لا تقف دلالة مفهوم «القرآن الحي» عند مجرد استدعائه ليلعب — بحسب ما يرى الكثيرون
—
دورًا استعماليًّا نفعيًّا في حياة الناس اليومية الجارية. فإذا كان استدعاء القرآن في
مواقف الحياة اليومية يضفي عليه ما يبدو أنه حيوية، من نوعٍ ما، فإنها تبقى حيوية مضافة
إليه
من خارجه، وليست مما يفيض منه على هذا الخارج، بل إن هذا الاستدعاء للقرآني في اليومي
قد
يئول — حسب الحاصل بالفعل — إلى تجميد هذا اليومي المعيش، وإفقاده حياته وحيويته، ليس
فقط
لأنه قد يكون مطلوبًا منه أن يحضر كقالبٍ يُراد تسكين هذا اليومي المعيش داخله، وبكيفية
تختنق
معها رحابته وتدفُّقه، بل ومن حيث ما لا يمكن إغفاله من أن استدعاء القول القرآني، في
الحوارات بين الأفراد، قد يكون — في أحيان كثيرة — إحدى آليات قطع الحوار وإسكاته، بدل
أن
يكون أحد ميادينه وساحاته.
وهكذا، فإن الأمر — بخصوص القرآن الحي — لا يتعلق بمجرد استدعاء القرآن، عبر التداول
الشفاهي له، إلى الحياة اليومية، بقدر ما يتعلق بنوع العلاقة مع القرآن التي يتحقق ضمنها
هذا الاستدعاء، وما إذا كانت من نوع العلاقة المنفتحة أو المغلقة. وهكذا، فإن مفهوم العلاقة
مع القرآن يكون هو المفهوم الأكثر تأسيسية فيما يخص حضور أو غياب «القرآن الحي»، وبمعنى
أنه
فيما تؤسِّس العلاقة المنفتحة مع القرآن لحضوره الحي، فإن العلاقة المنغلقة معه إنما
تؤسِّس —
على العكس — لغياب هذا الحضور الحي. ولعلَّ ذلك يعني أن سعيًا إلى استعادة «القرآن الحي»
لا
يتوقف على الطريقة التي يجري تداوله بها (شفاهية أو كتابية)، بقدر ما يتوقف على استعادة
—
أو حتى تأسيس — نوع العلاقة المنفتحة معه.
وبالطبع، فإنه إذا كان الوحي هو بمثابة إحضار للقيمة/المعنى/المصلحة، كمبادئ تأسيسية
كبرى، إلى واقع مجتمعات بشرية، لم تكن لتقدر على بلوغها بجهدها الخاص، فإنه كان لا بدَّ
أن
يجري تنزيل هذه المبادئ التأسيسية في واقع حياتها، ضمن شروط اللحظة التي تعيش فيها هذه
المجتمعات، حيث إن تنزيلها خارج تلك الشروط كان يمكن أن يترتب عليه رفض فعل الوحي بالكلية.
ومن هنا ما يمكن القول إنها مراوحة الوحي وحركيته، أو حتى توتره، بين «المبدأ التأسيسي
المتجاوز» من جهة، وبين «التحديد الإجرائي المتعين» الذي يتحقق، هذا المبدأ، من خلاله
في
واقع بشرٍ بعينهم، وفي إطار لحظة بعينها، من جهة أخرى. فإنه ليس خطابًا بهذا المبدأ في
«المطلق»، بقدر ما هو خطاب به في الواقع «المتعين»، أي إلى بشر محددين، وفي لحظة تاريخية
بعينها. وبالطبع، فإنه يبقى — ضمن هذه المراوحة — أن «الحد الإجرائي» — الذي يتحقق من
خلاله
«المبدأ التأسيسي» — إنما يكون «موضوعًا» من أجل تحقيق القيمة المرتبطة بهذا المبدأ،
في تلك
اللحظة بعينها، وليس على نحوٍ نهائي مطلق. وإذ يعني ذلك أنه يتحقق في ارتباطٍ حاسمٍ مع
«التاريخ»، فإن صرامة هذا الارتباط تبلغ حدَّ أنه قد يتحوَّل في لحظة مغايرة، لتلك التي
تبلور
فيها، إلى عائقٍ يحُول دون تحقيق «المبدأ التأسيسي المتجاوز» الذي يقف وراءه. ومن هنا
ما
توافَقَ عليه أهل التفسير والأصول من النسخ في القرآن، الذي لا يعني شيئًا إلا أن حضور
وصلاح الحكم (وهو الحد الإجرائي المحقق للمبدأ التأسيسي أو القصد) يكون مرتبطًا بوقتٍ
بعينه. فإن رفع الحكم، ليحل محله غيره (وهو معنى النسخ)، لا يعني إلا أنه قد استحال إلى
عائقٍ يحُول دون تحقيق المبدأ أو القصد الذي يقوم خلفه، ولذا وجب رفعه؛ لأنه لم يعُد
صالحًا في
لحظة مغايرة لتلك التي تنزَّل فيها. وحين يلاحظ المرء قِصَر المدة الزمنية التي كان يتحقق
ضمنها فعل النسخ، فإن له أن يستنتج إرادة القرآن إلى تأكيد محدودية الحدِّ الإجرائي،
وسرعة
تحوُّله لاستيعاب حركة الواقع، وحتى لا يتحوَّل إلى عائقٍ يحول دون تحقيق ما وراءه من
«قصد».
وهنا يشار إلى أن القصد من إيراد مثل هذه الآراء، ليس بيان عدم قدرة أصحابها، فحسب،
على
قراءة «المبدأ التأسيسي» القائم وراء الحدود الإجرائية، الخاصة بالرق في القرآن، بل الكشف
— وهو الأهم — عن أن هذا العجز عن الوعي بالمبدأ التأسيسي قد تأدى إلى الانحطاط بالرقيق
إلى
ما دون المنزلة التي وضعتهم فيها، حتى هذه الحدود الإجرائية نفسها. وإذ يتعذَّر نسبة
ذلك كله
إلى «كتاب الله»، فإنه لا يبقى إلا أن «الإكراهات الاجتماعية» هي التي تعمل، ليس على
تثبيت الحدود الإجرائية الجزئية، بما هي أحكام نهائية ومطلقة فحسب، بل تمضي إلى التضييق
من
رحابة هذه الحدود الإجرائية ذاتها. ولعلَّ ذلك يعني وجوب ترتيب العلاقة بين المبدأ أو
القصد
التأسيسي، في القرآن، وبين الحدود الإجرائية التي يتحقق من خلالها في لحظة بعينها، على
نحوٍ
يستلزم وجوب أن تنضبط هذه الحدود الإجرائية بالمبدأ التأسيسي، وليس العكس.
وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاثة محددات تنضبط بها تلك الحدود الإجرائية، هي الصلاح والوقت
والعقل. فالحدُّ الإجرائي هو ما يكون به الصلاح في وقت بعينه، لا مطلقًا. ولما كان الوقت
متغيرًا، فإن ما يكون به الصلاح في الوقت الأول لا يمكن أن يكون مؤديًا لذات الصلاح في
الوقت الثاني. ومن هنا ضرورة تحريك هذا الحد الإجرائي، مع تغيُّر الوقت؛ لأن عدم تحريكه
سوف
يجعل منه سبيلًا إلى وقوع الفساد. وفقط فإن العقل — لا سواه — هو ما يقدر على القيام
بهذا
التحريك، على أن يكون مفهومًا أن هذه الصيرورة لا تتحقق خارج أي شروط، بل تحت مظلة المبدأ
أو القصد التأسيسي للقرآن، الذي يقدر على أن يستوعب، في جوفه، كافة الحدود الإجرائية
مع كل
تحولاتها اللاحقة، وبحيث يضفي عليها المعقولية والمعنى. وبالطبع، ذلك يعني أن تثبيت هذه
الحدود الإجرائية، ومقاربتها بوصفها أحكامًا نهائية مطلقة، إنما يئول إلى وضعها، لا خارج
الوقت فحسب، بل خارج نظام المعنى والمعقولية أيضًا.
وهكذا، حصل تغيير في «الوقت»، وانقضى زمن الرق، فأدى ذلك إلى أن «الصلاح» لم يعد قائمًا
في الحدود الإجرائية التي وضعها القرآن لتنظيمه. ولأن هذه الحدود الإجرائية ليست مطلقة
ونهائية، فقد قضى برفعها «العقل»، متجاوبًا — في ذلك — مع المبدأ أو «القصد التأسيسي»
الذي
ينطوي عليه القرآن. وإذا كان القرآن لم يميز حدوده الإجرائية المتعلقة بالرق، بما يؤشر
على
أنها مما يقبل الرفع والتعليق، مع تغير الوقت — بل إن وضعه لها لا يختلف عن وضعه لغيرها
من
الأحكام والحدود الإجرائية المتعلقة بمسائل أخرى كالمرأة وغير المسلمين وغيرها من المسائل
التي جرى النظر إلى أحكامها وحدودها الإجرائية على أنها نهائية ومطلقة — فإن ذلك يعني
أن ما
جرى بخصوص أحكام وحدود الرق، من التحريك أو الرفع، هو مما يقبل الانطباق — ولو بطريقة
مختلفة لا محالة — على الأحكام والحدود الإجرائية المتعلقة بغيره من المسائل المشار إليها؛
إذ إن هذه المسائل — أعني المتعلقة بالمرأة وغير المسلمين وغيرها — بقيت أحكامها وتحديداتها
الإجرائية على حالٍ من الثبات، رغم تغير الوقت، وبما آل إلى أن الصلاح لم يعد قائمًا
فيها،
وعلى النحو الذي يستلزم وجوب قول جديد بشأنها، يسعى فيه «العقل» إلى تحريك تلك الأحكام
والتحديدات الإجرائية بما يتجاوب مع المبدأ التأسيسي أو القصد الضابط لها في القرآن.
وإذا جاز أن استقراء خطاب القرآن عن الدنيا يكشف عن انبنائه على حقيقة أنها دار «عبور»
للحياة الأبقى في الآخرة، فإن ذلك يعني أنه يتعامل معها على أنها من قبيل «العابر» الذي
يكتسب دلالته ومعناه من كونه مؤديًا إلى «الخالد». وليس من شكٍّ في لزوم أن يكون هذا
«الخالد»
هو الضابط والحاكم لكل صور التحديدات الإجرائية العابرة التي يعيش بحسبها الناس في الدنيا،
تبعًا لضرورات الصلاح والوقت والعقل، حيث إنه من الممتنع أن يكون «العابر» هو ما ينضبط
به
«الخالد». وترتيبًا على أن هذا «الخالد» يقوم على إسقاط كل أشكال التمييز بين البشر،
وذلك
فيما ينطوي «العابر» على أشكالٍ متباينة من التمييز، فإن ذلك يعني أن المبدأ التأسيسي
في
القرآن هو ما يقصد إلى إسقاط ضروب التمييز بين البشر، في حين أن التحديدات والأحكام
الإجرائية التي يتحقق من خلالها هذا المبدأ في لحظة بعينها، لا بدَّ أن تقرَّ بهذه الضروب
من التمييز، وتدفع في اتجاه رفعها في نفس الوقت. وغني عن البيان أن هذا الدفع في اتجاه
رفع
ضروب التمييز، إنما يعني أن هذه التحديدات الإجرائية إنما تنطوي، وللمفارقة، على القصد
إلى
رفع نفسها، هي الأخرى.
ولعلَّ ذلك كله — وبمثل ما كان الوحي قبلًا — يؤكد على محدودية الحكم، أو الحد «الإجرائي»،
على النحو الذي يجعل من مبدأ «القابلية للتجاوز» أحد أهم محدداته على الإطلاق. وإذا كان
الإنسان هو الكائن الذي يحضر معه التجاوز إلى الوجود، فإنه يلزم التأكيد على أن هذه
القابلية للتجاوز إنما ترتبط بدخول الإنسان (واقعًا ووعيًا) في تركيب ظاهرة الوحي، في
كُليتها. ومن حسن الحظ أن تحليلًا لظاهرة الوحي، سواء في عمومها أو في تجليها القرآني
خصوصًا، يكشف عن خضوعها لضربٍ من المنطق الحاكم لها، والذي يستحيل فهمه بمعزلٍ عن الوعي
بدخول
الإنسان (وعيًا وواقعًا) في بنائه الكامن.
المنطق الحاكم لظاهرة الوحي
إذا كان من الصعب الكشف عن المنطق الذي يتحكم في مسار ظاهرة ما إلا عبر الإحاطة
بتاريخها الشامل، فإن الأمر يبلغ حدَّ الاستحالة حين يكون المرء بإزاء ظاهرة مفتوحة لم
يكتمل تاريخها بعد. وعلى العكس من ذلك يكون حال الظواهر التي تبلور تحقُّقها واكتمل
تاريخها، فإن الوعي بمنطقها الكامن يكون أكثر يسرًا وإمكانية. وغني عن البيان أن الوحي
هو إحدى هذه الظواهر التي اكتمل بناؤها، ولا مجال لأي جديدٍ في تاريخها، وبما يئول إلى
إمكانية اكتناه المنطق الذي يتحكم في نظامها.
ولعلَّ نقطة البدء إلى الإمساك بهذا المنطق تنطلق من الوعي بجملة من التحديدات التي
تميز ظاهرة الوحي على العموم. وأول هذه التحديدات أنها ظاهرة تتميز بالشمول والاتساع،
وإلى الحدِّ الذي يبدو فيه أنها لا تخص بني البشر وحدهم، بل تتصل بغيرهم من الكائنات
غير الناطقة، التي تحدَّث
القرآن عن الوحي إليها.
١٦ وحتى بخصوص البشر، فإن الوحي لا يقتصر على الأنبياء وحدهم، بل يضاف إلى من
سواهم من غير الأنبياء،
١٧ وبما يعنيه ذلك من كونها ظاهرة إنسانية شبه عامة.
ولعلَّ الطابع الإنساني لهذه الظاهرة يرتبط — على نحو جوهري — بالأصل الذي نشأت منه،
والذي يرتد إلى إحدى الأفكار الكبرى التي تكاد أن تكون غائرة في تلافيف الوعي الإنساني
على العموم. إنها الفكرة شبه السائدة بين بني البشر جميعًا عن لحظة فردوسية أولى كانوا
يعيشون فيها مع الله، سواء كان ذلك في السماء (بحسب أديان الوحي العليا) أو على الأرض
(بحسب بعض البنيات الأسطورية الأقل رقيًّا). وبصرف النظر عن الموضع الذي تحققت فيه هذه
الوحدة «بين الله والإنسان»، فإن هذه اللحظة الفردوسية الأولى لم يُكتب لها دوام
البقاء، بسبب ما اقترفه الإنسان من الخطيئة التي ترتب عليها انفصاله عن الله (هبوطًا
للإنسان إلى الأرض أو صعودًا للإله إلى السماء). ومنذئذٍ، فإن البشر لم يتوقفوا عن السعي
إلى رفع هذا الانفصال الفاجع عن الله، واستعادة وحدتهم الأولى مع الله.
وحين أدرك البشر، بعد محاولاتهم الدءوبة في استعادة وحدتهم المباشرة مع الله،
١٨ استحالة هذا النوع من الوحدة، راحوا يطورون وسائل في استعادة الاتصال مع
الله، ولو كان ذلك على نحوٍ غير مباشرٍ. ولقد كان الوحي — ومنذ أقدم العصور — هو أحد
أشكال استعادة الاتصال غير المباشر مع الله الذي عرفته كل الجماعات البشرية التي عاش
أسلافها الغابرون في حال وحدة فردوسية مع الله، ثم حدث بعدها انفصالهم الفاجع عنه. ذلك
يعني أن الوحي ليس ظاهرة ترتبط بأديان بعينها، بقدر ما هو ظاهرة إنسانية عامة تنشأ عن
تصورات معينة للوجود الإنساني.
١٩
وفضلًا عن ذلك فإن الوحي ظاهرة تاريخية اكتمل تحقُّقها على مدى تاريخي طويل امتد
لعدة
قرون، وعبر لحظات شتى.
٢٠ وهكذا، فإنها لم تنبثق مكتملة أو دفعة واحدة، بل تطورت عبر مراحل جزئية
متعددة على مدى القرون إلى أن حققت اكتمالها مع النبي الخاتم في القرن السابع الميلادي.
وبما أن ظاهرة الوحي تشتمل، في داخلها، على مراحل ولحظات جزئية يجري الانتقال بينها من
لحظة إلى أخرى، فإن هذا الانتقال لا يمكن أن يكون خبط عشواء، بل إنه يتحقق، وبالضرورة،
بحسب منطق يتحكم فيه، ويضفي عليه المعقولية التي تجعله قابلًا للتفسير.
وإذ يبدو — والحال كذلك — أن منطق الظاهرة لا ينفصل عن تاريخها، فإنه يلزم التأمل
في
معنى ودلالة تعدد صور الوحي وتنوعها على مدى التاريخ الإنساني، وأن كل واحدة من تلك
الصور تتناسب مع الوضع «العقلي والتاريخي» للمخاطبين بها في لحظة بعينها، وبما يعنيه
ذلك من أن صورة سابقة ومتقدمة للوحي لا يمكن أن تناسب وضعًا إنسانيًّا لاحقًا أرقى من
ذلك الوضع الذي تنزَّلت تلك الصورة المتقدمة لكي تتجاوب مع حاجاته، إنما يكشف عن ارتباط
كل واحدة من لحظات الوحي وصوره بتحديدات اللحظة التي تنزَّلت فيها، وعلى نحوٍ لا يمكن
معه فرض صورة أسبق من الوحي على وضع إنساني لاحق أرقى، والعكس، ويؤكد — بالتالي — على
أن القابلية للتجاوز هي جزء من صميم تركيب ظاهرة الوحي ذاته. وهنا يشار إلى أنه إذا
كانت لحظة الوحي وصورته الأخيرة — بما هي لحظة اكتمال وختام سيرورة الوحي بأسرها مع
النبي محمد — هي اللحظة التي لا تقبل التجاوز كتنزيلٍ، حيث لا تنزيل بعد النبي الخاتم
بالطبع، فإنها لا بدَّ أن تكون موضوعًا للتجاوز التأويلي، وإلَّا فإنها ستفقد القدرة
على الفاعلية خارج حدود اللحظة التي تنزَّلت فيها. وهكذا، فإنه إذا كان اكتمال الوحي
مع
النبي الخاتم، يؤذن بعدم القابلية للتجاوز تنزيلًا، فإنه يفتح الباب واسعًا أمام وجوب
التجاوز فهمًا وتأويلًا،
٢١ وبما يئول إليه ذلك من أن القابلية للتجاوز لا تفارق بناء الوحي (رغم مصدره
الإلهي) تنزيلًا وتأويلًا. وإذ الأمر هكذا، فإنه يستحيل على أي معرفة تصدر عنه أن تدَّعي
لنفسها حضورًا مطلقًا لا يقبل التخطي والتجاوز.
