فلما كانت الليلة ٩٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أفريدون لما سمع ذلك الكلام وقع مغشيًّا عليه، وصار أنفه تحت قدمَيْه، فلما آفاق من غشيته نفض الخوفُ جراب معدته، فشكا إلى العجوز ذات الدواهي، وكانت تلك اللعينة كاهنة من الكهَّان، ومتقنة للسحر والبهتان، عاهرة مكَّارة، فاجرة غدَّارة، ولها فم أبخر، وجفن أحمر، وخد أصفر، بوجه أغبش، وطرف أعمش، وجسم أجرب، وشعر أشهب، وظهر أحدب، ولون حائل، ومخاط سائل، لكنها قرأت كتب الإسلام، وسافرت إلى بيت الله الحرام؛ كل ذلك لتطَّلِع على الأديان، وتعرف آيات القرآن، ومكثت في بيت المقدس سنتين لتحوز مكر الثَّقَلين، فهي آفة من الآفات، وبلية من البليات، فاسدة الاعتقاد، ليست لدينٍ تنقاد، وكان أكثر إقامتها عند ولدها حردوب ملك الروم، لأجل الجواري الأبكار؛ لأنها كانت تحب السحاق، وإن تأخَّرَ عنها تكون في انمحاق، وكل جارية أعجبتها تعلِّمها الحكمة، وتسحق عليها الزعفران؛ فيُغشَى عليها من فرط اللذة مدةً من الزمان، فمَن طاوعَتْها أحسنَتْ إليها، ورغَّبَتْ ولدها فيها، ومَن لا تطاوعها تتحيَّل على هلاكها، وبسبب ذلك عملت مرجانة وريحانة وأترجة جواري إبريزة، وكانت الملكة إبريزة تكره العجوز، وتكره أن ترقد معها؛ لأن صُنانَها يخرج من تحت إبطَيْها، ورائحة فسائها أنتن من الجيفة، وجسدها أخشن من الليفة، وكانت ترغب مَن يساحقها بالجواهر والتعليم، وكانت إبريزة تبرأ منها إلى الحكيم العليم، ولله در القائل:
وَلْنرجع إلى حديث مكرها ودواهي أمرها؛ ثم إنها سارت وسار معها عظماء النصارى وعساكرهم، وتوجَّهوا إلى عسكر الإسلام، وبعدها دخل ملك الروم على الملك أفريدون، وقال له: أيها الملك، ما لنا حاجة بأمر البطريق الكبير ولا بدعائه، بل نعمل برأي أمي ذات الدواهي، وننظر ما تعمل بخداعها غير المتناهي مع عسكر المسلمين، فإنهم بقوتهم واصلون إلينا، وعن قريب يكونون لدينا، ويحيطون بنا. فلما سمع الملك أفريدون ذلك الكلام عظم في قلبه الرعب، فكتب من وقته وساعته إلى سائر أقاليم النصارى يقول لهم: ينبغي ألَّا يتخلَّف أحد من أهل الملة النصرانية والعصابة الصليبية، خصوصًا أهل الحصون والقلاع، بل يأتون إلينا جميعًا رجالًا وركبانًا، ونساءً وصبيانًا، فإن عسكر المسلمين قد وطئوا أرضنا، فالعَجَل العَجَل قبل حلول الوجل.
هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها طلعت خارج البلد مع أصحابها، وألبستهم زي تجار المسلمين، وكانت قد أخذت معها مائة بغل محمَّلة من القماش الأنطاكي ما بين أطلس معدني، وديباج ملكي، وغير ذلك، وأخذت من الملك أفريدون كتابًا مضمونه أن هؤلاء التجار من أرض الشام، وكانوا في ديارنا، فلا ينبغي أن يتعرَّض لهم أحدٌ بسوء، ولا يأخذ منهم عشرًا حتى يصلوا إلى بلادهم ومحل أمنهم؛ لأن التجَّار بهم عمار البلاد، وليسوا من أهل الحرب والفساد. ثم إن الملعونة ذات الدواهي قالت لمَن معها: إني أريد أن أدبِّر حيلةً على هلاك المسلمين. فقالوا لها: أيتها الملكة، مُرِينا بما شئتِ، فنحن تحت طاعتك، فلا أحبَطَ المسيح عملك.
