فلما كانت الليلة ٩١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار لما رأوا لوقا بن شملوط وقع مقتولًا، لطموا على وجوههم، ونادوا بالويل والثبور، واستغاثوا ببطارقة الديور، وقالوا: أين الصلبان، وتزهُّد الرهبان؟ ثم اجتمعوا جميعًا عليه، وأعملوا الصوارم والرماح، وهجموا للحرب والكفاح، والتقت العساكر بالعساكر، وصارت الصدور تحت وقع الحوافر، وتحكَّمت الرماح والصوارم، وضعفت السواعد والمعاصم، وكأن الخيل خُلِقت بلا قوائم، ولا زال منادي الحرب ينادي إلى أن كلَّتِ الأيادي، وذهب النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، وافترق الجيشان وصار كل شجاع كالسكران، من شدة الضرب والطعان، وقد امتلأَتِ الأرض بالقتلى، وعظمت الجراحات، ولا يُعرَف الجريح ممَّن مات. ثم إن شركان اجتمع بأخيه ضوء المكان، والحاجب والوزير دندان، فقال شركان لأخيه ضوء المكان والحاجب: إن الله قد فتح بابًا لهلاك الكافرين، والحمد لله رب العالمين. فقال ضوء المكان لأخيه: لم نزل نحمد الله لكشف الكرب عن العرب والعجم، وسوف تتحدَّث الناس جيلًا بعد جيل بما صنعتَ باللعين لوقا محرِّف الإنجيل، وأخذك الحربة من الهواء، وضربك لعدو الله بين الورى، ويبقى حديثك إلى آخِر الزمان.
ثم قال شركان: أيها الحاجب الكبير، والمقدام الخطير. فأجابه بالتلبية، فقال له: خذ معك الوزير دندان وعشرين ألفَ فارس، وسِرْ بهم إلى ناحية البحر مقدار سبعة فراسخ، وأسرعوا في السير حتى تكونوا قريبًا من الساحل، بحيث يبقى بينكم وبين القوم قدر فرسخين، واختفوا في وهدات الأرض حتى تسمعوا ضجة الكفار إذا طلعوا من المراكب، وتسمعوا الصياح من كل جانب، وقد عملت بيننا وبينهم القواضب، فإذا رأيتم عسكرنا تقهقروا إلى الوراء كأنهم منهزمون، وجاءت الكفار زاحفة خلفهم من جميع الجهات حتى من جانب الساحل والخيام، فكونوا لهم بالمرصاد، وإذا رأيتَ أنت علمًا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله — ﷺ — فارفع العلم الأخضر وصِحْ قائلًا: الله أكبر. واحمل عليهم من ورائهم، واجتهِدْ في ألَّا يحول الكفار بين المنهزمين وبين البحر. فقال: السمع والطاعة. واتفقوا على ذلك الأمر في تلك الساعة، ثم تجهَّزوا وساروا، وقد أخذ الحاجب معه الوزير دندان وعشرين ألفًا كما أمر الملك شركان.
فلما أصبح الصباح، ركب القوم وهم مجرِّدون الصفاح، ومعتقلون الرماح، وحاملون السلاح، وانتشرت الخلائق في الربا والبطاح، وصاحت القسوس، وكُشِفت الرءوس، ورُفِعت الصلبان على قلوع المراكب، وقصدوا الساحل من كل جانب، وأنزلوا الخيل في البر، وعزموا على الكرِّ والفرِّ، ولمعت السيوف، وتوجهت الجموع، وبرقت شهب الرماح على الدروع، ودارت طاحون المنايا على الرجال والفرسان، وطارت الرءوس عن الأبدان، وخرست الألسن وتغشت الأعين، وانفطرت المرائر وعملت البواتر، وطارت الجماجم وقُطِعت المعاصم، وخاضت الخيل في الدماء وتقابضوا في اللحى، وصاحت عساكر الإسلام بالصلاة والسلام على سيد الأنام، وبالثناء على الرحمن بما أولى من الإحسان، وصاحت عساكر الكفر بالثناء على الصليب والزنار، والعصير والعصار، والقسوس والرهبان، والشعانين والمطران، وتأخَّرَ ضوء المكان هو وشركان إلى ورائهما، وتقهقرت الجيوش وأظهروا الانهزامَ للأعداء، وزحفت عليهم عساكر الكفر لوَهْم الهزيمة، وتهيَّئوا للطعن والضرب، فاستهلَّ أهل الإسلام بقراءة أول سورة البقرة، وصارت القتلى تحت أرجل الخيل مندثرة، وصار منادي الروم يقول: يا عَبَدَة المسيح، وذوي الدين الصحيح، يا خدَّام الجاثليق، قد لاح لكم التوفيق، إن عساكر الإسلام قد جنحوا إلى الفرار، فلا تولُّوا عنهم الأدبار، فمكِّنوا السيوفَ من أقفيتهم، ولا ترجعوا من ورائهم، وإلا برئتم من المسيح ابن مريم، الذي في المهد تكلَّم. وظنَّ أفريدون ملك القسطنطينية أن عساكر الكفار منصورة، ولم يعلم أن ذلك من حسن تدبير المسلمين صورة، فأرسل إلى ملك الروم يبشِّره بالظفر، ويقول له: ما نفعنا إلا غائط البطريق الأكبر، لما فاحت رائحته من اللحى والشوارب، بين عباد الصليب حاضر وغائب، وأُقسِمُ بمعجزات إبريزة النصرانية المريمية، والمياه المعمودية، إني لا أترك على الأرض مجاهدًا بالكلية، وإني مصِرٌّ على سوء هذه النية. وتوجَّهَ الرسولُ بهذا الخطاب، ثم صاح الكفار على بعضهم قائلين: خذوا بثأر لوقا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.