والحق أنه يتعذَّر فهم الكيفية التي يكون فيها
القرآن
(رغم مصدره الإلهي) هو المصدر الذي تتخلَّق حوله منظومات معرفية ذات طابع
إنساني، بعيدًا عن الوعي بطبيعته كإحدى لحظات سيرورة الوحي الإلهي، ثم بالكيفية التي
تنزَّل بها على مدى زماني متطاول نسبيًّا من جهة، وبعيدًا، من جهة أخرى، عن إلحاح
القرآن اللافت على تقديم نفسه — لمن يخاطبهم —
ككتابٍ للقراءة والفهم، وليس كنصٍّ للاستظهار والحفظ.
٢٢ ولعلَّ هذه المحددات الثلاثة في حاجة إلى المزيد من الإيضاح والبيان للوقوف
على ما يؤسس للكيفية التي يكون بها ما يصدر عن «المعرفة الإلهية» مركزًا لما ينتمي
بطبيعته إلى عالم «المعرفة الإنسانية».
إذا كان القرآن وغيره من أشكال وصور الوحي الأخرى هي تمثيلات للمعرفة الإلهية، تصدر
عنها وترتبط بها، فإن ذلك لا يعني أنها كتمثيلات لتلك المعرفة تتطابق معها أو تستنفدها،
بل إن المعرفة الإلهية تبقى مجاوزة ومفارقة لتلك التمثيلات التي تصدر عنها. ويرتبط ذلك
بحقيقة أنه فيما تتميز المعرفة الإلهية بالإطلاق وعدم التناهي، فإن تتابع وتبدُّل صور
الوحي التي هي محض تمثيلات لتلك المعرفة، يؤكد على وجوب كونها موضوعًا للتحدد والتناهي،
وأعني من حيث إن اللاحق منها دائمًا ما يستوعب السابق ويتخطَّاه إلى تركيب أعلى، وذلك
على
الرغم من استبقائه، طبعًا، للجوهر الكلي الذي يبقى حاضرًا في كل صور الوحي وتحققاته
الجزئية. وهكذا، فإنه إذا كانت المعرفة الإلهية تأبى — بما هي كذلك — على الاستنفاد
والتناهي والتحدد، فإن كل ما صدر عنها من صور الوحي المتعددة المتنوعة يكاد — في معظمه
— أن يكون موضوعًا للاستنفاد والتحدد والتناهي والتبدُّل.
٢٣
وبتعبيرات القرطبي، فإنه يجوز المصير إلى حقيقة أنه فيما تكون المعرفة الإلهية من
قبيل «العلم الذي لا يتغير» فإن الوحي يكون — رغم صدوره عنها — «خطابًا يتبدَّل».
٢٤ ولعلَّ هذا التمييز بين ثنائية «ما يتبدَّل» وبين «ما لا يتغير»، هو ما يقف
وراء ما مضى إليه «محمد عبده» من أن
القرآن «يصرح بأن
دين الله في جميع الأمم واحد، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف باختلاف الزمان،
وأما الأصول فلا خلاف فيها. قال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا
اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ. وقال تعالى:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (١٦٣)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. فالاعتقاد بالله والنبوة
وبترك الشر وبعمل البر والتخلُّق بالأخلاق الفاضلة مستوٍ في الجميع.»
٢٥ وترتيبًا على ذلك فإنه إذا كان «العلم الذي لا يتغير» يتبدَّى في «الأصول
التي لا خلاف عليها»، فإن «الخطاب الذي يتبدَّل» يتجلى في «الأحكام التي تختلف باختلاف
الزمان». وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن تلك الثنائية التي صاغها أحد أقطاب أهل السنَّة
الكبار، وأعني القرطبي، إنما تكشف عن قبول أهل السنَّة لمفهوم الوحي، بكل صوره وأشكاله،
كتمثيٍل غير مطابقٍ، على نحوٍ كاملٍ، للمعرفة الإلهية بالرغم من صدوره عنها، حيث إنه
يستحيل
— ومن دون أدنى جدال — المطابقة بين «ما يتبدَّل» من جهة، وبين «ما لا يتغيَّر» من جهة
أخرى.
وغني عن البيان أن «المعرفة الإلهية»، التي يصدر عنها الوحي، لا يمكن أن تكون هي
الأصل في ما يطال صوره المتعددة من التبدل، الذي تكون معه موضوعًا للاستنفاد والتحدد،
وذلك لأنها (أعني المعرفة الإلهية) تكون بطبيعتها، مطلقة وغير متناهية، وليست قابلة
للاستنفاد أبدًا.
٢٦ وترتيبًا على ذلك، فإنه لا يبقى إلا أن يكون الأصل في هذا التبدُّل هو من
تصدر إليهم صور وأنماط الوحي من المخاطبين بها من بني البشر الذين يتصفون، وعيًا
ووجودًا، بالتحدد والتناهي والتبدُّل. وهكذا، فإن تباين بني البشر (وعيًا وواقعًا) هو
ما
يقوم وراء تنوع وتباين صور الوحي،
٢٧ التي تكون بمثابة خطابات متجهة إليهم، وبما يعنيه ذلك من وجوب صوغها على
نحوٍ تكون معه مقبولة لأفهامهم ومتجاوبة مع طبيعة واقعهم، وإلَّا فإنها لن تكون مما يمكن
لهم أن يفهموه أو يؤمنوا به، فإن الله — بحسب القول الدال للقرطبي — «كالطبيب المُراعي
أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته.» ومن هنا أن ما تتميز به طبيعة
أفهام البشر من الاختلاف، وأبنية واقعهم من التجدد هو الأصل فيما يطال صور الوحي من
التحدد والاستنفاد والتبدل. ولعلَّ ذلك يحيل إلى أن طبيعة صور الوحي لا تتحدد بصدورها
عن «الإلهي» غير المحدود، بل إنها — وبالأساس — تتحدد بحقيقة صدورها إلى «الإنساني»
المحدود. فإذ تكون تلك الصور هي أدنى إلى الرسائل والخطابات، فإنها — وككل رسالة أو
خطاب — لا تتحدد بطبيعة المُرسِل فقط، بل وتتحدد أيضًا بطبيعة المُرسَل إليه، الذي لن
يكون بمقدوره أن يتجاوب مع الرسالة ما لم تتلاءم مع فهمه، وتتجاوب مع مشكلات واقعه. ومن
هنا أن اختلاف «صور العبادات مما اختلفت فيه الأديان الصحيحة، سابقها مع لاحقها، واختلاف
الأحكام متقدمها مع متأخرها، فمصدره رحمة الله ورأفته في إيتاء كل أمة وكل زمان ما علم
فيه الخير للأمة والملاءمة للزمان، وكما جرت سنَّته — وهو رب العالمين — بالتدريج في
تربية الأشخاص، من خارج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، إلى راشد في عقله، كامل في نشأته،
يمزق الحجب بفكره، ويواصل أسرار الكون بنظره، كذلك لم تختلف سنَّته ولم يضطرب هديه في
تربية الأمم، فلم يكن من شأن الإنسان في جملته ونوعه أن يكون في مرتبة واحدة من العلم
وقبول الخطاب من يوم خلقه الله إلى يوم يبلغ من الكمال منتهاه، بل سبق القضاء أن يكون
شأن جملته في النمو قائمًا على ما قررته الفطرة الإلهية في شأن أفراده، وهذا من
البديهيات التي لا يصح الاختلاف فيها».
٢٨ ولعلَّ الوحي تبعًا لتلك البديهية التي لا خلاف فيها — على قول الأستاذ
الإمام — هو أدنى ما يكون إلى الخطاب الذي يستعيد فيه كلٌّ من الإلهي والإنساني اتصالهما
— غير المباشر بالطبع — بعدما جرى من انفصالهما الفاجع القديم الذي هو واقعة أولية تكاد
كل الأديان المعروفة أن تؤسِّس عليها وجودها، ومع ملاحظة ملاءمة هذا الخطاب لطبيعة فهم
الإنسان ودرجة تعقُّد وتركيب واقعه.
ومن حسن الحظ، أن ما بدا من دخول الاختلاف في تركيب ظاهرة الوحي على العموم، أدى
إلى
دخوله في تركيب تجليه الجزئي المتمثِّل في الوحي القرآني. فإذا استقر التصور على أن الوحي
بالكتب السابقة على
القرآن قد تحقق جملة واحدة، فإن
الأمر لم يكن هكذا مع
القرآن الذي ظل يتنزَّل على مدى
ثلاثة وعشرين عامًا تقريبًا، وهو ما كان — حسب القرآن نفسه —
٢٩ موضوعًا لاعتراض وتشكيك مشركي مكَّة. ولقد مضى علماء القرآن إلى تفسير
هذا التنزيل للقرآن مُنجمًا، بالقصد — الذي وردت به الآية — إلى تثبيت فؤاد النبي، «فإن
الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك
كثرة نزول الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب
العزيز، فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة»،
٣٠ وكذا فإنهم قد أشاروا — على سبيل التفسير أيضًا — إلى الطبيعة الشفاهية
للثقافة التي يتحقق فيها التنزيل، وأعني من حيث «إنه عليه السلام كان أميًّا لا يقرأ
ولا يكتب، ففُرق عليه ليسهل عليه حفظه بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتبًا قارئًا،
فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة».
٣١ وهكذا، فإن التنجيم، بدوره، يبدو مرتبطًا، أشد الارتباط، بالحالة النفسية
والمعرفية المحدودة بالشرط الإنساني للنبي الكريم.
وفضلًا عن هذه الدلالة الذاتية للتنجيم المرتبطة بالشرط الإنساني للنبي الكريم، فإنه
يمكن الحديث عن دلالة موضوعية تتعلق بعلاقة الارتباط الجوهري بين القرآن والواقع. وهنا،
فإنه إذا كان تحقق الوحي بالكتب السابقة على
القرآن
جملة واحدة قد اقتضى تعدُّد الأنبياء في إطار الدين الواحد «وإلى حدِّ القول بالنبوة
المفتوحة على النحو الذي يسمح لهذا الدين باستيعاب ما يحدث من تطورات في الواقع»، فإن
نزول
القرآن مُنجمًا على مدى زمان متطاول إنما يشير
بجلاء إلى اتساعه لحركة الواقع، وبحسب ما يؤكده مفهوم «النسخ» الثابت بالقرآن نفسه؛ إذ
يرجع التنجيم أيضًا إلى أن «في القرآن أجوبة عن أسئلة «يثيرها الواقع»، فهو سبب من
أسباب تفرُّق النزول، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما نزل مُفرَّقًا».
٣٢ وإذ يكون النسخ، هكذا، هو أحد أسباب التنجيم، والنسخ هو نوع من الاستجابة
لحركة الواقع، فإن ذلك يعني أن التنجيم معلَّل بحركة الواقع بالأساس. فالنسخ يصدر — على
قول القرطبي السابق ذكره — عن حقيقة «أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية
والدنيوية، وأن العَالِم بذلك (يعني الله) إنما تتبدَّل خطاباته بحسب تبدُّل المصالح؛
كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى «الله» ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله
إلا هو فخطابه يتبدَّل، وعلمه وإرادته لا تتغير» وبما يعنيه ذلك من أن واقع المصالح
المتبدِّلة للعباد هو أحد أسباب التنجيم وأصوله.
وإذا كان ثمة من ينكر النسخ في القرآن، وراح يستبدل به مفهوم «المنسأ»، وذلك ابتداء
من أن حكم النسخ هو الإزالة، بينما يتأجل العمل بالمنسأ، حتى إذا عادت الظروف إلى ما
كانت عليه قبل ذلك عاد حكم المنسأ إلى الفعالية والتأثير، فإنه يكون إظهارًا لجوهرية
الارتباط بين القرآن والواقع؛ إذ يعني المنسأ «أن كل أمرٍ وَرَدَ يجب امتثاله في وقتٍ
ما
لعلة ما توجِب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكمٍ آخر، وليس بنسخ، إنما
النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا … ومن ذلك قوله تعالى:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، كان ذلك في ابتداء
الأمر، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه، ثم لو فرض
وقوع الضعف كما أخبر النبي
ﷺ في قوله: بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما
بدأ، عاد الحكم، وقال
ﷺ: فإذا رأيت هوى مُتبَعًا وشحًّا مطاعًا وإعجاب كل ذي رأي
برأيه فعليك بخاصة نفسك، وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه
ﷺ حين ضعفه ما
يليق بتلك الحال رأفة بمن اتَّبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجًا ومشقة، فلما أعز الإسلام
وأظهره ونصره وأنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفار بالإسلام، أو
بأداء الجزية — إن كانوا أهل كتاب — أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب. ويعود
هذان الحكمان — أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة — بعود سببهما، وليس حكم
المسايفة ناسخًا لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته».
٣٣ وهكذا، تكون حركة الواقع هي الأصل في كل ضروب التباين التي راح يتسع لها
الوحي القرآني من خلال مفاهيم الناسخ والمنسوخ والمنسأ وأسباب النزول، وغيرها من ضروب
التمييز بين المكِّي والمدني والسفري والحضري والليلي والنهاري التي تكشف عن أن الواقع
لا يدخل فقط — في تركيب القرآن — من خلال ما يتعلق بتغاير الزمان، بل يدخل في تركيبه
أيضًا من خلال تباينات المكان، وبما يعنيه ذلك من أن الاختلاف (زمانًا ومكانًا) داخل
في
تركيب القرآن. ولقد راح علماء القرآن يحددون تأثير هذا التغاير الزماني والمكاني على
كل
من مضمون القرآن وأسلوبه. وبالطبع، فإنه يبقى، على أي حالٍ، أن الطريقة التي تنزَّل بها
القرآن تكشف، بدورها، عن دخول الاختلاف في بناء الظاهرة القرآنية، تمامًا كدخوله في
بناء ظاهرة الوحي على العموم.
وإذ يكشف ما مضى كله عن دخول الإنسان (وعيًا وواقعًا) في تركيب ظاهرة الوحي على
العموم والخصوص معًا، وبالكيفية التي يبدو معها القول لازمًا بأن صوره المتنوعة لا تقدم
المعرفة الإلهية المطلقة الخالصة التي يختص بها الله في علوه الفائق؛ لأن هذه المعرفة
تبقى — بحسب السلف أنفسهم — «مما تفرد الله بعلمه ومعرفته، فلم يخبر به ملكًا مقرَّبًا،
ولا نبيًّا مرسلًا، بل احتجبه عن الخلق جميعهم؛ لأن علمه أكثر وأعظم من أن يعلمه أحدٌ
من خلقه»،
٣٤ بل تقدم محض «تمثيلات» لها، فإنه يلزم التنويه بأن تلك التمثيلات هي — في
جوهرها — صوغ وتشكيل للمعرفة الإلهية على النحو الذي تتجاوب فيه مع بناء كل من الوعي
والواقع الإنسانيين في لحظات بعينها، أو أنها من قبيل «أنسنة» الله لعِلْمه ليقدر البشر،
٣٥ ليس فقط على فهمه والتفاعل المبدع معه، بل على تحقيق الإفادة القصوى من هذا
العلم في ترقية وعيهم وتهذيبه والانتقال بواقعهم إلى وضعٍ يكون معه أكثر تقدمًا. ولعلَّ
دخول الإنسان في تركيب الوحي — على العموم — والقرآن — على الخصوص — إنما يجد ما يدعمه
ويجليه في حقيقة تحدده بالواقع اللغوي والتاريخي الذي تنزَّل داخله، وهو ما سيكون موضوعًا
لقولٍ لاحقٍ.
قرآن ما قبل المصحف (القرآن الحي)
يكاد أن يكون من الثوابت الراسخة في وعي المسلمين على العموم، أن الشكل الذي استقر
عليه القرآن (تركيبًا وترتيبًا ولغة) في المصحف هو ذات الشكل الذي تركه عليه النبي
الكريم، وبما يعنيه ذلك من الاعتقاد الجازم في تطابق القرآن مع المصحف. ولسوء الحظ فإن
ثمة ما يخلخل هذا التصور المستقر، ويفتح الباب أمام افتراض عدم التطابق بينهما، حيث إن
خمس عشرة سنة تفصل بين القرآن الذي تركه النبي عند وفاته، وبين المصحف الإمام الذي أقرَّه
الخليفة الثالث عثمان (بعد عامين تقريبًا من ابتداء ولايته)، كانت زاخرة — سواء على
مستوى التركيب أو اللغة — بما يحيل إلى اختلاف المسلمين في
القرآن
«حتى كاد يكون بينهم فتنة».
٥٣
وبالطبع، فإن بلوغ الاختلاف إلى حدِّ الفتنة إنما يعكس مدى اتساعه وشموله على هذا
النحو المُهدد.
وبالرغم من الخطر الداهم للفتنة على وحدة الجماعة، فإنه يبدو أن اختلاف المسلمين
حول
القرآن الذي تبدى، من جهة، في تعدد القراءات (على
أن يكون مفهومًا أن الأمر بخصوص هذا الاختلاف لا يتصل بالتباين حول مخارج الألفاظ
وكيفية نطقها، بل يتجاوزه إلى إبدال الألفاظ والحروف بأخرى غيرها)، وفي الشكل أو
التركيب (البنائي) والترتيب الذي استقر عليه القرآن
في المصحف. وبالطبع، ذلك يعني أن الفترة السابقة على تثبيت القرآن في المصحف قد اتسعت لضروبٍ من التدخل الإنساني في القرآن، على
النحو الذي يحيل إلى استحالة أن يكون المصحف مطابقًا للقرآن الذي تركه النبي قبل وفاته.
