الفصل الأول
القرآن … من أجل السلطان!
لا شيء يعادل في خطره تعامل البشر مع الأفكار — بصرف النظر عن مضمونها ومصدرها —
كمطلقٍ
يقبع في سكونٍ وثباتٍ خارج أي سياق، ويحتفظ بصلاحية تستعصي على أي تحدٍّ، وأعني من حيث
ما
تنطوي عليه هذه الإطلاقية، على العموم، من الإهدار الكامل للفكرة الإنسانية التي هي
ديناميكية ومنفتحة بطبيعتها. وإذا كانت الفكرة الدينية هي الأكثر إغراءً بالتعامل معها
كمطلقٍ، فإن تحليلًا لظاهرة الدين والوحي، على العموم، ينتهي — لحسن الحظ — إلى أنها
لا تضع
نفسها أبدًا كمطلقٍ يفرض ذاته على التاريخ من خارجه، بل إنه يبدو جليًّا دخول العنصر
البشري،
على نحوٍ حاسمٍ، في التركيب المنطقي واللغوي والتاريخي لتلك الظاهرة، وعلى النحو الذي
يستحيل
معه استيعابها خارج تحديدات الشرط الإنساني أبدًا. فإذ يبدو، من جهة، لزوم أن تكون تحولات
الوضع الإنساني هي الأساس المنطقي للانتقال من لحظة إلى أخرى في تركيب ظاهرة الوحي «حتى
لا
يُصار إلى رد هذا الانتقال إلى تغيُّرات تطرأ على الذات الإلهية، بما هي مصدر الوحي»،
فإن
تنزيل الوحي، من جهة أخرى، داخل لغة ما (واللغة ليست محض وسيط اتصال محايد، بقدر ما تعكس
نظام تفكير كامن خلف الألفاظ وشبكة العلاقات التي تقوم بينها)،
١ إنما ينطوي على تحدد الوحي بهذا النظام الكامن. وفضلًا عن ذلك، فإن كون الوحي
يكون حوارًا مع واقع المخاطبين به، إنما يكشف عن تحدده بما يمثل التاريخ الحي الذي يعيشونه
بالفعل. وبالطبع، ذلك يعني أن الوحي لا يفرض نفسه كبنية مُغلَقة ومطلَقة تعلو على البشر
«تفكيرًا وتاريخًا»، بل كتركيبٍ يقوم على الحوار المفتوح مع تاريخهم ونظام تفكيرهم. وهكذا،
فإن الوحي الذي يتخفَّى الكثيرون وراءه من أجل تثبيت رؤاهم الخاصة كمطلقاتٍ لا تقبل التجاوز،
يبين — هو نفسه — عن روح تخاصم «الأطلقة» وتأباها. وللمفارقة، فإن ذلك يعني — بوضوحٍ
وصراحة
— أن الوحي ليس هو الأصل المنتِج للأطلقة (كآلية تفكير تسود فضاء التفكير العربي، وتعمل
— من
دون تمييز — عند كل من المتبرقعين بالقداسة والمتقنعين بالحداثة، تحت مظلته)، بقدر ما
هو
أحد أكبر ضحاياها.
لا بد، إذن، من التمييز بين «المطلَق الإلهي» الذي انفتح بوحيه على البشر «تفكيرًا
وتاريخًا»، وبين فعل «الأطلقة»، بما هو آلية يسعى بها البعضُ إلى وضعِ كلِّ ما يدخل البشرُ
في تركيبه على نحوٍ جوهري «من الوحي وغيره»، ضِمن مجالٍ يخرج فيه عن التحدُّد بما يخصُّ
البشر «تفكيرًا وتاريخًا». وللغرابة، فإن ذلك ما أدركه الجيل الأول من متلقي الوحي المحمدي
(الصحابة)، الذين تكشف تجربتهم عن روحٍ تخاصم «الأطلقة»، وعن إدراكٍ للوحي كساحة للحوار
المفتوح الذي لا يتقيَّد إلا بدواعي الصلاح ووجوه المصلحة، كما تبدَّت لهم حينها. وهكذا،
فإنهم
لم يضعوا الوحي كأصلٍ أوليٍّ مطلق خارج حدود التفكير والتاريخ، ولا مجال إلا لإكراه الواقع
على
النزول تحت تحديداته والانصياع لتعليماته، بل تحاوروا معه بما كشف عن وعيهم الحاسم بوجوب
إنصات الوحي ذاته لصوت الواقع، وبما يعنيه ذلك من براءتهم الكاملة من ممارسة «أطلقة»
الوحي،
التي سادت لاحقًا.
يقول إمام أهل السنَّة الكبير أبو المعالي الجويني: «إنْ سُبِرَ (أي جرى فحص) أحوال
الصحابة رضي الله عنهم، وهم القدوة والأسوة في النظر، لم يُرَ لواحدٍ منهم في مجالس
الاستشوار (أي المشاورة) تمهيد أصل أو استثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه (كما فعل
اللاحقون عليهم)، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفاتٍ إلى الأصول كانت أو لم
تكن …
فإن أصحاب رسول الله
ﷺ ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين في تعيين أصل والاعتناء
بالاستنباط منه، إنما كانوا يرسلون الأحكام، ويعلقونها في مجالس الاستشوار (المشاورة)
بالمصالح الكلية.»
٢ ينكشف هذا النص النادر والثمين عن طريقة منفتحة في مقاربة الوحي تقوم على
«الخوض في وجوه الرأي، وإرسال الأحكام وتعليقها على المصالح الكلية (والتي كانت، بالنسبة
لهم، أدنى ما تكون إلى أحد أهم المبادئ التأسيسية في القرآن)، من دون تمهيد — أو تعيين
—
أصل يجري البناء عليه، والاستنباط منه، كنموذجٍ مطلق»، وذلك في مقابل ما قام به بناة
الأصول والجدليون
٣ — من الأجيال اللاحقة على هذا الجيل الأول من متلقي الوحي — من «تمهيد الأصول،
وعدم الالتفات إلى الرأي»، وبحيث بدا وكأنه الانتقال من «التفكير بالرأي» إلى «التفكير
بالأصل»، الذي يُعَد الملمح الغالب على تفكير العرب حتى اليوم.
وضمن سياق «تمهيد الأصول» التي سيجري التفكير بها، فإن هؤلاء الجدليين قد مارسوا ضروبًا
من «الأطلقة»، ليس للوحي فحسب، بل حتى لتجربة الصحابة المنفتحة ذاتها، والتي استحالت
—
تبعًا لذلك — من تجربة لها تاريخ إلى ما يشبه الأصل المطلق الذي يقف خارج أي تاريخ. وتحقَّقت
هذه الإحالة لتلك التجربة من «تاريخٍ» إلى «أصلٍ مطلَق» عبر عزلها عن السياق الذي تبلورت
داخله، وبما آل إلى تبديد روحها بالكلية، حيث استحالت — مع هذا العزل — إلى محض ركام
من
الشواهد والأصول النصيَّة المبعثرة، والتي كان لا بدَّ أن تفقد مع هذا التجريد والتبعثر
مغزاها ودلالتها الأعمق. وإذ تتحوَّل التجربة إلى «أصل»، فإنها تثقل على كل التاريخ اللاحق،
وذلك من حيث تغدو موضوعًا لمجرد الامتثال والتكرار «حيث تتحوَّل من ممارسة مشروطة إلى
أصلٍ
مطلقٍ لكل ممارسة لاحقة»، وذلك بدل أن تكون ساحة للتمثل والحوار. وإذن، فإن «الأطلقة»
— وليس
سواها — هي ما يحيل تجارب البشر من «تاريخ حي» إلى «نصٍّ» أو «أصلٍ» جامدٍ يقف خارجه،
وعلى
النحو الذي يكون معه أشبه بالشاهد المُصمت المُعلق على قبر صاحبه، والذي لا يعرف الخَلَف
اللاحق إلا التعبُّد في ظلاله. وتلك هي جوهر الممارسة السلفية، على أن يكون معلومًا أن
هذه
الممارسة لا تقف عند حدود من يقال إنهم سلفيو هذا الزمان، بل تتجاوزهم إلى مَن يقال إنهم
حداثيوه أيضًا، وسواء مورست هذه «الأطلقة»، تحت يافطة الدين أو العلمانية، فإنها تكون
الممارسة الأشد خطرًا على البشر عمومًا.
وكانت السياسة أهم مجالات التحوُّل بتجربة الصحابة من «تاريخٍ» إلى «نصٍّ» أو أصل
يقف خارجه.
فإذ لم يتوفَّر للجيل الأول من المسلمين، ما يمكن أن يكون «نصًّا» أو أصلًا يفكرون به
في
السياسة، نتيجة لعدم توفُّر عرب ما قبل الإسلام على تراثٍ مؤثرٍ في ممارسة السياسة والتفكير
بها
من جهة، وبسبب سكوت الوحي عن تعيين طرائق محددة لممارستها والتفكير بها، من جهة أخرى،
فإنه
لم يكن أمام هذا الجيل إلا أن تكون له «تجربته» الخاصة في السياسة. وكانت «تجربة» تتسم
بالانفتاح والديناميكية، من حيث ما قال به الجويني من تعليقهم الأحكام على المصالح، واعتبار
شروط ومحددات الواقع، وعدم التقيُّد بأصلٍ أو نصٍّ يحكمون به الواقعات والنوازل السياسية
المستجدة. ومن هنا، مثلًا، أن هذه التجربة لم تعرف وصفًا منضبطًا منذ البدء للقائم بأمر
السلطة، فهو «الخليفة» أو «أمير المؤمنين»، كما لم تعرف طريقة واحدة في تعيين هذا القائم
بالسلطة (حيث تباينت طرق تعيين الخلفاء من الأول إلى الرابع)، كما لم تعرف ضوابط محددة
لممارسة السلطة وحدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم «وبما ترتب على ذلك من المشكلات التي
انفجرت في وجه الخليفتين الثالث والرابع، وأودت بهما إلى مصائرهما الدامية».
٤ ولكن الغريب حقًّا، أن هذه التجربة الحيَّة المتوترة سوف تتحوَّل — مع الاشتغال
عليها بمنطق الأطلقة، وذلك عبر تفتيتها إلى مفرداتٍ مبعثرة ومعزولة عن السياقات الحاكمة
لها
— إلى نموذج جرى التعالي به إلى مقام «الأصل» المطلَق الذي يلزم الحكم به على كل ما سيأتي
لاحقًا. وبصرف النظر عما إذا كان قد جرى التعالي بالصحابة «كأشخاص» كمدخل للتعالي بتجربتهم
إلى «نموذج»، أو أنه كان لا بدَّ من التعالي بتجربتهم «لدواعي السياسة»، ثم جرى التعالي
بشخوصهم، نتيجة لذلك،
٥ فإنه يبقى أن هذا التعالي قد آل إلى إفقار التجربة، بعد أن أفقدها عناصر
الانفتاح والحيوية، وأسكت أسئلتها الكبرى، وأحالها إلى نُتَف متناثرة راحت تعمل كشواهد
ونماذج
مُصمتة يجري استدعاؤها ليقاس عليها كل واقعٍ لاحقٍ، من أجل أن يكون مجرد ترجيع باهت
لها.
وفضلًا عن تجربة الجيل الأول من متلقي الوحي، ومعها تجربة النبي الكريم بالطبع، فإن
القرآن قد كان، بدوره، إحدى الساحات الرئيسة لإنتاج الإطلاقية، وكان ذلك عبر التعالي
به، هو
نفسه، من وجودٍ من أجل الإنسان إلى وجودٍ سابق عليه،
٦ ومن تركيب تبلور في العالم — وضمن شروطه — إلى كينونة ذات حضور مكتمل سابق في
المطلق. ولقد ترافق هذا التحويل، بدوره، مع تحولات مسار السياسة في الإسلام، وبمعنى أنه
قد
انطوى على التحوُّل من
القرآن الذي كان مركزه وقطبه هو
«الإنسان»؛ إلى
القرآن الذي استعمره واحتكره «السلطان». إذ يجب تذكُّر أن التحول في مسار
السياسة من «خلافة الشورى» مع أبي بكر بالذات إلى «المُلك العضوض» مع معاوية، قد تلازم
مع
الانتقال من القرآن الذي «لا ينطق بلسان، وإنما ينطق عنه الإنسان» — بحسب قول الإمام
«علي
بن أبي طالب» الذي لا يعني إلا أنَّ الإنسان يدخل في تركيب القرآن — إلى القرآن الذي
أمسك به
السلطان، وراح يتصوره ناطقًا بدلالة مطلقة، مقرنًا له بالسيف والرمح، ليحسم به معركة
السياسة.
والحق أن نظرة على الطريقة التي جرى التعامل بها مع لغة القرآن، لَتكشف عما كان يجري
من
تحولات في مسار الصراع السياسي. فإذ يُروى أنه «لما أراد عمر أن يكتب «المصحف» الإمام
أقعد
له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن قد نزل
على
رجل من مضر»،
٧ فإن الأمر قد اختلف مع خليفته عثمان الذي يُروى عنه أنه قال: «إذا اختلفتم في
عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلغة قريش، فإن القرآن أُنزل بلسانهم.»
٨ وللغرابة، فإن هذا التحوُّل من «الأوسع» — أو «لغة مضر» — إلى «الأضيق» — أو «لغة
قريش» — قد ترافق مع ما كان يتنامى في ساحة السياسة — وعبَّر عن نفسه صريحًا مع ولاية
عثمان
— من التحول إلى اعتبارها (أي السياسة) شأنًا قرشيًّا خالصًا، بعد أن كانت قبله ساحة
مفتوحة
يشاركها فيها غيرها. ولعلَّ دليلًا على هذا التحوُّل — في السياسة — يأتي مما أورده الطبري
عن
المنازعة التي جرت وقائعها حين اجتمع «عبد الرحمن بن عوف» إلى من «حضره من المهاجرين
وذوي
الفضل والسابقة من الأنصار، وأمراء الأجناد» ليختاروا الخليفة من أهل الشورى الذين عيَّنهم
«عمر» قبل موته، فقد «قال له عمار (ابن ياسر): إن أردت ألا يختلف المسلمون، فبايع عليًّا،
فقال المقداد: صدق عمار؛ إن بايعت عليًّا قلنا: سمعنا وأطعنا. وقال «عبد الله» بن أبي
سرح:
إن أردت ألا تختلف قريش، فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق؛ إن بايعت عثمان
قلنا: سمعنا وأطعنا. فشتم عمار بن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟ فقال رجل من
بني
مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية (يعني عمارًا)، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها.»
٩ ولعلَّ كون الرجلين المتنازع عليهما (علي وعثمان) ينتميان إلى قريش، هو ما يجعل
القصد من عبارة الرجل المخزومي أن يتجاوز ما يمكن فهمه منها من وجوب «قرشية» مَن في الحكم،
إلى أن الأمر يتعلق باستبعاد كل من سوى القرشيين من حق المشاركة في تعيين الحاكم ونصبه،
وبحيث تصبح العملية السياسية، بأسرها، احتكارًا قرشيًّا خالصًا لا شأن لغيرهم به.
إن ذلك يعني، وبلا أدنى مواربة، جواز القول بأن الانتقال — في القرآن — من «لغة
المسلمين»، على تعدد قبائلهم، إلى «لغة قريش» وحدها، إنما يعكس تحولًا كان يجري في مسار
السياسة من كونها شأنًا عامًّا يخص «المسلمين» جميعًا، إلى كونها شأنًا يخص «قريش» وحدها،
أو يخص — حتى — مجرد بيت من بيوتها بحسب ما سيجري لاحقًا مع بني أمية وبني العباس. لكنه،
وبالرغم من هذا التضييق النازل من «لغة القبائل» إلى «لغة قريش»، فإنها تظل — في الحالين
—
من قبيل اللغة ذات الأصل الإنساني، وهو الأمر الذي سرعان ما سيختفي تمامًا مع اعتبار
لغة
القرآن هي «كلام الله»، بدل أن تكون هي لغة الإنسان.
١٠ وبالطبع، هذا التحوُّل من «لغة الإنسان» إلى «كلام الله»، إنما يعني بلوغ صيرورة
«الأطلقة» — التي كانت تعني تسيِيد المطلق «إلهًا» في المجرد، و«حاكمًا» في المتعيِّن
—
إلى تمام الذروة والاكتمال. وهكذا، فإن ما جرى من صعود المسلمين (سنَّة وشيعة)
١١ بخلافات السياسة من الأرض إلى السماء، هو وحده ما يفسر ما حصل من التعالي
بالقرآن (لغةً وتاريخًا وماهية) من الأرض إلى السماء، بدوره.
ولعلَّ ما يدعم هذا التوازي بين التعالي بالقرآن والتعالي بالسياسة، هو ما يبدو من
أن
التعالي بالقرآن كان قد ترافق مع سعي البعض، من الحكام المتأخرين على حقبة الخلافة بالذات،
إلى التعالي بسلطتهم إلى مقامٍ ينفلتون فيه من أي حسابٍ أو مساءلة. وبالطبع، فإنه لم
يكن هناك
ما هو أنسب من أن يخفي «الحاكم» نفسه — أو يخفيه بالأحرى فقهاؤه — وراء «القرآن» الذي
كان
لا بدَّ — تبعًا لذلك — من رفعه إلى السماء؛ لكي يكتسب هذا الحاكم — وعبر آليتي التخفِّي
والتعالي — رفعة الكائن المطلق شبه المؤلَّه. ولعلَّ هذه العملية من التقنُّع الصريح
بالقرآن، هي التي ستقف وراء تبلور المأثور القائل: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.»
١٢ فإذ تكشف مفردات «الوازع» و«السلطان» المستخدَمة في المأثور عن تبلوره المتأخر،
في حقبة شاع فيها استخدام تلك المفردات،
١٣ فإن في ذلك ما يسند الدعوى القائلة بأن «أطلقة» القرآن كانت قناعًا يُراد منه
التستُّر على «
أطلقة» السلطان. فإذ المأثور لا يستحضر من
السلطان، إلا أن يكون أداة الله في الحكم — وهذا هو معنى الوازع
١٤ - فيما لم يَرِدْ فيه حكم القرآن، فإن في ذلك ما يقطع بأن الأمر يتعلق ببناء
السلطة، على النحو الذي تكون فيه متعالية ومطلقة، وأعني من حيث المخايلة بأن السلطة هي
سلطة
الله التي يكون فيها «السلطان» هو محض «الوازع»، أو الأداة التي يحقق بها الله ما لم
ينطق
به «وازع» القرآن. لكنه يبقى وجوب التأكيد على حقيقة أنه إذا كان السلطان قد كسب، بهذا
التعالي، إطلاق سلطته، فإن ما ألحقه هذا التعالي بالقرآن من الضرر كان هائلًا، وذلك من
حيث
ما تأدى إليه من إطفاء أنواره، وإهدار خصوبته، بسبب ما فرضه عليه من إسكات صوته، وتجميد
دلالته.
وإذا كان القصد من التعالي بالقرآن إلى حيث سيصبح كينونة ميتافيزيقية، هو — في جوهره
—
محض قصد سياسي، فإن فعل التعالي نفسه، قد كان فعلًا معرفيًّا، تحقق عبر مسارات متنوعة،
تتعلق بلغته، وتاريخه، وتصور ماهيته، وقواعد فهمه وقراءته. ولأن القول في لغته وتاريخه
قد
أصبح تفريعًا على ما سيتبلور لاحقًا من تصور ماهيته، فإنه يلزم البدء بالقول في تصور
ماهيته. وإذن، ورغم أن نقاشات الجيل الأول من المسلمين حول القرآن، لم تتعرض — في الأغلب
—
لسؤال «ماهيته»، واستغرقها الانشغال بلغته وتأليفه (جمعه)، فإن تصور الماهية الذي تبلور
لاحقًا في كتابات الأصوليين من علماء الكلام بالذات، سيكون هو المُحدِّد لكل الكلام اللاحق
في
لغته وتاريخه، وبما يعنيه ذلك من الاختلاف الكامل الذي سيطرأ على جوهر معالجتهما. وإذ
يبدو
— والحال كذلك — أن كل كلام في لغة
القرآن وتاريخه إنما
ينضبط بتصور، ولو كان مضمرًا لماهيته. فإنه يلزم القول بأن ما غلب على ممارسة الصحابة
بإزاء
لغة
القرآن وتاريخه، إنما يتفرَّع، بالضرورة، عن تصوُّرٍ محددٍ
لماهيته، وهو تصور يغلب عليه الطابع الواقعي العيني.
١٥ وحتى إذا كان القول في هذا التصور لم يتواتر عنهم، فإن ذلك لا يحيل إلى غيابه،
بقدر ما يحيل إلى حضوره، ولكن على نحوٍ مضمرٍ وغير ظاهرٍ؛ وأعني بالطبع الحضور «المنطقي»،
وليس
الحضور «التاريخي». وترتبط ضرورة هذا الحضور — ولو كان مضمرًا غير ظاهر — بحقيقة أن تصور
ماهية الشيء يكون سابقًا، من الناحية المنطقية، على الكلام في أحواله، حيث لا يماري أي
أحد
في أن القول في الأحوال «العينية» لشيء ما، هو فرع على تصور ماهيته «النظرية». وبالطبع،
فإنه إذا كانت ممارسة الصحابة بإزاء لغة
القرآن وتاريخه،
إنما تحيل إلى تصور لماهيته لم يتواتر عنهم قول صريح فيه، فإنه يمكن الخروج بهذا التصور
من
حيِّز «المسكوت عنه» إلى فضاء «المُصَرَّح به»؛ إذ يبقى الحاسم في الأمر أنه من نوع التصور
«القابل للتفكير فيه»، بحسب ما غلب على ممارستهم بخصوص لغة القرآن وتاريخه.
