فلما كانت الليلة ٩٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن النصارى الذين في هيئة التجار، لما اختلى بهم ضوء المكان وأخوه شركان، شرحوا لهما حديث الزاهد، وبكوا حتى أبكَوْهما كما علَّمتهم الكاهنة ذات الدواهي، فرَقَّ قلبُ شركان للزاهد، وأخذته الرأفة عليه، وقامت به الحمية لله تعالى، وقال لهم: هل خلصتم هذا الزاهد أم هو في الدير إلى الآن؟ فقالوا: بل خلصناه، وقتلنا صاحب الدير من خوفنا على أنفسنا، ثم أسرعنا في الهرب خوفًا من العطب، وقد أخبرنا بعض الثقات أن في هذا الدير قناطير من الذهب والفضة والجواهر. ثم بعد ذلك أتوا بالصندوق، وأخرجوا منه تلك الملعونة كأنها قرن خيار شنبر من شدة السواد والنحول، وهي مكبَّلَة بتلك السلاسل والقيود، فلما نظرها ضوء المكان هو والحاضرون، ظنوا أنه رجل من خيار العباد، ومن أفضل الزهاد، خصوصًا وجبينها يضيء من الدهان الذي دهنت به وجهها؛ فبكى ضوء المكان وأخوه بكاءً شديدًا، ثم قامَا إليها وقبَّلَا يدَيْها ورجلَيْها، وصارا ينتحبان، فأشارت إليهما وقالت: كُفَّا عن هذا البكاء، واسمعا كلامي. فتركَا البكاء امتثالًا لأمرها، فقالت: اعلمَا أني قد رضيت بما صنعه بي مولاي؛ لأني أرى أن البلاء الذي نزل بي امتحان منه عز وجل، ومَن لم يصبر على البلاء والمحن، فليس له وصول إلى جنات النعيم، وكنتُ أتمنى أني أعود إلى بلادي لا جزعًا من البلاء الذي حلَّ بي، بل لأجل أن أموت تحت حوافر خيل المجاهدين الذين هم بعد القتل أحياء غير أموات. ثم أنشدَتْ هذه الأبيات:
فلما فرغت العجوز من شعرها، تناثرت من عينَيْها المدامع، وجبينها بالدهان كالضوء اللامع، فقام إليها شركان وقبَّلَ يدها، وأحضر لها الطعام، فامتنعت وقالت: إني لم أفطر من مدة خمسة عشر عامًا، فكيف أفطر في هذه الساعة، وقد جاد عليَّ المولى بالخلاص من أسرِ الكفار، ودفع عني ما هو أشق من عذاب النار؟ فأنا أصبر إلى الغروب. فلما جاء وقت العشاء، أقبل شركان هو وضوء المكان، وقدَّمَا إليها الأكل وقالَا لها: كُلْ أيها الزاهد. فقالت: ما هذا وقت الأكل، وإنما هذا وقت عبادة الملك الديان. ثم انتصبت في المحراب تصلِّي إلى أن ذهب الليل، ولم تزل على هذه الحالة ثلاثة أيام بلياليها، وهي لا تقعد إلا وقت التحية، فلما رآها ضوء المكان على تلك الحالة ملك قلبه حُسْن الاعتقاد فيها، وقال لشركان: اضرب خيمة من الأديم لذلك العابد، ووكِّلْ فرَّاشًا بخدمته. وفي اليوم الرابع دعت الطعام، فقدَّموا لها من الألوان ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فلم تأكل من ذلك كله إلا رغيفًا واحدًا بملح، ثم نَوَتِ الصومَ، ولما جاء الليل قامت إلى الصلاة، فقال شركان لضوء المكان: أمَّا هذا الرجل فقد زهد الدنيا غايةَ الزهد، ولولا هذا الجهاد لَكنتُ لازمْتُه وأعبد الله بخدمته حتى ألقاه، وقد اشتهيتُ أن أدخل معه الخيمة وأتحدَّث معه ساعة. فقال له ضوء المكان: وأنا كذلك، ولكن نحن في غدٍ ذاهبون إلى غزو القسطنطينية، ولم نجد لنا ساعة مثل هذه الساعة. فقال الوزير دندان: وأنا الآخَر أشتهي أن أرى هذا الزاهد لعله يدعو لي بقضاء نحبي في الجهاد، ولقاء ربي، فإني زهدت الدنيا.
