فلما كانت الليلة ٩٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان وأخاه ضوء المكان والوزير دندان، سافروا هم والمائة خيَّال إلى الدير الذي وصفته لهم اللعينةُ ذات الدواهي، وأخذوا معهم البغال والصناديق لأجل حمل المال، فلما أصبح الصباح، نادى الحاجب بين العسكر بالرحيل، فرحلوا وهم يظنون أن شركان وضوء المكان والوزير دندان معهم، ولم يعلموا أنهم ذهبوا إلى الدير.
هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر شركان وأخيه ضوء المكان والوزير دندان، فإنهم أقاموا إلى آخِر النهار، وكان الكفار أصحاب ذات الدواهي رحلوا خفيةً بعد أن دخلوا عليها، وقبَّلوا يدَيْها ورجلَيْها، واستأذنوها في الرحيل، فأذنت لهم وأمرتهم بما شاءت من المكر، فلما جنَّ الظلام قامت العجوز وقالت لضوء المكان هو وأصحابه: قوموا معي إلى الجبل، وخذوا معكم قليلًا من العسكر، فأطاعوها وتركوا في سفح الجبل خمسة فوارس بين يدَيْ ذات الدواهي، وصارت عندها قوة من شدة فرحها، وصار ضوء المكان يقول: سبحان مَن قوَّى هذا الزاهد الذي ما رأينا مثله! وكانت الكاهنة قد أرسلَتْ كتابًا على أجنحة الطير إلى ملك القسطنطينية تخبره فيه بما جرى، وقالت في آخِر الكتاب: أريد أن تنفذ لي عشرة آلاف فارس من شجعان الروم، يكون سيرهم في سفح الجبل خفيةً لئلا يراهم عسكر الإسلام، ويأتون إلى الدير ويكمنون فيه حتى أحضر إليهم ومعي ملك المسلمين وأخوه، فإني خدعتهما وجئت بهما ومعهما الوزير ومائة فارس لا غير، وسوف أسلِّم إليهم الصلبان التي في الدير، وقد عزمتُ على قتل الراهب مطروحني؛ لأن الحيلة لا تتم إلا بقتله، فإن تمت الحيلة فلا يصل من المسلمين إلى بلادهم لا ديَّار ولا مَن ينفخ النار، ويكون مطروحني فداء لأهل الملة النصرانية والعصابة الصليبية، والشكر للمسيح أولًا وآخِرًا. فلما وصل الكتاب إلى القسطنطينية، جاء براج الحمام إلى الملك أفريدون بالورقة، فلما قرأها أنفذ الجيش من وقته، وجهَّزَ كلَّ واحد بفرس وهجين وبغل وزاد، وأمرهم أن يصلوا إلى ذلك الدير.
هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر الملك ضوء المكان وأخيه شركان والوزير دندان والعسكر، فإنهم لما وصلوا إلى الدير دخلوه، فرأوا الراهب مطروحني قد أقبل لينظر حالهم، فقال الزاهد: اقتلوا هذا اللعين. فضربوه بالسيوف، وأسقوه كأس الحتوف، ثم مضت بهم الملعونة إلى موضع النذور، فأخرجوا منه من التحف والذخائر أكثرَ مما وصفته لهم، وبعد أن جمعوا ذلك وضعوه في الصناديق، وحملوه على البغال، وأما «تماثيل» فإنها لم تحضر لا هي ولا أبوها خوفًا من المسلمين، فأقام ضوء المكان في انتظارها ذلك النهار، وثاني يوم وثالث يوم، فقال شركان: والله إن قلبي مشغول بعسكر الإسلام، ولا أدري ما حالهم. فقال أخوه: إنَّا قد أخذنا هذا المال العظيم، وما أظن أن «تماثيل» ولا غيرها يأتي إلى هذا الدير بعد أن جرى لعسكر الروم ما جرى، فينبغي أننا نقنع بما يسَّرَه الله لنا، ونتوجَّه لعل الله يُعِيننا على فتح القسطنطينية.
