فلما كانت الليلة ٩٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز ذات الدواهي لما اتفقت مع مَن معها على هذا الكلام، قالت: فإذا ألقى إليكم سمعه الملك شركان، فقولوا له: فلما سمعنا هذا الكلام من تلك الصورة، علمنا أن ذلك العابد من أكابر الصالحين، وعباد الله المخلصين، فسافرنا مدة ثلاثة أيام، ثم رأينا ذلك الدير، فعرجنا عليه وملنا إليه، وأقمنا هناك يومًا في البيع والشراء على عادة التجار، فلما ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، قصدنا تلك الصومعة التي فيها السرداب، فسمعناه بعد تلاوة الآيات ينشد هذه الأبيات:
ثم قالت: إذا وصلتم بي إلى عسكر المسلمين وصرتُ عندهم، أعرف كيف أدبِّر حيلةً في خديعتهم وقتلهم عن آخِرهم. فلما سمع النصارى كلامَ العجوز قبَّلوا يدَيْها، ووضعوها في الصندوق بعد أن ضربوها أشد الضربات الموجعات تعظيمًا لها؛ لأنهم يرون طاعتها من الواجبات، ثم قصدوا بها عسكر المسلمين كما ذكرنا.
هذا ما كان من أمر هذه اللعينة ذات الدواهي ومَن معها، وأما ما كان من أمر عسكر المسلمين، فإنهم لما نصرهم الله على أعدائهم، وغنموا ما كان في المراكب من الأموال والذخائر، قعدوا يتحدَّثون مع بعضهم، فقال ضوء المكان لأخيه: إن الله نصرنا بسبب عدلنا، وانقيادنا لبعضنا، فكُنْ يا شركان ممتثِلًا أمري في طاعة الله عز وجل. فقال شركان: حبًّا وكرامة. ومد يده إلى أخيه، وقال: إنْ جاءك ولد أعطيته ابنتي «قضى فكان». ففرح بذلك وصار يهنِّئ بعضهم بعضًا بالنصر على الأعداء، وهنَّأ الوزير دندان شركان وأخاه، وقال لهما: اعلما أيها الملكان أن الله نصرنا حيث وهبنا أنفسنا لله عز وجل، وهجرنا الأهل والأوطان، والرأي عندي أن نرحل وراءهم، ونحاصرهم ونقاتلهم؛ لعل الله أن يبلغنا مرادنا، ونستأصل أعداءنا، وإنْ شئتم فانزلوا في المراكب، وسيروا في البحر، ونحن نسير في البر، ونصبر على القتال، والطعن في النزال. ثم إن الوزير دندان ما زال يحرِّضهم على القتال، وأنشد قول مَن قال:
وقول آخَر:
فلما فرغ الوزير دندان من شعره قال: سبحان مَن أيَّدنا بنصره العزيز، وأظفرنا بغنيمة الفضة والإبريز، ثم أمَرَ ضوءُ المكان العسكرَ بالرحيل، فسافروا طالبين القسطنطينية، وجدُّوا في سيرهم حتى أشرفوا على مرج فسيح، وفيه كل شيء مليح ما بين وحوش تمرح، وغزلان تسنح، وكانوا قد قطعوا مفاوز كثيرة، وانقطع عنهم الماء ستةَ أيام، فلما أشرفوا على ذلك المرج، نظروا تلك العيون النابعة والأثمار اليانعة، وتلك الأرض كأنها جنة أخذت زخرفها وازَّيَّنَتْ، وسكرت أغصانها من رحيق الظل فتمايلَتْ، وجمعت بين عذوبة التنسيم واعتلال النسيم، فتدهش العقل والناظر كما قال الشاعر:
وكما قال الآخَر:
فلما نظر ضوء المكان إلى ذلك المرج الذي التفَّتْ أشجاره، وزهت أزهاره، وترنمت أطياره؛ نادى أخاه شركان، وقال له: يا أخي، إن دمشق ما فيها مثل هذا المكان، فلا نرحل منه إلا بعد ثلاثة أيام، حتى نأخذ لنا راحةً لأجل أن تنشط عساكر الإسلام، وتقوى نفوسهم على لقاء الكَفَرة اللئام، فأقاموا فيه، فبينما هم كذلك إذ سمعوا أصواتًا من بعيد، فسأل عنهم ضوء المكان، فقيل له: إنها قافلة تجار من بلاد الشام، كانوا نازلين في هذا المكان للراحة، ولعل العساكر صادفوهم، وربما أخذوا شيئًا من بضائعهم التي معهم حيث كانوا في بلاد الكفار. وبعد ساعة جاء التجار وهم صارخون يستغيثون بالملك، فلما رأى ضوء المكان ذلك أمَرَ بإحضارهم، فحضروا بين يديه وقالوا: أيها الملك، إنَّا كنَّا في بلاد الكفار، ولم ينهبوا منَّا شيئًا، فكيف ينهب أموالَنا إخواننا المسلمون، ونحن في بلادهم؟ فإننا لما رأينا عساكركم أقبلنا عليهم، فأخذوا ما كان معنا، وقد أخبرناك بما حصل لنا. ثم أخرجوا له كتاب ملك القسطنطينية، فأخذه شركان وقرأه، ثم قال لهم: سوف نرد عليكم ما أُخِذ منكم، ولكن الواجب ألَّا تحملوا تجارةً إلى بلاد الكفار. فقالوا: يا مولانا، إن الله سيَّرنا إلى بلادهم لنظفر بما لم يظفر به أحدٌ من الغزاة، ولا أنتم في غزوتكم. فقال لهم: وما الذي ظفرتم به؟ فقالوا: ما نذكر لك ذلك إلا في خلوة؛ لأن هذا الأمر إذا شاع بين الناس واطَّلَعَ عليه أحد، فيكون ذلك سببًا لهلاكنا وهلاك كلِّ مَن يتوجَّه إلى بلاد الروم من المسلمين. وكانوا قد خبَّئوا الصندوق الذي فيه اللعينة ذات الدواهي، فأخذهم ضوء المكان وأخوه، واختلَيَا بهم، فشرحوا لهما حديثَ الزاهد، وصاروا يبكون حتى أبكَوْهما. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.