فالاختلاف الذي حفظته المصادر حول اللغة والتركيب البنائي يعني أن وجهًا واحدًا من هذه
الاختلافات هو الذي جرى تثبيته في المصحف، وأنه لا يوجد ما يقطع بأن هذا الوجه، دون
غيره، كان هو ذلك الذي تركه النبي عند وفاته. وغني عن البيان أن ذلك يعني أن الشكل الذي
جرى به تثبيت القرآن في المصحف (لغة وتركيبًا) شهد
نوعًا من التدخل الإنساني، على النحو الذي يئول إلى استحالة النظر إلى هذا الشكل على
أنه انعكاس مطابق للقرآن القائم في الأزل، بما هو صفة الله القديمة.
فإن «القرآن الكريم الذي يتداوله المسلمون اليوم بين دفَّتي المصحف، لم يكن على هذا
الترتيب في حياة الرسول
ﷺ. فقد قُبِضَ عليه السلام ولم يكن القرآن جُمِعَ في شيء».
٥٤ فقد «كان القرآن كُتب كله في عهد رسول الله
ﷺ، لكن غير مجموعٍ في
موضعٍ واحدٍ، ولا مُرَتب السوَر».
٥٥ ولقد كان مما ترتب على ذلك أن أصبح لكل واحدٍ من الصحابة الكبار مجموعه الذي
يخصُّه من القرآن، والذي اصطلح على تسميته بالمصحف.
٥٦ وهكذا، تعددت المصاحف المنسوبة لأصحابها، والتي كانت نسبتها لأصحابها
مرتبطة بمخالفتها للمصحف الإمام الذي جرى الإجماع عليه، فإنما «قلنا مصحف فلان لما خالف
مصحفنا (يعني الإمام) من الخط أو الزيادة أو النقصان»،
٥٧ بل إنه وحتى بعد وضع المصحف الإمام، فإن ثمة من أصحاب هذه المصاحف من تمسَّك
بمصحفه، رغم مخالفته لمصحف عثمان، ومن هنا ما قيل من أن «ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان
إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته، ولا على إعدام مصحفه، فكان تأليف (ترتيب)
مصحفه مغايرًا لتأليف مصحف عثمان»،
٥٨ وبما لا بدَّ أن يدل عليه ذلك من أن الشكل أو الترتيب الراهن الذي استقر
عليه
القرآن لم يكن هو الشكل الذي تركه عليه النبي،
وذلك على فرض أن الترتيب الذي تركه عليه قد كان أصلًا هو ترتيبه في اللوح المحفوظ.
وبالرغم من ذلك فإن ثمة من يقطع — وأعني به اللغوي في «شرح السنَّة» — بأن
القرآن «مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب».
٥٩
وفي تفسير عدم جمع النبي للقرآن في المصحف، فإن ثمة من مضى إلى أنه «إنما لم يجمع
(النبي)
ﷺ القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته.»
٦٠ وبالطبع، فإنه كان يمكن قبول مثل هذا التفسير لو أن النبي كان قد قُبِضَ
قبل أن يكتمل نزول الوحي، وهو ما تعارضه الرواية عن ابن عباس من أنه «كان بين نزول آخر
آية (من القرآن) وبين موت النبي
ﷺ أحد وثمانون يومًا.»
٦١ وحتى على فرض أن المدة الفاصلة بين نزول آخر آية من
القرآن وبين موت النبي كانت — حسب رواية أخرى — بضعة أيام فقط، فإن ترك
النبي للقرآن على غير الشكل والترتيب الذي استقر عليه بعد رحيله، إنما يعني أنه قد أراد
للقرآن أن يظل خطابًا مفتوحًا.
٦٢ ولقد ظل القرآن هكذا لمدة خمس عشرة سنة حتى اتخذ الشكل والترتيب الراهن
الذي استقر عليه مع الخليفة الثالث عثمان، وهو الترتيب الذي جرى التأكيد على أنه من فعل
البشر، حيث إنه «لما كُتِبَ مصحف عثمان رتَّبوه (يعني الناس) على ما هو عليه الآن».
٦٣ ومما استدل به على أن ترتيب السوَر كان باجتهاد الصحابة «اختلاف مصاحف
السلف في ترتيب السوَر؛ فمنهم من رتَّبها على النزول، وهو مصحف علي، كان أوله «اقرأ»
ثم
البواقي على ترتيب نزول المكِّي، ثم المدني، ثم كان أول مصحف ابن مسعود «البقرة» ثم
«النساء» ثم «آل عمران» على اختلاف شديد، وكذا مصحف أُبي بن كعب وغيره.»
٦٤ وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان القائلون بأن ترتيب سوَر
القرآن هو باجتهادٍ من الصحابة يستندون إلى وقائع عينية
تتعلق بوجود مصاحف مختلفة الترتيب (لعليٍّ وابن مسعود وأُبيٍّ)،
٦٥ فإن أصحاب الرأي القائل بأن هذا الترتيب قد كان بتوقيف من النبي لا يجدون
ما يستندون إليه في هذا التقرير إلا بعض الروايات التي تجري نسبتها إلى النبي، وعلى
النحو الذي توضع معه «الرواية» في مواجهة «الواقعة».
ولعلَّ هذا الانفتاح الذي ترك النبي عليه القرآن هو ما يقف وراء ضروب الاختلاف حول
عدد سوَر القرآن وآياته وكلماته وحروفه.
٦٦
فأما سوَره، «قال أبو الحسين بن المنادي: جميع سوَر القرآن في تأليف زيد بن ثابت
على
عهد الصدِّيق وذي النورين؛ مائة وأربع عشرة سورة، فيهن الفاتحة والتوبة والمعوذتان، وذلك
هو الذي في أيدي أهل قبلتنا. وجملة سوَره على ما ذُكِرَ عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه
مائة وست عشرة سورة. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يسقط المعوذتين، فنقصت جملته سورتين
عن
جملة زيد. وكان أُبيُّ بن كعب يلحقهما ويزيد إليهما سورتين هما الحَفدة والخَلع.»
٦٧ وبخصوص الآيات، فإن «عدد آي القرآن مُختَلَف فيه على حسب اختلاف العادِّين.
والعدد منسوب إلى خمسة بلدان هي مكَّة والمدينة والكوفة والبصرة والشام».
٦٨ وإذ يقال إن «سبب اختلاف السلف في عدد الآي: أن النبي
ﷺ كان يقف على
رءوس الآي للتوقيف، فإذا عُلِمَ محلها وصل للتمام، فيحسب السامع حينئذٍ أنها ليست فاصلة.»
٦٩ وهكذا، فإن الشرط الإنساني يدخل في تعداد الآيات، وبما يعنيه ذلك من أن
التعداد المتحقق في المصاحف المتباينة، لآي القرآن، يخلخل فكرة أن يكون عدد الآيات في
المصحف القائم بأيدي المسلمين الآن هو نفس عددها في اللوح المحفوظ، بحسب ما يروِّج أصحاب
القول بأن ما في المصحف هو انعكاس مطابق لما في اللوح المحفوظ من دون أن يكون للشرط
الإنساني الخاص بالمتلقين أدنى تأثير في ذلك.
وإذا جاز قبول الاختلاف بخصوص عدد السوَر والآيات لارتباطه بالشرط الإنساني المتمثِّل
في طريقة أداء النبي للقرآن من جهة، وفي كيفية تلقي السامعين له من جهة أخرى، فإن
الاختلاف لا يجوز أبدًا بخصوص عدد كلمات
القرآن؛ إذ
تبقى الكلمات بمثابة الوحدات الأولية الصغرى التي يمكن أن تدخل في تراكيب «آيات وسوَر»
يجوز الاختلاف بشأن أعدادها، بينما ينبغي أن تظل أعدادها — هي نفسها — ثابتة وغير قابلة
للتغير. فالتراكيب قد تتباين عددًا بحسب طرائق التعامل معها، بينما تظل الوحدات الأولية
التي تتشكَّل منها هذه التراكيب ثابتة. ولسوء الحظ فإن الاختلاف حول عدد كلمات القرآن
ليس من النوع الذي يمكن تجاهله، لضآلة الفارق بين التعدادات المذكورة للكلمات؛ إذ يروي
«المنهال بن عمرو عن ابن مسعود أنه قال: كلام القرآن سبعة وسبعون ألف كلمة، وتسعمائة
كلمة، وأربع وثلاثون كلمة. ورُوي عن مجاهد وابن جبير: سبعة وسبعون ألف كلمة، وأربعمائة
وسبع وثلاثون كلمة. ورُوي عن عطاء بن يسار: تسعة وسبعون ألف كلمة، ومائتان وسبع وسبعون
كلمة. وعن أبي المعافي يزيد بن عبد الواحد الضرير أنه قال: ستة وسبعون ألف كلمة.»
٧٠ وهكذا، يصل الفارق بين بعض العادِّين إلى أكثر من ثلاثة آلاف كلمة تقريبًا،
وهو ما يجاوز حجم سورة متوسطة الطول من القرآن. وبالطبع، فإنه لو كان النبي، قبل رحيله،
قد وضع للقرآن شكله النهائي الذي كان يريد له أن يستقر عليه لما كان لمثل هذه
الاختلافات أن تنشأ أبدًا. لكنه يبقى أن هذه الاختلافات تظل كاشفة عن دورٍ للمتلقين في
تركيب القرآن على النحو الذي استقر عليه في المصحف، وبكيفية يتأكد فيها عدم التطابق بين
قرآن «المصحف» وقرآن «اللوح المحفوظ».
ولعلَّ الأمر لا يقف عند مجرد عدم التطابق بين قرآن «المصحف» وما يقال إنه قرآن
«اللوح المحفوظ»، بل يتجاوز إلى ما يمكن القول إنه عدم اتساع المصحف العثماني للقرآن
النبوي ذاته. وهنا فإنه إذا كان عدم التطابق — في الحالة الأولى
— يرتبط — حسب ما بدا — بطريقة أداء النبي للقرآن، وبكيفية تلقِّي السامعين
له، وبما يبدو معه أن عدم التطابق يكون متجاوزًا للقصد الإرادي للأفراد، فإنه يبدو أن
عدم الاتساع — في الحالة الثانية —
يرتبط بما يمكن القول إنه القصد الإرادي للفاعلين الذين بدا وكأن منهم من قصدوا إلى غلق
المصحف أمام بعض ما جرى تداوله كقرآن. وبالطبع، ذلك يعني أن عدم التطابق بين ما يقال
إنه قرآن «الله» القائم باللوح المحفوظ وما يمكن القول إنه قرآن النبي من جهة، وبين
المصحف من جهة أخرى، إنما يتجاوز القصد غير الإرادي إلى المقاصد الإرادية
الواعية.
فالملاحظ أن ما أوردته المصادر السنِّية المعتبرة من روايات عن الصحابة وأمَّهات
المؤمنين يتصادم، على نحوٍ شبه كاملٍ، مع التصور المستقر، عند كل المسلمين تقريبًا، عن
اتساع المصحف للقرآن كما تركه النبي. فإن هناك العديد من الروايات المنسوبة إلى هؤلاء
الكبار مما يكشف عن أن المصحف يخلو من كثير من النصوص التي يقرُّ هؤلاء بأن النبي قد
مات وهي مما يُقرَأ في القرآن. ولقد كانت هذه النصوص من الكثرة، على نحو ما تكشف رواية
«نافع عن ابن عمر أنه قال: لا يقولن أحدكم: قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله! قد
ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر.»
٧١ وبعض هذا الكثير الذي ذهب من القرآن لم يكن أبدًا مما يمكن إهماله نظرًا
لعدم أهميته؛ لأن منه ما كان يحمل أحكامًا تشريعية لا تزال فاعليتها قائمة للآن. وهنا
يلزم القول بأن من هذه النصوص (التي ذهبت من القرآن) ما يبدو أنه كان موضوعًا لحوار بين
الفاعلين — أثناء حياة النبي وبعد وفاته — وأن هذا الحوار قد انتهى إلى السكوت عن هذه
النصوص، وبمعنى أن الأمر لا يرتبط بضياع هذه النصوص أو فقدانها، بل الأمر يصل إلى إمكان
الحديث عن إرادة عدم تضمينها في المصحف، أو حتى عدم كتابتها وتدوينها.
وإذن، فالأمر يتجاوز ما يقال إنه المنسوخ رفعًا من
القرآن
، سواء كان سورة كاملة أو مجرد آية؛ لأن هذا الرفع يبقى من قبيل الفعل
الإلهي/النبوي. فقد وردت الرواية بأن «رجلًا كانت معه سورة فقام يقرؤها من الليل فلم
يقدر عليها، وقام آخر يقرؤها فلم يقدر عليها، وقام آخر (ثالث) يقرؤها فلم يقدر عليها،
فأصبحوا فأتوا رسول الله
ﷺ، فقال بعضهم: يا رسول الله قمت البارحة لأقرأ سورة
كذا وكذا، فلم أقدر عليها، وقال الآخر: ما جئت إلا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول
الله، فقال رسول الله
ﷺ: إنها نُسِخَت البارحة … فقد تبيَّن في هذا الحديث أن
النسخ هو رفع السورة.»
٧٢ ولعلَّ ما يثير في هذه الرواية هو الإلحاح على تعليق نسخ السورة ورفعها على
عدم قدرة المتلقين على قراءتها، وبما يُفهَم منه أن رفع السورة من
القرآن، عبر النسخ، يكاد أن يكون محض استجابة للشرط الإنساني المتمثِّل
في عدم القدرة على قراءتها. وبالرغم من ذلك، فإن ثمة ما يقال من أن الله هو الذي أنسى
الناس هذه السوَر، حيث إن «نسخ الرسم والتلاوة، إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه، ويرفعه
من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكَتْبه في المصحف، فيندرس على الأيام كسائر
كتب الله القديمة».
٧٣ لكنه يبقى — مع ذلك — أنه لا يمكن أن يكون العجز عن الحفظ هو المقصود من
عدم القدرة على القراءة، ليس فقط لأن الله هو الذي أنسى الناس هذه السوَر، وبما يعنيه
ذلك من أنهم كانوا حافظين لها، بل — وهو الأهم — لأن القدرة على الحفظ ترتبط بقدرة
الحافظ، وليس بما يكون موضوعًا لحفظه، وبحيث يقدر المرء على حفظ بعض القرآن ولا يقدر
على بعضه الآخر.
٧٤ ولعلَّ ذلك يعني إمكان صرف معنى عدم القدرة على القراءة إلى عدم القدرة على
الاستيعاب والفهم، بما هو الشرط الجوهري للتأثير في الواقع وتغييره. وبالطبع، ذلك يتسق
مع ربط النسخ — حسب القائلين به — بما يشهده الواقع من تطورات وتحولات، وبكيفية يجد
فيها النسخ تفسيره في الشرط الإنساني أيضًا، ولو على نحو يكون هذا الشرط انعكاسًا
لإرادة موضوعية تتجاوز الإرادة الفردية.
والغريب حقًّا هو ما يقال من أن ثمة من هذا النسيان الذي يخلقه الله عند الناس، بخصوص
بعض القرآن، ما يكون لاحقًا على وفاة النبي، حيث إنه «لا يخلو (النسيان) من أن يكون في
زمان النبي
ﷺ، حتى إذا تُوفي لا يكون مَتْلوًّا في القرآن، أو يموت وهو مَتْلوٌّ موجود
بالرسم، ثم ينسيه الله الناس، ويرفعه من أذهانهم».
٧٥ وبالطبع، فإنه ليس لذلك من معنى إلا أن ثمة من القرآن ما تم رفعه من
التلاوة والرسم بعد وفاة النبي، بحيث يندرج تحت مقولة «ما أنساه الله للناس.» ولعلَّه
يدخل في هذا القرآن الذي أنساه الله للناس بعد وفاة النبي، ما قيل إنها آيات، «تُوفي
رسول الله
ﷺ، وهنَّ مما يقرأ في القرآن»،
٧٦ بحسب الحديث المروي عن عائشة، وهي الزوج الأقرب إلى النبي. وحاول السيوطي
أن يجد مخرجًا من مأزق الآيات التي لا توجد في المصحف — رغم حديث عائشة عن أن النبي قد
مات، وتلك الآيات مما يقرأ في القرآن — فمضى إلى القول بأن «تلاوة (هذه الآيات) قد نُسِخت
«في حياة النبي»، ولم يبلغ ذلك كل الناس «فظلوا يقرءونها رغم نسخ تلاوتها».»
٧٧ لكنه يقلل من قوة هذا التفسير أن صيغة الحديث المروي عن عائشة لا تنسِب
قراءة هذه الآيات إلى بعض الناس الذين كانوا بعيدين، فلم يبلغهم أنها منسوخة التلاوة،
بل تتحدث، وفقط، عن آياتٍ رحل النبي عن الدنيا وهنَّ مما يقرأ في القرآن. بل إنه قد
يُفهم أن عائشة نفسها — وهي الزوج الأقرب إلى النبي — كانت من القارئين لمثل تلك
الآيات، وخصوصًا أن رواية الحديث بأسره ترتبط بواحدة من الآيات التي لا وجود لها في
المصحف رغم أن عائشة نفسها لم تكن فقط تقرأها في القرآن، بل ظلَّت أيضًا تعمل بحكمها.
وليس من شك في استحالة أن ينطبق على عائشة ما ينطبق على غيرها، وبحيث يقال إنها من
أولئك الذين لم يبلغهم أن آية مما كانوا يقرءونه في القرآن قد جرى نسخ تلاوتها، وأن
النبي قد انتقل إلى الرفيق الأعلى من دون أن تعرف ذلك.
وعلى فرض أن يكون الله هو الذي أنسى الناس هذه الآيات التي يقال إن النبي لقي ربه
«وهنَّ مما يقرأ في القرآن»، فإن المدهش أن يكون النسيان قد تعلق بتلاوة الآية فقط، ومن
دون أن يكون له أدنى تأثير على «الحكم» الذي تحمله. فإن الأحكام التي تحملها بعض الآيات
التي قيل: «إن النبي قد توفِّي وهنَّ مما يقرأ في القرآن» ظل معمولًا بها حتى بعد رفع
هذه الآيات من التلاوة. ويأتي المثال على ذلك ما يرويه الإمام مالك «عن عائشة زوج النبي
ﷺ أنها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن، عشر رضعات معلومات يحرِّمن، ثم نُسِخن
بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله
ﷺ وهو مما يقرأ في القرآن.»
