامسة، وقالت: وها أنا أذكر بعض ما يحضرني من أخبار السلف الصالح: كان مسلمة بن دينار يقول: عند تصحيح الضمائر تُغفَر الصغائر والكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتاه الفتوح. وقال: كلُّ نعمة لا تقرِّب إلى الله فهي بليَّة، وقليلُ الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وكثيرها يُنسِيك قليلها. وسُئِل أبو حازم: مَن أيسر الناس؟ فقال: رجل أذهب عمره في طاعة الله. قال: فمَن أحمق الناس؟ قال: رجل باع آخِرته بدنيا غيره. وروي أن موسى — عليه السلام — لما ورد ماء مدين قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فسأل موسى ربه ولم يسأل الناس، وجاءت الجاريتان فسقى لهما، ولم تُصدر الرعاء، فلما رجعتا أخبرتا أباهما شعيبًا، فقال: لعله جائع. ثم قال لإحداهما: ارجعي إليه وادعيه. فلما أتته غطَّت وجهها وقالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا. فكره موسى ذلك، وأراد ألا يتبعها، وكانت امرأة ذات عَجُز، فكانت الريح تضرب ثوبها فيظهر لموسى عَجُزها، فيغضُّ بصرَه، ثم قال لها: كوني خلفي. فمشت خلفه حتى دخل على شعيب والعشاء مهيَّأ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.