فلما جنَّ عليهم الليل دخلوا على تلك الكاهنة ذات الدواهي في خيمتها، فرأوها قائمةً تصلي، فدنوا منها، وصاروا يبكون رحمة لها، وهي لا تلتفت إليهم إلى أن انتصف الليل، فسلَّمت من صلاتها، ثم أقبلت عليهم وحيَّتهم، وقالت لهم: لماذا جئتم؟ فقالوا لها: أيها العابد، أَمَا سمعتَ بكاءنا حولك؟ فقالت: إن الذي يقف بين يدي الله لا يكون له وجود في الكون حتى يسمع صوتَ أحدٍ أو يراه. ثم قالوا: إننا نشتهي أن تحدِّثنا بسبب أَسْرِك، وتدعو لنا في هذه الليلة، فإنها خيرٌ لنا من ملك القسطنطينية. فلما سمعت كلامهم قالت: والله لولا أنكم أمراء المسلمين ما أحدِّثكم بشيء من ذلك أبدًا، فإني لا أشكو إلا إلى الله، وها أنا أخبركم بسبب أسري.
حكاية الدير
اعلموا أنني كنتُ في القدس مع بعض الأبدال وأرباب الأحوال، وكنتُ لا أتكبر عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنعم عليَّ بالتواضع والزهد، فاتفق أنني توجَّهت إلى البحر ليلةً، ومشيت على الماء، فداخَلَني العُجْب من حيث لا أدري، وقلت في نفسي: مَن مثلي يمشي على الماء؟ فقسا قلبي من ذلك الوقت، وابتلاني الله بحب السفر، فسافرتُ إلى بلاد الروم، وجلتُ في أقطارها سنةً كاملة حتى لم أترك موضعًا إلا عبدتُ الله فيه، فلمَّا وصلتُ إلى هذا المكان صعدتُ إلى هذا الجبل، وفيه دير راهب يقال له «مطروحني»، فلما رآني خرج إليَّ وقبَّلَ يدي ورجلي، وقال: إني رأيتك منذ دخلت بلاد الروم، وقد شوَّقتني إلى بلاد الإسلام. ثم أخذ بيدي، وأدخلني في ذلك الدير، ثم دخل بي إلى بيت مظلم، فلما دخلت فيه غافلني وأغلق عليَّ الباب، وتركني فيه أربعين يومًا من غير طعام ولا شراب، وكان قصده بذلك قتلي صبرًا، فاتفق في بعض الأيام أنه دخل ذلك الديرَ بطريقٌ يقال له دقيانوس، ومعه عشرة من الغلمان، ومعه ابنة يقال لها «تماثيل»، ولكنها في الحُسْن ليس لها مثيل، فلما دخلوا الدير أخبرهم الراهب مطروحني بخبري، فقال البطريق: أخرِجوه لأنه لم يبقَ من لحمه ما يأكله الطير. ففتحوا باب ذلك البيت المظلم، فوجدوني منتصبًا في المحراب أصلِّي وأقرأ وأسبِّح وأتضرَّع إلى الله تعالى، فلما رأوني على تلك الحالة قال مطروحني: إن هذا ساحر من السَّحَرَة. فلما سمعوا كلامه قاموا جميعًا ودخلوا عليَّ، وأقبل عليَّ دقيانوس هو وجماعته وضربوني ضربًا عنيفًا، فعند ذلك تمنَّيْتُ الموت، ولمت نفسي وقلت: هذا جزاءُ مَن يتكبَّر ويُعجب بما أنعم عليه ربُّه مما ليس في طاقته، وأنتِ يا نفسي قد داخلك العُجْب والكِبْر، أَمَا علمتِ أن الكِبْر يُغضِب الرب ويقسي القلب، ويُدخِل الإنسان النارَ.