٧٨ فقد ظلَّ العمل جاريًا بهذا الحكم، ولو عند السيدة عائشة على الأقل، وعلى
النحو الذي يجعل الآية تندرج في باب «المنسوخ التلاوة والباقي الحكم»، رغم ما يقال من
اندراجها في باب «المنسوخ التلاوة والحكم معًا.»
٧٩ وإذا كانت عائشة تأخذ بهذا الحكم — بحسب ما يمكن فهمه من مالك — من حديث
النبي، فإن ذلك يزيد الأمر تعقيدًا؛ لأنه يثير السؤال عن الحكمة في نسخ الآية، بما
تحمله من الحكم، من القرآن، ثم الإبقاء على هذا الحكم من خلال الحديث المنسوب إلى
النبي. وللغرابة، فإن هذا الحديث لن يكون موضع إجماع كل الصحابة وأمهات المؤمنين، بل
إن
كل أمهات المؤمنين، باستثناء عائشة، لم يعملن به. وأما من أفتى به من الصحابة (من مثل
عمر وأبي موسى الأشعري)، فإنه قد تراجع عن فتواه حين عارضه غيره.
٨٠ ولعلَّ رفض سائر أزواج النبي للأخذ بالحكم الوارد في هذا الحديث، واعتباره
رخصة خاصة لمن ورد الحديث بشأنها، هو ما يقف وراء ما قالت به عائشة من أن النبي قد مات
وهو مما يقرأ في القرآن، لكي يكتسب الحكم حصانة القرآن وقداسته. لكنه يبقى وجوب التنويه
باتفاق جميع الصحابة وأمهات المؤمنين على أنه يحرَّم من الرضاع في الصغر — وحتى في الكبر
عند القائلين برضاع الكبير — ما يحرَّم بالولادة، على أن تكون خمس رضعات مشبِعات، وهو
ما
يقال إنه قد جرى نسخه مع آية الرضاع.
وإذا كان أزواج النبي من أمهات المؤمنين، غير عائشة، لم يأخذن بحديث النبي عن الرضاع،
واعتبرنه خاصًّا بمن ورد في شأنها، ولم يشِرن أبدًا إلى أن آية الرضاع كانت مما يقرأ
في
القرآن، فإن ذلك يرتبط بأنهن لم يكنَّ في حاجة لما يتيحه حكم الحديث/الآية من تيسير
الاتصال بغير المحارم من الرجال. وعلى العكس، فإن السيدة عائشة كانت في حاجة لما يرفع
عنها وجوب الاعتزال والقعود في البيت، ويتيح لها أن تلعب دورًا سياسيًّا يجبرها على
الاختلاط بالرجال، وهو الدور الذي أوصى به النبي الكريم في الحديث المنسوب إليه: «خذوا
نصف دينكم عن هذه الحُمَيراء.» وغني عن البيان أن ذلك لم يكن ممكنًا إلا من خلال
وساطة بعض الرجال الذين كان لا بدَّ أن يحرَّموا عليها بالرضاع. ومن هنا أن السيدة
عائشة لم تكن لتأخذ فحسب بحديث النبي عن الرضاع (الذي جعلته الأُخريات من أزواج النبي
خاصًّا بمن ورد في شأنها)، بل راحت ترتفع به إلى مقام مما كان يقرأ في القرآن؛ لأن
تنسبيه إلى القرآن يمنحه القوة التي ينزعها عنه ربطه بحديث نبوي جرى تخصيصه بمن ورد
بشأنها. فلعلَّ نسبة الحكم إلى القرآن تهبه من القوة والقداسة، ما يقلِّل من تأثير تحفُّظ
أزواج النبي الأخريات على حديث النبي، وتخصيصه بمن ورد بشأنها دون غيرها.
ولعلَّ وضع الآية في القرآن، يزداد قوة، حين يدرك المرء أن السيدة عائشة لم تردَّ
رفعها
من القرآن إلى نسخ الله أو حتى النبي لها، بل إلى فقدانها بعد أن أكلتها الشاة. فقد
أورد ابن الجوزي عن عائشة أنها قالت: «لقد نزلت آية الرجم ورضعات الكبير عشر، وكانت في
ورقة تحت سرير بيتي، فلما اشتكى رسول الله
ﷺ (في مرض موته)، تشاغلنا بأمره،
فأكلتها ربيبة (شاة) لنا، فتوفِّي رسول الله
ﷺ، وهي مما يقرأ في القرآن.»
٨١ إن جعل رفع الآية من التلاوة ناتج عن أكل الشاة للورقة التي دُوِّنت عليها،
إنما يعني رد هذا الرفع لها إلى محض سبب عارض، ومن دون أن يكون مقصودًا لله أو النبي.
وغني عن البيان أن إرجاع رفع الآية من التلاوة إلى هذا السبب العارض، يعني أن هذا الرفع
لم يكن مرادًا لله أو النبي أصلًا، وعلى النحو الذي يقوِّي العمل بحكمها. ولكن ذلك يثير
السؤال، من جهة أخرى، عما إذا كانت هذه الآية محفوظة فقط في السطور، ولم يكن هناك من
يحفظها في الصدور، فضاعت بمجرد أكل الشاة للورقة التي كانت مدوَّنة عليها، أم أنه كان
هناك من يحفظها، ولكن ضياع نصِّها المكتوب حال دون تدوينها في المصحف. ولكن من المعلوم
أن
تدوين المصحف لم يعتمد على الأصول المكتوبة لآيات القرآن فقط، بل كانت الأصول الشفوية
مصدرًا هامًّا للتدوين أيضًا، وبما يعنيه ذلك من استحالة ردِّ عدم تدوين آية الرضاع في
المصحف إلى ضياع أصلها المكتوب الذي أكلته الشاة.
وبالطبع، ذلك يعني، إما أن العمل بهذه الأحكام كان مطلوبًا فجرت نسبتها إلى القرآن
لتكتسب قداسته، أو أنه كان مطلوبًا وقف العمل بهذه الأحكام، أو — على الأقل — تضعيفها،
فقيل إن الآيات التي جاءت بها منسوخة ومرفوعة من التلاوة؛ لأن نسخ الآية من التلاوة سوف
يجعل الحكم الذي تنطق به أدنى إلى أن يكون مشمولًا بالنسخ بدوره. وفي الحالين، فإن
الأمر يتعلق بالقصد «الإنساني»، إما إلى تضمين القرآن ما لا يمكن القطع بأنه منه (وهو
ما سيجري إدراجه تحت مظلة القول بما هو مرفوع من التلاوة وحكمه باقيًا)، أو إلى رفع ما
هو من القرآن فعلًا (لأنه ليس من المنطق القول بنسخ تلاوة آية والإبقاء على الحكم الذي
تحمله، ولو كان هذا الإبقاء من خلال الحديث النبوي)، حيث إن رفع تلاوة الآية سيؤدي إلى
أن الحكم المتعلِّق بها لم يعد من مرادات الله، وأن إبقاءه إنما يرتبط بإرادة الفاعلين
في
الواقع. فإنه إذا كان القصد الإلهي هو إبقاء الحكم الذي تحمله الآية، فإنه سيكون من غير
المنطقي أن يجري رفع هذه الآية من التلاوة، بل إنه يلزم تثبيتها. وبالطبع، يستحيل القول
بما ذهب إليه السيوطي من أن سبب رفع تلاوة بعض الآيات هو «التخفيف على الأمة»، لاستحالة
أن يكون «التخفيف» في رفع مجرد التلاوة مع إبقاء الحكم قائمًا؛ إذ الحكمة كانت تقتضي
أن
يتم رفع الحكم، وخصوصًا إذا كان حكمًا قاسيًا (كحكم الرجم)، مع إبقاء التلاوة، ليدرك
الناس مدى ما أنعم الله به عليهم من التخفيف ورفع المشقة.
وهنا يلزم التنويه بأن قاعدة «المنسوخ التلاوة ولكن حكمه باقيًا» التي جرى إدراج
مثل
هذه الآيات تحتها، تبقى من وضع الفقهاء، ومن دون أن يكون لها أصل مقطوع به في ممارسات
النبي الكريم. ومن هنا أن ما قيل في تفسير هذا النوع من النسخ أنه «ليظهر به مقدار طاعة
هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به،
فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده في المنام، والمنام أدنى طريق الوحي.»
٨٢ إن ذلك يعني — وعلى نحوٍ صريحٍ — أن ما يؤسِّس لهذا النوع من النسخ هو الإسراع
إلى التصديق بمحض الظن، ولا شيء سواه، وهو ما يجعل منه تصديقًا بغير القاطع أو الموثوق
به.
وبالطبع، فإن ذلك يرتبط بأنه لا سبيل لطلب طريق مقطوع به في هذا النوع من النسخ،
ولذلك فإنه لا سبيل إلى المعرفة بهذا النوع من نسخ التلاوة مع بقاء الحكم إلا الظن.
ويبقى أن ما يقوم به النص من مشابهة هذا النوع من التصديق بالظن بتصديق الخليل إبراهيم
لرؤيا ذبح ولده، فإنما ليرتقي بهؤلاء المصدِّقين بهذا النوع من النسخ بمجرد الظن، إلى
نفس
المقام السامي لأبي الأنبياء إبراهيم. كما أنه يبقى أن القول في القرآن بمحض الظن إنما
يعني أن القرآن قبل تثبيته في المصحف قد كان محلًّا لمقاصد إنسانية لعبت دورًا ما في
تثبيته على الشكل الذي استقر عليه، ولو كان ذلك عبر التوسُّل بمجرد الظن. والحق أن ردَّ
المعرفة بهذا المنسوخ تلاوته والباقي حكمه إلى مجرد الظن، لا يعني إلا الإقرار بنوعٍ
من التدخل الإنساني في تركيب القرآن (إضافةً لأحكامٍ بعينها إليه، ورفعًا لتلاوة آيات
معينة منه)؛ لأن ردَّ التصديق بالنسخ إلى مجرد الظن إنما يعني استحالة أن يكون صادرًا
عن
الله أو النبي.
وإذا كان قد بدا أن رفع آية الرضاع من التلاوة يرتبط بما يخرج عن القصد الإلهي
والنبوي (والإنساني على العموم)، فإن المصادر تردُّ رفع آية أخرى، هي آية الرجم التي
يجري
إدراجها ضمن المنسوخ التلاوة وحكمه باقيًا أيضًا، إلى الاختلاف الذي لا يمكن التفكير
به
بعيدًا عن المقاصد الإنسانية المتباينة. فعلى الرغم من كل ما يبديه البعض من التحفظ
بخصوص آية الرجم: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالًا من
الله والله عزيز حكيم»، فإن ثمة الإلحاح على أنها كانت بدورها مما يُقرَأ في
القرآن.
فقد مضى البعض — من جهة الأسلوب — إلى أن «لفظ «الآية» بعيد من بلاغة القرآن ونظمه»،
٨٣ وذلك فيما صار آخرون (ومنهم ابن حجر) — على صعيد المضمون — إلى أن العمل
بها على غير الظاهر من عمومها.
٨٤ فإن صيغة الآية تربط الرجم بالشيخوخة، وذلك فيما جرى الاستقرار، ومنذ
البدء، على ربط الرجم بالإحصان
٨٥ الذي قد يكون قائمًا في حال الشاب والشابة، وبما يعنيه ذلك من إمكان — بل
ضرورة — حصول الرجم لهما في حال كونهما محصَنين، وذلك فيما يجب أن يكون الجلد من نصيب
الشيخ والشيخة إذا كانا غير محصَنَين. ذلك يعني أن العمل لا يجري بما ينطق به ظاهر الآية
من عموم الرجم للشيخ والشيخة إذا زنيا، بصرف النظر عن إحصانهما بالزواج أو عدمه.
ولعلَّه يمكن القول، وعلى وجه التحديد، بأن الإشكالية الرئيسة لهذه الآية تتمثَّل في
أن
ثبوتها يكسر تمامًا ما جرى الاستقرار عليه من ربط الرجم بالإحصان، وهو ما يبدو أنه كان
إرادة تسعى لتثبيت نفسها عند لحظة ما. ولعلَّ هذه الإرادة هي التي تقف وراء رفع الآية
من التلاوة؛ لأنها (أي الآية) تربط الرجم بمرحلة الشيخوخة العمرية وحدها. ولعلَّه يمكن
القول إن وضع هذه الآية — على فرض أنها كذلك — يعكس وجود إرادتين متمايزتين، تسعى
إحداهما لتنسيب الآية إلى القرآن ليتسنى تثبيت الرجم كعقوبة للزنا، وذلك فيما تسعى
الأخرى إلى رفعها ليتسنى ربط الرجم بالإحصان (الزواج)، بدلًا من ربطه بحالة الشيخوخة
العُمْرية كما تفعل الآية.
فبالرغم مما يبدو، على هذا النحو، من الطابع الإشكالي للآية أسلوبًا ومضمونًا، فإن
الروايات تتواتر قاطعة بأنها كانت مما يُقرَأ في القرآن. ولعلَّه قد لا يكون ممكنًا
تفسير
هذا التواتر القاطع إلا بالقصد إلى تثبيت الرجم كعقوبة للزنا، كجزء من العلاج الجذري
لظاهرة تؤشر الروايات على أن حضورها كان مزعجًا. وللغرابة، فإن ثمة ما يظهر منه أن رفع
الآية من التلاوة ارتبط بالحضور المزعج لظاهرة الزنا. فقد أخرج ابن الضريس في
فضائل القرآن: «عن يعلى بن حكيم، عن زيد بن أسلم: أن عمر
خطب الناس، فقال: لا تشكُّوا في الرجم، فإنه حق، ولقد هممتُ أن أكتبه في المصحف، فسألت
أُبيَّ بن كعب، فقال: أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله
ﷺ، فدفعت في صدري
وقلت: تستقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحُمُر؟»
٨٦ وهكذا، فإن عمر يدفع في صدر أُبيٍّ لكيلا يستقرئ النبي آية الرجم؛ لأن
القوم آنذاك كانوا يتناكحون كالحُمُر، وبما يشير إليه ذلك من أن الولع بالزنا كان هو
الأصل في رفع الآية.
٨٧ ولعلَّ ذلك يؤكد على ما مضى إليه ابن حجر من «إن السبب في رفع تلاوتها هو الاختلاف.»
٨٨ وإذ يعني ذلك أن رفع الآية من التلاوة ليس بنقلٍ عن الله، أو عن النبي
(وهذا النقل هو ما يؤسِّس لأي نسخ)،
٨٩ بقدر ما هو راجع إلى اختلاف الناس حولها، فإنه يؤكد على دخول ما هو إنساني
في تركيب المصحف (سواء كان ذلك عبر رفع تلاوة الآية وتثبيت حكمها أو من خلال رفع الحكم
وتثبيت تلاوة الآية). ولقد بلغ الأمر إلى حدِّ أن النظر قد استقر إلى بعض ما قيل إنه
منسوخ الحكم وباقي التلاوة على أنه — وعلى قول ابن جبير — من قبيل ما «ضيَّعه الناس»
قاصدين.
٩٠ وهكذا، فإنه يبقى أن ما يقال من «تضييع الناس للآية وتهاونهم في العمل بها»
٩١
فيما يتعلق ببعض منسوخ الحكم وباقي التلاوة، من جهة، وما تواتر، من جهة أخرى، بخصوص
الاختلاف حول آية الرجم، يكشف عن الحضور الزاعق للقصد الإنساني من خلال فعليْ التضييع
والاختلاف.
إذا كان ثمة من الروايات حول هذه الآية ما يعتبرها من الكثير الذي ذهب — لأسباب غير
معلومة — من القرآن،
٩٢ فإنه يبدو أن ما أشار إليه «ابن حجر» من الاختلاف يكاد أن يكون هو الأصل
الحاسم في غيابها من المصحف. وضمن هذا السياق، فإن الأمر لا يقف عند مجرد اختلاف
الصحابة حول الآية، بل يتجاوز إلى الاختلاف في تصوير موقف صحابي واحد منها. فإذا كان
ثمة رواية تصوِّر الصحابي الكبير عمر بن الخطاب وهو يسعى عند النبي إلى عدم تضمين الآية
في القرآن، فإن رواية أخرى تصوِّره ساعيًا، على العكس، إلى تضمينها في القرآن، تقول
الرواية: «كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان المصحف، فمرَّا على هذه الآية، فقال
زيد: سمعت رسول الله
ﷺ يقول:
الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة، فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي
ﷺ فقلت أكتبها؟
فكأنه كره ذلك.
٩٣ فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جُلِدَ، وأن الشاب إذا زنى
وقد أحصن رُجِمْ.»
٩٤ يتعلق الأمر، إذن، بعملية جمع القرآن وكتابته على عهد عمر التي كان يقوم
بها «زيد بن ثابت وسعيد بن العاص» اللذان مرَّا بالآية، واستشارا عمر في كتابتها، فكان
رأيه بعدم كتابتها مستندًا على ما قال إنه كراهة النبي لكتابتها عند نزولها، وعلى ما
رأى أنه — وبتعبير ابن حجر — جريان «العمل بها على غير الظاهر من عمومها»، حيث إنه إذا
كان ظاهر الآية يربط الرجم بالشيخوخة، فإن العمل بها يربط الرجم بالإحصان. والحق أن عمر
يلح على ربط الرجم بالإحصان، حيث يُروى عن عبد الله بن عباس أنه قال: «سمعت عمر بن
الخطاب يقول: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أُحصِن.»
٩٥ وإذ يحيل ذلك إلى رفض عمر لكتابة الآية، فإن ثمة ما يفيد بأن هذا الرفض من
جانب عمر لكتابتها كان عنيدًا، حيث تُنسَب الرواية إلى أُبيِّ بن كعب أنه كان يستقرئ
الآية
رسول الله،
٩٦ فجاء عمر ودفع في صدره، بما يفهم منه رفضه لكتابتها.