١٦
وإذا كان تصور الماهية — الذي تحقق من خلاله التعالي بالقرآن — أنه «في حقيقته ومعناه
هو
الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفة قديمة من صفاته»،
١٧ فإنه يلزم التنويه بأن هذا التحديد لماهية القرآن — من جانب الساعين إلى
التعالي به وأطلقته — على أنه «صفة قديمة من صفات الله»، يكاد أن يكون من قبيل غير القابل
للتفكير فيه بحسب الجيل الأول من المسلمين، الذين يرجع إليهم فضل أنهم قد أعطوا للقرآن
وضعه
الذي استقر عليه، على مدى الأجيال اللاحقة للآن. على أنه يلزم الوعي بأن عدم قابلية القرآن
للتفكير فيه، على هذا النحو، لا ترتبط بمجرد عدم إمكان توفر رجال هذا الجيل السابق على
جهاز
المفاهيم الذي ينبني منه هذا التصور الماهوي للقرآن الذي بلوره اللاحقون، بل لأن طريقتهم
في
التعاطي معه — وهو الأهم — تقوم بأسرها على نقيض ما يقضي به هذا التصور اللاحق لماهية
القرآن. وبمعنى أن جوهر ما تقوم عليه طريقة تعاملهم معه لا يتسق مع تصوره «صفة قديمة
قائمة
بذات الله»، بل مع تصوره خطابًا ديناميكيًّا يتعلق بوجودهم الواقعي العيني.
ولعلَّه يجوز القول إن طريقة هذا الجيل الأول، في التعامل مع القرآن، تتسق مع تصور
القرآن —
الذي سيتبلور لاحقًا — كصفة لله، لكن لا بوصفه صفة «ذات»، بل بما هو صفة «فعل». ويرتبط
ذلك
بأن كونه صفة فعلٍ ينفي عنه ما يتعالى به عن التحدد بتجربة البشر. فصفة الفعل هي تلك
التي
تحتاج في إضافتها إلى الله إلى تصور شيء غير الذات الإلهية يقوم خارجها، وبمعنى أن تصور
الله خالقًا مثلًا، يستلزم أن هناك «مخلوقًا»، يستحيل، من دون حضوره، إضافة هذه الصفة
إلى
الله. ويعني ذلك أن الذات لا تكون موصوفة بها إلا مع الحصول الواقعي لمفعولها. ويعني
ذلك
أن الصفة تدور مع المفعول (الواقع خارج الذات) وجودًا وعدمًا، وبما يعنيه ذلك من أنه
يلعب
دورًا في تحديدها. وبالطبع، ذلك يعني أن صفة الفعل لا يكون لها وجود أولاني سابق على
وجود
المفعول الذي هو وجود خارج الذات الإلهية. فإنه حين يجري النظر إلى القرآن على أنه كلام
الله، بما هو «صفة فعل»، وليس «صفة قائمة بذاته»، فإن ذلك ينفي عنه أن يكون من قبيل الشيء
القائم في الأزل، بل إن تعلقه — كصفة فعل — بما يقع خارج الذات الإلهية، إنما يعني لزوم
اعتبار ارتباطه بواقع المُخاطبين به. وغني عن البيان أن هذا التصور للقرآن، كصفة فعلٍ
لها ما
تتعلَّق به خارج الذات الإلهية (من الوقائع والأحداث والأحكام التي تتعلق ببشرٍ بعينهم)،
هو ما
دفع المعتزلة إلى تصوره «مخلوقًا»، وهو التصور الذي يبدو أكثر اتصالًا بطريقة الجيل الأول
من المسلمين — الأكثر انفتاحًا — في التعامل مع القرآن.
كشفت تجربة هذا الجيل، عن امتلاكهم تصورًا للقرآن، لا يقف فحسب عند حدود عدم التفكير
فيه
بمعزلٍ عن الواقع العيني، بل عما يكاد أن يكون إدخالًا لهذا الواقع ذاته في بنائه، ليس
فقط
من خلال استيعابه للظرف اللغوي الخاص بالمُخاطبين به،
١٨ بل كذا من خلال ما يظهر من حضور ما يتعلق بأحوال معاشهم فيه، ليس فقط على صعيد
مضمونه الداخلي،
١٩ بل حتى فيما يتعلق بعمليات جمعه وتأليفه.
٢٠ ومن هنا ما يمكن المصير إليه من أنه إذا جاز للجيل الأول أن يبلور تصورًا
لماهية القرآن، يتجاوب مع الطريقة التي اشتغلوا بها على لغته وتاريخه، لكان جوهر هذا
التصور
أن القرآن هو «واقعة تخص عالم الإنسان المفتوح».
٢١ ولعلَّ من الممكن أن يكون هذا التصور هو جوهر ما تلمِّح إليه مقولة الإمام علي
عن القرآن، في جداله مع الخوارج حول التحكيم، من أن «هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين
دفتين، لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال.»
٢٢ فإن ما يصف به الرجل القرآن، من أنه — وببساطة بالغة — «خط مسطور بين دفتين»،
أو حتى إنه «حمَّال أوجه»، إنما يحيل إلى مقاربة للقرآن ذات طابع عيني وواقعي، وبمعنى
أنها
تخلو من كل ما سيطغى به عليه الوصف اللاحق له، بأنه «الكلام القائم بذات الله تعالى،
وهو
صفة قديمة من صفاته»، من حمولة ميتافيزيقية ثقيلة.
٢٣ وبالطبع، فإنه سوف يتجاوب مع ذلك الوصف العيني، ما يضفيه الرجل إلى القرآن — من أنه
«لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال» — وبما يعنيه ذلك من استحالة تصوره ناطقًا بمعزلٍ عن
الحضور الفاعل للإنسان، وعلى النحو الذي يربطه بعالم الإنسان المتعين، وليس بعالم الله
المفارق، وإلى حدِّ تصوره «حقيقة موضوعية خارج الوعي»، على قول صاحب «الكتاب
والقرآن».
وإذ يبقى، والحال كذلك، أن الانتقال من تصور القرآن «واقعة تخص عالم الإنسان المفتوح»
إلى
تصوره «صفة قديمة من صفات الله»، كان أحد تجليات التحول العميق في مسار كل من السياسة
والثقافة، في الإسلام، من «الانفتاح» والسعة إلى «الإطلاقية» والضيق، كما يبقى أن كل
واحد
من هذين التصورين، لماهية القرآن، كانت له طريقته التي تخصُّه في التعامل مع أسئلته الكبرى،
فإنه يمكن افتراض تعدد الأقوال — بخصوص لغة القرآن وتاريخه — تحت مظلة تصور بعينه لماهيته.
ومن هنا ما حصل بالفعل من تباين الأقوال، في لغة القرآن، تحت مظلة تصوره كصفة قديمة لله،
ومن دون أن يؤثر هذا التباين «الجزئي» على وحدة المسعى «الكلي» — الذي ينطوي عليه هذا
التصور للماهية — من القصد إلى التعالي بالقرآن.
وهكذا، فإنه ليس من الغريب أن يتباين شكل التعالي بالقرآن عند من تصوروه «صفة قديمة لله»،
بين الحنابلة الذين يعتقدون أن «المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير
تأويل»،
٢٤ وبين غيرهم ممن ذهبوا إلى «إن المصير إلى التأويل «في الصفات» أمر لا بدَّ منه
لكل عاقل».
٢٥ فقد اقتضى «إمرار الصفة على ظاهرها» الانتهاء — في حال «الكلام» — إلى أن
«قالت الحنابلة إن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات وهي قديمة أزلية … واحتجوا على
قولهم بأن كلام الله تعالى مسموع بدليل قوله:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ
اللهِ وهذا يدل على أن كلام الله مسموع، فلما دلَّ الدليل على أن كلام الله قديم
وجب أن تكون هذه الحروف المسموعة قديمة.»
٢٦ وكان من المحتوم أن يترتب على ذلك أن تستحيل نسبة كل ما تتصل به تلك «الحروف
المسموعة القديمة»، من التلاوة والكتابة والتلفُّظ، إلى غير الله، وبما يعنيه ذلك من
التزام
تصور حلول الله في صوت الناطق بالقرآن، وفي المادة التي يُكتَب بها، بل في اللوح الذي
تحصل
عليه الكتابة. ومن هنا ما راح يقرره البعض من أنه «ذهبت الحشوية، المنتمون إلى الظاهر،
إلى
أن كلام الله تعالى قديم أزلي، ثم زعموا أنه حروف وأصوات، وقطعوا بأن المسموع من أصوات
القرَّاء ونغماتهم (هو) عين كلام الله تعالى، وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع (هو)
صوت
الله تعالى، وهذا قياس جهالاتهم. ثم قالوا: إذا كُتب كلام الله تعالى بجسمٍ من الأجسام،
وانتظمت تلك الأجسام رسومًا ورقومًا، وأسطرًا وكلامًا، فهي بأعيانها كلام الله القديم،
وقد
كان إذ ذاك جسمًا حادثًا، ثم انقلب قديمًا … ولا خفاء بمراغمتهم لبديهة العقول في حكمهم
بانقلاب الحادث قديمًا … ثم جهلتهم يصممون على أن اسم الله إذا كُتب، فالرَقْم المرئي
في
الكتابة هو الإله بعينه، وهو المعبود. ثم أصلهم أن الكلام القديم يحل «في» الأجسام ولا
يفارق الذات. وهذا تلاعب بالدين، وانسلال عن ربقة المسلمين، ومضاهاة لنص مذهب النصارى
في
مصيرهم إلى قيام الكلمة بالمسيح، وتدرُّعها بالناسوت. ولولا اغترار كثير من العوام
بالاعتزاء إلى هؤلاء لاقتضى الحال الإضراب عن التعرض لهذه العورات البادية، والفضائح
المتمادية.»
٢٧ ولعلَّه يتعذَّر اعتبار ما تنتهي إليه تلك القراءة من قبيل التشنيع عليهم؛
لأنها لا تخرج عن صريح مقالتهم، التي قطعوا فيها بأن «من قال إن لفظي (أي تلفُّظي) به
(أي
بالقرآن) مخلوق، فهو جاهلٌ ضالٌّ، كافر بالله العظيم».
٢٨ وإذ هو النفي، هكذا، لمجرد أن يكون الإنسان خالقًا لفعل التلفُّظ بالقرآن، فإن
ما يبدو من الظهور الحاسم لفاعلية الإنسان في هذا الفعل «بما هو فعل صوتي»، يمكن أن يكون
مؤشرًا على القصد إلى النفي — أو الإخراج — الكامل للإنسان من عالم القرآن، وخصوصًا في
حال
أفعال أخرى كالفهم وإنتاج المعنى التي تكون فاعلية الإنسان فيها أخفى مما هي عليه في
أفعال
التلفُّظ والتلاوة الظاهرة؛ إذ الحق أنه سيكون من الممتنع نسبة كل الأفعال التي تتصل
بالقرآن (كالفهم وإنتاج الدلالة والمعنى وغيرها) إلى الإنسان بوصفه خالقًا لها، حيث سينطبق
عليها حكم «التلفُّظ» من كونها قديمة وغير مخلوقة مثله. فإنه من غير الممكن — حسب هذا
التصور — أن تكون «حروف القرآن وأصواته» قديمة وأزلية، بينما «معانيه ودلالالته» غير
قديمة
وأزلية، بل إنه يلزم أن أزلية «الحروف والأصوات» لا بدَّ أن تئول إلى وجوب أزلية «المعاني
والدلالات».
فإنه إذا كان «اللفظ» قديمًا وغير مخلوق — وعلى النحو الذي أدَّى إلى لزوم أن يكون
فعل
«التلفُّظ» قديمًا، بدوره، وغير مخلوق — فإنه يستحيل إلا أن يكون المعنى أو الدلالة —
المتصلة به — هي من قبيل «القديم» وغير المخلوق أيضًا. ولعلَّه يمكن ترتيب المحاججة على
ذلك، انطلاقًا مما كان لا بدَّ أن ينتهي إليه هؤلاء الحشوية من أن «القراءة هي المقروء
والتلاوة هي المتلو «والملفوظ هو التلفُّظ قياسًا»»،
٢٩ وبما ينطوي عليه ذلك من وجوب مطابقة المقروء «القديم» مع القراءة «الحادثة»،
وبالكيفية التي ينقلب معها الحادث قديمًا، بحسب ما أدرك الجويني. وبالطبع، انقلاب أفعال
«القراءة والتلاوة والتلفُّظ» من «حادثة» إلى «قديمة» — بسبب كونها محلًّا يحل فيه، أو
به،
كلام الله القديم — هو مما لا يمكن معه تصور تعلقها بالإنسان الذي لا يمكن التفكير به
في
هذا السياق، إلا بما هو مجرد محل لحدوث هذه الأفعال، تمامًا كما يكون اللوح محلًّا
لكتابتها ونقشها.
٣٠ وبالطبع، فإنه يمكن للمرء بسهولة أن يرتب على ذلك أن ما يتصل بالدلالة والمعنى
هو أيضًا مما لا تعلق له بالإنسان، باعتبار ما يقوم من التعلُّق والارتباط بينها وبين
اللفظ
القديم أو ما يسميه سيبويه «تصرُّف الألفاظ في المعاني»، وما يترتب على ذلك من انقلابها
«قديمة»، حتى في حال افتراض أنها تكون «حادثة» أولًا؛ إذ إن حصولها في الارتباط والتعلق
باللفظ القديم لا بدَّ أن ينعكس عليها، فتنقلب — بدورها — قديمة.
ومن هنا لزوم التنويه بأن المأزق الذي تنتهي إليه «أطلقة» اللغة يأتي مما تئول إليه
—
وعلى نحوٍ مباشر — من «أطلقة» الدلالة. ولعلَّ في ذلك تفسيرًا لحقيقة أن من مضوا إلى
«أطلقة»
اللغة (حرفًا ولفظًا وصوتًا ورسمًا) هم من الذين لا يقولون في القرآن إلا بالدلالة
الظاهرة، أو «بنص التنزيل، لا بتأويل ولا تفسير»،
٣١ أو «منصوص القرآن».
٣٢ فإن كون اللغة مطلقة يلزم عنه، بالضرورة، أن تكون الدلالة التي تصدر عنها — أو
بالأحرى تتماهى معها — مطلقة مثلها، وبما يترتب على ذلك من أنه لا مجال لقولٍ بتأويل
أو
تفسير يستهدف دلالة غير تلك الظاهرة؛ إذ التأويل والتفسير يرتبطان بتصور للدلالة لا يمكن
أن
تكون فيه مطلقة ونهائية، وهو التصور، للدلالة، الذي لا يمكن أن يتوفر إلا في حالة لغة
مفتوحة غير مطلقة، ولا مقدسة؛ إذ اللغة المقدسة لا يمكن أن تكون ساحة لتباين، أو تعدد
الدلالة؛ لأنه يستحيل عليها — وهي «لفظًا وحرفًا وصوتًا» من الله — إلا أن تكون دلالة
على
قصده، الذي لا بدَّ أن يكون ثابتًا، ولا يمكن أن يكون محلًّا للتعدد أو التباين. وهكذا،
فإن
القول بأزلية الدلالة لا بدَّ أن يُؤوَّل إلى القول بواحديتها، ولا تعددها. وغني عن البيان
أن
المآل الذي تنتهي إليه هذه الواحدية هو تثبيت التصور «السلطوي» للدلالة، وأعني من حيث
إن
احتكار «الدلالة» سوف يكون القناع المعرفي، في الثقافة، الذي يغطي على احتكار «السلطة»،
في
السياسة.
وهناك من أدرك خطورة ما يؤدي إليه جعل حروف القرآن المسموعة «قديمة وأزلية»، وراح
يتخفَّف —
ولو على نحوٍ نسبي — من هذه الحمولة الميتافيزيقية الثقيلة. وهكذا، ورغم استمرار النظر
إلى
القرآن بما هو «صفة قديمة لله»، فإن ذلك لم يكن على الجهة التي تكون فيها ألفاظه المسموعة
«قديمة» مع الله، بل على جهة أنه «المعنى القائم بذات الله».
٣٣ وبالرغم من أن هؤلاء (وهم من الأشاعرة والماتريدية في الأغلب) سيكونون بمنجاة
ما لحق بالحشوية والحنابلة — على قول الجويني — من «العورات البادية والفضائح المتمادية»،
فإنهم ستكون لهم عوراتهم أيضًا، ويجهدون أنفسهم من أجل جعلها خافية وغير بادية.
٣٤ والحق أن الأمر، مع الأشاعرة والماتريدية، لن يتجاوز — في الأغلب — إعادة إنتاج
ما اعتبروه «عورة الحنابلة» بخصوص قِدَم القرآن، ولكن على مستوى أكثر خفاء فقط. وهكذا،
فإن
ما أخذوه على الحنابلة من الشناعات التي يؤدي إليها اعتبار «الحروف والأصوات قديمة أزلية»،
سوف ينعكس عليهم، ولكن لا على مستوى الحروف والأصوات، بل على مستوى الوقائع والأحداث
التي
ورد الحديث عنها في القرآن.
وكان ذلك ما واجههم به غيرهم من «إن الله تعالى أخبر عن أمورٍ ماضية، كقوله تعالى:
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ (يوسف: ٥٨)، وقوله تعالى:
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ (يوسف: ٧٠)، وقوله تعالى:
قَالَ إِبْرَاهِيمُ (البقرة: ٢٥٨)،
وَقَالَ مُوسَى (يونس: ٨٤)، وغير ذلك. ولو كان إخباره عنها سابقًا عليها لكان
الإخبار قبل وجودها كذبًا، تعالى الله عن الكذب، فإن من قال: يوم الخميس جاءني زيد، ولم
يكن
جاءه قبل ذلك، كان هذا الكلام منه كذبًا، وإن وُجِدَ المجيء منه بعد يوم الجمعة.»
٣٥ ومنه أيضًا ما قالوه من «إن قوله تعالى:
فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ (طه: ١٢) كلام الله تعالى، وتقدير الاتصاف به في الأزل قبل خلق موسى
عليه السلام هُجر وخُلف من الكلام.»
٣٦ وهكذا، فإن جعل
القرآن أو كلام الله هو
«المعنى القائم بذات الله في الأزل» سوف يؤدي إلى أن يكون ما يتضمنه من الإخبار عن الأمور
الماضية هو من «الكذب» أو «الخُلف»؛ لأنه من قبيل الإخبار بوقوع ما لم يقع، وهو ما لا
يمكن
المماراة في دخوله تحت معاني الكذب. والملاحظ أن الردود على هذه الاحتجاجات قد سلكت منهج
التلفيق والمراوغة. فإن ثمة الرد على ما يقال من أن الإخبار بصيغة الماضي عما لم يقع،
يكون
كذبًا، بأن هذا «كلام فاسد؛ لأن إخبار الله تعالى لا يتعلق بالزمان، بل هو مطلق إخبار،
والمتعلق بالزمان هو المُخبَر عنه. فإن كان لم يوجد بعد، كان الإخبار إخبارًا أنه يوجد،
وإذا وُجِدَ كان إخبارًا أنه للحال الموجود، وإذا انقضى كان إخبارًا أنه وُجِد فيما قبل،
والتغير على المُخبَر عنه، لا على الإخبار الأزلي.»
٣٧ وأما فيما يخص أن قوله تعالى:
فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ، في الأزل، قبل خلق موسى، يكون «خُلفًا» في الكلام، فإن الرد على
ذلك «أن يقال لهم «اخلع نعليك» في إجماع المسلمين «هي» كلام الله في دهرنا، وموسى غير
مخاطَب الآن، فإن لم يبعد ذلك متأخرًا، لم يبعد متقدمًا.»
٣٨
يبدو، للوهلة الأولى، أن الحجة الأخيرة تقوم على قياس الغائب على الشاهد، والذي يعني
أن
ما يصح في الزمان المتأخر (الشاهد)، يصح — بالمثل — في الأزل المتقدم (الغائب). وهكذا،
فإنه
إذا صحَّ أن:
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ هي من كلام الله في زمان
المسلمين المتأخر (الشاهد)، رغم عدم وجود موسى — (الذي خاطبه الله بها) — في زمانهم،
فإنه
يصح، بالمثل، أن تكون من كلام الله في الأزل المتقدم (الغائب)، رغم عدم وجود موسى فيه
(أي
الأزل) أيضًا. وإذن، فإنها التسوية بين الإخبار «في الزمان» اللاحق، وبين الإخبار «في
الأزل» السابق، وعلى النحو الذي يزول معه أي فارق بين الزمان وبين الأزل. وهنا، تحديدًا،
تنبثق مغالطة الحجة التي تأتي من تسويتها بين ما ينتمي إلى مجالين متغايرين بالكلية،
وذلك من حيث إن أحدهما ينتمي إلى مجال «واقعي»، بينما الآخر ينتمي
إلى مجال «ميتافيزيقي». ولو أن طرفي المقايسة كانا ينتميان إلى مجالٍ واحدٍ، كمجال الواقع
مثلًا، لبدا — وعلى أجلى ما يكون — قصور الحجة وتهافتها. فإذا كان عدم وجود موسى (المخاطَب
بالقول)، في زمان المسلمين لا يؤثر على اعتبارهم لها من كلام الله، فإن سلامة هذا الاعتبار
لا ترتبط بوجود موسى أو عدمه «في زمان المسلمين»، بقدر ما يرتبط بأن وجود المسلمين قد
جاء
لاحقًا على وجوده. ولهذا فإن الأمر سوف يختلف بالكلية، لو جرى افتراض أنه قد كانت هناك
أقوام قبل وجود موسى، وأنزل الله عليها كتابًا يخاطب فيه موسى (الذي لم يكن قد جاء إلى
الوجود بعد) بقوله:
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ؛ إذ من المؤكد أن
هؤلاء كانوا سيعتبرون هذا الإخبار — بصيغة الماضي — عن ما لم يقع بعد، من قبيل اللغو
أو
الكذب. وبالطبع، ذلك يعني أن ما يصح «متأخرًا»، أي في حال المسلمين الذين جاءوا للوجود
بعد
موسى، لا يصح «متقدمًا»، أي في حال الأقوام الذين سبقوا موسى في الوجود. وذلك لأنه إذا
كان
هناك حدث ما (كخطاب الله لموسى: اخلع نعليك)، وهناك إخبار بهذا الحدث إلى الناس (في
الزمان)، فإن ما يصح في حال المخاطَبين به بعد وقوعه «وحضور أطرافه»، لا يمكن أن يصح
في حال
المخاطَبين به قبل وقوعه؛ إذ فيما يكون البلاغ عن الحدث بصيغة الماضي مقبولًا في حال
المخاطبين به بعد وقوعه، فإن البلاغ عنه بصيغة الماضي،
٣٩ في حال المخاطَبين به قبل وقوعه، لا يمكن أن يكون غير مقبول منهم فحسب، بل
سيكون — على فرض قبوله — ما لا يمكن الانتفاع به، وذلك من حيث إنه سيكون خارج مجال ما
يمكنهم التفكير فيه، أو فهمه واستيعاب دلالته. وبالطبع، فإن ذلك ما يتعارض مع ما هو ثابت
من
أن وقوع الوحي، على العموم، مرتبط بحصول الفائدة لمتلقيه.
