فلما كانت الليلة ٨٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان قال لأخيه ضوء المكان: أَمَا كافأتَ الوقَّاد على معروفه؟ فقال له: يا أخي، ما كافأتُه إلى الآن، ولكن أكافئه إن شاء الله تعالى لما أرجع من الغزوة، وأتفرَّغ له. فعند ذلك عرف شركان أن أخته الملكة نزهة الزمان صادقة في جميع ما أخبرَتْه به، ثم كتم أمْرَه وأمْرَها، وأرسل إليها السلامَ مع الحاجب زوجها، فبعثَتْ له أيضًا معه السلام ودعَتْ له، وسألت عن ابنتها «قضى فكان»، فأخبرها أنها بعافية، وأنها في غاية ما يكون من الصحة والسلامة، فحمدت الله تعالى وشكرته، ورجع شركان إلى أخيه يشاوره في أمر الرحيل، فقال له: يا أخي، لما تتكامل العساكر، وتأتي العربان من كل مكان. ثم أمر بتجهيز الميرة وإحضار الذخيرة، ودخل ضوء المكان إلى زوجته، وكان مضى لها خمسة أشهر، وجعل أرباب الأقلام وأهل الحساب تحت طاعتها، ورتَّبَ لها الجرايات والجوامك، وسافَرَ في ثالث شهر من حين نزول عسكر الشام، بعد أن قدمت العربان وجميع العساكر من كل مكان، وسارت الجيوش والعساكر، وتتابعت الجحافل، وكان اسم رئيس عسكر الديلم رستم، واسم رئيس عسكر الترك بهرمان.
وسار ضوء المكان في وسط الجيوش، وعن يمينه أخوه شركان، وعن يساره الحاجب صهره، ولم يزالوا سائرين مدة شهر، وكلَّ جمعة ينزلون في مكان يستريحون فيه ثلاثة أيام؛ لأن الخلق كثير، ولم يزالوا سائرين على هذه الحالة حتى وصلوا إلى بلاد الروم، فنفر أهل القرى والضياع والصعاليك، وفرُّوا إلى القسطنطينية، فلما سمع أفريدون ملكهم بخبرهم قام وتوجَّهَ إلى ذات الدواهي، فإنها هي التي دبَّرت الحِيَل وسافرت إلى بغداد حتى قتلَتِ الملكَ عمر النعمان، ثم أخذت جواريها والملكة صفية ورجعت بالجميع إلى بلادها، فلما رجعت إلى ولدها ملك الروم وأمنت على نفسها، قالت لابنها: قرَّ عينًا، فقد أخذت لك بثأر ابنتك إبريزة، وقتلتُ الملكَ عمر النعمان، وجئت بصفية، فقُمِ الآن وارحل إلى ملك القسطنطينية وردَّ عليه صفية، وأعلمه بما جرى حتى يكون جميعنا على حذرٍ ونتجهَّز بأهبة، وأسافر أنا معك إلى الملك أفريدون ملك القسطنطينية، وأظن أن المسلمين لا يثبتون على قتالنا. فقال: امهَلِي إلى أن يقربوا من بلادنا حتى نجهِّز أحوالنا.
ثم أخذوا في جمع رجالهم وتجهيز أحوالهم، فلما جاءهم الخبر كانوا قد جهَّزوا حالهم، وجمعوا الجيوش، وسارت في أوائلهم ذات الدواهي، فلما وصلوا إلى القسطنطينية سمع الملك الأكبر ملكها أفريدون بقدوم حردوب ملك الروم فخرج لملاقاته، فلما اجتمع أفريدون بملك الروم سأله عن حاله وعن سبب قدومه، فأخبره بما عملَتْه أمه ذات الدواهي من الحيل، وأنها قتلَتْ ملك المسلمين، وأخذت من عنده الملكة صفية، وقالت: إن المسلمين جمعوا عساكرهم وجاءوا، ونريد أن نكون جميعًا يدًا واحدة ونلقاهم. ففرح الملك فريدون بقدوم ابنته وقتل عمر النعمان، وأرسل إلى سائر الأقاليم يطلب منهم النجدة، ويذكر لهم سببَ قتل الملك عمر النعمان؛ فهرعت إليه جيوش النصارى، فما مرَّ ثلاثة شهور حتى تكاملت جيوش الروم، ثم أقبلَتِ الإفرنج من سائر أطرافها؛ كالفرنسيس، والنيمسا، ودوبرة، وجورنة، وبندق، وجنويز، وسائر عساكر بني الأصفر، فلما تكاملَتِ العساكر وضاقت بهم الأرض من كثرتهم، أمرهم الملك الأكبر أفريدون أن يرحلوا من القسطنطينية، فرحلوا واستمرَّ تتابُع عساكرهم في الرحيل عشرة أيام، وساروا حتى نزلوا بوادٍ واسع الأطراف، وكان ذلك الوادي قريبًا من البحر المالح، فأقاموا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أرادوا أن يرحلوا فأتتهم الأخبار بقدوم عساكر الإسلام، وحُمَاة ملَّة خير الأنام، فقاموا فيه ثلاثة أيام أخرى، وفي اليوم الرابع رأوا غبارًا طار حتى سدَّ الأقطار، فلم تمضِ ساعة من النهار حتى انجلى ذلك الغبار، وتمزَّق إلى الجو وطار، ومحَتْ ظلمتَه كواكبُ الأسنة والرماح، وبريق بيض الصفاح، وبان من تحته رايات إسلامية، وأعلام محمدية، وأقبلت الفرسان كاندفاع البحار في دروع تحسبها سحبًا مزردة على أقمار.
فعند ذلك تقابَلَ الجيشان، والتطم البحران، ووقعت العين في العين، فأول مَن برز للقتال الوزير دندان هو وعساكر الشام، وكانوا ثلاثين ألف عنان، وكان مع الوزير مقدم الترك ومقدم الديلم؛ رستم وبهرام، في عشرين ألف فارس، وطلع من ورائهم رجالٌ من صوب البحر المالح، وهم لابسون زرود الحديد، وقد صاروا فيها كالبدور السافرة في الليالي العاكرة، وصار عساكر النصارى ينادون عيسى ومريم والصليب المسخم، ثم انطبقوا على الوزير دندان ومَن معه من عساكر الشام، وكان هذا كله بتدبير العجوز ذات الدواهي؛ لأن الملك أقبَلَ عليها قبل خروجه وقال لها: كيف العمل والتدبير، وأنت السبب في هذا الأمر العسير؟ فقالت: اعلم أيها الملك الكبير، والكاهن الخطير، أني أشير عليك بأمرٍ يعجز عن تدبيره إبليس، ولو استعان عليه بحزبه المتاعيس … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.