ثم بعد ذلك قيَّدوني وردُّوني إلى مكاني، وكان سردابًا في ذلك البيت تحت الأرض، وكل ثلاثة أيام يرمون إليَّ قرصة من الشعير، وشربة ماء، وكل شهرين يأتي البطريق ويدخل ذلك الدير، وقد كبرت ابنته تماثيل؛ لأنها كانت بنت تسع سنين حين رأيتها، ومضى لي في الأسر خمس عشرة سنة، فجملة عمرها أربعة وعشرون عامًا، وليس في بلادنا ولا في بلاد الروم أحسن منها، وكان أبوها يخاف عليها من الملك أن يأخذها منه؛ لأنها وهبت نفسها للمسيح، غير أنها تركب مع أبيها في زيِّ الرجال الفرسان، وليس لها مثيل في الحُسْن، ولم يعلم مَن رآها أنها جارية، وقد خزن أبوها أموالَه في هذا الدير؛ لأن كلَّ مَن كان عنده شيء من نفائس الذخائر يضعه في ذلك الدير، وقد رأيت فيه من أنواع الذهب والفضة والجواهر، وسائر الأواني والتحف، ما لا يُحصِي عددَه إلا الله تعالى، فأنتم أولى به من هؤلاء الكفرة، فخذوا ما في هذا الدير، وأنفقوه على المسلمين، وخصوصًا المجاهدين. ولما وصل هؤلاء التجار إلى القسطنطينية، وباعوا بضاعتهم، كلَّمتهم تلك الصورة التي في الحائط كرامةً أكرمني الله بها، فجاءوا إلى ذلك الدير، وقتلوا البطريق مطروحني بعد أن عاقبوه أشد العقاب، وجرُّوه من لحيته، فدلَّهم على موضعي فأخذوني، ولم يكن لهم سبيل إلا الهرب خوفًا من العطب. وفي ليلة غدٍ تأتي «تماثيل» إلى ذلك الدير على عادتها، ويلحقها أبوها مع غلمانه؛ لأنه يخاف عليها، فإن شئتم أن تشاهدوا هذا الأمر فخذوني بين أيديكم، وأنا أسلِّم إليكم الأموال وخزانة البطريق دقيانوس التي في ذلك الجبل، وقد رأيتهم يُخرِجون أواني الذهب والفضة يشربون فيها، ورأيت عندهم جارية تغنِّي لهم بالعربي، فوا حسرتاه لو كان الصوت الحَسَن في قراءة القرآن! وإن شئتم فادخلوا ذلك الدير واكمنوا فيه إلى أن يصل دقيانوس ومعه ابنته، فخذوها فإنها لا تصلح إلا لملك الزمان شركان، وللملك ضوء المكان.
ففرحوا بذلك حين سمعوا كلامها إلا الوزير دندان، فإنه ما دخل كلامُها في عقله، وإنما كان يتحدَّث معها لأجل خاطر الملك، وصار باهتًا من كلامها، ويلوح على وجهه علامة الإنكار عليها، فقالت العجوز ذات الدواهي: إني أخاف أن يُقبِل البطريق، وينظر هذه العساكر في المرج، فما يجسر أن يدخل الدير. فأمر السلطان العسكرَ أن يرحلوا صوب القسطنطينية، وقال ضوء المكان: إن قصدي أن نأخذ معنا مائة فارس، وبغالًا كثيرة، ونتوجَّه إلى ذلك الجبل، لأجل أن نحملهم المال الذي في الدير. ثم أرسَلَ من وقته وساعته إلى الحاجب الكبير، فأحضره بين يديه، وأحضر المقدمين والأتراك والديلم، وقال: إذا كان وقت الصباح، فارحلوا إلى القسطنطينية، وأنت أيها الحاجب تكون عوضًا عني في الرأي والتدبير، وأنت يا رستم تكون نائبًا عن أخي في القتال، ولا تُعلِموا أحدًا أننا لسنا معكم، وبعد ثلاثة أيام نلحقكم. ثم انتخب مائة فارس من الأبطال، وانحازَ هو وأخوه شركان والوزير دندان والمائة فارس، وأخذوا معهم البغال والصناديق لأجل حمل المال. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.