وهكذا، فإن أسئلة شتى سوف تفرض نفسها، من قبيل: هل كان يمكن أن يتجه الله بإخباره عن
خطابه إلى موسى:
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، إلى أقوام جاءوا للوجود
قبل زمان موسى؟ وإذا أمكن ذلك، فهل كان يمكن أن تستوعب عقول هؤلاء الأقوام هذا النوع
من
الإخبار، بصيغة الماضي، عما لم يقع بعد؟ وهل يمكن — ابتداء من ذلك — تصور أن يتحقق الوحي
بالكتاب السماوي (أي كتاب) قبل الزمان الذي حصل فيه ذلك الوحي؟ إن الجواب بإمكان كل ما
جرى
التساؤل عنه، إنما يرتبط بعدم اعتبار الزمان في الإخبار والوقوع عند مَنْ يفكر في هذه
المسائل، وأما تفكيرًا فيها يقوم على ضرورة اعتبار الزمان، فإنه لا بدَّ أن ينتهي إلى
القول
بعدم إمكانه أبدًا. والحق أن ذلك يفتح الباب للسؤال، على العموم، ليس فقط عن إمكان الإسقاط
المطلق للزمان من الاعتبار حين يتعلق الأمر بوقوع «الحدث»، وبالإخبار عنه معًا، بل عن
إمكان
تحقق الفائدة أو الصلاح من هذا الإخبار/الخطاب (القديم القائم خارج الزمان) أصلًا.
٤٠
إذا كان المعلوم — بحسب الطبري — أنه «غير جائز أن يخاطِب «الله» جل ذكره أحدًا من خلقه
إلا بما يفهمه المخاطَب»،
٤١ فإنه يلزم التأكيد على أن عدم فهم المخاطَب للخطاب لا يكون، فحسب، من اختلاف لغة
الخطاب عن لغته، بل من احتواء هذا الخطاب — على صعيد المضمون — على ما لا يمكن أن يقع
ضمن
مجال تفكيره.
٤٢ وهكذا، فإنه لا جدال في أن خطابًا يحتوي على ما يقع خارج مجال تفكير المخاطَبين
به، لا يمكن أن يكون مفهومًا منهم. وبالطبع، فإن من المتوقع أن يكون ذلك هو حال الأقوام
السابقين على موسى فيما لو كانوا قد خوطِبوا بما أخبر به القرآن عنه. وغني عن البيان
أن ما
جعل الخطاب عن موسى في القرآن يدخل ضمن مجال تفكير المسلمين — وبما أدَّى إلى قبولهم
له على
نحوٍ كاملٍ — أنهم لم يكونوا لاحقين على موسى في الوجود فحسب، بل كانوا على اتصالٍ باليهود
في
الجزيرة العربية، على النحو الذي جعل سيرة موسى تدخل ضمن مجال تفكيرهم، وتحققت لهم الفائدة
منها. وإذا كان من المقطوع به أن «الله جلَّ ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابًا (أو يخبر
إخبارًا) أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطِب «بها»، أو أُرسلت إليه؛ لأن ذلك فينا
من
فعل النقص والعبث، والله تعالى عن ذلك متعال»،
٤٣ فإن ذلك يعني استحالة أن يخاطب الله قومًا بما لا يقع ضمن مجال تفكيرهم. ويعني
ذلك صعوبة أن يكون كلام الله صفة لذاته «في الأزل»؛ لأن الإخبار به لا يمكن أن يتحقق
خارج
أي محددات أو شروط، بل إنه يكون متعلقًا بوقتٍ بعينه، وبقومٍ يختص بهم. وبالطبع، فإن
تحدده
بما ينتمي إلى أزمنة بعينها، وأقوام محددين — وبما يتفق مع قوله تعالى:
لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (المائدة: ٤٨)
٤٤ لا بدَّ أن يجعل من الزمان محددًا لصفة الله الأزلية، وهو ما لا يمكن قبوله في
العقل، أو حتى في الشرع، بما يترتب على ذلك من وجوب الإقرار بأن اعتبار القرآن «صفة الله
القديمة» — ولو على جهة المعنى — يؤوَّل إلى نفس الفضائح المتمادية.
وحتى مع صرف النظر عن ذلك، فإنه يلزم التفكير في دلالة فصل «الإخبار» عن «المخبَر
عنه»،
وذلك على النحو الذي يكون فيه «المخبَر عنه» هو المتعلق بالزمان، بينما يكون «الإخبار»
أزليًّا ومطلقًا. وغني عن البيان، على العموم، أن الخبر عن حدثٍ ما لا بدَّ أن يكون —
منطقيًّا — لاحقًا على وقوعه، فإن جعل القرآن — ولو من جهة المعنى — «صفة الله القديمة»،
قد
تآدى إلى وجوب أزلية «الإخبار» قياسًا على «المخبَر عنه» المتعلق بالزمان. وبالطبع، ذلك
يعني — ومن دون أي مواربة — أن «الإخبار» الأزلي سابق في الحصول على وقوع «المخبَر عنه»
أو
الحدث الزمني. وإذا كان قد جرى ترتيب الإخبار في الأزل على نحوٍ ما، فإنه يلزم ترتيب
وقوع
الأحداث المُخبَر عنها على نفس النحو، لا محالة، وبحيث يصبح التاريخ الواقعي الحاصل في
الزمان هو محض استنساخ لنموذج أسبق منه يقوم في الأزل. وهكذا، فإنه إذا كان القرآن يتضمن
الكثير من الإخبار عن أحداث، ومن الحوار مع أشخاصٍ وأقوامٍ، ومن الأحكام التي تتعلق بمسائل
الخلاف (بين الناس)، فإن اعتباره «كلام الله القديم القائم بذاته» لا يعني إلا أن تكون
كل
هذه «الأحداث والأشخاص والأقوام والمسائل الخلافية» مقدَّرة الوقوع في الأزل مسبقًا،
وعلى
النحو الذي يعني استحالة افتراض وقوعها على غير النحو الذي تقع عليه بالفعل، وبما لا
بدَّ
أن يؤوَّل إليه ذلك من تثبيت مفهوم «القدرية التاريخية».
ولعلَّه يلزم التنويه بأن ما ترتب على جعل القرآن هو «كلام الله القديم القائم بذاته»
(سواء باللفظ والحرف على طريقة الحنابلة، أو بالمعنى على طريقة الأشاعرة والماتريدية)،
من
وجوب أن يكون الإخبار أو الكلام «عن حدث» سابقًا في الأزل على وقوع هذا الحدث أو (المخبَر
عنه) في الزمان، قد تآدى إلى معضلات كبيرة، سواء بالنسبة لله (إهدارًا لمبدأ العدل)،
أو
فيما يخص القرآن (إبطالًا لما يكاد يتفق عليه الكافة من وقوع الناسخ والمنسوخ فيه). فقد
أورد الإمام يحيى بن الحسين، من جهة، الكثير مما يمكن اعتباره بيانًا للكيفية التي يكون
معها تصور حصول الإخبار من الله سابقًا على وقوع المخبَر عنه، مؤديًا إلى وجوب افتراض
أن يقع
منه الظلم والعبث وغيرهما من القبائح التي لا يصح وصف المخلوقين بها.
٤٥ ومن جهة أخرى، فإن ثمة من مضى إلى أنه يستحيل — مع اعتبار أن القرآن هو «كلام
الله القديم» — افتراض حصول النسخ في القرآن،
٤٦ والحجة على ذلك أنه «لو كان كلام الله تعالى قديمًا، لكان الناسخ والمنسوخ
قديمين، ولكن ذلك محال؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرًا عن المنسوخ، والمتأخر عن الشيء
يستحيل أن يكون قديمًا، وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع، وما ثبت زواله استحال
قدمه بالاتفاق.»
٤٧ إن الحجة تعني أنه يستحيل حصول الناسخ والمنسوخ خارج الزمان، وبما يستدعيه ذلك
من دخول الزمان في تركيب القرآن، فإذا جرى افتراض كون القرآن «صفة قديمة قائمة بالله»،
فإن
الأمر إما أن يؤوَّل إلى نفي حصول النسخ في
القرآن، أو إلى
إدخال الزمان في تركيب الذات الإلهية، وهو المحال ذاته. وإذ جُوبِه الأشاعرة بهذه الحجة،
فإنهم قد لجئوا إلى ما لا يعرفون سواه من الإفلات من مواجهة المشكلة، بأن ربطوا النسخ
—
وللغرابة — باللغة، وليس بالزمان. فإن «كونه ناسخًا ومنسوخًا إنما هو من عوارض الألفاظ
والعبارات واللغات، ولا نزاع في حدوثها»،
٤٨ وبمعنى أنه لا تعلق له بالمعاني عندهم.
وللغرابة، فإن ذلك يتعارض مع تصوُّر الأشاعرة أنفسهم لحقيقة النسخ، الذي مضى الغزالي
إلى
«أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا
به
مع تراخيه عنه. وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملًا للفظ والفحوى والمفهوم»
٤٩ وبما يعنيه ذلك من إلحاح الغزالي (الأشعري) على التعدي بالنسخ من «اللفظ»
«وعوارض اللغة»، ليصله بكلٍّ من الفحوى والمفهوم (وكلاهما مما يتعلق بالمعنى)، وذلك فضلًا
عن
تأكيده على ضرورة أن يكون الناسخ متراخيًا «في الزمان» عن المنسوخ، «فإنما قلنا مع تراخيه
عنه؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانًا وإتمامًا لمعنى الكلام وتقديرًا له بمدة أو شرط. وإنما
يكون رافعًا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم، لولا الناسخ.»
٥٠ وإذ يقطع الغزالي، هكذا، بأن «التراخي» — وبما يحيل إليه من «القَبْلِ»
و«البَعْدِ» في الزمان — هو شرط في النسخ، فإنه لم يكن أمام الأشاعرة إلا أن يقوموا بنفيه
وإنكاره بسبب ما يتعلق به من شرط الزمان، أو أن يتوقفوا عن النظر إلى القرآن على أنه
«كلام
الله القديم القائم بذاته.» ولكنهم داوموا على إثبات الأمرين معًا، أعني النسخ من جهة،
والقرآن بما هو كلام الله القديم القائم بذاته من جهة أخرى. وحين بدا لهم أن تعليقهم
النسخ
على لغة القرآن (الحادثة)، وليس على معناه (القديم) القائم بذات الله، يؤدي إلى فقدان
النسخ
لمعناه على نحوٍ كاملٍ، فإنهم قد بادروا — كعهدهم دومًا — إلى إغلاق باب النقاش في المسألة
برمتها، بأن قالوا «إن الله تعالى يفعل ما يشاء كيف يشاء، وعلى أي وجه شاء، وأن ذلك كله
تصرف في مملكته لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. فإذا تقرر ما قلناه ثبت جواز النسخ لا
محالة.»
٥١ وإذن، فإنه التعالي أيضًا، بمسألة النسخ من ساحة «الزمان» إلى فضاء «المطلق»،
وأعني إلى حيث يجد النسخ تفسيره، لا في عالم البشر «من مراعاة مصلحة أو غيره»، بل في
مشيئة
الله المطلقة. وبحسب هذا التعالي، فإن النسخ تكون له نسبتان، إحداهما هي نسبته «الحقيقية»
إلى الله، والأخرى هي نسبته «المجازية» إلى ما يخص عالم الإنسان «من عوارض الألفاظ
والعبارات واللغات التي لا نزاع في حدوثها».
٥٢
والحق أن ذلك يعني أن النسخ إنما يجد تفسيره، الفعلي، في نظرية «الكسب الأشعري» التي
تنبني على التمييز بين نسبتين للفعل، تتمثَّل
أولاهما في
نسبته الحقيقية إلى الله، بينما تخايل
الثانية بنسبة
مجازية له إلى الإنسان. وبالطبع، فإنه حين يتعلق الأمر بنسبتين، إحداهما حقيقية، والأخرى
مجازية، فإنه لا مجال للمنازعة في حقيقة أن النسبة «المجازية» لا تكون مؤثرة بالمرة.
وفقط،
فإنه يكون مطلوبًا منها أن توحي بدورٍ للإنسان، ولو كان غير مؤثر على أي نحوٍ، ليكون
ممكنًا
تجنُّب ما يؤول إليه إنكار أي دور له من التداعيات الشنيعة. ولعلَّ مثالًا صريحًا على
ذلك
يأتي من الغزالي، وبخصوص الاختلاف الأشعري/الشيعي حول الإمامة، حيث مضى إلى القول «فلينظر
الناظر إلى مرتبة الفريقين (يعني الأشاعرة والشيعة)، إذ نسبت الباطنية نفسها إلى أن نصب
الإمام عندهم من الله تعالى، وعند خصومهم (الأشاعرة) من العباد، ثم لم يقدروا على بيان
وجه
نسبة ذلك إلى الله تعالى إلا بدعوى الاختراع على رسوله في النص على علي، ودعوى بقاء ذلك
في ذريته بقاء كل خلفٍ لكل واحدٍ، ودعوى تنصيصه على أحد أولاده بعد موته، إلى ضروب الدعاوى
الباطلة. ولما نسبونا إلى أنَّا ننصب الإمام بشهوتنا واختيارنا، ونقموا ذلك منَّا، كشفنا
لهم
بالآخرة أنَّا نقدِّم من قدَّمه الله، فإن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم
بالمبايعة، والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرًا إلى الطاعة والموالاة،
وهذا لا يقدر عليه البشر، ويدلُّك عليه أنه لو أجمع خلقٌ كثير لا يُحصى عددهم على أن
يصرفوا
وجوه الخلق وعقائدهم عن الموالاة للإمامة العباسية عمومًا، وعن المُشايعة للدولة
المُستظهرية — أيدها الله بالدوام! — خصوصًا، لأفنوا أعمارهم في الحيل والوسائل، وتهيئة
الأسباب والوصائل، ولم يحصلوا في آخر الأمور إلا على الخيبة والحرمان … فكأنَّا في الظاهر
رددنا تعيين الإمامة إلى اختيار «العباد»، وفي الحقيقة رددناها إلى اختيار الله تعالى
ونصبه.»
٥٣ وهكذا، فإن الرجل لا يجد من فارق بين الأشاعرة والشيعة في نسبة تعيين الإمامة
إلى الله، وإنما الفارق يكمن، فقط، في بيان وجه هذه النسبة؛ إذ يسعى الأشاعرة، فحسب،
إلى
اجتناب النسبة الحقيقية لهذا التعيين إلى الله، على طريقة الشيعة، بسبب ما تنتهي إليه
هذه
الطريقة من «الاختراع على الرسول من دعوى النص وغيرها من الدعاوى الباطلة». ولهذا، فإنهم
يقولون بالنسبة المجازية لتعيين الإمام إلى العباد، ليتجنبوا شناعة الاختراع على الرسول،
على أن يكون مفهومًا أن دور العباد لا يكون «اختيارًا» حقيقيًّا لهم، بل بصرف الله لقلوبهم
إلى ذلك قهرًا. والحق أنه يلزم التأكيد على أن هذا التمييز بين نسبتين للفعل (أي فعل)،
إحداهما حقيقية إلى الله، والأخرى مجازية إلى الإنسان، لم يقدر على إبعاد الأشاعرة عن
المصير، إلى القول بالمحالات الشنيعة، الذي كانوا يسعون إلى تجنُّبه دومًا. فإن أحدًا
لا
ينازع في أن النسبة المجازية للفعل إلى الإنسان لم تفلح في تجنيب الأشاعرة الانتهاء إلى
نتائج لا تقل في مدى شناعتها عن تلك التي صار إليها الشيعة من خلال ما قالوا به من النسبة
الحقيقية لفعل تعيين الإمامة إلى الله. ومن ذلك مثلًا، ما أدركه الشهرستاني من أن النسبة
المجازية للفعل إلى الإنسان لم تقف حائلًا دون الانتهاء إلى أن «تكليف ما لا يطاق جائز
على
مذهب الأشعري»،
٥٤ مع ما يرتبط بذلك التجويز من إضافة الظلم والعبث إلى الله ذاته.
والحاصل، أن الأشاعرة كثيرًا ما أدركوا وجوب القفز — ولو في بعض المسائل — من النسبة
المجازية للفعل إلى الإنسان، إلى النسبة الحقيقية له إلى الله، وذلك بمثل ما جرى بخصوص
مسألة النسخ. فقد جرى الارتداد به إلى الدائرة الإلهية المغلقة ليجد تفسيره داخلها، حين
جرى
تثبيته بما هو من «تصرفات الله في مملكته التي لا يسأل عنها». وهكذا، فإنهم كانوا يضطرون
—
حين يلزمهم خصومهم بأن ما يقولون به، من النسبة المجازية للمسألة إلى ما يختص بالعباد،
لا
يفسر شيئًا — إلى تأكيد نسبتها الحقيقية إلى الله، بصرف النظر عمَّا تؤدي إليه هذه النسبة
من
محالات شنيعة. وبالطبع، فإنه يبقى أن ما آل إليه النسخ مع اعتباره — بحسب اللغة المستخدمة
—
من قبيل التصرف في المملكة الذي لا يجوز أن يكون موضوعًا للسؤال، إنما يعني تحوُّله إلى
ساحة
ينعكس عليها ما يمكن القول بأنه النزوع المركزي إلى بناء للسلطة تكون فيه مطلقة وخارج
مجال
السؤال. ولعلَّ ذلك يؤكد على حقيقة أن التحولات الكبرى، إنما تنعكس في كل الوحدات الجزئية
الصغرى المكونة للخطاب (من الذات والصفات والقرآن والفعل والنسخ وغيره).
ويبقى ما يتفرَّع عن جعل القرآن، هو إخبار أو كلام الله السابق (في الأزل) على وقوع
المخبَر عنه (في الزمن)، على صعيد المنظومة المعرفية «وبما تشتمل عليه هذه المنظومة من
نظامٍ
للمعنى أو الحقيقة، ومن طريقة في إنتاج المعرفة» ينطوي على ما هو أكثر خطرًا على صعيد
بناء
الواقع وفهمه؛ إذ يبدو أن دور هذه المنظومة المعرفية (المتمثلة في نظام المعنى وطريقة
إنتاج
المعرفة) لا يقتصر على تأسيسها للممارسة المعرفية التي هيمنت في ثقافة الإسلام على مدى
القرون، بل يتعداه إلى استمرار تحديدها للممارسة المعرفية القائمة في عالم العرب، حتى
الآن،
وذلك بالرغم من عقمها غير القابل للإنكار. فإن تصورًا للعالم ينبني على أنه محض صورة
منسوخة
من أصلٍ يقوم سابقًا في الأزل، لا بدَّ أن يئول إلى تثبيت مفهوم لكلٍّ من المعنى والحقيقة
يكونان فيه أقرب إلى المُعطى الجاهز، وعلى النحو الذي يتحدد فيه عمل الوعي في مجرد الارتفاع
بالواقع «العيني» إلى التطابق مع مثاله «الذهني» القائم في الأزل، أو — وبلغة القدماء
—
مطابقة ما في الأعيان (الواقع) مع ما في الأذهان «على أن يكون المقصود ما في ذهن الله
بالطبع».
٥٥ ولعلَّ أفدح ما تنتهي إليه هذه المطابقة، هو التعالي بالمعرفة البشرية إلى
الحدِّ الذي تصبح فيه من طبيعة إلهية، وأعني من حيث إن ادعاءها الإمساك بما يقوم في ذهن
الله كان لا بدَّ من أن يُحدِث انقلابًا في طبيعتها، على نحو ما يحصل للجسم الذي ما إن
يتصل
به القرآن «القديم» — عند الحشوية — حتى ينقلب من حادثٍ إلى قديمٍ. ولعلَّه يمكن الحديث،
بالفعل، عن سيرورة كامنة لتأليه المعرفة الإنسانية، هي ما تقف، في الخفاء، وراء كل عمليات
الإقصاء والهيمنة التي تمكَّن بها نسقٌ بعينه من تحقيق سيادته في ثقافة الإسلام.
وضمن سياق هذا التصور للحقيقة كمطابقة، فإنه لن يكون ممكنًا إلا تصور المعرفة بما
هي هبوط
من «الأعلى» الذي هو النموذج/الذهني/الأصل إلى «الأدنى» الذي هو الواقع/العيني/الفرع،
أو في إرجاع هذا الواقع/الفرع إلى مثاله/الأصل. ولعلَّ أحدًا لا ينازع في أن هذا النمط
من
المعرفة إنما يضمر تصورًا للواقع بما هو محض انبناء على حسب مثال سابق. ولسوء الحظ فإن
هذا
النمط المعرفي يبقى — مع ما ينطوي عليه من تصور للواقع — هو المحدد لطبيعة الممارسة العربية
على مدى القرون للآن. فإنه إذا كان «الشافعي» — في التراث القديم — قد مضى إلى استحالة
التفكير في الفقه إلا بحسب مثال سبق (ومع ملاحظة أن الأمر قد تجاوز عنده مجرد التقعيد
للفقه، إلى التقعيد للمعرفة والفكر على العموم)، فإن واحدًا من سلالته الممتدة في العصر
الحديث — وهو، وللغرابة، القبطي المصري «سلامة موسى» — سوف يمضي إلى استحالة القول في
النهضة إلا بحسب مثال سابق أيضًا. وغني عن البيان أن الاختلاف بين الرجلين في نوع المضمون
الذي يجري تلبيسه لهذا المثال السابق، لا يؤثر في كونهما ينضويان تحت مظلة ذات السلالة
التي
لا ترى إلى أي «واقع» إلا من جهة إمكان — أو حتى وجوب — اندراجه تحت تحديدات مثال سابق.
٥٦
وهكذا، فإن التداعي الأخطر للقول بأن القرآن هو كلام الله القديم القائم بذاته، إنما
يتمثَّل في ما ينتهي إليه، هذا القول، على صعيد كل من المعرفة والتاريخ. فإن هذا التصور
لماهية القرآن يعني أن العالم الأكبر (الذي هو موضوع لخطاب القرآن) لا بدَّ أن يكون —
بكل
ما فيه من أحداث — مصنوعًا على حسب مثال سابق، وهو ما يعني — ومن دون أي مواربة — أن
يكون
جوهر المعرفة في مجرد الإلحاق والاستتباع، وجوهر التاريخ في الترجيع والتكرار. ومن هنا
ما
لاحظه ابن خلدون بخصوص «العلوم النقلية الوضعية (المختصة بالملَّة الإسلامية وأهلها)،
وهي
كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من
مسائلها بالأصول؛ لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه،
فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل
وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرُّعه عنه.»