ثم نزلوا من الجبل، فما أمكن ذات الدواهي أن تتعرَّض لهم خوفًا من التفطُّن لخداعها، ثم إنهم ساروا إلى أن وصلوا إلى باب الشِّعب، وإذا بالعجوز قد أكمنت لهم عشرة آلاف فارس، فلما رأوهم احتاطوا بهم من كل جانب، وأشرعوا الرماح، وجرَّدوا عليهم بيض الصفاح، ونادى الكفار بكلمة كفرهم، وفرَّقوا سهامَ شرِّهم، فنظر ضوء المكان وأخوه شركان والوزير دندان إلى هذا الجيش، فرأوه جيشًا عظيمًا، وقالوا: مَن أعلم هذه العساكر بنا؟ فقال شركان: يا أخي، ما هذا وقت كلام، بل هذا وقت الضرب بالسيف والرمي بالسهام، فشدوا عزمكم وقوُّوا نفوسكم؛ لأن هذه الشِّعب مثل الدرب لها بابان، وحقِّ سيد العرب والعجم، لولا أن هذا المكان ضيِّق لَكنتُ أفنيتُهم، ولو كانوا مائة ألف فارس. فقال ضوء المكان: لو علمنا ذلك لَأخذنا معنا خمسة آلاف فارس. فقال الوزير دندان: لو كان معنا عشرة آلاف فارس في هذا المكان الضيق لا تفيدنا شيئًا، ولكن الله يعيننا عليهم، وأنا أعرف هذه الشِّعب وضيقها، وأعرف أن فيها مفاوز كثيرة؛ لأني قد غزوتُ فيها مع الملك عمر النعمان حين حاصرنا القسطنطينية، وكنَّا نقيم فيها، وفيها ماء أبرد من الثلج، فانهضوا بنا لنخرج من هذه الشعب قبل أن يكثر علينا عساكر الكفار، ويسبقونا إلى رأس الجبل، فيرموا علينا الحجارة، ولا نملك فيهم أربًا. فأخذوا في الإسراع بالخروج من تلك الشعب، فنظر إليهم الزاهد وقال لهم: ما هذا الخوف وأنتم قد بعتم أنفسكم لله تعالى في سبيله؟ والله إني مكثتُ مسجونًا تحت الأرض خمسة عشر عامًا، ولم أعترض على الله فيما فعل بي، فقاتِلوا في سبيل الله، فمَن قُتِل منكم فالجنة مأواه، ومَن قتل فإلى الشرف مسعاه.
فلما سمعوا من الزاهد هذا الكلامَ زال عنهم الهمُّ والغمُّ، وثبتوا حتى هجم عليهم الكفار من كل مكان، ولعبت في أعناقهم السيوف، ودارت بينهم كأس الحتوف، وقاتَلَ المسلمون في طاعة الله أشد القتال، وأَعْمَلوا في أعدائه الأسِنَّةَ والنصال، وصار ضوء المكان يضرب الرجال، ويجندل الأبطال، ويرمي رءوسهم خمسة خمسة، وعشرة عشرة، حتى أفنى منهم عددًا لا يُحصَى، وأحمالًا لا تُستقصَى، فبينما هو كذلك إذ نظر الملعونة وهي تشير بالسيف إليهم وتقويهم، وكل مَن خاف يهرب إليها، وصارت تومئ إليهم بقتل شركان، فيميلون إلى قتله فرقة بعد فرقة، وكل فرقة حملت عليه يحمل عليها ويهزمها، وتأتي بعدها فرقة أخرى حاملة عليه فيردها بالسيف على أعقابها، فظن أن نصره عليهم ببركة العابد، وقال في نفسه: إن هذا العابد قد نظر الله إليه بعين عنايته، وقوَّى عزمي على الكفار بخالص نيته، فأراهم يخافونني، ولا يستطيعون الإقدامَ عليَّ، بل كلما حملوا عليَّ يولون الأدبار، ويركنون إلى الفرار.
ثم قاتلوا بقيةَ يومهم إلى آخِر النهار، ولما أقبل الليل نزلوا في مغارة من تلك الشعب من كثرة ما حصل لهم من الوبال ورمي الحجارة، وقُتِل منهم في ذلك اليوم خمسة وأربعون رجلًا، ولما اجتمعوا مع بعضهم فتَّشوا على ذلك الزاهد، فلم يروا له أثرًا، فعظم عليهم ذلك وقالوا: لعله استشهد. فقال شركان: أنا رأيتُه يقوِّي الفرسان بالإشارات الربانية، ويعيذهم بالآيات الرحمانية. فبينما هم في الكلام، وإذا بالملعونة ذات الدواهي قد أقبَلَتْ، وفي يدها رأس البطريق الكبير الرئيس على العشرين ألفًا، وكان جبَّارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، وقد قتله رجل من الأتراك بسهم، فعجَّلَ الله بروحه إلى النار، فلما رأى الكفار ما فعل ذلك المسلم بصاحبهم مالوا بكليتهم عليه، وأوصلوا الأذيَّة إليه، وقطَّعوه بالسيوف، فعجَّلَ الله به إلى الجنة.
ثم إن الملعونة قطعت رأس ذلك البطريق، وأتَتْ بها وألقتها بين يدي شركان والملك ضوء المكان والوزير دندان، فلما رآها شركان وثب قائمًا على قدمَيْه، وقال: الحمد لله على رؤيتكَ أيها العابد المجاهد الزاهد. فقالت: يا ولدي، إني قد طلبتُ الشهادة في هذا اليوم، فصرتُ أرمي روحي بين عسكر الكفَّار، وهم يهابونني، فلما انفصلتم أخذتني الغيرة عليكم، وهجمت على البطريق الكبير رئيسهم، وكان يُعَدُّ بألف فارس، فضربته حتى أطحتُ رأسَه عن بدنه، ولم يقدر أحد من الكفار أن يدنو مني، وأتيت برأسه إليكم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.