ولكن ثمة رواية أخرى تُنسَب إلى عمر أنه كان قد انتوى كتابة الآية في القرآن، ثم
تراجع
لتخوُّفه من أن يقول الناس إنه قد زاد في القرآن. حيث يروي مالك أنه «لما صدر عمر بن
الخطاب من مِنى، أناخ بالأبطح، ثم كوَّم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم
مدَّ يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك
غير مضيِّع ولا مفرِّط. ثم قَدِم المدينة، وخطب الناس، فقال: أيها الناس، قد سُنَّت لكم
السنن، وفُرِضت لكم الفرائض، وتُرِكتم على الواضحة، إلا أن تضلوا بالناس يمينًا
وشمالًا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى. ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم. أن يقول
قائل لا نجد حدَّين في كتاب الله. فقد رجم رسول الله ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن
يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله، لكتبتها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة،
فإنَّا قد قرأناها. فما انسلخ ذو الحجة حتى قُتِل عمر، رحمه الله.»
٩٧ وفضلًا عما تعرضه هذه الرواية من رغبة عُمر في كتابة آية الرجم في القرآن،
فإنها تعرض لترتيب عمر لقرائن إثبات الرجم، والتي يجعل فيها القرائن من سنَّة النبي
تأتي سابقة على قرينة ورود الآية المثبتة له في القرآن. وهكذا، يبدأ الاختلاف حول آية
الرجم — حسب الروايات — من لحظة نزولها، وبما أشار إليه عمر من «كراهة النبي لكتابتها.»
وترتب على هذه الكراهة التي أخبر بها عمر، أن كاتبي القرآن (زيد بن ثابت وسعيد بن
العاص) لم يكتباها، وبما يئول إليه ذلك من أنَّ الآية لم تكن مما يقرأ في القرآن. ولكن
ثمة
من الصحابة الكبار — ومنهم أحد أصحاب السلطة العليا في القرآن الذي هو أُبيُّ بن كعب
—
من راح يقطع، في المقابل، بأنها كانت مما يُقرأ في القرآن (وفي سورة الأحزاب تحديدًا)،
ولكنها ذهبت مع الكثير الذي يقال إنه قد ذهب من القرآن.
٩٨ ولكن الرواية تأبى إلا أن تعيد عمر إلى المشهد مرة أخرى، حين تجعله ينطق،
قبل أيام من موته مغدورًا، بما يؤكد رغبته في كتابتها في القرآن، وبما يترتب على ذلك
من
إبراز تناقض موقفه بخصوص الآية. وضمن هذا السياق، فإن الرواية تبرزه رافضًا لكتابتها
أثناء وجود النبي، بينما تكشف الرواية الأخرى عن رغبته في كتابتها بعد وفاة النبي
الكريم. وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن الأصل في رفع الآية من القرآن (سواء كانت مما
قُرئ فيه أم لا) هو الاختلاف الذي لا يمكن البحث عن بواعث له خارج عالم البشر ومقاصدهم،
وعلى النحو الذي يئول إلى دخول تلك البواعث في التركيب البنائي للقرآن.
وهنا يلزم التنويه بأن دخول الباعث البشري في ترتيب القرآن وتركيبه، على هذا النحو،
لا يتعلق أبدًا بالقصد إلى مجرد التفكير في إعادة ترتيبه أو تركيبه على غير النحو الذي
استقر عليه على مدى القرون، بقدر ما يتعلق بالقصد إلى إعادة الاعتبار للشرط الإنساني
الذي ينكشف عنه استدعاء التاريخ المطموس، والمسكوت عنه عمدًا، للدخول الإنساني في ترتيب
القرآن وتركيبه. ولعلَّ ذلك ينطبق على التفكير في دخول الإنسان، بالمثل، في التركيب
اللغوي للقرآن، وبمعنى أن الأمر لا يتعلق بالقصد إلى فتح الباب أمام إبدال لفظ بآخر من
ألفاظ القرآن، بقدر ما يتعلق بالقصد إلى استعادة الروح التي يكشف عنها اتساع القرآن،
أثناء التنزيل، لشروط الواقع اللغوي الذي عرفه العرب آنذاك، وهو ما سيكون موضوعًا
للبيان.
القرآن وشروط الواقع اللغوي أثناء التنزيل
يتحقق الدخول الأول للإنسان في لغة القرآن من خلال ما يقرره القرآن نفسه من أن كل
تنزيل من السماء لا بدَّ أن يكون بلغة القوم الذين يُنزَل إليهم، وذلك في قوله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.
٩٩ ويربط الطبري هذا الوجوب للتنزيل في لغة القوم بضرورة أن يكون موضوعًا لفهم
الإنسان. فإنه «كان غير مبيِّن منا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطَب،
وكان معلومًا أنه غير جائز أن يخاطب «الله» جلَّ ذكره أحدًا من خلقه إلا بما يفهمه
المخاطَب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولًا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسَل إليه؛
لأن المخاطَب والمرسَل إليه إن لم يفهم ما خوطِب به وأُرسِل إليه، فحاله قبل الخطاب،
وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء؛ إذ لم يفِده الخطاب والرسالة شيئًا كان به قبل ذلك
جاهلًا. والله جلَّ ذكره يتعالى عن أن يخاطِب خطابًا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن
خوطب «بها» أو أُرسِلت إليه؛ لأن ذلك فينا من فعل النقص والعبث، والله تعالى عن ذلك متعال.»
١٠٠ إذن، فإن عدم حصول الفهم — والفائدة الموقوفة عليه بالتالي — للإنسان في
حال تنزيل الوحي في غير لغة المتلقين له من بني البشر، هو ما يقف وراء وجوب تنزيله في
لغة القوم الذين يتنزَّل إليهم. لكنه يلزم التأكيد على أن حصول الفهم والفائدة من الوحي
لا يكون بمجرد تنزيله في لغة المتلقين له، بل بما يبين لهم مما اختلفوا فيه من مسائل
معاشهم. ومن هنا ما يقرره القرآن مخاطِبًا النبي:
وَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ.
١٠١ من مسائل وقضايا وجودهم، وبما يؤكد عليه ذلك من دخول الإنسان في تركيب
الوحي (لغةً وتاريخًا).
وإذ يتقرر — تبعًا لذلك — وجوب أن يكون تنزيل القرآن في لغة العرب الذين أُنزل عليهم،
فإن ذلك قد فتح باب السؤال: «بأي ألسن العرب أُنزل؟ أبألسن جميعها، أم بألسن بعضها؟ إذ
كانت العرب، وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق
والكلام».
١٠٢ وإذن، فإن وحدة لغة العرب لم تمنع التعدد الواقعي — وإلى حدِّ الاختلاف —
للألسن داخلها، وهو الاختلاف الذي كان لا بدَّ أن يراعيه التنزيل؛ لأن أصحاب هذه الألسن
كانوا جميعًا من المشمولين بخطابه. والنبي نفسه هو الذي طلب مراعاة هذا الاختلاف من
خلال ما قاله: «أتاني جبريل، فقال: اقرأ القرآن على حرف (لسان) واحد، فقلت: إن أمتي لا
تستطيع ذلك» وبما يعنيه ذلك من وعيه بالوضع اللغوي الواقعي للعرب في لحظة التنزيل، مع
طلبه وجوب مراعاة ذلك. وترتبط هذه المراعاة لواقع العرب اللغوي — والتي تمثَّلت في رخصة
القراءة بالأحرف السبعة التي قال عنها الطبري إنها «الألسن السبعة» — بما «قال الطحاوي:
إنما كانت السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم (ألسنهم)؛ لأنهم
كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحوَّل إلى غيرها
من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ إلا بمشقة عظيمة، فوسَّع لهم في اختلاف الألفاظ إذ كان
المعنى متفقًا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله
ﷺ، فقرءوا بذلك على تحفُّظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذٍ أن يقرءوا بخلافها.»
١٠٣ ويعلق ابن عبد البر بأنه قد «بان بهذا أن تلك السبعة الأحرف، إنما كانت في
وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف.»
١٠٤ وإذن، فإن الضرورة، ولا شيء سواها، هي ما يقف وراء الترخيص للعرب بقراءة
القرآن وتلقِّيه بحسب ما يفرضه اختلاف ألسنتهم، ولم يقفز الوحي فوق تلك الضرورة طالبًا
منهم أن يتلقَّوه على لسان أو حرف واحد تنزَّل به؛ لأنهم ما كانوا يستطيعون ذلك ولو
أرادوه.
وهكذا، فإنه قد «أُبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على
اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحدًا منهم الانتقال من لغتهم إلى لغة أخرى
للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية،
١٠٥ ولطلب تسهيل فهم المراد».
١٠٦ وهكذا، فإن «المشقة والحمية وتسهيل الفهم»، هي جميعًا محض تحديدات إنسانية
خالصة، وما يقف وراء إباحة الاختلاف في الألفاظ. وفضلًا عما يبدو من بيان الشرط
الإنساني وراء إباحة اختلاف الألفاظ، فإنه يبقى أن جعل «تسهيل الفهم» أحد عناصر هذا
الشرط إنما يئول إلى أولوية «الفهم» على «الحرف» منذ ابتداء التنزيل. وإذ يقال «إن
الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي (أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته)، بل
المراعى في ذلك السماع من النبي
ﷺ»، وبما يعنيه ذلك من السعي إلى ردِّ تغيير لفظ
إلى مفارق بجعل هذا التغيير بالسماع من النبي نفسه، فإنه «ثبت عن غير واحد من الصحابة
أنه كان يقرأ بالمرادف حتى ولو لم يكن مسموعًا له (من النبي)، ومن ثَمَّ أنكر عمر على
ابن
مسعود قراءته (عتى حين) أي (حتى حين)، وكتب إليه أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرِئ
الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل»، وبما يعنيه ذلك — في المقابل — من الإلحاح على
ردِّ هذا التغيير إلى أصله الإنساني. وبالطبع، فإن الإلحاح على ردِّ التغيير إلى
السماع من النبي إنما يرتبط بالسعي إلى التعالي به إلى أصل مفارق؛ لأنه يبقى أن «جبريل
عليه السلام قد عارض النبي بالأحرف السبعة في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز …
فأقرَأ مرة لأُبي بما عارضه به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضًا».
١٠٧ ورغم ما يخايل به ذلك من السعي إلى تغطية الشرط الإنساني القائم وراء
اختلاف ألفاظ القرآن، بما يعلو عليه من تجويز السماء وإباحتها له، فإنه يبقى أن التجويز
السماوي يكون مسبوقًا بالشرط الإنساني الواقعي.
وهكذا، فإن الأمر يتعلق باختلاف الألفاظ/اللغات، وليس باختلاف وجوه إخراج الحرف
الواحد على نحو ما هو معروف في «علم القراءات» المتعلق بالتلاوة. فإن المقصود — حسب
الطبري — ليس «اختلاف القراءة في رفع حرفٍ وجرِّه ونصبِه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف
إلى
آخر مع اتفاق الصورة.»
١٠٨ وهكذا، فإن الأحرف السبعة لا تعني «أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه،
ولكن هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب يمنها ونزارها، وهذه اللغات السبع متفرقة
في
القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن».
١٠٩ وإذن، «فإنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك: هلمَّ وأقبِل وتعال وإليَّ وقصدي ونحوي
وقربي، ونحو ذلك مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق، وتتفق فيه المعاني، وإن اختلفت
بالبيان به الألسن، كالذي روينا آنفًا عن رسول الله
ﷺ، وعمن روينا ذلك عنه من
الصحابة، وقوله «ما ينظرون إلا صيحة» وإلَّا «زقية».»
١١٠ وقد أوردت المصادر العديد من الأمثلة على هذا الاختلاف في الألفاظ، حيث
أورد الطبري: «قرأ أنس هذه الآية:
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
أَشَدُّ وَطْئًا وأصوب قِيلًا فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة إنما هي
وَأَقْوَمُ، فقال وأقوم وأصوب وأهيأ واحد»،
١١١ بل إن المصادر تنسِب إلى البعض أنه قد وضع أكثر من بديل لغوي للفظ الواحد
حيث يروي «ابن عباس عن أُبيِّ بن كعب أنه كان يقرأ:
لِلَّذِينَ
آمَنُوا انْظُرُونَا١١٢ للذين آمنوا أمهلونا، وللذين آمنوا أخِّرونا، وللذين آمنوا أرقبونا، وبهذا
الإسناد عن أُبيِّ أنه كان يقرأ:
كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا
فِيهِ١١٣ مرُّوا فيه، وسعَوْا فيه»،
١١٤ وبما يعنيه ذلك من قيام التعدد والاختلاف داخل لسان واحد.
وهنا يلزم التنويه بأن هذا الاختلاف كان موضوعًا لإقرار أصحاب السلطة العليا في
الإسلام (وأعني الخليفتين الثالث والرابع بالذات)؛ إذ تنسِب المصادر إلى الخليفتين
نطقهما بما يفيد إقرارهما بوقوع هذا الاختلاف، حين أصدر كل واحد منهما توجيهًا للنفر
الذي عيَّنه لكتابة القرآن يقول فيه: «إذا اختلفتم في لغة القرآن فاكتبوها بلغة مضر (حسب
عمر) أو بلسان قريش (حسب عثمان)»
١١٥ وبما يعنيه ذلك من الإقرار الصريح بوقوع الاختلاف في ألفاظ القرآن وهو يصدر
عن اثنين من الخلفاء الراشدين.
والحق أن الكتب عن المصاحف تحتشد بالكثير من أشكال اختلاف الألفاظ التي اتسع لها
قرآن ما قبل المصحف، وهي الاختلافات التي تقف وراء ما قيل إنه «اختلاف المصاحف.»
١١٦ وهنا يلزم التنويه بأن اختلافات المصاحف قد تجاوزت مجرد إبدال لفظ بآخر إلى اختلاف التراكيب
الأسلوبية أيضًا، وذلك من حيث
التقديم والتأخير في تركيب بعض الآيات،
١١٧ بل حتى انطواء بعض المصاحف على زيادات في الألفاظ، أو حتى زيادة آية كاملة،
١١٨ أو إبدال لفظ بآخر لا يساويه، ولا يؤدي نفس معناه.
١١٩ ورغم ما يقال من أن هذا الاختلاف يكون «باتفاق المعاني، لا باختلاف معانٍ
موجبة اختلاف أحكام»،
١٢٠ فإنه يلزم التأكيد على استحالة اتفاق معاني الألفاظ المختلفة على نحوٍ كاملٍ.
ولعلَّ مثالًا لاختلاف الألفاظ الذي لا يتطابق فيه المعنى يأتي من آية النسخ
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا.
١٢١ ولعلَّ القيمة الكبرى لهذه الآية تأتي من المركزية الهائلة لمسألة النسخ في
توجيه قراءة القرآن، وإنتاج دلالته، وبما يعنيه ذلك من أن اختلاف معنى النسخ — الذي
يترتب على اختلاف اللفظ المستخدم للدلالة عليه — لا بدَّ أن يؤثر على التوجيه الكلي
للقرآن، وعملية إنتاجه لدلالته ومعناه.
فإذا كان اللفظ المستقر في رسم المصحف للآية «ننسها» يجعل للنسخ دلالة «الإزالة والنسيان»،
١٢٢ فإن اللفظ البديل المستخدَم في بعض المصاحف «ننسأها»
١٢٣ يجعل للنسخ معنى «التأجيل والإرجاء». وغني عن البيان أن حضور النسخ بمعنى
الإزالة والنسيان سوف يوجه إلى قراءة للقرآن تختلف بالكلية عن تلك التي يوجه إليها
حضورٌ مناقضٌ له بمعنى «التأجيل والإرجاء». فإذ يفرض حضوره بمعنى الإزالة «رفع الحكم
الثابت على نحوٍ لولاه لظلَّ (هذا الحكم) ثابتًا»، فإن حضوره بمعنى الإرجاء لا يرفع أو
يبدِّل حكمًا بحكمٍ آخر، بل يستبقي الحكمين على نحوٍ يسمح باشتغالهما تبعًا لحركة السياق
الذي يكون القرآن موضوعًا للتفاعل داخله. فإذا كان «المنسأ» — حسب مجاهد عن أصحاب ابن
مسعود — هو «إثبات خط الآية وتبديل حكمها»، فإن إثبات خط الآية وعدم رفعها من المصحف
لا
يعني رفع الحكم الذي تحمله مطلقًا، بل يعني رفعه من العمل مؤقتًا. وهكذا، فإن «كل أمر
ورد يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلة ما توجِب ذلك الحكم، ثم ينتقل (الحكم) بانتقال تلك العلة
إلى حكم آخر، وليس بنسخ. إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا، ومن هذا قوله
تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ، كان ذلك في ابتداء الأمر، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه. ثم لو فُرِضَ وقوع الضعف كما أخبر النبي
ﷺ في قوله:
«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ» عاد الحكم (الأول). وقال
ﷺ:
«
فإذا رأيت هوًى متَّبعًا وشحًّا مُطاعًا وإعجاب كل ذي رأي
برأيه، فعليك بخاصة نفسك.» وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه
ﷺ حين ضعفه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن اتَّبعه ورحمة؛ إذ لو وجب لأورث حرجًا
ومشقة، فلما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة
من
مطالبة الكفار بالإسلام، أو بأداء الجزية — إن كانوا أهل كتاب — أو الإسلام أو القتل
إن
لم يكونوا أهل كتاب. ويعود هذان الحكمان — أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة
— بعود سببهما. وليس حكم المسايفة ناسخًا (أو مزيلًا) لحكم المسالمة، بل كلٌّ منهما يجب
امتثاله في وقته».
١٢٤ وهكذا، فإن الاختلاف في رسم لفظ قرآني واحد يؤدي إلى قراءتين للقرآن بأسره،
تختلف الواحدة منهما عن الأخرى على نحوٍ كاملٍ، وأعني من حيث لا يتسع، في إحداهما، إلَّا
لضربٍ من الدلالة النهائية المغلقة، بينما يكون، في الأخرى، ساحة لدلالاتٍ مفتوحة تتفاعل
داخله، وترتبط فاعلية الواحدة منها بحركة السياق خارجه. وإذن، فإنه يتعذر القول بأن
الأمر يتعلق باختلاف الألفاظ مع اتفاق المعاني، وذلك من حيث ما بدا من أن اختلاف
الألفاظ يؤدي، لا إلى مجرد اختلاف الأحكام فقط، بل إلى التغيير الكامل في نظام مقاربة
القرآن بالكلية.