٥٧ إن ذلك يعني أن غلبة النزوع الإلحاقي القياسي على النظام المعرفي الذي تحققت له
السيادة في الإسلام، إنما يرتبط، في العمق، بتصور بعينه لماهية القرآن. وبالطبع، فإن
إلحاق
الجزئيات الحادثة المتعاقبة بالنقل، عبر القياس، إنما يعني أن كل عملية بناء للواقع سوف
تكون ترجيعًا لمثالٍ جاهزٍ مسبق، وعلى النحو الذي يعكس تصورًا للتاريخ بما هو، بدوره،
محض تكرار.
٥٨ فإن كون الإخبار سابقًا في الأزل على المخبَر عنه الواقع في الزمان اللاحق،
وذلك بحسب ما يقضي تصور القرآن بما هو المعنى القديم القائم بذات الله، إنما يعني أن
هذا
«المخبَر عنه» الواقع في الزمان، هو — في حقيقته — محض «تكرار» لما ورد في الإخبار السابق
في الأزل. وبالطبع، فإن تعدُّد وتباين السياقات التي راح «التكرار» — كأحد محددات تصور
التاريخ — يحقق نفسه فيها، لا يمكن أن يؤثر على حقيقة انبنائها جميعًا على خلفية هذا
التصور
التأسيسي الكلي، الذي يتفرَّع عن تصور ماهية القرآن. ولهذا فإنه إذا كان التكرار يتحقق
—
بحسب الخطاب الغالب في ثقافة الإسلام — عبر دورات من الصلاح (الصعود) والفساد (الانهيار)،
فإن هذه الدورات لم تكن إلا محض ترجيع لنماذج عليا، شبه متعالية. وبدورها، فإن هذه
النماذج العليا، شبه المتعالية، هي تحقيق — عند مستوى وجودي عيني — لما أخبر به القرآن،
ككينونة قائمة في الأزل. هناك إذن، الإخبار الأولي السابق في الأزل، الذي يجري التنزُّل
منه
إلى نماذج عليا، شبه متعالية، للصلاح والفساد، أو الفضل والكفر، التي تتحقق، بدورها،
في
دورات واقعية متكررة من الصلاح والفساد.
ففي مقابل ما استقر الوعي على اعتباره القرون المفضَّلة الأولى «كنموذج أعلى للصلاح
والفضل»، وكانت هناك شبهات اللعين الأول «كنموذج أعلى للضلال والكفر»، وليس التاريخ إلَّا
دورات من التكرار الممل لهذين النموذجين الأعليين. ويعني ذلك أنه إذا كان لا بدَّ لكل
صلاح
يأتي في الزمن اللاحق أن يربط نفسه بصلاح القرون المُفضَّلة الأولى «وذلك بحسب المأثور
القائل: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.»»، فإن كل فساد لاحق يكون، بدوره،
مجرد تكرار لشبهات «اللعين الأول»، الذي هو إبليس. حيث إن «من المعلوم الذي لا مرية فيه
أن
كل شبهة وقعت لبني آدم، فإنما وقعت من إضلال الشيطان الرجيم (إبليس) ووساوسه، ونشأت من
شبهاته، وإذا كانت الشبهات «الخاصة بإبليس» محصورة في سبع، عادت كبار البدع والضلالات
(اللاحقة) إلى سبع، ولا يجوز أن تعدو شبهات فرق الزيغ والكفر والضلال هذه الشبهات، وإن
اختلفت العبارات وتباينت الطرق، فإنها (أي شبهات إبليس) بالنسبة إلى أنواع الضلالات «الخاصة
بالفرق» كالبذور».
٥٩ وإذ يبدو — والحال كذلك — أن كل ضلال لاحق، هو مجرد تكرار لضلال أوليٍّ سابق،
فإن ذلك يئول إلى أن هذا التاريخ — الذي كرسه الأشاعرة بالذات
٦٠ — يبقى مجرد تكرار شائه للنماذج المطلقة خارجه، وذلك من حيث إن تصور الضلال —
على هذا النحو — يتماثل مع تصور أن كل فضلٍ لاحقٍ «للعصور المُفضَّلة» لا بدَّ أن يكون،
بدوره، مجرد تكرار لفضلها السابق، وبما يعني أن التاريخ لا يعرف في مسيره (سواء صلاحًا
أو
ضلالًا) إلا أن يكون استنساخًا لنماذجه العليا الأولى. وبالطبع، فإنه يلزم تصور أن كل
تكرار لاحق (للصلاح أو الفساد) لا يمكن أن يكون في نقاء النموذج الأعلى وصفائه، بل يمثِّل
انهيارًا ونكوصًا، ليس فقط عن النموذج الأعلى، بل عن كل ما يأتي قبله من لحظات التكرار
الأسبق.
ويرتبط ذلك بحقيقة أنه — وككل تكرار — يكون عاكسًا لتشوُّه «الفرع» بالنسبة «للأصل»،
وهو
التشوُّه الذي يتزايد، بالطبع، مع التقدم في الزمان، ابتعادًا عن النموذج. وبالطبع، ذلك
يعني أنه ليس فقط تاريخ تكرار، بقدر ما هو أيضًا تاريخ تدهور وانهيار. حيث بلغ الأمر
إلى
حدِّ أنه قد صار «مما يجب اعتقاده أن قرنه (يعني النبي) أفضل القرون، ثم القرن الذي بعده،
ثم القرن الذي بعده»،
٦١ وأن «ما بعد هذه القرون الثلاثة (المُفضَّلة) سواء في الفضيلة، «وإن ذهبت
جماعة» إلى تفاوت بقية القرون بالسبقية، فكل قرن أفضل من الذي بعده إلى يوم القيامة،
لحديث
ما من يوم إلا والذي بعده شر منه، وإنما يسرع بخياركم».
٦٢ ولسوء الحظ فإن أمر الانهيار لم يقف عند حدِّ «الفضيلة»، بل تجاوزه حتى كاد أن
يصبح قاعدة عامة تحكم مسار كل شيء في حقل الممارسة الإنسانية. ولقد بدا أن ثمة من راح
يؤسِّس
هذه القاعدة، لا — كما يفعل غيره — على الخبر فحسب، بل أقامها على التجربة أيضًا. «أما
التجربة فهو أمر مشاهَد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما، ما بلغه
المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم نظري أو عملي؛ فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم
على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقُّق الصحابة بعلوم الشريعة ليس
كتحقُّق
التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن … وأما الخبر ففي الحديث: «خير القرون
قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.» وفي هذا إشارة إلى كل قرن مع ما بعده كذلك.
ورُوي
عن النبي «أول دينكم نبوَّة ورحمة، ثم مُلك ورحمة، ثم مُلك وجبرية، ثم مُلك عضوض»، ولا
يكون
هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئًا بعد شيء. ويندرج ما نحن فيه تحت هذا الإطلاق».
٦٣ والحق أن الأمر يتجاوز حدود العلم، أو حتى غيره من ضروب الممارسة العملية
كالصناعة وغيرها،
٦٤ إلى الحضارة بأسرها، حيث «إن العمران كله من بداوة وحضارة ومُلك وسوقة له
عُمُر محسوس، و«قد» تبيَّن في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه
ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد
ذلك
في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران «هي» أيضًا كذلك، لأنه غاية لا مزيد وراءها،
وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلُّق
بعوائدها. والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكَلَف بالصنائع
التي
تؤنَّق من أصنافه وسائر فنونه؛ من الصنائع المُهيئة للمطابخ أو الملابس أو الفرش أو الآنية
ولسائر أحوال المنزل. وللتأنُّق في كل واحدٍ من هذا صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة
وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات،
فتتلوَّن النفس بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام
صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمئونات التي تطالب بها
العوائد، ويعجز الكسب عن الوفاء بها».
٦٥ ورغم ما أدركه ابن خلدون من أسباب طبيعية
٦٦ وراء انهيار الحضارة، فإنه يبقى أنه يرسخ الانهيار بما هو القانون الحاكم
للحركة التاريخية بأسرها، والذي لا يفلت شيئًا من تأثيره أبدًا، وبما يدعم، أو حتى يحقق
التصور النبوئي عن تدهور خيرية القرون.
وإذ يبدو أن حقبة القرنين الثامن والتاسع الهجريين (التي كتب فيها كلٌّ من الشاطبي
وابن
خلدون نصوصهما)، كانت حقبة انهيار فعلي،
٦٧ فإن ذلك يثير التساؤل عما إذا كان هذا الانهيار الحاصل بالفعل هو المحدِّد للرؤية
التي تغلب على عمل الرجلين، أم أن حصول هذا الانهيار هو، في الأصل، تحقيق لهذه الرؤية
التي
تجد ما يؤسِّسها في قلب تصورات ومرويات تكرس الفكرة التدهورية، ولها حضورها السابق الذي
يرتفع
بها إلى النبي ذاته. وبعبارة أخرى، هل يكون الواقع المنهار بالفعل هو المنتِج لهذه الرؤية
«التدهورية»، بمعنى أنها تتبلور لكي تفسر انهياره الحاصل فعلًا، أو أن انهياره يكون نتاجًا
لها، وذلك ابتداءً من تصور التاريخ بما هو انعكاس وتحقيق لنماذج عليا، ورؤى مسبقة. وإذا
جاز
البحث عن جواب على هذا السؤال، عند ابن خلدون بالذات — لكونه صاحب خطاب عن التاريخ —
فإنه
يمكن القول بأن قارئ عمله ينتهي — أو يكاد — إلى مخايلته بأن الحاصل من الانهيار «الطبيعي»
هو تحقيق لقانون أو قاعدة «فوق-طبيعية». وهنا يلزم التأكيد على أن تصور القرآن كإخبار
سابق في «الأزل» على وقوع المخبَر عنه في «الزمن» يبقى هو القانون الأعلى الذي يؤسس لهذه
القاعدة «فوق-الطبيعية» التي يقرأ بها ابن خلدون، أو غيره، التاريخ. وبالطبع، فإنه يبقى
إمكان القول بأن قراءة الانهيار الحاصل في التاريخ بأي قاعدة فوق-طبيعية، على نحو ما
يفعل
الشاطبي وابن خلدون وغيرهما، هي انعكاس لقانون التعالي بالظواهر من الأرض إلى السماء،
الذي
يتحكم في تحولات كلٍّ من السياسة والثقافة في الإسلام. وحين يدرك المرء أن هذا القانون
نفسه،
هو الذي يقف وراء تحوُّل القرآن نفسه من «خطاب للإنسان» إلى «صفة الله القديمة»، فإن
له أن
يربط التعالي بالتاريخ — وبما يعنيه هذا التعالي من تصوره خلوًّا من أي فاعلية إنسانية
—
بما كان، أولًا، من التعالي بالقرآن.
والغريب حقًّا، وبالرغم من أن ثمة مَنْ سيسعى مع انبعاث ما يقال إنها النهضة العربية
الحديثة، إلى التفكير خارج مجال هذه الرؤية التدهورية للتاريخ، وأعني الطهطاوي الذي سعى
إلى
أن يستبدل بها رؤية ذات طبيعة تقدُّمية، يتكئ عليها في سعيه إلى دعم طموح التغيير في
مصر، عند
أواسط القرن التاسع عشر. وهكذا، فإنه قد مضى إلى أنه «كلما تقادم الزمن في الصعود (إلى
الماضي) رأيت تأخُّر الناس في الصنائع البشرية والعلوم المدنية. وكلما نزلت ونظرت إلى
الزمن
في الهبوط (إلى الحاضر) رأيت في الغالب ترقِّيهم وتقدُّمهم في ذلك، وبهذا الترقي وقياس
درجاته
وحساب البعد عن الحالة الأصلية والقرب منها انقسم سائر الخلق إلى عدة مراتب.»
٦٨ ورغم ما يبدو من أن الطهطاوي إنما يرفع التدهور من التاريخ، فإنه يبقى أن هذا
التاريخ يظل — وللغرابة — محتفظًا بالجوهر الذي يجعل منه مجرد صدى لذات التصور الأسبق
للتاريخ عند القدماء، والذي سبق التأكيد على أنه يتفرَّع عن تصوُّر القرآن (كصفة قديمة
لله)،
بما هو إخبار سابق في الأزل على المخبَر عنه في الزمن. فإن هذا التصور الأخير يفرض على
التاريخ أن يكون من قبيل التكرار، وذلك بصرف النظر عن المضمون الذي يجري تكراره. وإذ
التكرار يفرض الحضور الجوهري لنموذجٍ أولي يكون موضوعًا لاشتغاله (ومع صرف النظر بالطبع
عن
المضمون الذي يكون لهذا النموذج الأولي)، فإن ذلك يعني أن كل تاريخ يكون تكرارًا لنموذجٍ
أولي هو — في العمق — مجرد صدى لتصور التاريخ الغالب عند القدماء. فالرجل لم يفعل إلا
أن
دشَّن تقليد التقدم والترقي — الذي استقر في خطاب النهضة — بما هو تكرار لنموذجٍ جاهزٍ
عند
الغير، تبدَّى له في باريز (Paris) آنذاك. ولعلَّ وضعه لباريز كنموذجٍ، وليس كتجربة،
يتأتَّى من
نوع الآليات التي قرر أن يتعامل بها معها، وذلك بحسب ما تنطق به المفردات المستخدمة في
عنوان عمله
تخليص الإبريز في تلخيص باريز. فالرجل يقرر —
بحسب ما يقول العنوان — أنه لن يفعل إلا عزل العناصر النفيسة/الإبريز «في الحداثة
الإفرنجية» وتخليصها من كل ما يعلق بها مما يعتبره شوائبها الضارة الخسيسة، وتقديمها
منتقاة
وملخصة لولي الأمر، ليتسنَّى له الأمر بتكرارها واستنساخها. وإذن، فالأمر لا يتعلق بتجربة
يسعى الوعي إلى فهم أصولها وشروطها العميقة، ليتسنى له امتلاك هذه الشروط، بقدر ما ينطوي
على ضربٍ من التعاطي «التحكمي» معها، وعلى النحو الذي راحت معه تخضع للنمذجة على حسب
مثال
سابق يقوم جاهزًا في الذهن.
٦٩ ولم يكن هذا المثال — الذي يقيس عليه الطهطاوي — إلا التقليد المتوارث من
الأسلاف، وأعني من حيث ما يقطع به من أن معيار حكمه باستحسان بعض أمور «باريز» هو «نص
الشريعة المحمدية».
٧٠ وبحسب هذه النمذجة، راح الرائد الكبير يميِّز في أمور باريز بين عنصر
«نفيس/مقبول»، وآخر «خسيس/مرذول»، يتمثَّل أولهما في «العلوم البرانية والفنون والصنائع
العملية»، وذلك فيما يتجلَّى الآخر في «العلوم الحِكمية (الفلسفية/النظرية) التي «للإفرنج»
فيها حشوات ضلالية مخالفة لسائر ما في الكتب السماوية».
٧١ وهكذا، تكون فكرة المثال السابق تسللت إلى قلب مقاربة الرائد الأكبر (الطهطاوي)
لأمور باريز، وأعني من حيث باتت هي الأصل في تحديد ما يتم إدخاله إلى دائرة «المقبول»
من
هذه الأمور الباريزية، أو ما يجري إقصاؤه منها إلى دائرة «المرذول»، وبصرف النظر عن حقيقة
أن هذا «المرذول» — الذي يجري طرده — هو ما يؤسِّس — على صعيد النظر — للمقبول المأمول
تكراره. وهكذا، فإن الرجل دشَّن التقليد المستقر، للآن، والذي يتمثَّل في السعي إلى إنتاج
الحداثة بحسب مثال سابق. وهنا بالذات، أعني في هذا الانبناء بحسب مثال سبق، يكمن مأزق
ما
يقال إنها الحداثة العربية، حيث الحداثة — في الجوهر — تمثِّل تجاوزًا كليًّا لكل تفكيرٍ
في
الواقع بحسب مثال سبق.
والحق أن حضور «المثال السابق»، في تقاليد ما يقال إنها النهضة العربية، لم يقف عند
كونه
هو أساس التمييز بين المقبول والمرذول من أمور أهل باريز (كنموذجٍ للحداثة) فحسب، بل
إن ثمة
من مضى إلى أن فعلي التمييز والانتقاء، نفسيهما، قد كانا تكرارًا لمثالٍ سابقٍ يرتد إلى
عصر
النبوة، والذي هو — ومن دون جدال — النموذج الأعلى لكل تفكيرٍ لاحقٍ. وهكذا، فإن أحد
الأحفاد
المتأخرين للطهطاوي، راح ينظر إلى ما تقوم به ديار الإسلام، في هذه الأيام، من اجتلاب
ما
يجهله أهلها من تكنولوجيا «الإفرنج» الحديثة، على أنه محض تكرار لتقليد نبوي سابق، حين
رخَّص النبي لأصحابه اجتلاب ما يجهلون من تكنولوجيا الحرب المتقدمة عن غيرهم من المتقدمين
في فنون الحرب، في زمانهم، كالروم وغيرهم. وإذن، فالرجل يقيم تمثيله على إمكان اعتبار
ترخيص
النبي للمسلمين بنقل تكنولوجيا الحرب المتقدمة عند الروم (وهي الحداثة المعروفة على عهد
النبي) هو بمثابة المثال السابق، الذي يتحدد على أساسه موقف المسلمين، في هذا الزمان،
من
تكنولوجيا الغرب الحديثة.
٧٢ وبالطبع، ذلك يعني أن الموقف من مسألة التحديث، برمتها، سوف ينبني على القياس
على هذا المثال السابق، الذي لم يستحسن من الروم إلا تقنيتهم الحربية الإجرائية «وهو
المقبول»، عازلًا لها عن أساسها النظري والقيمي «المرذول»،
٧٣ وهو ما يمثِّل جوهر المأزق الذي يعيشه المسلمون مع الحداثة. وكان يمكن أن يمرَّ
الأمر بحسب هذا التبسيط، لولا أنه بدا أن ما كان ممكنًا — في المثال السابق — من عزل
«العملي» عن «النظري» في تجربة الروم القديمة، إنما يتعذَّر — وعلى نحوٍ كاملٍ — في تجربة
الغرب
الحديثة، وأعني من حيث إن المنتَج (العملي) التطبيقي، في الحداثة، يستبطن رؤية فلسفية
للعالم
يستحيل تصوره قائمًا في عزلة منها.
ولعلَّ ذلك يرتبط بحقيقة الانقلاب الذي أحدثته الحداثة في مسار التطور الإنساني،
بالمقارنة مع كل الحضارات السابقة، ما قبل الحديثة، وأعني من حيث ما تقوم عليه الحداثة
من
التماهي الكامل بين ما تقوم عليه من «الرؤية» وما بين ما تنتجه من «الأداة». فإنه إذا
كانت
«الآلة» هي جوهر ما يقوم عليه بناء الحضارة الحديثة، فإنها قد تحوَّلت إلى خصيصة بنيوية
لرؤية
شاملة للعالم، التي تتمثَّل فيما يقال إنه الرؤية «الآلية» أو الأداتية،
٧٤ بكل ما تفرَّع عنها من مناهج وتصورات ومفاهيم تعكس تحولًا في طرائق الوعي
والإدراك. إن ذلك يعني أن الآلة لم تعد مجرد «أداة»، بل تحولت إلى «رؤية» أيضًا. وهذا
التطابق بين «الأداتي» وبين «الرؤيوي» هو أهم ما تتميز به الحضارة الحديثة، عن تلك السابقة
عليها التي لم تعرف مثل هذا الترابط بينهما. ومن هنا أنه في حين كان يجوز فصل «الأداتي»
عن
«الرؤيوي» في إطار الحضارات القديمة، فإن ذلك مما يبدو مستحيلًا، على نحوٍ كاملٍ، في
إطار
الحضارة الحديثة.
٧٥
وذلك ما أدركه — وللغرابة — سيد قطب نفسه، حين مضى إلى «أن مناهج الفكر الغربي «الحديث»،
ونتاج هذا الفكر في كل حقول المعرفة، يقوم ابتداء على أساس الرواسب المُسمَّمَة بالعداء
لأصل
التصور الديني جملة «والتي تضرب بجذورها البعيدة في قلب التاريخ الأوروبي الطويل»»،
٧٦ وبما يعنيه ذلك من أنها تستبطن رؤية فلسفية وميتافيزيقية كامنة. ولعلَّ وعيه
بهذه الحقيقة، مع استمراره في الترخيص للمسلم أن يتلقَّى عن غير المسلمين، في مجالات
بعينها
من الحداثة (التي اعتبرها لا دين لها)، إنما يكشف عن عمق الإرباكات التي أدَّت إليها
أزمة
التخلف الإسلامي في العصر الحديث. وهي الإرباكات التي تنعكس كاملة على موقف «سيد قطب»،
بخصوص مسألة التقدم الأوروبي في مجالي التقنية والعلوم البحتة. فهو تارة يعتبرها من قبيل
«العلم الدنيوي» الذي يدخل تحت مظلة «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، ولكنه يرى — تارة أخرى
— أن
«نتاج الفكر الأوروبي قد أصبح بجملته ذا طبيعة مختلفة من أساسها عن مقومات التصور الإسلامي،
ومعادية في الوقت ذاته عداءً أصيلًا للتصور الإسلامي.» ولعلَّ ارتباكه ناشئ بالأساس من
أنه
قد أقام دعوى «الحاكمية» — التي هي مركز كل خطابه — على أنه لا مجال للفصل بين الدنيوي
والديني على العموم، ولكن رغبته في نقل التقدم الأوروبي (في مجالي التكنولوجيا والعلوم
البحتة) جعلته مضطرًّا للقول بالفصل بينهما في هذا السياق بالذات، وبما يعنيه ذلك من
أن
«مبدئية» موقفه بخصوص عدم الفصل بينهما في السياق العربي «والإسلامي على العموم» راحت
تتوارى لتحل محلها نزعة «برجماتية» — أو حتى نفعية — تقول بإمكان الفصل بينهما في السياق
الأوروبي. وهكذا، يكون التعارض بين «المبدئي» وبين «البرجماتي» هو ما يقف وراء ارتباك
خطاب
الرجل، ومعه غيره من أولئك الذين كان عليهم أن يجابهوا معضلة الموقف من التقدم
الأوروبي.