فلبست ثيابًا من الصوف الأبيض الناعم، وحكَّتْ جبينها حتى صار له وسم، ودهنته بدهان دبرته حتى صار له ضوء عظيم، وكانت الملعونة نحيلة الجسم، غائرة العينين، فقيَّدت رجليها من فوق قدميها، وسارت حتى وصلت إلى عسكر المسلمين، ثم حلَّتِ القيد من رجليها، وقد أثَّرَ القيد في ساقيها، ثم دهنتهما بدم الأخوين، وأمرت مَن معها أن يضربوها ضربًا عنيفًا، وأن يضعوها في صندوق، فقالوا لها: كيف نضربك وأنت سيدتنا ذات الدواهي أم الملك المباهي؟ فقالت: لا لوم ولا تعنيفَ على مَن يأتي الكنيف، ولأجل الضرورات تباح المحظورات، وبعد أن تضعوني في الصندوق خذوه في جملة الأموال، واحملوه على البغال، ومُرُّوا بذلك بين عسكر الإسلام، ولا تخشوا شيئًا من الملام، وإنْ تعرَّض لكم أحد من المسلمين، فسلِّموا له البغال وما عليها من الأموال، وانصرِفوا إلى ملكهم ضوء المكان، واستغيثوا به وقولوا: نحن كنَّا في بلاد الكفرة، ولم يأخذوا منَّا شيئًا، بل كتبوا لنا توقيعًا أنه لا يتعرَّض لنا أحد، فكيف تأخذون أنتم أموالنا، وهذا كتاب ملك الروم الذي مضمونه ألَّا يتعرَّض لنا أحد بمكروه. فإذا قال: وما الذي ربحتموه من بلاد الروم في تجارتكم؟ فقولوا له: ربحنا خلاص رجل زاهد، وقد كان في سرداب تحت الأرض له فيه نحو خمسة عشر عامًا، وهو يستغيث فلا يغاث، بل يعذِّبه الكفار ليلًا ونهارًا، ولم يكن عندنا علم بذلك، مع أننا أقمنا في القسطنطينية مدة من الزمان، وبعنا بضائعنا، واشترينا خلافها، وجهَّزنا حالنا، وعزمنا على الرحيل إلى بلادنا، وبتنا تلك الليلة نتحدَّث في أمر السفر، فلما أصبحنا رأينا صورة مصورة في الحائط، فلما قربنا منها تأملناها، فإذا هي تحركت وقالت: يا مسلمون، هل فيكم مَن يعامل رب العالمين؟ فقلنا: وكيف ذلك؟ فقالت تلك الصورة: إن الله أنطقني لكم ليقوِّي يقينكم، ويلهمكم دينكم، وتخرجوا من بلاد الكافرين، وتقصدوا عسكر المسلمين، فإن فيهم سيف الرحمن، وبطل الزمان الملك شركان، وهو الذي يفتح القسطنطينية، ويهلك أهل الملة النصرانية، فإذا قطعتم سفر ثلاثة أيام، تجدوا ديرًا يُعرَف بدير مطروحني، وفيه صومعة، فاقصدوا بصدق نيتكم، وتحيَّلوا على الوصول إليها بقوة عزيمتكم؛ لأن فيها رجلًا عابدًا من بيت المقدس اسمه عبد الله، وهو من أدين الناس، وله كرامات تزيح الشك والإلباس، قد خدعه بعض الرهبان، وسجنه في سرداب له فيه مدة من الزمان، وفي إنقاذه إرضاء رب العباد؛ لأن فكاكه من أفضل الجهاد.
ثم إن العجوز لما اتفقت مع مَن معها على هذا الكلام، قالت: فإذا ألقى إليكم سمعه الملك شركان، فقولوا له: فلما سمعنا هذا الكلام من تلك الصورة علمنا أن ذلك العابد … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.