والحق أن الرواية تتواتر، ليس فقط بوقوع اختلاف الألفاظ، بل — وكذا — بأن هذا
الاختلاف قد صار مصدرًا للشكوك والفتن التي ضربت عددًا من كبار الصحابة. ومن ذلك،
مثلًا، ما يورده الطبري من أن هذا الاختلاف قد «بلغ حدَّ أن أوقع من الشك والتكذيب «على
أُبيِّ بن كعب» أشد مما كان في الجاهلية.»
١٢٥ وحدث الأمر نفسه لصحابي كبير كعمر الذي «غيَّر على رجل كان يقرأ، فاختصما
عند النبي
ﷺ، فقال الرجل: ألم تقرئني يا رسول الله، قال: بلى، فوقع في صدر عمر
شيء عرفه النبي
ﷺ في وجهه، قال: فضرب (النبي) في صدره وقال: أبعد شيطانًا، قالها
ثلاثًا، ثم قال: يا عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابًا، وعذابًا رحمة.»
١٢٦ وهكذا، فإن ما أوقعه الاختلاف من الشك قد بلغ حدًّا من الشدة جعل النبي يرى
فيه عملًا من أعمال الشيطان.
وهنا يلزم التنويه بأن آثار الاختلاف في ألفاظ القرآن قد تجاوزت مجرد ما ولَّدته
من
الشك في الصدور إلى إيقاع الفتن المُهلكات في الحروب. فقد «أخبر أنس بن مالك الأنصاري
أنه اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق، قال: فتذاكروا القرآن
فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة.»
١٢٧ وفي تفصيل ذلك فإن المصادر تنسِب إلى «حذيفة بن اليمان» — الذي كان أحد
المشاركين في الغزوة — أنه «قَدِمَ من الغزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان، فقال: يا
أمير المؤمنين أدرك الناس قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، قال: وما
ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أُبيٍّ، فيأتون بما لم يسمع
أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل
الشام، فيكفِّر بعضهم بعضًا.»
١٢٨ وتجاوز خطر التكفير «أهل الحرب» إلى «أهل العلم»، حيث «حدَّثنا أيوب عن أبي
قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلِّم يعلم قراءة الرجل (من أصحاب المصاحف)،
والمعلِّم يعلم قراءة الرجل (صاحب مصحف آخر)، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع
ذلك إلى المعلِّمين، قال أيوب لا أعلمه إلا قال حتى كفَّر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك
عثمان فقام خطيبًا فقال أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه
اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إمامًا.»
١٢٩ وهكذا، فقد آل الاختلاف في ألفاظ القرآن إلى حدِّ تفجير فتنة «التكفير» بين
المسلمين، كبارًا وصغارًا، وبما يحيل إليه ذلك من اتساع مداه وخطره على النحو الذي
استدعى تدخُّل الخليفة. وبالطبع، فإن إقرار الخليفة بقيام الاختلاف في مركز الخلافة،
واشتداده في الأمصار النائية، يعني أنه لم يكن من قبيل الاختلاف المحدود الذي يمكن
التغاضي عنه أو إهماله، بل إنه بلغ حدَّ التهديد الجدي لوجود الإسلام والمسلمين في آن
معًا.
وغني عن البيان أن هذا الاختلاف لا بدَّ أن يحيل، وبالضرورة، إلى وجوب أن تكون ألفاظ
القرآن من الإنسان، وليس من الله. ومن هنا أنها تقبل التغيير والإبدال، وذلك على عكس
ما
لو كانت من الله. ولعلَّ ثمة قرينة على الأصل الإنساني للغة القرآن تأتي على لسان
«مَلَك الوحي» نفسه، حيث روى أبو داود عن أُبيِّ بن كعب قوله: «قال رسول الله
ﷺ: يا أُبي، إني أُقرئت القرآن، فقيل لي: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي
معي: قل على حرفين، (قلت على حرفين)، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي
معي: قل على ثلاثة (قلت على ثلاثة) حتى بلغ سبعة أحرف. ثم قال: ليس منها إلا شافٍ
كاف، إن قلت سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب.»
١٣٠ وهكذا، فإن المَلَكَ نفسه هو الذي يجيز للنبي أن يبدل لفظًا بآخر، بأن يقول
«عزيزًا حكيمًا» بدلًا من «سميعًا عليمًا»، وعلى شرط ألَّا يحدث قلبًا في المعاني، وبما
يؤشر عليه ذلك من جوهرية المعنى في مقابل الحرف أو اللفظ. فإنه لو كان «مَلَكُ الوحي»
نازلًا بالقرآن (لفظًا وحرفًا) من السماء لما كان جائزًا للنبي — أو غيره — أن يبدل
لفظًا بآخر، أو حتى يسقط حرفًا واحدًا منه، «لأن من أسقط شيئًا من كلام الله (فقد) كفر.»
١٣١ ومن هنا ما جرى المصير إليه من أن «الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة
كلام الله. وإذا قلنا إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة
القائمة بذات الله تعالى، فأُطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز، وإذا قلنا كلام
الله قديم لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات».
١٣٢ وهكذا، فإن الحروف والألفاظ ليست كلام الله في الحقيقة، بل إنها تكون كلامه
على سبيل المجاز فحسب. وإذ هي من الله على سبيل المجاز، فإنها تكون من غيره على
الحقيقة، وليس هذا الغير إلا الإنسان. وهنا فإن الرازي يعبر عن جوهر الرؤية الأشعرية
التي تقوم على التمييز بين الكلام النفسي (القديم) والكلام اللفظي (الحادث)، والذي لا
يمكن إحداثه إلا من الإنسان لا سواه. وضمن هذا التمييز فإنه قد «صح أن الكلام الحقيقي
هو المعنى القائم بالنفس دون غيره، وإنما الغير (يعني الحروف والألفاظ) دليل عليه بحكم
التواضع والاصطلاح، ويجوز أن يُسمَّى كلامًا، إذ هو دليل على الكلام، لا أنه نفس الكلام
الحقيقي. وكذلك قد يدل على الكلام الحقيقي القائم بالنفس الرموز والإشارات».
١٣٣ وإذن، فإن تعبير «كلام الله» ينصرف — في حقيقته — إلى «المعنى» القائم
بنفسه، وليس إلى «اللفظ» الدال عليه، والذي يقبل — حسب ما بدا — التغيير والتبديل. وإذ
يحتج البعض على استحالة تبديل اللفظ أو إسقاط الحرف بقوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ،
١٣٤ فإن ثمة من يرد بأن هذا التبديل للألفاظ «لا يتنافى مع قوله تعالى؛ لأن
المراد بالحفظ (هو) مفهوم الألفاظ، لا منطوقها؛ لأن الألفاظ ما صيغت إلا ليُستدلَّ بها
على معان مخصوصة، قُصِد بها أوامر ونواهٍ، وعبادات ومعاملات، وجميعها مصان محفوظ مهما
تقادم الدهر وتطاول العمر».
١٣٥ وإذن فهو الحفظ من الله للمعنى المفهوم، وليس للفظ المنطوق، وبما يؤكد عليه
ذلك من أولوية الفهم على الحرف.
وإذ يعني ذلك إقرار الأشاعرة بأن ألفاظ القرآن من إنشاء الإنسان؛ لأنها لو كانت من
الله، لامتنع تمامًا تغيير لفظٍ أو إسقاط حرفٍ، فإن ذلك يجد ما يدعمه في تعريف الوحي
لغة
أنه «الإعلام في خفاء»،
١٣٦ حيث الخفاء، هنا، لا يتعلق بوقوع الوحي على نحوٍ لا يكون فيه مشهودًا لغير
النبي، بل بصفة الوحي بالأساس؛ إذ تورد المصادر ما يفيد رؤية البعض لحصول الوحي للنبي؛
ومن ذلك ما يقال من أن يعلى بن أمية «رآه
ﷺ حال نزول الوحي عليه وهو يغط.»
١٣٧ إن هذا الغطيط، الذي أدركه «يعلى» على النبي حال نزول الوحي عليه، والذي
يتعلق بصفة الوحي وكيفية حصوله، هو أصل ما فيه من الخفاء؛ إذ يكشف المتواتر عن كيفية
حصول الوحي عن حقيقة أنه — وعلى الأغلب — ضرب من الاتصال غير اللغوي، وبما يجعل منه
نوعًا من الاتصال الخفي حتى لو كان مشهودًا من غير النبي. فإن عائشة تروي «أن الحارث
بن
هشام سأل رسول الله
ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ قال رسول الله
ﷺ: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليَّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما
قال، وأحيانًا يتمثَّل لي المَلَكُ رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول.»
١٣٨ وهكذا، فإن شطرًا من الوحي — حسب الحديث — يأتي «مثل صلصلة الجرس» التي
«قيل إنها صوت المَلَكِ بالوحي، «وهي» في الأصل صوت وقوع الحديث بعضه على بعض، ثم أُطلق
على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك لا يدرَك في أول وهلة … وقال الخطابي: يريد
أنه
صوت متدارك يسمعه ولا يتبيَّنه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد.»
١٣٩ وفي تفسير أن هذا النوع من الوحي هو الأشد، فإنه يقال: «إن الفهم من كلام
مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود.»
١٤٠ إن ذلك يعني — وبلا أي مواربة — أن وحي الصلصلة لا يكون بالتخاطب اللغوي
المعهود، بل يكون بصوتٍ «مُتدارَك يسمعه النبي ولا يتبيَّنه، ثم يفهمه بعد». وإذ يكون
الفهم
لاحقًا على سماع الصوت، فإن التعبير عن المفهوم بألفاظ اللغة يكون لاحقًا على الفهم.
وبالطبع، فإن كون وضع الألفاظ يأتي لاحقًا لسماع النبي لصوت الصلصلة وفهمه، إنما يعني
أن النبي هو الذي يضع الألفاظ الدالة على ما فهمه من هذا الصوت.
ويبدو أن هذا النوع من الوحي الذي يأتي كصلصلة الجرس لم يكن هو الأشد فحسب، بل كان
الأكثر وقوعًا أيضًا، حيث الملاحَظ أنه حين شاءت عائشة أن تعبِّر عما اختبرته من نوعي
الوحي اللذين تحدَّث عنهما النبي، فإنها اقتصرت على الإشارة إلى هذا النوع الذي يأتي
كصلصلة الجرس بالذات. فقد كان تعليقها على حديث الحارث بن هشام عن كيفية وقوع الوحي أنها
قالت: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصَّد
عرقًا.»
١٤١ وإذا كان اكتفاء عائشة بالإشارة إليه يحيل إلى غلبته، فإن ذلك يؤكد على أنَّ
الشطر الأكبر من الوحي كان من قبيل الاتصال غير اللغوي.
والمدهش أن أشعريًّا كبيرًا كالباقلاني راح يدلِّل — ومن القرآن — على أن الوحي يحيل
—
ولو في شطر منه على الأقل — إلى ضرب من الاتصال الذي لا يكون لغويًّا، «وقد بيَّن
«الله» تعالى ذلك بقوله في قصة زكريا عليه السلام:
آيَتُكَ أَلَّا
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا،
١٤٢ يعني ألَّا تُفهِم الكلام القائم بنفسك باللسان، وإنما أفهِمه بالرمز
والإشارة، ففعل كما أمره تعالى، فأخبر عنه فقال:
فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا،
١٤٣ فأفهَم «زكريا» أمر «الله له» الذي هو الأمر بالتسبيح القائم في نفسه
بالإشارة دون نطق اللسان».
١٤٤ وهكذا، فإن القرآن يحيل إلى معنى للوحي لا يتحقق بالاتصال اللغوي، أو
بالنطق باللسان على قول الباقلاني. وبالطبع، فإن الألفاظ التي يعبِّر بها مَنْ يتلقى
هذا
الوحي عما قام في نفسه من معنى هذا الوحي تكون من إنشائه، وبما يؤكد على الحضور
الإنساني في لغة القرآن، والوحي عمومًا.
وغني عن البيان أن التأكيد على الأصل الإنساني للغة القرآن لا يتعلق أبدًا بالقصد
إلى
فتح الباب أمام التلاعب اللغوي بألفاظه، بقدر ما يتعلق بالقصد إلى استعادة الروح التي
يكشف عنها اتساع
القرآن، أثناء التنزيل، لشروط الواقع اللغوي الذي عرفه العرب آنذاك، وعلى النحو الذي
يلزم معه الانتقال من حضور الإنسان في التركيب اللغوي للقرآن أثناء «التنزيل»، إلى وجوب
حضوره في تركيب معنى القرآن عند القراءة وإنتاج «التأويل». وبالطبع، فإن ذلك هو ما
سينقل القرآن إلى أن يصبح موضوعًا لفعلٍ معرفي (هو
القراءة) بدلًا من حضوره الراهن — في وعي المسلمين — كموضوع لفعل صوتي (هو
التلاوة).
عن القرآن وأهل القراءة وإنتاج الدلالة
لعلَّ قيمة ما يبدو من دخول الإنسان في التركيب البنائي
(structural) واللغوي للقرآن، تتمثَّل — وبالأساس —
في ما يتيحه ذلك من ذات الدخول للإنسان في فعل القراءة وإنتاج الدلالة، على النحو الذي
يفتح الباب أمام زحزحة كل ما تجري نسبته إلى القرآن — في السياق الراهن — من قواعد
الضبط السياسي والاجتماعي التي يتم اعتبارها — بسبب هذه النسبة بالذات — ذات دلالة
نهائية ومطلقة.
فإذا كانت الارتباكات الحاصلة في المشهد العربي المسيطر، في ما يقال إنها دول الربيع
العربي، ترتبط بتصاعد وتيرة استدعاء الدين ليلعب الدور الأكثر حسمًا في المجال العام،
فإن التأكيد على اتساع لغة القرآن لضربٍ من الحضور الإنساني الفاعل يصبح أمرًا غاية في
الجوهرية بسبب ما يتيحه هذا التأكيد من الكشف عن وجوب دخول الإنسان، بالتالي، في إنتاج
الدلالة والمعنى. وبالطبع، فإن ذلك لا بدَّ أن يترتب عليه وجوب دخول «الإنسان» في بناء
ما تجري نسبته إلى القرآن من القواعد والأحكام التي يسعى دعاة الإسلام السياسي للسيطرة
بها على المجال العام، وأعني من حيث يجري تثبيت الواحدة من تلك القواعد بما هي محض
تعبير عن دلالة نهائية ومطلقة للقرآن.
ومن هنا فإنه إذا كانت الآلية التي يشتغل بها، صراحة، خطاب تديين السياسة — الذي
يتعالى مدُّه في عالم ما بعد الثورات العربية — تتمثَّل فيما يقوم به المشتغلون، في حقل
هذا الخطاب، من استدعاء ما ينسبونه إلى الدين من القواعد والمحددات، لتقييد مجال
الممارسة السياسية فيها، فإن ما يبدو من الفاعلية شبه المطلقة لهذه القواعد والمحددات
بسبب رسوخها في المخزون الحيِّ الغائر في الذاكرة الجمعية للجمهور الذي يتعامل معها —
تبعًا لذلك — بما هي من المسلمات غير القابلة للسؤال، لا يلغي ما يعرفه المشتغلون في
مجال الدرس الإسلامي (على النحو الاستقصائي العلمي، وليس الإنشائي الوعظي) من أن الكثير
من هذه القواعد المنسوبة إلى الدين (وخصوصًا في مجالي الممارسة السياسية والاجتماعية
بالذات) هي محض تحديدات فرضتها مقتضيات الضبط السياسي والاجتماعي، ثم راح يجري إخفاؤها
وراء قداسة الدين لإكسابها الديمومة والرسوخ. ومن حسن الحظ، أن ثمة من الفقهاء الكبار
من أدخل تلك القواعد الخاصة بالمعاملات السياسية والاجتماعية في باب المصالح التي يقوم
أصلها في العقل.
١٤٥
ولعلَّ ذلك يستلزم طريقة في التعامل مع مثل هذه القواعد، على النحو الذي يفتح الباب
أمام تحرير مجال الممارسة، على العموم، من سطوتها. وللمفارقة، فإن ذلك لن يكون ممكنًا
إلا عبر تحرير الدين من قبضتها أولًا، وذلك من حيث يجري توظيفه كقناع لإضفاء
القداسة على ما ليس منه في الحقيقة. ولعلَّه ليس من سبيل إلى ذلك كله إلا عبر السعي
إلى نزع القشور والرقائق الدينية — والقرآنية بالذات — التي تحيط بالنواة الصلبة
للقاعدة موضوع التحليل، على نحوٍ تنكشف معه طبيعتها المتخفية، مع ما يصاحب ذلك من بيان
المراوغات التي أمكن عبرها مراكمة تلك الرقائق الدينية والقرآنية التي استحالت إلى
أقنعة كثيفة تتوارى خلفها الطبيعة السياسية أو الاجتماعية للقاعدة. ولأن نقطة البدء في
مسار مراكمة تلك الرقائق الدينية حول هذه القواعد ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية،
تتبدَّى في سعي المشتغل تحت مظلة خطاب الإطلاقية المهيمن إلى التأسيس النصي لتلك القواعد
من القرآن، فإنه يلزم التنويه بأن هذا الفعل التأسيسي ينطوي على ضروب من التوجيه (عبر
الإضمار والإظهار والإنطاق والإسكات للقرآن) على النحو الذي ينتهي إلى تثبيت القاعدة
المراد ترسيخها بوصفها دينًا يكون مطلوبًا من الناس أن يتعبَّدوا به الله، وبما يعنيه
ذلك
من أن هذا التثبيت لا يكون فعلًا للقرآن، بل للقراءة.
وكمثالٍ لما يجري تداوله من هذه القواعد في السياق السياسي الراهن، فإنه يمكن الإشارة
إلى القاعدة المستقرة الخاصة بعدم جواز ولاية النساء وغير المسلمين التي يكشف التحليل
عن مراوغات توجيه القرآن باتجاه تثبيتها، كقاعدة تعمل على نحوٍ مطلقٍ، وبصرف النظر عن
تحديدات السياق وشروطه. وهكذا، فإنه وعلى الرغم من أن الإنسانية انتقلت من سياق كان فيه
الجنس أو الدين هو الأصل المحدِّد لهوية الفرد والجماعة (وبما يترتب على هذا التحديد
من
إخلاء المركز لصاحب الجنس أو الدين/السيد، وإقصاء ما دونهما إلى الهامش)، إلى سياق
التحديد السياسي لتلك الهوية (بما يفرضه هذا التحديد من الحقوق والواجبات المتساوية)،
فإن فاعلية تلك القاعدة تظل مستعصية على التحدي حتى الآن.