وبالطبع، فإنه يبقى إمكان القول — ترتيبًا على ذلك — أن مبدأ «التفكير على حسب مثال
سبق»،
سواء تجلَّى هذا المثال السابق في ممارسة للنبي (كترخيصه باجتلاب أدوات القتال من الروم)،
أو
في قول له مثل (أنتم أعلم بشئون دنياكم)، كان — من دون تمييز بين ليبرالي أو إسلاموي
— أحد
أهم محدِّدات تفكير المسلمين في الحداثة. وغني عن البيان أن هذا المبدأ، في التفكير بحسب
مثالٍ
سبق، إنما يجد ما يؤسَّس له «فلسفيًّا» في النظر إلى القرآن على أنه «إخبار» سابق (في
الأزل)
على وقوع «المخبَر عنه» اللاحق (في الزمن)، حيث القرآن كإخبارٍ سابقٍ هو «المثال» الذي
يكتسب
كل وجود لاحق معناه ودلالته من الاندراج تحته. وتبعًا لذلك، فإنه قد بدا وكأن المسلمين
يفكرون في الحداثة، ويسعون إلى إنتاجها، بما يخاصمها، ويتعارض مع جوهر ما تقوم عليه من
التحقق بالكلية خارج مبدأ التفكير بحسب مثالٍ سابق.
ولعلَّ ذلك يعني أن اشتغال التاريخ كتكرار لخطاطة الصعود والتدهور اللاهوتية الساذجة،
لا
يقف عند حدود القدماء وحدهم، بل يتعدى إلى ما يقال إنه الخطاب العربي الحديث، الذي لا
يعرف
التقدم والتخلف إلا بوصفهما تكرارًا لنماذج أيديولوجية جاهزة. فمنذ اصطدم العرب مع الحداثة،
مع مطالع القرن التاسع عشر، وهم يعيشون — على مدى القرنين تقريبًا — تاريخًا لا يعرف
إلَّا
الدورات المتكررة من الصعود والسقوط، التي كانت تعكس ما يمكن القول إنه التداول الرتيب
لأيديولوجيات تعرَّفوا عليها جاهزة عند غيرهم (سلفًا وغربًا). ويرتبط ذلك بحقيقة أنهم
قد
ظلُّوا — وللآن — لا يعرفون صلاحًا للواقع إلا بما صلح به «غيرهم من السلف المتقدمين»،
أو
ما صلح به «غيرهم من الإفرنج المتأخرين». وبالطبع، فإنه إذا كانت كل واحدة من هاتين
الأيديولوجيتين تربط الصلاح بحدودها، فإنه كان يلزم عن ذلك أن تقرن الفساد والسقوط بسيادة
ما يكون نقيضًا لها. وهنا يلزم التنويه بأن تصور الصلاح لا يكون إلا من خارج الواقع،
إنما
يتفرَّع عن تصوره من قبيل الواقع/الظل أو المجاز الذي لا تقوم حقيقته في داخله، بل تهبط
عليه جاهزة من خارجه. وغني عن البيان أن هذا التصور للواقع، إنما يجد ما يؤسِّس له في
قلب ما
يمكن القول إنها «أنطولوجيا الظل» التي تتفرع، بدورها، عن التعالي بالقرآن إلى حيث أصبح
«المعنى القديم القائم بذات الله»، بدل أن يكون خطابه المشروط بما عليه الإنسان «وعيًا
وواقعًا». وبالطبع، إن أنطولوجيا تقوم على تصور العالم مجرد ظلٍّ لحقيقة أعلى أسبق منه،
لا
بدَّ أن تنتهي إلى إبستيمولوجيا تقوم على تصور المعرفة إلحاقًا لفرعٍ بأصله.
ومن هنا ما يمكن المصير إليه من أن طابع الإلحاق والاستتباع في المعرفة لا ينفصل عن
الطابع التكراري في التاريخ من جهة، وعما يمكن القول إنها أنطولوجيا الظل من جهة أخرى،
بل
إن الأمر يتجاوز إلى وجوب أن يعكس بناء المعرفة نفس النظام الذي تنبني بحسبه تصورات
الأنطولوجيا والحقيقة وغيرها من التصورات التي تتضافر معه في الاشتغال تحت مظلة ذات الخطاب.
وغني عن البيان أن ذلك ينبني على حقيقة أن النظام «الأعلى» الذي فرضه التعالي بالقرآن،
عبر
اعتباره «صفة الله القديمة» كان لا بدَّ أن ينعكس على بناء التصورات الكبرى للوجود والحقيقة
والتاريخ والمعرفة، داخل الخطاب. وضمن هذا السياق، فإنه إذا كان الوجود يتبدَّى كظلٍّ،
والحقيقة
كتطابقٍ، والتاريخ كتكرارٍ، فإن المعرفة تتبلور بما هي إلحاق واستتباع. والمُلاحَظ على
بناء
هذه التصورات الكبرى أنه يقوم على ترتيب علاقة بين طرفين، يتسيَّد أحدهما في «الأعلى»
كأصلٍ
ونموذجٍ، بينما يقبع الآخر في «الأدنى» كمجرد تابعٍ. فالظل يتبع حقيقته «في الوجود»،
والهامش
يطابق المتن «في الحقيقة»، والواقعة تكرر نموذجها «في التاريخ»، والفرع يَلْحَق بالأصل
«في
المعرفة». وبالطبع، ذلك يعني أن طابع الانقسام والثنائية بين «أصل/نموذج» أعلى وبين «فرع/
ظل» أدنى، وبما يترتب على ذلك من وجوب تبعية الأدنى للأعلى، هو ما يحدد بناء كل التصورات
التي تندرج تحت تصور القرآن كصفة قديمة لله.
ومن هنا ما يظهر من تمحور النظام المعرفي — الذي تحققت له السيادة في ثقافة الإسلام —
حول
مفهوم «الأصل» بالأساس، بل إن الأمر سيتجاوز مجرد «النظام المعرفي» إلى انبناء العقل
نفسه —
وهو آلة إنتاج المعرفة — حول مفهوم «الأصل». ولقد راح الشاطبي يبلور هذا البناء للعقل
في
سياق نقضه لمفهوم البدعة، من حيث هي «رمي في عماية وخروج عن الصراط المستقيم» الذي هو
الأصل. فعقل البدعة هو — بحسب الرجل — عقل التفكير خارج الأصل أو الصراط، وهو من نوع
العقل
المذموم. وهكذا، فإن نقطة البدء في تأسيس عقل الأصل/الصراط إنما تكمن في ذم عقل البدعة
والحط من شأنه، يقول الشاطبي: «لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها؛ لأن
اتِّباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية، وبيان ذلك من وجهة النظر والنقل الشرعي
العام. أما النظر فمن وجوه: «أحدها» أنه قد عُلِمَ بالتجارب والخبرة السارية في العالم
من
أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلابًا لها، أو مفاسدها، استدفاعًا
لها. لأنها إما دنيوية أو أخروية. فأما الدنيوية فلا يستقل «العقل» باستدراكها على التفصيل
البتة لا في ابتداء وضعها أولًا، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها، إما في السوابق
وإما في اللواحق؛ لأن وضْعَها أولًا لم يكن إلا بتعليم الله تعالى. لأن آدم عليه السلام
لما
أُنزل إلى الأرض عُلِّمَ كيف يستجلب مصالح دنياه؛ إذ لم يكن ذلك من معلومه أولًا، إلا
على
قول من قال: إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. وعند ذلك يكون تعليمًا غير عقلي، ثم توارثته ذريته في
الجملة. لكن فرعت العقول من أصولها تفريعًا تتوهم استقلالها به. ودخل في الأصول الدواخل
(يعني البدع والشوائب) حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات «بين الرسل»، إذ لم تجر مصالح الفترات
على استقامة، لوجود الفتن والهرج، وظهور أوجه الفساد. فلولا أن منَّ الله على الخلق ببعثة
الأنبياء لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم، وهذا معلوم بالنظر في
أخبار
الأولين والآخرين. وأما المصالح الأخروية، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها
وهي
العبادات مثلًا، فإن العلم لا يشعر بها على الجملة، فضلًا عن العلم بها على التفصيل …
ولا
يغترن ذو الحِجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل، قبل النظر
في
الشرع، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه. لأن الشرائع لم
تزل
واردة على بني آدم من جهة الرسل. والأنبياء أيضًا لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر.
وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية. غير أن الشريعة
كانت
إذا أخذت في الدروس بعث الله نبيًّا من أنبيائه يبيِّن للناس ما خُلِقوا لأجله وهو التعبُّد
لله. فلا بدَّ أن يبقى من الشريعة المفروضة، ما بين زمان أخذها في الأندراس وبين إنزال
الشريعة بعدها، بعض الأصول المعلومة. فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقَّفوها أو تلقفوا
منها، فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم، وجعلوا ذلك عقليًّا لا شرعيًّا، وليس الأمر
كما
زعموا.
فالعقل غير مستقل البتة، ولا ينبني على غير أصلٍ، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلَّم
على الإطلاق.»
٧٧
إن ما ينبغي ملاحظته هو ما يقوم به الشاطبي — عبر هذا النص الطويل — من استعراض ما
يمكن
القول إنه تصوره لتاريخ العقل الإنساني على العموم، مؤكدًا على كونه غير مستقلٍّ بنفسه،
وأن
عمله يتلخص في التفريع عن الأصول التي تكون مُتلقاة من الله، سواء على نحوٍ مباشرٍ مع
آدم، أو
على نحوٍ غير مباشرٍ عبر وساطة الأنبياء والرسل، وأن الفلاسفة لا يختلفون عن غيرهم في
التفكير
بتلك الأصول المُتلقاة من الله. وفقط، فإن ظهورهم في الفترة بين انقضاء فترة شريعة، وإنزال
أخرى، هو ما يجعلهم يتصورون أنهم يُخرجون هذه الأصول على مقتضى عقولهم، وليس الأمر —
بالطبع
— كما زعموا، وبما يعنيه ذلك من أنه لا معرفة أبدًا من دون أصلٍ يكون هو الإمام. ولهذا
كله،
فإن الشاطبي ينتهي إلى أن العقل «إنما ينبني على أصل متقدم على الإطلاق». وليس من شك
في أن
عقلًا يدخل «الأصل المتقدم» في صميم بنائه على هذا النحو، لا يمكن أن ينتج المعرفة إلَّا
بما هي محض تفريع على تلك الأصول المتقدمة الأولى، وبما يفسر المركزية المعرفية، غير
القابلة للتحدي، للزوج أصل/فرع في النظام المعرفي الذي تحققت له السيادة في ثقافة الإسلام.
وهنا يلزم التأكيد على أن علوم التأسيس الأولى (التي احتفظت في تسمياتها بمصطلح الأصول)،
كانت هي التي قد تكفَّلت بتثبيت هذا النوع من الانبناء للمعرفة، بما هي تفريع على الأصول.
وكمثالٍ، فإنه إذا كان علم أصول الفقه هو أحد أهم علوم التأسيس الأولى، فإن أصوله قد
راحت
تتحلل من مضمونها الشرعي الخاص، لتتحول «إلى أصول يمكن أخذها في صورتها المجردة (نص،
إجماع،
قياس) وتأسيس أنواع المعارف (الأخرى) عليها».
٧٨ وإذن، فإنه قد جرى تجريد الأصول من مادتها الشرعية الفقهية، لتتحول إلى قوالب
تحكم عملية التفكير في سائر الحقول المعرفية الأخرى، غير الفقه، وعلى النحو الذي آل —
في
النهاية — إلى مركزة آلية مهيمنة للتفكير داخل الثقافة، هي آلية التفكير بأصل. وهنا يلزم
التنويه بأن اشتغال تلك الآلية لم يقف عند حدود ثقافة التراث وحدها، بل تخطى إلى ساحة
الثقافة العربية الحديثة التي لم تقدر على الانفلات من الهيمنة الطاغية لآلية التفكير
بالنموذج «حيث تحولت «أصول» أهل التراث إلى «النماذج» الأيديولوجية لأهل الحداثة».
من التعالي بالقرآن إلى التعالي بالمعرفة وأصولها
ولعلَّ التطور الأفدح فيما يخص هذه المعرفة يتعلق بما كان لا بدَّ أن يطرأ على
طبيعتها، هي نفسها. فإن فعلًا معرفيًّا يقوم على رد الحوادث إلى أصولها المتعالية
الأولى ذات المصدر الإلهي، لا بدَّ أن ينعكس على طبيعة المعرفة الناتجة عنه، تعاليًا
بها إلى حدود فوق-بشرية. وهنا يلزم التنويه بأن المُشكِل لا يأتي من كون مصدر هذه
الأصول إلهيًّا، بل في التعاطي معها معزولة عن الشرط الإنساني الذي يدخل في عمليات
إنتاجها للدلالة والمعنى. وإذن، فالأمر فيما يخص الأصول لا يختلف، في جوهره، عن
المُشكِل بخصوص القرآن الذي لا يأتي أبدًا من إلهية مصدره، بل مما جرى من عزله — عبر
التعالي به — عن مجمل الشرط الإنساني الداخل في تركيبه، وبما يعنيه ذلك من أن التعالي
بالقرآن قد انعكس على طبيعة الأصول، والمعرفة القائمة عليها بالتالي. ومن هنا ما يلحظه
المرء من النزوع المتزايد إلى التعالي بالمعرفة — التي تتصل علومها بالقرآن مباشرة —
وإلى حدِّ ما جرى من إحاطتها، ومعها شخوص أصحابها ومنتجيها، بأسوجة التقديس والتبجيل،
في مقابل ما التصق بما يخرج عنها من وصمات التدنيس والتحقير. ولعلَّ هذا السياق بالذات،
هو ما يمكن للمرء داخله أن يستوعب ما جرى من السعي إلى تأييد وتثبيت منظومات معرفية
(فقهية وعقائدية بالذات)، عبر فك روابطها مع التاريخ الذي يحددها واقعيًّا ومعرفيًّا،
فتكتسب سمات المعرفة المفارقة المطلقة التي لا تتحدد بوعي منتجيها ونظام واقعهم، بل
بتعيينها — وليس حتى تمثيلها — للأصول المفارقة ذات المصدر الإلهي. فقد عرفت الثقافة
الإسلامية — كغيرها من الثقافات — ظاهرة إضفاء سمات الإطلاق والقداسة على شخوص وأفكار
ومذاهب (في مجالي الفقه والعقيدة بالذات)، وذلك عبر فك روابطها مع التاريخ الذي تبلورت
داخله، وبما يترتب على ذلك من التعالي بها إلى مقام المقدس الذي يجعل الاختلاف معها،
بمثابة ضرب من الانحراف عن الوحي أو الدين ذاته. والمُلاحَظ أن هذا الإضفاء للقداسة —
أو
ما يمكن أن يُسمَّى تأسيس التقديس
٧٩ — راح يتحقق عبر تقديم تلك المذاهب لنفسها بوصفها التحققات، أو التعينات،
المطابقة لنص الوحي من جهة، وعبر ما جرى — من جهة أخرى — من التعالي بأشخاص مؤسسي تلك
المذاهب إلى مقامٍ راحوا فيه يتحولون إلى موضوعٍ لاصطفاءٍ إلهي-نبوي. وفي الحالين، فإن
إسكات صوت التاريخ كان هو الإطار الذي يسمح لهذه المذاهب بالتطابق مع الإلهي، والتعالي
إلى أفقه المقدس.
٨٠
كان الحظ الأوفى من التعالي المعرفي في ثقافة الإسلام — وبما صاحبه من القداسة
المضافة إلى المذاهب والشخوص — من نصيب كل من الشافعية (في الفقه) والأشعرية (في
العقيدة)، وأعني من حيث إصرار كلا المذهبين على ربط نفسيهما بنص الوحي، وإلى حدِّ
المخايلة بكونهما — دون غيرهما — التحقُّق المطابق لهذا النص، بل إن ما أُضيف إلى شخصي
مؤسسيهما — في كتب المناقب — من الاختصاص باصطفاء إلهي-نبوي، قد اقترب بهما من المقام
الذي كادا فيه أن يكونا مُتلقِّيين لوحي من السماء. وغني عن البيان أن اتساع دلالة لفظة
الوحي
٨١ هو ما سمح بتواتر الروايات التي توهِم بتلقي البعض من مؤسسي المذاهب الكبرى
«من غير الأنبياء» للوحي. وإذ الوحي — في قول الرازي — «هو الإلهام والقذف في القلب أو
المنام كما أوحى الله إلى أم موسى وإبراهيم في ذبح ولده»،
٨٢ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فإن الرؤى المنامية سوف تكون هي الأداة
التي يتحقق من خلالها الوحي لكل الآباء المؤسسين الكبار، من غير الأنبياء، ومع ملاحظة
أن النبي (هو صاحب التأسيس الأول) يكون هو — وليس المَلَك — واسطة اتصال السماء مع
هؤلاء الآباء الكبار. ومن ذلك ما تورده الرواية، بخصوص الشافعي، من أنه قال: «رأيت
النبي — عليه السلام — في النوم. فقال لي: يا غلام ممن أنت؟ فقلت: من رهطك يا رسول
الله. فقال: ادن مني، فدنوت منه، فأخذ من ريقه، ففتحت فمي، فأمرَّ من ريقه على لساني
وفمي وشفتي، وقال: امض بارك الله فيك.»
٨٣ وغني عن البيان أنه لا يمكن تأويل ما أخذه النبي من ريقه، ووضعه على لسان
الشافعي وفمه، إلا أن يكون العلم، وبما يعنيه ذلك من أن النبي هو الأصل في كل ما يقول
به الشافعي من العلم، بل إن البعض سوف يتعالى بهذا العلم إلى حدِّ اعتبار أن الله نفسه
هو مصدره وأصله، حيث «قال الربيع: رأيت في المنام قبل موت الشافعي — رضي الله عنه —
بأيام، أن آدم — عليه السلام — مات، ويريدون أن يخرجوا بجنازته. فلما أصبحت سألت أهل
العلم عنه، فقال: يموت أعلم أهل الأرض؛ لأن الله قال:
وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فما كان إلا يسيرًا حتى مات الشافعي رضي
الله عنه.»
٨٤ وهكذا، لا تكتفي الرواية ببناء سلطة الشافعي كأعلم أهل الأرض جميعًا، بل
وتلمِّح إلى أن الله هو أصل هذا العلم ومصدره، وإلى حدِّ ما سيجري من التعالي بكتابه
إلى المقام الذي يتماثل فيه مع المصحف وكتب الأخبار أو الحديث النبوي ذاتهما.
٨٥ وإذ تصبح مصادر السيادة العليا في الإسلام (الله والنبي) هما مصدر علم
الشافعي — والحال كذلك — فإن ذلك كان لا بدَّ أن يرتفع به إلى مقام العلم المتعالي الذي
يفارق علم الآخرين.
٨٦ وبالطبع، فإنه لن يؤثر في ذلك ما تتواتر به الرواية من أن الشافعي نفسه، أو
غيره من هؤلاء الآباء المؤسسين، كان ينظر إلى عمله كاجتهادٍ يقبل الخطأ والإصابة؛ لأن
الأمر يتعلق بالكيفية التي جرى بها التعامل الفعلي مع إنجازه داخل الثقافة، والتي راحت
ترسخ الاعتقاد في مفارقته وتعاليه.
٨٧ ولقد راح ذلك يتحقق عبر ما يقوم به الآخرون من التعالي من الخارج بالشخص،
وذلك من خلال ما حشدوه من فيض الروايات والاستدلالات التي تجعل منه موضوعًا مباشرًا
للاصطفاء والتمييز من جانب مراكز السيادة العليا في الإسلام (الله والنبي)، ثم عبر ما
يقوم به — هو نفسه — من التعالي بالأصول التي يُشيِّد عليها بناءه «الفقهي» إلى حيث
تكتسي رداء المفارقة، وبما يعنيه ذلك من تشغيلها بمعزلٍ عن الشرط الإنساني الذي يدخل
في
بنائها وتركيب معناها. وبالطبع، فإن ذلك كله هو ما سيسمح بإنتاج المطابقة — التي تستقر
في وعي الجمهور حتى اليوم — بين الاجتهاد الفقهي للرجل وبين القرآن ذاته.
٨٨ ولعلَّه يلزم التنويه بأن هذا التطور يعاكس، على نحوٍ كاملٍ، ما ينكشف عنه
مسار التفكير الفقهي السابق على الشافعي، الذي يبين عن ضرب من الانفتاح الظاهر على
العقل والتاريخ (عرفًا وواقعًا)، وعلى النحو الذي راح يجري معه جعل العمل بما يقرره
النص مربوطًا بما يقرره الواقع، وذلك على نحو ما ظهر في مثال تعليق عمر بن الخطاب للعمل
بما يقرره القرآن في شأن «المؤلفة قلوبهم» بعد أن تغيَّر واقع الإسلام، وانتقل — على
قوله — من حال «الذلة» إلى حال «العزة». فالثابت أن عمر قد علَّق العمل بحكم القرآن
الذي تثبته الآية التي وردت فيه، مستندًا — فيما يبدو — إلى أنه «قد ذهب أهل هذه الآية،
وإنما كان ذلك في دهر النبي
ﷺ، وذلك على الرغم مما سيؤكد عليه البعض مثل الحسن
وابن شهاب من أن الأمر ماض أبدًا؛ لأن الآية مُحكمة لا نعلم لها ناسخًا من كتاب ولا سُنة».
٨٩ وبالطبع، ذلك يعني أن حركة الواقع كانت هي الموجِّه الرئيس لمسار التفكير
الفقهي، وبما يتعارض مع ما سوف يحدثه الشافعي من التضييق الذي دار معه التفكير في الفقه
حول مجرد «النص»، ولا شيء سواه تقريبًا.
ولسوء الحظ فإن الطريقة التي أدار بها الشافعي تفكيره في النص قد قامت، وبالأساس،
على عزله الكامل عن مجمل الشرط المحدِّد، ليس فقط لعمليات فهمه، بل وسيرورة بنائه أيضًا.
ولعلَّ ذلك ما يستفاد من الطريقة التي تعامل بها مع مفهوم السنَّة بالذات، وذلك
بالمقارنة مع طريقة السابقين عليه في التعامل مع هذا المفهوم بعينه. فقد تميزت الحقبة
التي تسبق ظهور أصول الشافعي على رأس المائة الثالثة من الهجرة، بسيادة ضروب من التعاطي
المفتوح مع السنَّة، والتي بدا أن السنَّة فيها لم تخرج عن كونها مستودعًا لضربٍ من
التقليد أو العمل الجاري المستقر «الذي دشَّنه الرسول وحافظ عليه الخلفاء الأوائل ومن
تبعهم من الحكَّام، وأصَّله العلماء».
٩٠ والحق أن الأمر تجاوز مجرد الحفاظ على التقليد المتوارث من النبي إلى
الإضافة لهذا التقليد من أعمال اللاحقين عليه أيضًا.
٩١ وقد بلغ اتساع هذه الإضافة إلى حدِّ أن أصحاب مصنفات جمع الحديث الأولى
كانوا — في ابتداء تدوين السُنَّة — «يضعون الأحاديث المتناسبة في بابٍ واحد، ثم يضعون
جملة من الأبواب بعضها إلى بعض، ويجعلونها في مصنف واحد، ويخلطون الأحاديث (المنسوبة
للنبي) بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين».
٩٢
وإذ لا يقف الأمر — والحال كذلك — عند مجرد خلط الأحاديث المنسوبة للنبي بأقوال
الصحابة، بل حتى أقوال التابعين،
٩٣ فإن ذلك يعكس تصورًا ينبني على أن «السنَّة» ليست من الوحي، وإلَّا ما كان
جرى خلطها لا بمجرد أقوال الصحابة، بل حتى بفتاوى التابعين. وبالطبع، فإن ذلك ما يئول
إلى أن أصل الإلزام في السنَّة — في تلك اللحظة الباكرة — إنما يرجع إلى قوة سلطة
التقليد الغالبة في مجتمع الجزيرة العربية البدوي أو شبه البدوي، ولا يعود إلى أنها —
كالقرآن — من مصدر إلهي مفارق.
ولعلَّه يلزم التنويه هنا، بأن ثمة ما هو منسوب إلى النبي نفسه، ما يضعف مفهوم الأصل
المفارق للسنَّة. فقد تواترت الرواية عن النبي بالنهي عن تدوين السنَّة وكتابتها، وذلك
على سبيل تمييزها عن القرآن، وتأكيدًا على أنها ليست من الوحي الإلهي الذي اقتصر عليه
التدوين. وذلك فضلًا عما هو معلوم بالتواتر من تضعيفه لإلزامية كل ما يصدر عنه (بحسب
ما
جرى في واقعة تأبير نخيل المدينة)، وذلك من دون أن يضع معيارًا يمكن به التمييز بين
المُلزِم وغير المُلزم مما يصدر عنه، وإلى حدِّ ما جرى من رد «الأعلمية» بشئون الدنيا
على العموم إلى البشر «أنتم أعلم بشئون دنياكم.» ويبدو أن الالتباس بخصوص هذا الأمر قد
طال البعض من الصحابة، وإلى حدِّ التوجه مباشرة بالسؤال إلى النبي عما إذا كان ما يقرره
بشأن مسألة ما (كنزول المحاربين في موقعٍ ما بإحدى الغزوات) هو من الوحي، أم أنه من نتاج
فكره وتدبيره، فما كان منه إلا أن أجاب بأنه من فكره وتدبيره، وبما يؤكد على أن كل ما
يصدر عنه لا يكون من الوحي. وإذا كان ثمة من التبس عليه الأمر كهذا الصحابي، فإن هناك
من كبار الصحابة من كان على وعي بأن كل ما يصدر عن النبي ليس من الوحي؛ إذ ليس من شك
في
أن مثل هذا الوعي هو الذي دفع صحابيًّا كعُمر إلى الاعتراض على إمداد النبي — في مرض
موته — بقرطاس ودواة ليكتب كتابًا لهم، محتجًّا بقوله: «حسبنا كتاب الله»
٩٤ ليؤكد على وعيه بالتمييز بين «كتاب الله» وبين ما يمكن أن يكتبه النبي من
الكتب غيره. ولو أن الرجل يعتقد في أن كل ما يصدر عن النبي هو من الوحي، لما كان قد جاز
له إهماله أبدًا، ومن دون أن يجادل أحد بأن «الوجع الذي غلب على النبي» هو الأصل في هذا
الإهمال؛ لأن الأمر يتعلق بشخصٍ ذي وضع استثنائي حتى في حال وجعه. والغريب أن يكون
الشافعي نفسه أورد عن أحد كبار الصحابة ما يدعم القول بأنهم لم يتصوروا السنَّة من
الوحي، بل تصوروها من «الرأي» الذي يمكن الاختلاف معه، ومن ذلك قوله: «أخبرنا مالك عن
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية (إناء للشرب) من ذهب أو
ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله ينهي عن مثل هذا، فقال
معاوية: ما أرى بهذا بأسًا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية! أخبره عن رسول الله
ويخبرني عن رأيه؟!»
٩٥ وبالطبع، إن عمل معاوية برأيه في مواجهة ما سماه الشافعي «الخبر الثقة عن
النبي»، إنما يعكس تصوُّره للسنَّة، لا بما هي من «الوحي»، بل من قبيل «الرأي» الذي يمكن
الاختلاف معه.
وإذ تواتر النهي عن تدوين السنَّة عن كبار الصحابة أيضًا، فإن ما يلفت النظر في هذا
النهي، هو تحوُّطهم الظاهر من أن يؤدي ذلك إلى أن تكون بديلًا يستغني به الناس عن كتاب
الله. فمما يُروى أن «عمر بن الخطاب استشار الصحابة في تدوين الحديث، ثم استخار الله
في
ذلك شهرًا، ثم عدل عن ذلك، وقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا
قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله
بشيء أبدًا.»
٩٦ وحين يقارن المرء بين موقف عمر الحاسم بخصوص وجوب تدوين القرآن، وبين ما
يبدو من اعتباره تدوين السنن والحديث من قبيل الشيء أو «الشائبة» الذي يمكن أن تشوب
كتاب الله، فإنه يستطيع القطع بيقين، بأن الرجل ينظر إليهما على أنهما من طبيعتين
متباينتين، وأن السنَّة لها مصدرها المغاير لذلك الذي صدر عنه كتاب الله. ولعلَّ ذلك
ما
سيقطع به ما تنسبه المصادر إلى الإمام علي، من أنه قال: «أعزم على كل من كان عنده كتاب
إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين سمعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم.»
٩٧ فإنه لا معنى لهذا الذي يقول به الإمام، إلا القطع الصريح بأنه قد كانت
هناك مدونات غير
القرآن عند البعض، وهي مدونات للسنن
والحديث لم يتردد الإمام في نسبتها إلى «العلماء»، واعتبار أن سماعها هو ترك لكتاب
الله. وهكذا، فإنه الرفض الحاسم — من الصحابة — لتدوين السنن والأحاديث، مخافة أن ترتفع
بها الكتابة إلى مقام «كتاب الله»، وبما يعنيه ذلك من إقرارهم بانفراد
القرآن وحده بمكانة الوحي الصادر عن الله.
استقر أمر التعاطي مع السنَّة على ذات النحو من المرونة والانفتاح — الذي يضعها خارج
حدود الوحي — مع أصحاب المدارس الفقهية السابقة على الشافعي. وهنا يمكن الإشارة إلى ما
نقله الشافعي عن أبي يوسف بخصوص الأوزاعي (فقيه الشام الكبير)، من أن قوله: «على هذا
كانت أئمة المسلمين فيما سلف»، إنما يعادل قوله: «بهذا مضت السنَّة»، وذلك بالرغم من
أنه قد يكون «كما وصفت من رأي أهل الحجاز، أو رأي بعض أمراء مشايخ الشام ممن لا يحسن
الوضوء، ولا التشهُّد.»
٩٨ وبحسب ما سبق التنويه به، فإن كتاب
الموطأ
لمالك قد اتسع لأقوال الصحابة وآثار التابعين، إلى جانب الأحاديث المنسوبة
للنبي ذاته، وبما انعكس على الطريقة التي استخدم بها مالك مفهوم السنَّة، حيث الثابت
أن
مالكًا لم يقصر استخدام لفظة «السنَّة» على ما تواتر عن النبي وحده،
٩٩ بل استخدام المفهوم بمعناه الأوسع الذي اتسع معه ليشتمل على «سنَّة
المسلمين» و«سنَّة أهل الكتاب»، كما استخدم مفهوم «السنَّة عندنا» قاصدًا به «عمل أهل
المدينة». ولعلَّ هذا الاتساع في استخدام مالك لمفهوم السنَّة هو ما يمكن فهمه مما نقله
الشافعي عن أبي يوسف من أن «أهل الحجاز يقضون بالقضاء، فيقال لهم: عمن هذا؟ فيقولون:
بهذا جرت السنَّة، وعسى أن يكون قضى به عامل السوق، أو عامل ماء من المياه.»
١٠٠ وبالطبع، هذا التنزيل بمصدر السنَّة، إلى حدِّ أن يكون عاملًا في السوق (أو
من لا يحسن الوضوء والتشهُّد)، إنما يؤكد على أن الاستخدام الأوَّلي للمفهوم لم يكن ينطوي
على الحمولة الدينية التي أثقلت عليه بعد ذلك، بقدر ما يكشف عن حضوره بمحض دلالته
الاجتماعية بالأساس. وهكذا، يمكن القول بأن الأمر — في البدايات المبكرة لظهور المفهوم
— وقف عند حدود المضمون الاجتماعي للسنَّة، ومن دون أن يكتسي بالدلالة الدينية الكثيفة
— والأهم المتعالية — التي ستطغى عليه لاحقًا، ومع الشافعي بالذات.
في مواجهة هذا الضرب من التعامل الواقعي العيني مع السنَّة، ابتدأ الشافعي مسار
التعالي، لا بالسنَّة وحدها، بل بأصول الفقه على العموم، وهو التعالي الذي أحاط هذه
الأصول بسياجٍ من القداسة التي كان لا بدَّ أن تتسرب، على نحوٍ ما، إلى المنتَج الفقهي
النهائي الذي أنشأه. فإن أصولًا ذات سمات متعالية ومقدسة، لا بدَّ أن يكون الناتج عنها
مسكونًا بنفس هذه السمات. وهكذا، فإنه قد تبنى ذات التصور المتعالي للقرآن، كصفة قديمة
قائمة بذات الله،
١٠١ وعلى نفس طريقة الحنابلة التي لا يكون القِدَمُ فيها للمعنى فقط، بل للكلمة
المنطوقة ذاتها.
١٠٢ ولم يقف الشافعي عند حدِّ التعالي بالقرآن على هذا النحو، بل إنه راح
يتعالى بالسنَّة إلى مقام الوحي الإلهي، وذلك على عكس ما استقر من تمييزها عن الوحي.
وقد اعتمد الشافعي، في إنجاز هذا التعالي، على قراءته لبعض نصوص القرآن قراءة تأويلية
تقوم، وبالأساس، على التوجيه الواضح للدلالة، وذلك إما بتضييقها أو بتوسيعها على نحوٍ
غير منضبط. فبعد أن أورد الشافعي ما يفيد أن الله قد «قرن الإيمان برسوله مع الإيمان
به»، رتب على ذلك أنه «فرض على الناس اتِّباع وحيه وسنن رسوله»، وراح يؤسس هذا الفرض
على أن السنَّة، بدورها، هي تنزيل من الله، استنادًا إلى قوله تعالى:
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، «فذكر
الله تعالى الكتاب، وهو
القرآن، وذكر الحكمة. فسمعت
من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة هي سنَّة رسول الله».
١٠٣ وإذ مضى الشافعي إلى تفسير «الحكمة» — المنزَّلة مع الكتاب — على أنها
«السنَّة»، فإنه لن يكون غريبًا أن يقرأها الإمام مالك على أنها لا تعني إلا «المعرفة
بالدين والفقه فيه»، بدلالتهما الإنسانية، وهو ما يتسق مع قراءته المفتوحة للسنَّة. إن
ذلك يعني أن تصور مالك المنفتح للسنَّة انعكس على تأكيده على الأصل الإنساني للحكمة،
وذلك فيما تآدى تصور الشافعي المتعالي للسنَّة إلى قراءة للحكمة تجعلها من التنزيل
الإلهي. وبالطبع، فإن ذلك ينطوي على ما يمكن القول إنه توجيه الشافعي للدلالة القرآنية،
على النحو الذي تضيق معه إلى مجرد الإشارة إلى السنَّة النبوية وحدها. وهنا يلزم
التنويه بأنه إذا كان الشافعي قد اعتمد في توجيهه لدلالة الحكمة إلى هذا المعنى الضيق
على ما لاحظ من الاقتران بين لفظتي «الكتاب والحكمة»، فإن ثمة من الآيات القرآنية ما
أورد لفظ الحكمة منفردًا — من دون أن يكون مقرونًا بالكتاب — وبكيفية تنصرف معها دلالته
إلى المجال الإنساني.
١٠٤
والحق أن الأمر لم يقف عند مجرد تضييق الشافعي للدلالة، فيما يختص بلفظة الحكمة،
حين
صرفها إلى مجرد التنزيل الإلهي، متجاهلًا استخدامها في
القرآن
بدلالة إنسانية، على نحوٍ يجعل قصر تداولها القرآني على مجرد التنزيل الإلهي
تضييقًا للدلالة يأباه
القرآن، بل إنه سوف يتجاوز
ذلك إلى توسيع الدلالة، فيما يخص مفهوم «طاعة النبي»، على النحو الذي — وللمفارقة —
يأباه
القرآن أيضًا. فقد راح الشافعي يستدعي كل
الآيات التي «أحكم الله فيها فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله، وإعلامهم أنها طاعته»،
١٠٥ ولكنه لا يتطرق أبدًا إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الطاعة مطلقة، أو أنها مشروطة بكونه
مجرد
مُبلِّغ — أو حتى مُبيِّن — لحكم الوحي، وأن طاعته — المقرونة بطاعة الله — لا تكون في
ما ينشئه بفهمه وتدبيره، وإلَّا ما كان القرآن قد عاتبه على بعض ما ينشئه بفهمه، وأمره
بالرجوع عنه. وكمثالٍ على ذلك، فإنه يمكن الإشارة إلى ما قرَّره النبي بخصوص أسرى بدر،
مما
راجعه فيه القرآن، بل وخوَّفه عليه بالعذاب العظيم، على النحو الذي أبكاه بحسب ما تقول
الرواية التي أوردها المفسرون.
أورد القرطبي في تفسير قوله تعالى:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ،
١٠٦ عن «ابن عباس قوله: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله
ﷺ لأبي بكر
وعمر: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة،
أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال
رسول الله
ﷺ: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي
رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتمكَّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه،
وتمكني من فلان — نسيبًا لعمر — فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى
رسول الله
ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول
الله
ﷺ وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي
أنت وصاحبك، فإذا وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله
ﷺ: أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من
هذه الشجرة — شجرة قريبة كانت من نبي الله
ﷺ — وأنزل الله عز وجل
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ.
١٠٧ وبصرف النظر عما أورده الرازي في تفسيره من قول البعض «إن النبي
ﷺ وأبا بكر بكيا، وصرح الرسول
ﷺ أنه بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء، وذلك
يدل على أنه مذنب»، وبدليل قوله «إن العذاب قَرُبَ نزوله، ولو نزل لما نجا منه غير
عمر، وذلك يدل على الذنب»،
١٠٨ فإنه يبقى أن النبي قد أخذ بحكم من نفسه في مسألة الأسرى، لم يقبل به وحي
السماء، بل وخوَّفه بالعذاب. وبالطبع، ذلك يعني أن طاعة الرسول محدودة بكونه مبلِّغًا
—
أو حتى مبيِّنًا — لحكم السماء، وليست طاعة مطلقة لا تمييز فيها بين ما يصدر عن تفكيره
ورأيه، وبين ما يتلقَّاه من السماء. وغني عن البيان أن ما يعتمده الشافعي من توسيع دلالة
«طاعة الرسول»، على النحو الذي تكون معه طاعة مطلقة، إنما يقوم على السكوت عن هذا
التمييز الضروري بين ما يصدر عن رأي النبي، وبين ما يكون فيه مبلِّغًا عن السماء. وإذا
كان هذا السكوت هو ما سمح للشافعي بالتعالي بالسنَّة إلى مقام الوحي، فإنه يبقى أنه
يقوم على إخفاء العديد من وجوه مراجعة القرآن — وحتى رده — لرأي أو حكم قال به النبي
من
نفسه. وبالطبع، ذلك يعني أن القرآن نفسه ينطوي على ما يخلخل تصور الشافعي لطاعة الرسول
على أنها طاعة مطلقة، أو أنها في نفس المقام المفروض لطاعة الله.
ولسوء الحظ فإن فرض هذه الطاعة المطلقة للنبي لم يقترن بالتدقيق فيما يُروى عن النبي،
على النحو الذي يؤدي إلى تخليص ما يُروى عنه مما لا يتفق مع، أو يكون فيه تزيُّد على،
كتاب
الله، بل إن الشافعي قد انفرد بتثبيت خبر الواحد، استنادًا إلى ما أورده من أخبار تدل
على تصديق الصحابة لخبر الواحد عن النبي.
١٠٩ وبهذا التثبيت لخبر الواحد، مع فرض الطاعة المطلقة للنبي، فإن الشافعي قد
فتح الباب أمام ما يمكن القول إنه الفقه النصي أو الآثاري، الذي انفجر في صورة الفقه
السلفي اللاحق، الذي لا يزال يثقل للآن — باتساعه وضخامته — على واقع المجتمعات
الإسلامية، رغم ما يبدو من تزيده على كتاب الله في كثير من الأحيان. والغريب حقًّا أن
الصحابة الكبار أنفسهم (وأبا بكر وعمر بالذات) بلغ بهم التحوُّط، بخصوص ما يُروى عن
النبي، إلى حدِّ عدم قبول خبر الواحد أبدًا، واشتراطهم ضرورة أن يأتي راوي الخبر بشاهدٍ
أو بيَّنة لقبول روايته.
١١٠ ولعلَّ ما يثير هنا، هو أن الصحابة ما كانوا يقبلون بخبر الواحد رغم قربهم
الشديد من عهد النبي، في حين أن الشافعي يقبل به رغم بعده عن هذا العهد. وغني عن البيان
أن هذا الفاصل الزمني بين الشافعي وبين الحقبة النبوية، والذي يدنو من القرنين تقريبًا،
قد فاض بما هو معروف من الوضع على النبي، وعلى النحو الذي تضخمت معه مدونة الأخبار
المرويَّة عن النبي على نحوٍ هائلٍ. ولعلَّ المرء حين يقارن بين ما تنسبه المصادر إلى
الصحابة من محدودية الأخبار عن النبي،
١١١ وبين ما جرى من التضخم اللاحق في حجم هذه الأخبار، لا بدَّ أن يدهش من
إصرار الشافعي على تثبيت حجية خبر الواحد. ولربما جاز القول بأنه لا سبيل إلى تفسير هذا
الإصرار خارج سعي الشافعي إلى التعالي بالخبر الذي هو الأصل المؤسس في منظومته الفقهية
بأسرها. وبالطبع، ذلك سيكون هو الأصل فيما سيمضي إليه من اعتبار الإجماع هو، بدوره، نوع
من الخبر الذي سيتعالى به أيضًا إلى حيث يصبح من السنَّة، التي هي — تبعًا لما سبق —
وحي من السماء. فإذا كان الشافعي قد ميَّز في الوحي بين «الوحي المتلو» المنزَّل بوساطة
المَلَك (وهو القرآن)، وبين «الوحي غير المتلو» الملقى في روع النبي (وهو السنَّة)،
١١٢ فإنه قد راح يميز، في هذا الوحي غير المتلو — أو السنَّة — بين السنَّة
«المحكيَّة» (وهي السنة بالمعنى المعروف) وبين ما أسماه بالسنة «غير المحكية» (التي هي
الإجماع). فإن «ما اجتمع المسلمون عليه، وحكوا عمن قبلهم الاجتماع عليه لا يختلفون فيه،
وإن لم يقولوا هذا بكتاب ولا سنَّة، فقد يقوم عندي مقام السنَّة المجتمع عليها، وذلك
لأن إجماعهم لا يكون عن رأي؛ لأن الرأي إذا كان تفرق (أي اختُلفَ) فيه».
١١٣ وإذ يقرر الشافعي — وعلى نحوٍ صريحٍ — أن الإجماع لا يكون على رأي (لأن الرأي
قرين الاختلاف والتفرق)، فإن ذلك يعني — وبمنطق المخالفة — أنه يكون إجماعًا على خبر،
وفقط فإن هذا الخبر لا يروي حكاية عن النبي.
وهكذا، يكون الشافعي قد تعالى بأصوله الكبرى إلى مقام الوحي المنزَّل، متبعًا طريقة
في
التفكير تقوم على الاتساع بالأعلى من هذه الأصول ليستوعب ما تحته من أصول كان عليها،
بالتالي، أن تضيق لتقبل الإدماج ضمن هذا الذي يقع فوقها، وبما يعنيه ذلك من أن الأصل
الأعلى عنده — وهو الكتاب أو النص — راح يتسع ليستوعب سائر الأصول المندرجة تحته، فإن
ذلك يعني إعلاءه لتلك الأصول السفلى إلى مقام النص/الكتاب (القرآن). وبالطبع، فإنه كان لا بدَّ أن ينتهي إلى استحالة أي تفكير في
الفقه إلا بالنص، وهو أصل الأصول، وبما يترتب على ذلك من طرد كل ما سواه من فضاء
التفكير الفقهي. وهكذا، فإنه إذا كان الشافعي قد اتسع بالوحي (وهو الأعلى) ليتسنى إلحاق
السنَّة به (وهي الأدنى)، وذلك عبر تضييقه لها، بحيث لا تتسع لما يكشف عن وعي مستقل أو
تجربة خاصة بالنبي، يحضران بمعزلٍ عن تجربة الوحي، ثم اتسع بالسنَّة-الوحي (وهي
الأعلى) ليتسنى إلحاق الإجماع بها (وهو الأدنى)، وعبر ذات التضييق للإجماع بحيث لا يتسع
لوعي الجماعة وخبرتها الحيَّة، فإنه قد راح، بالمثل، يتسع بالنص، كتابًا وسنَّة
وإجماعًا، (وهو الأعلى) ليتسنَّى إلحاق الاجتهاد به (وهو الأدنى)، وعبر ذات التضييق له
بحيث لا يتسع لأيٍّ من ضروب الرأي والاستحسان. وفي كلمة واحدة، فإنه التضييق للإنساني،
وإلى حدِّ إهداره، مقابل الاتساع بالمجاوز والنصي ليبتلع هذا الإنساني في جوفه.