١٤٦
ولسوء الحظ فإنه يجري تشغيل مثل هذه القواعد على نحو مطلق، وبصرف النظر عن شروط
السياق وتحديداته، وبما يعنيه ذلك من أن هذا الاشتغال يتحقق عبر ضروب من ضغوط الإكراه
والإسكات التي مورست على القرآن بنعومة، ولكن بلا هوادة. وعلى الرغم من أن هذه الضغوط
ذات أصل سياسي واجتماعي بالأساس، فإنها راحت تحقق نفسها في شكل مبادئ وقواعد للفهم
والترجيح التي قيل باستحالة أي مقاربة للقرآن إلا من خلالها، وفقط. فإن المضمون
الاجتماعي والسياسي يسعى، على الدوام، إلى إخفاء تحيزاته الذاتية الغليظة وراء رهافة
التناول المعرفي وما يخايل به من الصلابة والموضوعية. وهكذا، فإنه إذا كان القصد هو
تثبيت واقع سياسي واجتماعي بعينه، فإن هذا القصد لا يحقق نفسه مباشرة، بل إنه يتخفى
وراء مقاربة معرفية للقرآن تقوم على إهدار السياق بما هو السبيل الوحيد لإطلاق الدلالة
وتثبيتها على نحو نهائي. وضمن هذه المقاربة المعرفية، فإن هذا الإهدار للسياق سوف يؤسس
نفسه على قواعد ومفاهيم من قبيل الإجماع والناسخ والمنسوخ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب، ولا اجتهاد مع النص وغيرها.
وبالرغم من عدم إمكان المجادلة في أن هذه القواعد والمفاهيم، المشار إليها وغيرها،
إنما ترتبط بالأفق العقلي والمعرفي والسياسي والاجتماعي الذي تبلور فيه وعي مبدعيها،
فإنها استحالت إلى ما يشبه الأقانيم المقدسة التي يستحيل إلا التسليم بها، وممارسة
الفهم من خلالها وحدها، وعدم التعرض لها بالمساءلة والمحاورة. وبالطبع، فإن ترسيخ هذه
القواعد على هذا النحو الذي ترتقي فيه إلى مقام المقدسات إنما يأتي من اشتغالها تحت
مظلة مفهوم الدلالة المطلقة للقرآن الذي يعتمد — بدوره — على تصور أن لغته تكون مقدسة
ومطلقة بسبب إلهية مصدرها. فإن اللغة الإلهية المطلقة لا بدَّ أن تكون حاملة لدلالة لا
نهائية مطلقة بالمثل، حيث إن منطوقات الله هي انعكاس مطابق لمراداته التي لا يمكن أن
تكون عرضة للتبدل أو التغيير،
١٤٧ وبما يعنيه ذلك من المطابقة الكاملة بين الدال (اللغوي) والمدلول
(التصوري). ذلك يعني أن القواعد التي وضعها العلماء (من أصوليين ومتكلمين وفقهاء) لفهم
القرآن وقراءته إنما تعمل تحت مظلة القاعدة الأعم
القاضية بإطلاقية دلالته، والتي تسند نفسها إلى تصور اللغة على أنها ذات أصل إلهي مطلق
بدورها. ويدفع ذلك إلى أن تصور الأصل الإلهي للغة القرآن، وبما يترتب عليه من تثبيت
دلالته ونهائيتها، إنما يرتبط بما يئول إليه ذلك التثبيت من توظيفه في المجالين
الاجتماعي والسياسي. وإذن، فإنه لولا رسوخ مفهوم الدلالة المطلقة للقرآن الذي يستند —
وبالأساس — على الاعتقاد في إلهية لغته، لما كان لتلك القواعد والمفاهيم أن تنتج آثارها
الواقعية في المجالين السياسي والاجتماعي.
ولعلَّه يلزم التنويه هنا، بأن هذه القواعد المعرفية اكتسبت هذا الوضع الذي تعالى
بها
إلى خارج حدود المساءلة، في عصور الجمود والعجز عن الإبداع، حيث تكشف القرون الأولى من
تاريخ الإسلام عن نوعٍ من الحوار المنفتح — الذي تحفظه بطون دواوين التفسير — مع تلك
القواعد والمفاهيم. ومن جهة أخرى، فإنه يجب التأكيد، بالمثل، على أن هذا التوجيه للقرآن
إلى إنتاج دلالة أُحادية مطلقة — عبر وساطة تلك القواعد والمفاهيم التي أحالتها عصور
الجمود المتأخرة إلى أقانيم مقدسة — إنما يرتبط بتصوره كسلطة يُراد توظيفها من أجل تسييد
وتثبيت موقف سياسي واجتماعي بعينه. فإذا كان الإطلاق والأحادية يشكِّلان جوهر السلطة
في
الإسلام، منذ وقت مبكر نسبيًّا، وذلك من حيث ما تكشف عنه كتب الفقه السياسي من انبناء
صورة السلطان بالتمثيل على صورة الله، «حيث الحضرة الإلهية لا تُفهَم — على قول الغزالي
—
إلا بالتمثيل على الحضرة السلطانية»
١٤٨ فإن ذات الإطلاق والأحادية كانا لا بدَّ أن يحددا عالم الدلالة في القرآن.
ويرتبط ذلك بأن حراسة سلطة ذات طابع أحادي وإطلاقي (في المجالين الاجتماعي والسياسي)،
سوف تكون أمرًا ميسورًا إذا ما تم تقييد الدلالة في القرآن لتصبح أحادية ونهائية
بدورها؛ إذ يهدد عالم الدلالات المفتوحة المتنوعة أحادية السلطة وإطلاقيتها، بما يحيل
إليه من إمكانات تعدد الأفهام وتباين الرؤى.
وعلى النقيض من ذلك، فإن التعامل مع القرآن باعتباره فضاء مفتوحًا لفيوض من الدلالات
المتنوعة (أو حتى المتباينة)، إنما يرتبط بتصوره كساحة رحيبة يتواصل فوقها البشر في
سعيهم إلى بناء عالم يتسع لهم جميعًا، من دون إزاحة أو إقصاء بسبب الاختلاف في الدين
أو
الجنس أو العرق. وإذن، فإنه الصراع، في الجوهر، بين القرآن كقناعٍ لسلطة «أحادية ومطلقة»
تسحق الناس جميعًا (مسلمين وغير مسلمين)، وبينه كفضاءٍ مفتوح يؤكدون — في رحابه — التنوع
والتباين الذي أراده الله لهم.
ولسوء الحظ كل هذه الإكراهات، السابق بيانها، اشتغلت جميعًا — وعلى نحو مثالي وصريح
—
في سياق توجيه القرآن إلى النطق بقاعدة عدم جواز الولاية السياسية للنساء وغير
المسلمين. فإن القرآن لا ينطق بهذه القاعدة، أو غيرها على نحو مباشر، بل يجري إنطاقه
من
خلال قصدية إنسانية تهيمن عليه وتجعله موضوعًا لاشتغالها، وتجهد في السعي إلى إخفاء
نفسها لكي تظل المخايلة قائمة بأنه لا يجري استنطاق القرآن، بل إنه ينطق بذاته.
وبالطبع، هذا الإخفاء لا يكون مباشرًا، بل يتحقق، هو نفسه، من خلال الاحتجاب وراء ما
يبدو أنه مفاهيم محايدة، أو حتى موضوعية. وهكذا، فإن مفاهيم وقواعد تتعلق بالنسخ
والإجماع والقراءة والسياق والسنَّة والآثار واللغة والشرعي والعرفي وغيرها،
١٤٩ هي أدنى ما تكون إلى مجموعة أدوات تستثمرها مقاصد إنسانية بعينها في إنطاق
القرآن بما يئول إلى ترسيخ هيمنتها.
وهنا فإنه إذا كان قد بدا أن الخطوة الحاسمة في جعل قاعدة ما جزءًا من «الدين» تتمثَّل
في التماس أساس لها من القرآن بالذات، فإنه لا بدَّ لفعل الالتماس هذا (وهو فعل معرفي
بالأساس) أن يكون موضوعًا لتحليلٍ يكشف عما فيه من «قراءة» تراوِغ بأن تجعل من نفسها
«قرآنًا»، وليس قراءة. ومن هنا وجوب الانشغال بالكشف عن مجمل الآليات التي تهيمن على
قراءة
القرآن، على النحو الذي يؤدي إلى إنتاج دلالة
بعينها لخدمة موقف اجتماعي وسياسي معين. وبالطبع، ذلك يرتبط بالقصد إلى تحرير القرآن
من
المسئولية عن قولٍ بعينه في مسألة محددة، لتوضع (هذه المسئولية) على كاهل آلية القراءة
المهيمنة على التعامل معه. فمنذ اللحظة التي يصبح فيها القرآن موضوعًا لفعل القراءة
(الإنساني بطبيعته)، فإنه ليس لأحد
١٥٠ أن يقطع بأن القرآن «يقول كذا» في مسألة ما، بل يتوجب عليه تقرير أن فعله
القرائي يوجه القرآن إلى هذا القول بالذات في تلك المسألة بعينها. وحين يدرك المرء أن
القرآن أصبح من لحظة تنزيله موضوعًا للقراءة، فإنه يلزم التأكيد على أن الكثير مما يُنسَب
إلى القرآن قوله، إنما هو نتاج فعل قراءته بالأحرى. وهنا فإنه إذا كان فعل القراءة هو
فعل بشري، بطبيعته (وبما يعنيه ذلك من أن ما ستجري نسبته إليه سوف يكون بشريًّا بدوره)،
فإن نسبة القول إلى القرآن (ذي المصدر الإلهي) في المقابل، إنما تقصد إلى جعله «قولًا
إلهيًّا»، وعلى النحو الذي تستحيل معه زحزحة الدلالة المراد تثبيتها به. وهكذا، يفعل
كل
من يقصدون إلى تثبيت موقف ما (اجتماعي أو سياسي بالذات)، حين يجعلون منه موضوعًا لقول
«إلهي» أورده القرآن، متجاهلين أن ما يفعلونه هو فعل قراءة، حتى ولو اكتفوا بمجرد
الاقتباس من القرآن.
ولأن ثمة من قد يربط فعل القراءة بمحض أعمال التفسير والتأويل فحسب، فإنه يلزم
التأكيد على أنه يتجاوز مجرد ذلك، وإلى حدِّ أن مجرد استدعاء «آية قرآنية» للقطع بها
في
مسألة ما — ومن دون أن يكون هذا الاستدعاء مصحوبًا بأي شروح أو تفسيرات — يبقى هو أيضًا
فعل قراءة. وذلك من حيث يعرف من يستدعي «آية» معينة من القرآن في موقف بعينه، أن هذه
الآية، واستنادًا إلى نوع المعرفة المستقرة بين الجمهور المتلقي، سوف تنتج الدلالة التي
يقصد إلى تثبيتها بالذات.
١٥١ ذلك يعني أن إنتاج دلالة أي «منطوق قرآني» لا تنفصل عن نوع المعرفة
المتداوَلة حوله بين الجمهور مسبقًا، وهي معرفة إنسانية بطبيعتها، فضلًا عن أنها (أي
هذه
المعرفة المسبقة) إنما تكون، بدورها، نتاجًا لفعل قراءة. وهكذا، فإن المرء يكون ممارسًا
للقراءة، حتى وهو لا يفعل إلا أن يستدعي الآية بمجردها من القرآن، ما دام أن ما أنتجته
القراءات السابقة، سوف يلعب الدور الحاسم في إنتاج دلالتها عنده.
وعلى العموم، فإن القرآن، وبمجرد دخوله في دائرة الاستخدام الإنساني على أي نحوٍ من
الأنحاء (وأعني كموضوع للتفسير أو الاقتباس)، يصبح موضوعًا لفعل قراءة، وبما لا بدَّ
أن
يتبع ذلك من أن كل ما ينتج عن هذا الفعل هو من قبيل النتاج البشري. فهو يدخل، بالقراءة،
في بناء وإنتاج تراكيب تنتمي لعالم البشر، ولا يمكن الادعاء، أبدًا، بأن هذه التراكيب
ذات أصل إلهي. ولعلَّ الوعي بالطبيعة البشرية لتلك التراكيب، يظهر في حرص علماء
المسلمين على إنهاء قولهم في مسائل الدين، بتعبير «والله أعلم»، إقرارًا منهم بالمسافة
الفاصلة بين ما يقدمون من «اجتهادات» محدودة، وبين «علم الله» غير المحدود. ذلك يعني
أن
أحدًا لا يمكنه الادعاء بأن ما يقوله، يتطابق مع قول الله أو علمه، حتى ولو كان لا يفعل
إلا أن يردد «آيات» القرآن، وأعني أن قوله سيبقى مجرد تركيب بشري لا يطابق مراد الله
أو علمه أبدًا.
ولعلَّ ما يدعم فكرة أن ما يقوله الناس، منسوبًا إلى القرآن، هو قول «القراءة» (أي
فعل قراءتهم)، وليس قول «القرآن»، هو ما يكاد يبين للكافة من أنه ليس للقرآن قول
واحد في المسألة الواحدة، بل إن له في المسألة الواحدة أقوالًا تتنوع، بحسب تنوع
السياق الذي يجري طرحها داخله. وغني عن البيان أنه حين يحتفظ القرآن، في بنائه، بتلك
الأقوال المتنوعة حول تلك المسألة بعينها، فإن رفع دلالة قول منها، وتثبيت التي تخص
القول الآخر، لا بدَّ أن يكون مردودًا إلى فعل «القراءة»، وليس إلى «القرآن». وهكذا،
مثلًا، فإنه حين يشتمل القرآن على قولين مختلفين عن غير المسلمين (وأعني النصارى
بالذات)، أحدهما يحمل دلالة إيجابية، كقوله تعالى:
وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا
نَصَارَى،
١٥٢ والآخر ينطوي على دلالة سلبية، كقوله تعالى:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ،
١٥٣ فإن تثبيت دلالة أحد القولين على أنها موقف القرآن «المطلق والنهائي» من
النصارى، لا يكون قولًا «قرآنيًّا»، بل فعلًا «قرائيًّا». فإن القرآن يكون حاملًا
للدلالتين «الإيجابية والسلبية» معًا، وفعل القراءة هو الذي يتجه إلى تثبيت إحداهما على
حساب الأخرى.
وبالطبع، وجهة الفعل القرائي تتحدد بنوع العلاقة التي تربط المسلمين بالنصارى في وقت
تحقُّقه، أي بما يقع خارج القرآن، وبمعنى أنه إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين
والنصارى هي علاقة عداء وخصام، فإن فعل القراءة سيقصد إلى تثبيت دلالة القول القرآني
ذي
الطبيعة السلبية، باعتبار أنها المحددة لموقف القرآن النهائي والمطلق من النصارى. وأما
إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصارى علاقة مودة وسلام، فإن فعل القراءة
سيمضي — على العكس — في اتجاه تثبيت دلالة القول القرآني ذي الطبيعة الإيجابية، بما هي
الحامل لموقفٍ مطلق من نوعٍ آخر من النصارى. لكنه يبقى لزوم الوعي بالكيفية التي يجري
بها هذا التوجيه للدلالة، وهو الوعي الذي يتأسس، لا محالة، على اعتبار الحضور الإنساني
في بناء لغة القرآن، وهو الحضور الذي يبدو أنه قد كان مطلبًا نبويًّا استجاب له
الله.
وإذا كانت ممارسة الجيل الأول من متلقي القرآن (الصحابة) هي الأصل في هذا المطلب
النبوي الذي استجاب له الله بترخيص الحضور الفاعل للإنسان في بناء لغة القرآن، وبما
ترتب على ذلك من تثبيت ذات الحضور في عملية إنتاج دلالته، فإن ذلك ما راح، ولسوء الحظ
يخفت حضوره، وإلى حدِّ التلاشي الكامل، في وعي الأجيال اللاحقة من المسلمين. ولقد راح
هذا الخفوت يتحقق من خلال ما جرى القطع به من أنه «حين تعود الأمة بذاكرتها إلى العصر
النبوي الزاهر، فإن أحد المشاهد التي تظل ماثلة في وعيها: مشهد الصحابة رضوان الله
عليهم، وهم يتلقَّون آيات القرآن الكريم من فم الرسول الكريم
ﷺ، ثم يسارعون إلى
إنفاذها وتطبيقها دون إبطاء أو تسويف. وما كان هذا الإنفاذ والتطبيق ليتم على وجهه
إلا إذا كان لتلك الآيات الكريمات في أذهانهم معانٍ محددة ودلالات منضبطة، ومفاهيم
مستقرة، ثم تتعاقب السنون فإذا بعلماء الأجيال التالية — من الأصوليين والمتكلمين
والفقهاء وغيرهم — وهم عاكفون على تلك المعاني والدلالات والمفاهيم يؤصلون منها الأصول،
ويؤسسون لها الأسس لكي تكون سياجًا منيعًا قوامه العلم الرصين والمعرفة الدقيقة التي
تصون قدسية القرآن من عبث العابثين، وجرأة القائلين على الله تعالى بغير علمٍ. وهكذا،
انتهت الدلالات والمضامين القرآنية إلى وعي الأمة ثابتة راسخة مستقرة».
١٥٤ ولعلَّ قيمة ما يطرحه هذا القول تتمثَّل في تعبيره الدقيق عن التصور الذي
استقر بين جمهور المسلمين للكيفية التي تعامل بها مع القرآن الجيل الأول من المسلمين
الذين تلقوه من النبي الكريم مباشرة.
١٥٥
يقوم التصور، إذن، على أن الصحابة قد تلقوا القرآن، وفهموا معانيه المحددة ودلالته
المنضبطة، ليطبقوها من دون إبطاء أو تسويف، ثم تلقَّف علماء الأجيال التالية تلك المعاني
المحددة والدلالات المنضبطة، ليؤصلوا منها الأصول ويجعلوا منها سياجًا منيعًا يصون
قدسية القرآن، لكي تنتهي تلك المعاني والدلالات إلى وعي الأمة ثابتة راسخة مستقرة. ورغم
بساطة هذا التصور ومثاليته التي أتاحت له سهولة الاستقرار والرسوخ، فإن انشغاله بتثبيت
السلطة (سلطة الصحابة، ثم سلطة من تلقوا عنهم من علماء الأجيال اللاحقة إلى اليوم)،
يتجاوز انشغاله بالحقيقة التي تخالف ما يبغي تثبيته.