وتبعًا لذلك، فإنه لا اعتبار لرأي واستحسان أو مصلحة وواقع، أو حتى تاريخ متحقق، بل
راح الشافعي يقصي ذلك كله خارج السياق تمامًا، إفساحًا للفاعلية المطلقة للنص، ولا شيء
سواه.
ولهذا فإنه إذا كانت الممارسة الفقهية السابقة عليه قد اتسعت لكل هذه الضروب «من
الفاعلية الإنسانية» في بنائها لأنظمتها الفقهية، فإن الشافعي راح يقطع معها على نحوٍ
كاملٍ. فإذ «الرأي تفرق، فإنه ليس لأحدٍ أن يقول بما استحسن (أو رأى)، فإن القول بما
استحسن شيء يحدثه لا على مثال (أو أصل) سبق، ولهذا فإنما الاستحسان تعسُّف وتلذذ أو قول
بالهوى … وإلى حدِّ قوله من استحسن فقد شرع».
١١٤ وليس من اعتبار لواقعٍ أو تاريخٍ، حتى ولو تحققت وقائعه، بل إنه الإهدار لها،
مع تحققها، ما دامت تشي بما يبدو وكأنه الانحراف عن النص. وهنا يشار بالذات إلى واقعة
فتح مكة التي يكاد ينفرد الشافعي برواية أنها فُتِحَتْ صلحًا مهدرًا «إجماع أهل العلم،
ومن له أدنى علمٍ بالسير والفتوح، كالبلاذري وابن تيمية والسرخسي والكرخي والشوكاني
وغيرهم على أنها قد فُتِحَتْ عنوة لا صلحًا».
١١٥ والغريب أن إهدار الشافعي لإجماع أهل العلم على رواية الفتح عنوة وانفراده
برواية الفتح صلحًا لا يتأتى من تحقيقه لروايته تاريخيًّا،
١١٦ بقدر ما يتأتى من استدلاله عليها (فقهيًّا)، وبحيث بدا وكأنه يجعل «الفقهي»
هو — للغرابة — ما يعيد بناء «التاريخي» ويوجهه.
وبالطبع، فإن معرفةً تُخاصم الإنساني والتاريخي، على هذا النحو، وتتعالى بأصولها إلى
فضاء المطلقات، كان لا بدَّ أن يجري الارتفاع بها، هي نفسها، إلى فضاء المطلق غير
القابل للزحزحة، وذلك بفضل ما يضربه حولها هذا الإطلاق من أطواق القداسة التي تحول دون
أن تكون موضوعًا لأي نقدٍ أو مساءلة.
والغريب حقًّا أنه لن يكاد يمرُّ قرن بعد الشافعي، إلا وتُستعاد تجربته في تأسيس
التقديس كاملة، ضمن سياق الجناح العقيدي لعلم الأصول، وأعني علم «أصول الدين»، ومن خلال
الأشعري، الذي سوف يكرس الحضور الكامل للأصل وهيمنته على نحوٍ مطلقٍ في الثقافة بأسرها.
والحق أن خطاب الأشعري يكاد أن يكون بأسره تنظيرًا أكثر شمولًا واتساعًا للمسكوت عنه
والمضمر الذي يتأسس عليه خطاب الشافعي كله. ومن هنا، إن الخطاب الفقهي الشافعي، إنما
يجد (ورغم أسبقيته التاريخية) ما يؤسِّسه في الخطاب العقيدي الأشعري (الذي وإن كان اللاحق
تاريخيًّا، فإن أوليته تتأتى من كونه الخطاب المؤسس معرفيًّا)، تمامًا بمثل ما أن
الخطاب الأشعري سوف يجد في الخطاب الشافعي أحد تحققاته أو تعيناته الأسبق
تاريخيًّا.
والحق أنه، ومع إمكان صرف النظر عن هذه الأسبقية (تاريخية أو معرفية) للواحد منهما
على الآخر، فإن التجاوب بينهما، سواء على صعيد ما يمارسانه وينتجانه، أو حتى حين يكونان
موضوعين لممارسة، يكاد يبلغ حدَّ التماثل الكامل. فإذ انطلق الشافعي يبلور خطابه ضمن
سياق الممارسة الفقهية التي ابتدأت مع الصحابة حتى بلغت أصحاب المذاهب السابقة عليه،
واتسعت لكل ضروب العقلي والتاريخي والواقعي، وإلى حدِّ استدماج هذه الضروب التي تتكشف
عن الفاعلية الكاملة للإنساني، ضمن بناء الأدلة الفقهية ذاتها (رأيًا وأعرافًا وتقاليد
وخبرات محلية وغيرها)، ثم راح الشافعي يحدث انقطاعًا داخل هذه الممارسة تحوَّلت بمقتضاه
من الاتساع للإنساني، وإلى حدِّ استدماجه ضمن بنائها، إلى إهداره، والاستغراق فقط في
بناء الدليل-النص، كأصلٍ لا سبيل إلا إلى احتذائه والتفكير به، فإن الأشعري، بدوره، لم
يفعل إلا أن راح يمارس هكذا، وأعني أنه أيضًا قد راح
يقطع مع ممارسة عقائدية انفتحت خلالها الفرق المتصارعة على ضروبٍ من التاريخي والواقعي
راحت تنعكس على الأبنية العقائدية لهذه الفرق التي تتكشَّف مجرد تسمياتها (خوارج ومعتزلة
ومرجئة وشيعة) عن الاتساع للتاريخي إلى حدِّ أن تأخذ منه اسمها ذاته، ليتعالى — وهو الذي
كان جزءًا من هذه الممارسة المنفتحة — إلى حدِّ التنكُّر لهذا الواقعي والتاريخي (وهو
ما
يتكشف عنه ما جرى معه من التحول — فيما يتعلق بمجرد تسمية فرقته «الأشعرية» — من
التاريخي إلى الشخصي، بكل ما يهيم حول شخص الأشعري بالذات من أطياف المتعالي ومخايلاته
وذلك على الضدِّ من «السياسي» الذي يحيل إليه التاريخي الذي ارتبطت به الفرق الأسبق)،
ومستغرقًا في ضربٍ من التفكير بما نصَّ عليه، أو رُوي عنه، أو بما أُجمِعَ واتُّفِقَ
عليه.
١١٧
وإذ يبدو أن اشتغال آليات الإطلاق والتعالي إلى مقام المقدس قد كان في مجال العقائد
أبرز منه في مجال الفقه، ابتداء من الاختلاف في العقائد يعكس، في الجوهر، صراعات
السياسة، فإن الاختلاف في الفقه يعكس اختلاف البيئات الاجتماعية التي تشكَّلت فيها
المذاهب الفقهية المختلفة، فإن تحليلًا مستفيضًا لتلك الآليات الأبرز في العقائد يكون
أكثر منطقية وإلحاحًا. فالحق أنها السياسة، وليس الدين أبدًا، هي التي تقف وراء تعالي
الأشعرية بنفسها إلى مقام «المقدس»، في مقابل التدني بالآخر/الخصم إلى حضيض «المدنس»
على النحو الذي يستحق معه الطرد والإقصاء خارج حدود الشرعية. ولعلَّ تأكيدًا على أن
السياسة، وليس الدين، هي ما يؤسِّس لهذا التعالي — الذي راح يتحقق عبر ضروبٍ من التمييز
والاحتكار والمخايلة — يتأتى من حقيقة أن الخطاب الأشعري قد ابتدأ مسيرة إنتاجه، الذي
لم يتوقف، للتعالي بذاته من إهدار المبدأ الأهم في الأصل الجوهري الذي يدعي أنه ينبني
عليه، وأعني به أصل الوحي. فإنه إذا كان الوحي هو أصل كل حياة في الإسلام، فإنه قد جرى
تصوره — بحسب هذا الخطاب — خلوًّا، هو نفسه، من أي حياة، وأعني من حيث لم يقدر الخطاب
على تصوره كينونةً حيَّة تمور — ككل حياة — بضروبٍ من الاختلاف، الذي يدخل في تركيب الوحي
من حيث يكون (أي الاختلاف) هو أداته في فضِّ شفرة ذاته وانكشاف ممكناته، بل تصوره بنية
مغلقة لا مجال فيها لأي آخرية أو اختلاف. وهكذا، فإن تعالي الأشعرية بنفسها — وبما ترتب
عليه من ادعائها التماهي مع الوحي، بما هي تحققه المطابق الوحيد — تلزم عنه تداعيات
تتهدد سلامة الوحي ذاته، وأعني من حيث ما تكاد تنتهي إليه من اضمحلال الوحي ومواته.
فإذا كانت الفرضية المضمرة التي يقيم عليها هذا المذهب أساس بنائه هي أن الوحي لا ينطوي
في جوفه على ما يبرر أي تنوعٍ أو اختلافٍ، بل إنهما يمثِّلان — بالأحرى — تهديدًا لهويته
وإهدارًا لها، فإن ذلك يعكس تصورًا لهوية الوحي على نحوٍ صوري مجرد. وهذه الصورية تعني
أن الوحي خلو من الحياة التي تدفعه إلى التخارج من ذاته ليتحقق في العالم، في صور
وأشكال وجود شتى، لا يمكن أبدًا أن تكون تكرارًا له، بل استيعابًا له، وارتفاعًا به إلى
آفاق أرقى يدرك فيها ما يسكنه من ممكنات كامنة. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كانت علاقة
«الهوية» التي يكون معها مذهبًا ما (هو) الوحي تفترض تصوره — أي الوحي — كمجرد وحدة
مغلقة لا سبيل إلى الاحتفاظ بها إلا عبر تكرارها، فإنه يلزم التأكيد على أن التكرار
يئول إلى تحويل الوحي إلى أيقونة فارغة لا تنطوي على أي مضمون محدد، وتنطوي على كل شيء
في الآن نفسه،
١١٨ وبما يعنيه ذلك من حضور الوحي كمحض تجريد خالص.
وهكذا، تكون السياسة — وليس الدين — هي الأصل في هذا التعالي الأشعري، وبما جرى
توظيفه من آليات التماهي وادعاء المطابقة.
وإذن، فإن هذا الإقصاء للاختلاف — الذي كان لا بدَّ أن يئول إلى تصور الوحي أصلًا
ثابتًا، أو حتى جامدًا — لا يصدر عن مجرد تصورٍ معرفي للاختلاف، بل هو أدنى إلى أن يكون
إهدارًا للوحدة وتضييعًا للهوية، وليس سبيلًا للكشف عن ثراء الكينونة وتنوع الممكنات،
بل إنه ينطوي على دلالة سياسية لافتة؛ إذ الحق أن مقاربة للوحي تئول إلى فهمٍ مغايرٍ
للفهم الأشعري المهيمن لن تكون — ضمن هذا التصور الأشعري للاختلاف — تجليًا لأحد
الممكنات المنطوية في باطنه، بل انحرافًا وابتعادًا — من الخارج — عن وحدة أصلية، لا
سبيل إلى استعادتها إلا عبر إزاحة هذا الفهم/المغاير بما هو من قبيل الانحراف الذي
يلزم إبعاده وطرده. وإذن، فإنه الانقسام بين وحدة الأصل وثباته من جهة، وبين ضروب من
الانحراف والافتراق التي لم تتوقف للآن من جهة أخرى. ومن هنا أن صيغة المأثور النبوي،
١١٩ الذي يوظِّفه الخطاب لإقصاء خصومه، لا تتحدث عن الاختلاف (بما هو جزء من
البنية الباطنية للوحي)، بل عن الافتراق (بما ينطوي عليه من الصورية والتحقُّق في
الخارج).
وبالرغم من أن الدلالة الظاهرة للافتراق، في المأثور، هي التفرُّق، بمعنى الانقسام،
فإن دلالة «التباعد» — الذي يبدو أكثر صورية وخارجية — لا تفارق فضاء المأثور؛ لأنه حين
يجعل «النجاة» في التمسك بالأصل، فإنما ليقرن «الهلاك» بالتباعد عنه. وبالطبع، التباعد
لا يكون عن الوحي/الأصل فقط، بل أيضًا، عن «الجماعة» التي كان لا بدَّ أن تتماهى مع
هذا الأصل لا محالة. وإذن، فإن الانقسام والتباعد، صوريان وخارجيان، ينتجهما الخطاب،
لا
بين «أصل الهدى والاستقامة» وبين «بدعة الهوى والضلالة»، بل بين «أهل السنَّة والجماعة»
في مقابل «أهل الأهواء والجهالة». وغني عن البيان أن الخطاب راح — ضمن هذا الانقسام —
يتماهى مع مقدس الأصل/الجماعة، في مقابل الانتقام من خصومه بطردهم إلى مدنس الهوى
والضلالة. ورغم ما يبدو من طابعٍ مجاوز لهذا الانقسام، فإن تفكيكًا له، ليتكشف عن مضمون
اجتماعي وسياسي يتخفَّى تحت سطح لغته المثقلة بإيحاءات «الديني» ومراوغاته؛ إذ الحق أن
عبارات ينثرها الخطاب على سطحه من قبيل: «وما ظهرت البدع والضلالات في الأديان إلا من
أبناء السبايا كما رُوي في الخبر … أو أن أحدهم كان مولى، وقد جرى على منهاج أبناء
السبايا لظهور أكثر البدع منهم»،
١٢٠ لتكشف عن أن تمييز الخطاب ضد خصومه إنما يتجاوز «الديني» إلى ما تحته.
والمُلاحَظ أن الأمر يتجاوز ما تُجليه هذه العبارات من قران البدعة بالعجمة، إلى ربطهما
بوضاعة المنزلة في التراتبية الاجتماعية، وذلك بحسب ما يظهر من حديث الخطاب عن أحد خصومه
أنه «إنما كان ينظم الخرز في سوق البصرة، وليس كما يموِّه المعتزلة على الأغمار ويوهمون
أنه كان نظَّامًا للكلام الموزون والشعر المنثور.»
١٢١ وإذن، فإنه صراع التعالي والتدني، وقد اتخذ الخطاب، من كنية أحد خصومه،
ميدانًا له، ليجري عليه ذلك الاصطراع الرمزي بين نمطين من النَظْم، أحدهما متعالٍ يختصُّ
به ذوو المكانة والشرف في الأعلى، والآخر محتقر يشتغل به أولئك المهمَّشون عرقيًّا
واجتماعيًّا في الأدنى.
ولقد جرى إنتاج هذا الانقسام وتثبيته، بكل ما يترتب عليه من ضروب التماهي والإزاحة
والتمييز والحطِّ، في ضربٍ من الأدبيات التي شاعت الكتابة فيها حتى بلغت ذروتها في القرن
الخامس الهجري، وأعني أدبيات الفِرق والملل والنحل. ولعلَّ بلوغ هذا النوع من الكتابة
—
بما يتسم به من نبرة تمييزية وإقصائية عالية — لذروته في القرن الخامس بالذات، إنما
يرتبط بتمام تشكُّل الخطاب، ثم سعيه، بالتالي، إلى تأسيس هيمنته وسيادته العليا داخل
الثقافة آنذاك. ومن هنا إمكان النظر إلى هذا النوع من الكتابة، كأحد تجليات إنتاج
الهيمنة، وذلك من حيث راحت تستهدف، لا مجرد عرْض أو حتى دحض آراء الخصوم، بل تبديعهم
وتكفيرهم، وإلى حدِّ اعتبارهم، لا مجرد مخالفين يمكن أن يتسع لهم فضاء الثقافة، بل
منحرفين — أو حتى مارقين — لا بدَّ من طردهم خارج حدود الأمة والملة معًا.
١٢٢
والحق أن هذه الكتابة، التي كان لا بدَّ أن تخضع لتوجيه الأقوى ورقابته، جعلت من
مسألة تبدو فرعية كتسميات الفِرَق وألقابها مجالًا لتأكيد هيمنة الأقوى وتأبيدها. فإذ
تبلورت تسميات الفِرَق الأسبق تاريخيًّا (خوارج وشيعة ومعتزلة ومرجئة … إلخ) ابتداءً
من
الانتساب إلى وقائع وأحداث من طبيعة سياسية وتاريخية، وبما يعنيه ذلك من الانتساب إلى
المجال السياسي الذي لا يمكن المخايلة بقداسته، بل يمكن — على العكس — القطع، إن لم يكن
بدنسه ودونيته، فعلى الأقل بواقعيته وتاريخيته، فإن ما سيجري لاحقًا — وابتداء من القرن
الرابع الهجري — من نسبة الفِرَق إلى رموزٍ وأشخاصٍ (الأشعرية والماتريدية، مثلًا) إنما
يقصد إلى إسباغ القداسة على مقالات هذه الفِرَق، وذلك ابتداء من التعالي بهؤلاء الرموز
إلى مقام تنسرب فيه القداسة إليهم عبر التقاطع مع نبي أو صحابي. وهكذا، فإنه وفيما راح
يجري الانحطاط بالفِرَق المنتسبة إلى المجال التاريخي والسياسي إلى حضيض المدنس ابتداءً
من دونية السياسي ودنسه، فإنه راح يجري التعالي، في المقابل، بالفِرَق المنتسبة إلى
أشخاصٍ ورموزٍ إلى فضاء المقدس، وذلك ابتداءً من القداسة تنسرب إلى هؤلاء الأشخاص عبر
جعلهم موضوعًا لخطابٍ إلهي نبوي أو من خلال انتسابهم إلى صحابي. وهنا يشار إلى أن انتساب
الأشعرية إلى رؤيا للأشعري أثناء نومه، أتاه فيها الأمر المقدس من النبي: «صنِّف وانصر
هذه الطريقة التي أمرتك بها، فإنها ديني وهي الحق الذي جئت به»،
١٢٣ إنما يستهدف المخايلة بقداستها، وذلك عبر جعلها نتاج نوعٍ من الأمر النبوي
الذي لا بدَّ أن تنسرب قداسته إلى ما يُنتَج عنه. والحق أن الأمر راح يتعدى حدود «الأمر
النبوي» إلى حدِّ اعتبارها (أي الأشعرية) موضوعًا لخطاب إلهي،
١٢٤ الأمر الذي يتعالى بها إلى تخوم قداسة «الأمر المُوحى به من الله». وإذن،
فإن الأمر يعود عبر النبي إلى الله، وعلى نحوٍ يجعل من الأمر/الرؤيا يتلقَّاها الأشعري
على رأس القرن الرابع تحقيقًا لوعدٍ إلهي سابق. والحق أن مخايلة الأشعرية بالتماهي مع
الوحي لا تتأتى فقط من أن سبيل الأمر بها كان «الرؤيا الصادقة» التي هي حسب المأثور عن
النبي «جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة»، بل من أن هذه الرؤيا قد تحققت للأشعري —
تمامًا كالحال مع ابتداء النبي بالوحي — عند سن الأربعين تمامًا. وهنا يتكشف الحرص
الأشعري على تعميق مخايلة القداسة المشار إليها، عبر تأكيد التماثل بين الأشعري وبين
النبي، لا كمجرد طريقة ونصٍّ، بل حتى كتجربة وشخصٍ.
وبالطبع، فإنه لن يكون غريبًا مع موضعة هذه الهيمنة وتثبيتها داخل الثقافة أن يمضي
أحدهم إلى أنه «لم يكن بحمد الله ومنِّه في الخوارج ولا في الروافض ولا في الجهمية ولا
في القدرية ولا في المجسمة، ولا في سائر أهل الأهواء الضالة قط إمام في الفقه، ولا إمام
في رواية الحديث، ولا إمام في اللغة والنحو، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير
والتواريخ، ولا إمام في الوعظ والتذكير، ولا إمام في التأويل والتفسير. وإنما كان أئمة
هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنَّة والجماعة».
١٢٥ وهكذا، تخلو كافة العلوم التي عرفتها الثقافة آنذاك من أحدٍ ينتمي إلى هؤلاء
«المبتدعين» الذين «لم يكن لواحدٍ من متقدميهم تصنيف يظهر ويُتداول، وهل كان لهم علم
حتى
يكون لهم فيه تصنيف؟ بل قوم من متأخريهم تكلَّفوا جمع شُبَه يخادعون بها القوم عن
أديانهم، وصنفوا فيها تصانيف أكثرها لا يوجد إلا بخط المصنف؛ إذ كان الاشتغال بنقلها
من قبيل تعطيل الوقت بالمقت».
١٢٦ بل إنه حتى إذا ظهر تصنيف لأحد هؤلاء المبتدعة، فإنه «لا يتداوله إلا مخذول»
١٢٧ مثله، وبما يعني تفاهة وضآلة شأن دائرة متلقي الخطاب/الخصم ومتداوليه
أيضًا. وإذ مضى الأشاعرة، على هذا النحو، إلى الانحطاط بهذا الخطاب/الخصم، وإلى حدِّ
تنزيله إلى حضيض البدعة المقترَنة بالدنس، وذلك لاعتبارهم الإقرار، ولو بشيء من مفرداته
«تدنسًا … ومن كان متدنسًا بشيء منه لم يجز الاعتماد عليه في رواية أصول اللغة وفي نقل
معاني النحو، ولا في تأويل شيء من الأخبار، ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى».
١٢٨ فإنهم كانوا يطردون هذا الخطاب ومتداوليه خارج حدود الثقافة كليًّا، ومن
غير تمييز بين أي من حقولها المعرفية.
بل إنه — وعلى فرض التمييز داخل الثقافة الإسلامية بين «عقلي» كالطب والحساب والهندسة،
وبين «ديني» كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن
١٢٩ — فإن أحدًا لا يجادل في أن السيادة ضمن حدود الثقافة التي سادت في الإسلام
لم تكن أبدًا للعقلي، بقدر ما كانت للديني. ومن هنا أن الغزالي لم ينسَ أن يلحق إشارته
للعلوم العقلية بالتأكيد على أن الانشغال بها «ليس من غرضنا».
١٣٠ وبالطبع، إن الضمير في «غرضنا» لا يعود إلى الغزالي كمجرد شخص، بل كحجة أو
سلطة عليا داخل الثقافة بأسرها. وإذ السيادة العليا داخل الثقافة الإسلامية هي — هكذا
—
للديني دون سواه، فإن الأشعرية كانت — لا محالة — تقصد إلى ترسيخ هيمنتها داخل الثقافة
عبر التأكيد على مركزية وأولية العلم الذي تسيَّدته داخل دائرة هذا الديني الذي هو
بدوره صاحب السيادة العليا داخل الثقافة بأسرها، وأعني به علم الكلام (أو أصول الدين)
الذي تتأتى مركزيته من أنه «هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها، فهي جزئية
بالإضافة إلى «علم» الكلام، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة، إذ منه النزول إلى هذه
الجزئيات».
١٣١ وأما أولية هذا العلم، فإنها ترتبط بحقيقة «أنه ما من علمٍ من العلوم
الجزئية إلا وله مبادٍ (مبادئ) تؤخذ مسلَّمة بالتقليد في ذلك العلم (الجزئي)، ويطلب
برهان ثبوتها في علم آخر (لا بدَّ أن يكون كليًّا حتمًا)».
١٣٢ وغني عن البيان أنها الأولية هنا، لا بالمعنى التاريخي، بل بالمعنى
المعرفي، وذلك لأن ثمة من العلوم الجزئية — داخل ثقافة ما — ما يكون قد انبثق تاريخيًّا
قبل انبثاق هذا العلم الكلي، وذلك بالرغم من أنه يجد كل ما يؤسِّسه معرفيًّا في هذا العلم
اللاحق. وإذ يرتقى ذلك كله بعلم الكلام (أو أصول الدين) إلى أن يكون صاحب السيادة
العليا داخل دائرة الديني الذي يتسيَّد، هو نفسه، الثقافة. فإن ذلك يعني أن الأشعرية
تضع نفسها — ابتداءً من تسيُّدها داخل هذا العلم — في مركز السيادة العليا داخل الثقافة
في الإسلام.
ولقد راح الخطاب الأشعري يحتل فضاء العلم بأسره، محققًا للسيادة داخله، ابتداءً من
مجرد «التعريف» الذي صكَّه الخطاب للعلم، والذي ينبني على الاستبطان المراوغ لآليات
التعالي والإقصاء. فإن قراءة للتعريف، الذي صار فيه ابن خلدون إلى «أنه علم يتضمن
الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في
الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنَّة.»
١٣٣ لتكشف عن لغة منحازة تطفح بنوازع التسلُّط والهيمنة على نحوٍ طاغٍ. فإذ هو
التسلُّط والإقصاء يتحقق من خلال وصمة «الابتداع والانحراف» تطال كافة المغايرين، فإن
الهيمنة تتبدى زاعقة في احتكار «العقائد الإيمانية»، التي يخفى الخطاب وراء ما يدَّعيه
من
اختصاصه بالمحاججة عنها، سعيه إلى الاحتياز الكامل لها؛ إذ العقائد، التي يختص الخطاب
بالمحاججة عنها، ليست منظومة عقائدية، من بين منظومات متباينة، أو حتى متعارضة، ولكن
من
غير أن يعني تباينها، الذي يرتبط بكون كل واحدة منها مشروطة برؤية مؤطرة لها، أنها —
أو
بعضها — تفقد جدارة الإقامة في حقل الإيمان. فالعقائد تتباين، لا على نحوٍ تعاقبي ضمن
التاريخ العام للدين فحسب، بل أيضًا على نحوٍ تزامني ضمن الزمان الخاص بدينٍ معين. وفي
الحالين، فإن التباين يرتبط بحقيقة أن كل نظام عقائدي يتأطر — كأي نظام ساهمت الفاعلية
الإنسانية في إنتاجه — بمضمون هذه الفاعلية وما يحددها. فالأصل المفارق للعقائد لا يمنع
أبدًا أن شروطًا، تتعلق ببناء كل من الوعي والواقع الإنسانيين، تلعب دورًا حاكمًا في
صوغ هذه العقائد. وبالطبع، إن التباين في تصور العقائد وصوغها، لا يكون انحرافًا
وتباعدًا عن هذا الأصل ذي الطابع المفارق، بقدر ما هو التحدد بشروطٍ يكاد التباين أن
يمثِّل صميم ماهيتها. لكن الخطاب إذ يلح على تصور التباين، لا تحدُّدًا بشروط تقوم خارج
الأصل، بل انحرافًا وتباعدًا عنه، فإنما ليؤسس لضربٍ من المطابقة بينه وبين «العقائد
الإيمانية»، وعلى نحوٍ يستحيل معه تصور أي نوعٍ من الحضور لعقائد إيمانية خارج حدوده،
حيث
لا وجود البتة خارج هذه الحدود إلا للابتداع والانحراف والضلال. والحق أن مراوغة هذه
المطابقة التي ينتجها الخطاب، إنما تقوم كاملة في مجرد إضافة «الألف واللام» إلى لفظة
«إيمانية»، الواردة في التعريف، وليس تعريتها عنها، فهي الإضافة التي تجعل المحاججة،
لا
عن عقائد «إيمانية»، بل عن العقائد «الإيمانية». وإذن، المأزق، في الثقافة، أنتجته مجرد
«الألف واللام»، وعلى نحوٍ يتكشَّف عن الدور الحاكم للغة في العالم.
والحق أن كون المحاججة قد تبلورت من «الصراع في الإسلام وعلى ساحته»، وأعني من الصراع
ينبثق داخله وفي قلبه، قصد الاحتياز عليه والتماهي معه، وليس من «الصراع مع الإسلام
وضده»، وأعني من الصراع يأتيه من خارجه قصد هدمه، ما يؤكد على أنها كانت محاججة عن
عقائد «إيمانية» في مواجهة أخرى مثلها، وبما يعنيه ذلك من أنها تقبل جميعها الاندراج
تحت مظلة الإسلام الجامعة، وعلى نحوٍ لا يكون التنكر فيه لإحداها تنكرًا للإسلام، وليس
عن العقائد «الإيمانية» التي يصبح الخروج عليها خروجًا على الإسلام نفسه. ولعلَّ
إدراكًا لحقيقة أن السياسة، متبدية في «الإمامة» وما تفرَّع عنها من مسائل القدر ومرتكب
الكبيرة وغيرها من مسائل ذات حمولة سياسية زاعقة، كانت هي الإطار الذي تبلور العلم
بأسره داخله، ما يقطع بأن المحاججة فيه قد نشأت من «الصراع في الإسلام وعلى ساحته». وإذ
السياسة — هكذا — هي إطار الانبثاق وحقل التبلور والانبناء، فإن ذلك يعني أن المحاججة
تخفي موضوعها الجوهري، وهو «مواقف السياسة» خلف قناع «عقائد الإيمان» الشكلي. وبالطبع،
فإنه إذ تخفي وتقنِّع السياسي الذي يخصها وراء سمو «الإيماني»، فإنما لتلقي بالسياسي
الذي يخص غيرها إلى هاوية «البدعي والضلالي».
وإذ التعريف ينبني — في شطريه — على آليتي المحاججة والرد، فإنه إذا كانت آلية
«المحاججة» تنطوي على السعي إلى إخفاء السياسي وراء الديني، فإن آلية «الردِّ» تتكفل،
للمفارقة، بالكشف عن هذا السياسي، الذي يجرى السعي إلى إخفائه؛ لأن الخطاب إذ يعيِّن
مَنْ يرد عليهم بأنهم «المبتدعة المنحرفون في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنَّة»،
فإنه كان يؤكد على أن المحاججة ليست عن «عقائد الإيمان»، بل عن اعتقادات من يسمون
أنفسهم «السلف وأهل السنَّة»، وبما يعنيه ذلك من أن الخطاب ذاته يقطع بكون محاججته قد
تبلورت من «الصراع في الإسلام وعليه». وهو في هذا الصراع لا يكتفي، في محاججته عن
عقائده في مواجهة ما يغايرها، بتجريد هذه العقائد المغايرة من وصف الإيمان، بل يجري
إلصاق وصمة «الابتداع والانحراف» بالقائلين بها. وإذ يمارس الخطاب على هذا النحو، أعني
مستبدلًا «الانحراف» بالمغايرة والاختلاف من جهة، و«الابتداع» بالرأي والاجتهاد من جهة
أخرى، فإن استخدامه لهذه اللغة الموحية دينيًّا، إنما يرتبط بالسعي إلى إكمال دائرة
الإقصاء لكل اجتهاد مغاير، لا من العالم الذي كانوا يتصارعون عليه، بل عن حدود الدين
الذي كانوا يديرون تصارعهم فوق ساحته.
وإذن، فالأمر لا يتعلق، في العمق، بالمحاججة عن العقائد الإيمانية، أو حتى عن عقائد
إيمانية، بقدر ما يتعلق بالانحياز لمواقف سياسية تتقنَّع، في صراع الهيمنة والإقصاء،
وراء رفعة الديني وقداسته. ومع صرف النظر عما يخفيه الخطاب ويضمره من التحيزات، وعما
يشتغل به من الأقنعة، في لعبة الإقصاء والهيمنة، فإنه يبقى أنه نجح في إنتاج ما يبتغيه
من السيادة الكاملة داخل العلم، أعني علم العقائد. وابتداء من المركزية الكاملة لهذا
العلم داخل دائرة «الديني» الذي يحوز، بدوره، مركز السيادة العليا داخل الثقافة، فإن
الخطاب يكون عبر هذا الترقي من العقائدي إلى الديني إلى الثقافي قد حقق سيادته ومركزيته
داخل الثقافة في الإسلام.
وإذا كان التماهي مع الوحي — الذي يسعى به الحاملون لمذهبٍ ما إلى بناء سيادتهم —
هو
المدخل إلى نفي الآخر وإقصائه، وأعني من حيث إن إزاحة الاختلاف من دائرة الوحي، لا بدَّ
أن تتبعه إزاحة الاختلاف من العالم لا محالة، فإن استعادة الاختلاف كجزء من تركيب الوحي
تكون هي السبيل إلى استعادته في العالم، وبحيث يصبح قبول الآخر — المختلف في المذهب أو
حتى في الدين
١٣٤ — مما تقتضيه طبيعة الوحي ذاتها. ومن هنا فإنه إذا كانت علاقة الهوية تعني
أن مذهبًا ما هو الوحي، فإن علاقة الاختلاف لا تعني أكثر من أن الوحي لا يمكن أن يكون
مذهبًا بعينه، بل يكون هذا المذهب وغيره من المذاهب المباينة له أيضًا. ومن حسن الحظ
أن
الاختلاف هو ما يتيح للوحي أن ينفلت من مأزق الخواء والصورية الذي تئول إليها علاقة
التماهي معه، وأعني من حيث يسمح الاختلاف للوحي بتحقيق ذاته في أشكال وجود متعددة، بل
يتيح له إمكان تجاوز تلك الأشكال — التي سرعان ما تستنفد قدرتها على الوجود بسبب ما
تنطوي عليه من محدودية — إلى غيرها من أشكال وجود أرقى يحقق عبرها المزيد من الوعي بما
ينطوي عليه من ممكنات تكشف عن ثرائه وغناه.
وهكذا، فإنه إذا كانت «الأدلجة»
١٣٥ تنتهي إلى الإفقار المعرفي الكامل لما يكون موضوعًا لها،
فإنه قد بدا أن تعالي المنظومات المذهبية (فقهية وعقائدية) بنفسها، إلى حيث تضع نفسها
في مقامٍ تتطابق فيه مع الوحي، إنما يئول إلى الإفقار المزدوج، سواء لنفسها (بما تكتسبه
من الحصانة ضد النقل والسؤال) أو للوحي ذاته (من حيث تدخل به إلى دائرة الجمود
والاضمحلال). ويعني ذلك — ومن دون أي مواربة — أن التعالي كان أهم آليات الأدلجة في
الإسلام، وأن تحرير الإسلام من الأيديولوجيا إنما يكون بالعودة بأنساقه المهيمنة إلى
السياقات المنتجة لها في عالم البشر.
وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أنه يستحيل القول بأن معرفة بعينها تكون قادرة على
استنفاد القرآن، وإلَّا فإنها تئول به إلى الجمود والاضمحلال. ومن هنا لزوم التأكيد على
أنه إذا كان القرآن — وسيبقى — هو مركز كل معرفة تنسب نفسها إلى الإسلام على مدى تاريخه
الغني الطويل، فإنه يلزم التنويه بأن كافة منظومات المعرفة التي تخلَّقت ابتداءً منه
لا
يمكن أن تتطابق معه أو تستنفده أبدًا، وإلَّا فإن فاعليته ستقف عند حدود اللحظة التي
تبلورت تلك المنظومات (المستنفدة له) ضمن حدودها التاريخية والمعرفية، وبما يعنيه ذلك
من أن ما ينسب إليه من قدرة على إنتاج فيوض من المعنى التي تتخطى تحديدات لحظة بعينها،
سوف تصبح موضوعًا للجدال والمنازعة. ومن هنا — لا محالة — أن كل ما يضاف إلى القرآن من
صفات الثبات والكمال المطلق لا يمكن أبدًا أن ينسحب على تلك المنظومات المعرفية
المنبنية حوله في التفسير والفقه والعقائد والأصول وغيرها؛ إذ الحق أنه إذا كان القرآن
قد تنزَّل بما هو أحد تجليات «المعرفة الإلهية» المتعالية، فإن ما يصدر عنه من معرفة
تتمثَّل في تلك المنظومات المشار إليها، تبقى من قبيل «المعرفة الإنسانية» المشروطة
تاريخيًّا ومعرفيًّا. وهكذا، فإنه لا ينبغي التمويه بحقيقة صدور القرآن عن مشكاة العلم
الإلهي غير المحدود، وهي الحقيقة التي لا يطالها الشك أبدًا، على حقيقة أن ما يصدر عنه
من معرفة تبقى، هي نفسها، من قبيل المعرفة الإنسانية التي يستحيل استيعابها خارج إطار
التحديدات — بل حتى الإكراهات — الزمانية والمكانية. ولسوء الحظ فإن ثمة مَنْ يقوم
بهذا التمويه، فيضيف ما يتميز به القرآن (بما هو أحد تجليات العلم الإلهي غير المحدود)
من الثبات والكمال والقدرة على تجاوز تحديدات الزمان والمكان إلى ما تخلَّق حوله من
منظومات أنتجها الفهم الإنساني على النحو الذي يجعل تلك المنظومات الإنسانية في جوهرها،
تكتسب — أو تكاد — كل سمات العلم الإلهي، من الثبات والاكتمال وعدم القابلية للتجاوز
أبدًا. وغني عن البيان أن الأمر لا يتجاوز حدود السعي إلى تأبيد تلك المنظومات — وذلك
عبر فك روابطها مع تاريخها والتعالي بها إلى فضاء تتحصَّن فيه ضد التفكير والمساءلة —
للتغطية بها على أنظمة سياسية وأوضاع اجتماعية تريد لنفسها الدوام.
وكنموذجٍ حديثٍ لهذا النوع من المنظومات المعرفية التي يدَّعي أصحابها استنفادها
للقرآن
على النحو الذي يتعالى بها إلى مقام المنظومة المقدسة، فإنه يمكن الإشارة إلى الإنجاز
الذي قدَّمه الأب المؤسِّس للحركات الجهادية المعاصرة، الذي هو «سيد قطب». فنصوص الرجل
قاطعة بأن ما يطرحه، مما يقول إنه «التصور الإسلامي»، ليس نتاجًا لقراءته أو تفسيره
الخاص للقرآن، بقدر ما هو التصور ذاته الذي جاء به القرآن، وهو يقدم نفسه من خلال
قراءته (أي قطب). حيث «إنما نحن نحاول تقرير حقائق التصور الإسلامي في ذاتها كما جاء
بها القرآن كاملة شاملة متناسقة.»
١٣٦ وهو يرى أن «من الخطأ المنهجي الأصيل محاولة استعارة أي ميزان، أو منهج من
مناهج التفكير المتداولة في الأرض — في عالم البشر — للتعامل بها مع هذا التصور الخاص
المستقل الأصيل، أو الاقتباس منها والإضافة إلى ذلك التصور الرباني الكامل الشامل الذي
جاء به القرآن.»
١٣٧ وإذن، فإنه ليس التصور فقط، بل كذا منهج التعامل معه، هو ما لا ينتمي إلى
عالم البشر، وبما يعنيه ذلك من اعتبار قطب لكل ما يقدمه هو التصور الرباني والمنهج
الرباني كما جاء بهما القرآن. وبالطبع، فإنه لن يكون غريبًا أن الجماعات التي تبنَّت
أو
تناسلت من خطاب قطب (وأعني جماعة الإخوان المسلمين وذريتها من الجماعات الجهادية التي
تنمو كالفطريات على جسدها المترهل) قد تعالت بنفسها إلى مقام الجماعات الربانية، بسبب
ما يعتقد فيه المنتسبون إليها من سعيها إلى تحقيق ما يقول قطب إنه «التصور الرباني»
الذي جاء به القرآن. وبالطبع، فإن كون التصور «ربانيًّا» لا يجعل أمام الواقع من سبيلٍ
في التعامل معه إلا لمجرد التلقي والخضوع. فإن الحركة بين هذا التصور من جهة، وبين
الواقع من جهة أخرى، تمضي في اتجاه واحدٍ فقط، وأعني من التصور إلى الواقع فقط. وإذ يعجز
هذا التصور الرباني المثالي عن استيعاب حركة الواقع المعقدة، فإنه لا يكون أمام حاملي
هذا التصور إلا هجاء الواقع والسعي إلى إدخاله، على نحوٍ قسري، ضمن تحديدات هذا
التصور، وعلى النحو الذي يدفع بهم إلى تكفيره والخروج عليه. وهكذا تكون النهاية القصوى
لذلك الضرب من المعرفة الذي يدعي لنفسه استنفاد القرآن، وبما يترتب على ذلك من التعالي
بنفسه إلى مقام المعرفة المقدسة، هي الدخول في مواجهات عنيفة مع الدولة والمجتمع في آن
معًا. ولعلَّ ذلك يئول إلى أن هذا «التصور الرباني» لم يكن إلا محض السلاح
الأيديولوجي الذي اختار قطب أن يواجه به النظام السياسي (الناصري) الذي حاربه الرجل بلا
هوادة. وبالطبع، ذلك يعني أن حقيقة التصور لا تقوم أبدًا في ادعاء «أصله الرباني» بقدر
ما تقوم فيما يؤديه من «دور سياسي». وادعاء الأصل الرباني، هنا، يكون مجرد طريقة في
إخفاء «الدور السياسي».
ومن نافلة القول، التأكيد على أن هذا التصور القطبي إنما يتسق مع التأكيد على اعتقاده
السلفي/الحنبلي،
١٣٨ الذي سبق بيان أنه ينبني على تصور الوجود الأزلي السابق للقرآن، لا بما هو
المعنى القديم القائم بذات الله، بل بما هو الحروف المنطوقة والأصوات المسموعة. ويرتبط
ذلك بأنه إذا كان الوجود القديم للقرآن بما هو المعنى القديم القائم بذات الله يفتح
الباب أمام «مناهج التفكير المتداولة في عالم البشر» للاشتغال بما يتيح اقتناص هذا
المعنى من الألفاظ التي تتضمنه، والتي ليست قديمة مثله، فإن تصور الوجود الأزلي القديم
للقرآن، بما هو ألفاظ وأصوات على طريقة الحنابلة، يعني أن المعنى ظاهرٌ في الألفاظ من
دون أدنى حاجة إلى مناهج من تفكير البشر وتأويلاتهم. ومن هنا ما يقرره قطب من عدم الميل
«إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الإمام محمد عبده في التفسير، من محاولة تأويل كل أمرٍ
غيبي تأويلًا معينًا، ينفي عنه الحركة الحسية عن هذه العوالم.»
١٣٩ والحق أن الفرق بين الرجلين هو فرق بين من يستوعب معطيات الواقع في فهمه
للقرآن (وأعني عبده بخلفيته الاعتزالية)، وبين من لا يرى لمعطيات الواقع أي دور في فهم
القرآن، الذي يحضر فيه المعنى مكتملًا، والذي يقتصر فيه دور المرء على وضع نفسه خارج
كل
تحديدات وضعه البشري العيني (في الزمان والمكان) ليتهيَّأ لتلقِّي هذا المعنى المكتمل
الجاهز. ولعلَّه يلزم التنويه بأن مثل هذا المرء الذي يضع نفسه خارج تحديدات الزمان والمكان
لا يمكن إلا أن يكون وجودًا فوق بشري، أو حتى موجودًا ربانيًّا بدوره. وهكذا فإن
«الربانية» المضافة إلى التصور الذي بلوره قطب، لا تقف عند حدود الجماعة الحاملة له،
بل
ويطال شخصه أيضًا، وعلى النحو الذي ينتهي إلى وضع الشخص والجماعة في مقام المقدس الذي
لا يجوز الدنو منه بالنقد أو المساءلة، وإلَّا فإنه الاتهام الجاهز بالكفر
والهرطقة.
ولسوء الحظ إن هذه المنظومات المنفلتة من تحديدات التاريخي إلى فضاء المطلق كانت
هي
المجال الذي تبلور داخله نظام العقل الذي تحققت له الهيمنة في الإسلام، حيث العقل الذي
هو — في جوهره — مقولة ثقافية لا بيولوجية، إنما يتحدد، سواء بمعناه الفردي أو بمعناه
الجمعي المجاوز للفرد، بنظام الثقافة التي يتشكَّل داخلها. وبالطبع، ذلك يعني أن الآليات
التي يشتغل بها هذا العقل، ومجال المعقولية الذي يؤطر حدود المعنى داخله، إنما يجدان
ما
يؤسسهما ضمن حدود النظام الشافعي/الأشعري. وإذ يظل العقل عاجزًا — عبر هذا الانبناء —
عن التفكير خارج حدود هذا النظام الذي يتحدد به ويتشكل داخله، فإنه لن يكون غريبًا أن
يظل العقل يعيد إنتاج النظام الشافعي/الأشعري — كطريقة في التفكير — حتى وهو منهمك في
تقويضهما كمحتوى ومضمون.
١٤٠ ومن هنا ما يمكن القول إنه مأزق العقل العربي الراهن، والذي يتمثَّل —
وبالأساس — في اشتغاله على نحوٍ مطلقٍ ولا تاريخي.