إذ الحق أن نظرة مدقِّقة على ما يعرضه هذا التصور تكشف — أو تكاد — عن أن ما يسكنه
من
بلاغة الكلمات يفوق بكثير ما ينطوي عليه من الوقائع والحقائق. ولربما كانت الحقيقة
الظاهرة التي يعرض لها هذا التصور، هي ما أورده صاحبه من أن علماء الأجيال التالية من
الأصوليين وغيرهم، مارسوا ضروبًا من التقييد والتضييق (عبر ما وضعوه من قواعد حاكمة
للقراءة) التي انتهى معها التعدد في مجالي القراءة والمعنى الذي انطوت عليه تجربة
الصحابة مع القرآن، إلى أحادية صارمة للقراءة والمعنى. وهكذا، فإنه إذا كان منطوق
التصور يحدد جوهر عمل هؤلاء العلماء (من الأصوليين والمتكلمين والفقهاء وغيرهم) في أنهم
قد صانوا ما قيل إنها «المعاني المحددة والدلالات المنضبطة والمفاهيم المستقرة» التي
كانت للقرآن في ذهن الصحابة، وأوصلوها إلى وعي الأمة لتبقى ثابتة وراسخة فيه، فإن ما
جرى فعلًا يتمثل في أن هؤلاء العلماء وضعوا الأسوجة التي أحاطت بالقرآن وحددت كيفية
مقاربته، وعلى النحو الذي يتيسر معه إنطاقه بالدلالة التي يُراد منه أن ينطق بها. ويرتبط
ذلك بأن قراءة مدققة لدواوين التفسير الكبرى — التي تكاد أن تكون موسوعات جامعة لآراء
وأفكار أجيال المسلمين الأولى حول القرآن — تكشف عن غلبة التباين بين الصحابة في فهم
القرآن وإنتاج دلالته، وبما يعنيه ذلك من أنه لم تكن هناك دلالة واحدة مُجمَع عليها
بينهم. ولعلَّ ذلك يعني أن هؤلاء العلماء انتقلوا بالمسلمين — من خلال ما مارسوه من
اختيارات أو حتى انحيازات لقراءات وآراء بعينها، وتشويه وإزاحة ما يختلف معها — من سعة
«التعدد» إلى ضيق «الأحادية»، الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية الراهنة على كافة
الأصعدة تقريبًا.
وهكذا، فإن الأمر — بخصوص هذا التصور — لا يتجاوز حدود السعي إلى تثبيت ما ينطوي
عليه
من أحادية القراءة والمعنى فيما يخص القرآن، ولو كان ذلك عبر طمس حقيقة تجربة «الصحابة»
مع القرآن، والتي تكشف ما تورده عنها المصادر المعتمدة من جانب أهل السنَّة عما تنطوي
عليه — وبغزارة لافتة — من ثراء يأتي من أنهم كانوا بشرًا، لم يختلفوا في فهمهم للقرآن
فحسب، بل اختلفوا في قراءتهم له، بحسب ما يقوم بين قبائلهم من اختلاف اللسان، ولو كان
ضئيلًا، بل إنهم قد تلكئوا — بحسب المصادر نفسها — في إنفاذ بعض ما كان يشق عليهم بسبب
تعارضه مع تقاليدهم الموروثة. ومن هنا ما أورده الطبري في تفسيره من أنه حين نزلت آية
المواريث — في سورة النساء — التي جعلت للأنثى وللطفل نصيبًا من المال، حرمتهم منه
التقاليد المتوارثة (لأنهم لا يقومون بالغزو وهو أصل الثروة في المجتمعات العربية
القديمة)، فإن ذلك كان شاقًّا على الناس حتى لقد قالوا — والرواية للطبري — «تعطى
المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد
يقاتل القوم ويحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعلَّ رسول الله
ﷺ ينساه أو
نقول له فيغيره.»
١٥٦ ورغم أن السماء لم تغير حكمها، وأن الناس قالوا حينئذٍ «إنه لواجب لا بدَّ
منه»، فإنه يبقى أنهم كانوا بشرًا، وأن بشريتهم جعلتهم يتلكئون في إنفاذ أمر السماء لما
فيه من المشقة عليهم، وإلى حدِّ أنهم تمنَّوا أن ينساه النبي أو تغيره السماء.
وأما أنهم كانوا بشرًا تعددت قراءاتهم وأفهامهم للقرآن، فإن ذلك ما تفيض بتأكيده
موسوعات التفسير ومدونات الحديث، ومن ذلك ما أورده ابن حجر العسقلاني ما يمكن اعتباره
دليلًا على حضور «التعدد القرائي» للقرآن بين الصحابة، وذلك عند شرحه لحديث «أُنزل
القرآن على سبعة أحرف»، يروي العسقلاني عن البخاري حديثه عن عمر بن الخطاب الذي يقول
فيه: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله
ﷺ، فاستمعت
لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله
ﷺ، فكدت أُساوره
(أي أراجعه) في الصلاة، فتصبَّرت حتى سلَّم، فلببته (أي أمسكه من رقبته) بردائه، فقلت:
من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، فقال: أقرأنيها رسول الله
ﷺ، فقلت: كذبت،
فإن رسول الله
ﷺ أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله
ﷺ، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله
ﷺ: أرسله (أي اتركه)، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال
رسول الله
ﷺ: كذلك أُنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني،
فقال رسول الله
ﷺ: كذلك أُنزلت. إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما
تيسَّر منه.»
١٥٧ وتفسر الرواية هذا الترخيص بالتعدد في قراءة القرآن، بأنه كان تيسيرًا من
الله على الأمة، استجابة لطلب النبي الكريم. فقد حدث حين أتاه جبريل يقول: «إن الله
يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف»، أن قال النبي: «فوددت إليه أن هوِّن على أمتي،
إن
أمتي لا تطيق ذلك.» ورغم أن الرواية تأبى إلا أن ترد هذا المطلب النبوي إلى نصيحة أحد
الملائكة له بذلك، فإنه يبقى أن استجابة الله لهذا المطلب قد كانت حاسمة، ومن دون
إبطاء.
وبالطبع، كان لا بد أن ينتهي هذا التعدد القرائي إلى تعدد المعنى؛ لأن الترادف في
اللغة ليس تامًّا أو كاملًا أبدًا.
١٥٨ إن ذلك ما تكشف عنه القراءتان اللتان تحفظهما المصادر لآية النسخ من سورة البقرة،
١٥٩ فثمة القراءة لها على رسم المصحف «ما ننسخ من آية أو ننسها»، والتي تحمل
معنى المحو والنسيان، وثمة أيضًا القراءة التي أوردتها كافة موسوعات التفسير والحديث
«ما ننسخ من آية أو ننسأها»، والتي تحمل معنى الإبقاء مع التأخير والإرجاء، وهما معنيان
لا يمكن أن يتطابقا أبدًا. وهكذا، فإن تعدد القراءة إنما يفتح الباب أمام تعدد المعنى،
تيسيرًا على العباد من جهة، وتفاعلًا مع الواقع من جهة أخرى.
وهكذا، يكون النبي الكريم طلب رخصة التعدد في القراءة تيسيرًا على العباد، واستجاب
له
الله بجلاله، ومارس الصحابة هذا التعدد (في القراءة وإنتاج المعنى) فعليًّا، ثم جاء
العلماء لأسباب بعينها وقيَّدوا هذا التعدد، وتابعهم الناس على الأحادية في القراءة
والمعنى. وهنا فإنه يلزم التأكيد على أن من يدافع عن الحرف الواحد (في القراءة) والمعنى
الواحد (في التفسير)، إنما يدعم — ولو من دون أن يقصد — حكم الواحد (في السياسة)، وسلطة
الأب (في المجتمع). وإذ يبدو، هكذا، أن الأحادية السياسية والاجتماعية إنما تجد ما يؤسِّس
لحضورها الراسخ في الأحادية المعرفية، فإن المفارقة تتجلى في سعي الكثيرين إلى بناء
التعددية السياسية على سطح بنية ذهنية لا تعرف إلا هذه الأحادية في القراءة والمعنى،
بل الأمر يقتضي أن يكون بناء التعددية في «الواقع» مصحوبًا — إذا لم يكن مسبوقًا —
ببنائها في «العقل» في الآن ذاته.
وبالرغم من ذلك، يلزم التأكيد على أن الأمر لا يتعلق فقط بضرورة السعي إلى فتح الباب
أمام التعددية في مجالي القراءة والمعنى (وحتى العقل)، لما يؤدي إليه ذلك من ترسيخ
حضورها في مجالي السياسة والمجتمع، بل ولما يؤدي إليه — وهو الأهم — من تمهيد السبيل
أمام قول جديد في حقل الخطاب الإسلامي يخرج به من دائرة الجمود والتكرار التي تردَّى
إليها على مدى القرون.
وهكذا، فإن القرآن، ومعه تجربة الجيل الأول من متلقيه، يفتحان أبوابًا واسعة للرحمة،
تيسِّر للناس سبل العيش المشترك في سلام ووئام، وذلك من خلال ما ينطوي عليه من ثراء
الدلالات، على النحو الذي أتاح لهذا الجيل الأول نوعًا من الممارسة المفتوحة التي تعددت
فيها الأفهام وتنوعت الرؤى. لكنه يبدو — ولسوء الحظ — أن الناس يصرون على إغلاق هذه
الأبواب عبر ضروب من التفكير والفهم الأحادي المغلق التي تعكس ما ينطوي عليه وجودهم من
أشكال التحيزات والتعصبات والتمايزات والاستعلاءات وغيرها. فطرائق الناس في التفكير لا
تنفصل عن طرائقهم في العيش أبدًا، وبمعنى أن المجتمعات التي تصهر كل أفرادها في تجربة
حياة مفتوحة تخلو من كل أشكال التمييز والتعصب، تسود فيها طرائق في التفكير أكثر
انفتاحًا، من تلك التي تمايز بين أفرادها على أساس الدين أو المذهب أو الجنس. ولقد كان
ذلك ما عرفته تجربة الإسلام في بعض لحظاتها فعلًا، وعلى النحو الذي عرفت فيه نمطًا من
التفكير المفتوح، كالذي ازدانت به تجربة الأندلس مثلًا (وهي التجربة التي لا تزال تأسر
خيال العديدين من الذين يتطلعون لمستقبل أفضل لعالم البشر). وإذا كان من المحتم أن ينشأ
عن ضروب التفكير المشبَّعة بالتمايزات والتحيزات، قواعد ومبادئ معينة للضبط السياسي
والاجتماعي، فإن وجه الإشكال ينشأ من تصور الناس أن هذه القواعد والمبادئ المتحيزة إنما
تصدر عن القرآن الكريم ذاته (وبما يعنيه ذلك من تأكيد أصلها الإلهي)، وليس عن طريقتهم
في فهمه والتفكير فيه، التي لا تنفصل، بدورها، عن الكيفية التي يكون عليها حالهم في
الواقع. ولو أن الناس يتعاملون مع هذه القواعد على أنها من إنتاج فهمهم الخاص (وبما
يؤكد على محدوديتها)، لما كان هناك أي إشكال على الإطلاق؛ إذ يؤدي تصور أنها تصدر عن
القرآن الكريم إلى جعلها من مصدر إلهي (وبما يعنيه ذلك من تحويلها إلى مطلقات نهائية)،
وأما تصورها تصدر عن طريقة الناس في التفكير والفهم، فإنه يجعل منها تكوينًا ينتمي إلى
عالم البشر «وعلى نحو تقبل فيه التجاوز».
ولعلَّ ذلك يتفق مع ما مضى إليه أحد كبار فقهاء القرن السابع الهجري، الذي أدار
تفكيره كله حول مركزية «المصلحة» في بناء ما يتعلق بفقه المعاملات الإنسانية (في
مجالاتها السياسية والاجتماعية والإدارية والقضائية وغيرها)، وإلى الحدِّ الذي يقوم
فيه، ليس فقط بإخراج كل ما يتعلق بهذه المعاملات من مجال النصوص، بل وكذا تقديم المصلحة
على النص في حال تعارضهما. وهكذا، فإنه ينطلق من التمييز بين ما يسميه «العبادات
والمُقدَّرات» التي يكون التعويل فيها على «النصوص والإجماع» وبين «المعاملات والعادات»
التي تقوم على مبدأ «رعاية المصلحة» بالأساس. وإذ يجعل من هذا المبدأ الأصل الذي تقوم
عليه تلك المعاملات، فإنه يقطع بوجوب تقديم «رعاية المصلحة» على «النص والإجماع» في حال
تعلقهما بالمعاملات. وهو يقيم حجته على أنه «إن وافقها النص والإجماع وغيرها من أدلة
الشرع، فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وُفِّق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه (أي
النص
والإجماع)، وتقديمها (أي المصلحة) بطريق البيان.» ويؤسس الرجل هذا التقديم للمصلحة على
النص على الأولوية شبه المطلقة للمصلحة التي تجعلها تعلو على النص والإجماع. فإنه «مما
يدل على تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع على الوجه الذي ذكرناه وجوه: «أحدها»
أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح، فهي إذن محل وفاق. والإجماع محل الخلاف،
والتمسك بما اتفقوا عليه أولى من التمسك بما اختلفوا فيه، و«الوجه الثاني» أن النصوص
مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعًا، ورعاية المصلحة أمر مُتفق
«عليه» في نفسه، لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعًا، فكان اتباعه أولى، وقد
قال الله عز وجل:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا
تَفَرَّقُوا.
١٦٠ وهكذا، يبلغ الأمر بالطوفي إلى حدِّ قراءة «المصلحة» على أنها «حبل الله»
الذي يلزم الاعتصام به، بل يتعدى إلى اعتبارها الحجة والدليل الواضح الواجب اتِّباعه،
١٦١ وبما يعنيه ذلك من مطابقته بين المصلحة والعقل.
وبالطبع، هذه المطابقة هي الأصل فيما سيقرره الطوفي من أن العقل هو الوجه الذي تتقرر
منه المصالح في معاملات الناس. فقد مضى إلى «إنَّا اعتبرنا المصلحة في المعاملات
ونحوها، دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حقٌّ للشارع (الله) خاص به، ولا يمكن معرفة
حقِّه كمًّا وكيفًا، وزمانًا ومكانًا، إلا إذا امتثل «العبد» ما رسم له سيده، وفعل ما
يعلم أنه يرضيه. ولهذا لما تعبدت الفلاسفة «الله» بعقولهم، ورفضوا الشرائع أسخطوا الله
عز وجل، وضلُّوا وأضلُّوا. وهذا بخلاف حقوق المكلَّفين (المعاملات)، فإن أحكامها سياسية
وشرعية، وُضِعت لمصالحهم، وكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المعول، ولا يقال: إن الشرع
أعلم بمصالحهم، فلتؤخذ من أدلته، «لأن» هذا إنما يقال في العبادات التي تخفى مصالحها
عن
مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلَّفين في حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم
العادة والعقل.»
١٦٢ وبالطبع، ذلك يعني أن كل ما يتعلق بمعاملات الناس، من قواعد الضبط السياسي
والاجتماعي، هي مما يتقرر بالعقل بحسب دواعي المصلحة، وليست مما يتقرر بالنص أبدًا، بل
إنه، وحتى على فرض أن يكون للنص مدخل في تقرير تلك القواعد، فإن العقل يظل حاضرًا من
خلال ما يلعبه من دور جوهري في توجيه دلالة النص، أو حتى تعطيله.
١٦٣
ومن حسن الحظ، أن مسألة العلاقة مع غير المسلمين (النصارى مثلًا) مما يمكن أن تصلح
مثالًا لبيان إمكان تقديم رعاية المصلحة على النص بطريق التخصيص أو البيان. وضمن هذا
الإطار، فإن تعدد الدلالة في القرآن، بخصوص مسألة ما (كالعلاقة مع غير المسلمين مثلًا)،
إنما يفتح الباب أمام تخصيص كل واحدة من تلك الدلالات بالسياق الذي ظهرت داخله. وهكذا،
فإنه إذا كان القرآن ينطوي على دلالة النهي عن اتخاذ النصارى أولياء، فإنه ينطوي
بالمثل، ليس فقط على ما يسمح بجواز هذه الولاية، بل وعلى ما يقطع بحصولها فعلًا.
١٦٤ وغني عن البيان أن ورود القول في القرآن، بالنهي عن ولاية النصارى تارة،
وبالتنبيه إلى جوازها تارة أخرى، يرتبط بأن لكل من النهي والتجويز ما يبرره في اللحظة
التي ورد فيها، وبما يعنيه ذلك من أن القرآن لا يقدم، في الحالين، موقفًا مطلقًا ينتهي
فيه «النهي» إلى إلغاء «التجويز»، أو العكس، بل يقرر حكمًا مشروطًا بشروط الواقع الفعلي
القائم، وعلى النحو الذي يفتح الباب أمام إعمال ما يمكن القول إنه مبدأ «تخصيص الدلالة
بالسياق» الذي ترتبط به. وبمعنى أنه إذا استدعى الواقع الفعلي ضرورة النهي عن ولاية
النصارى (كما حدث فعلًا في لحظة كانت فيها علاقة المسلمين بهم غير مستقرة)، فليتقرر حكم
النهي، وإذا استدعى الواقع حكم جواز تلك الولاية (كما حدث في لحظة أخرى كانت فيها
العلاقة بين الطرفين مستقرة وودية) فليتقرر حكم تجويزها، فإنه ليس من حكم نهائي ومطلق
بخصوصها، بل الحكم يدور مع الواقع وجودًا وعدمًا.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان القدماء قصروا السياق الذي أجروا به تخصيص دلالة
القرآن على ما ينتمي إلى المجال اللغوي فحسب، فإنهم قد أهملوا — وعلى نحوٍ شبه كامل
تقريبًا — ما لعبه سياق الواقع من دورٍ في تحديد تلك الدلالة وتخصيصها. وللغرابة، إن
الصحابة كانوا هم الذين مارسوا هذا التحديد لدلالة القرآن بسياق الواقع، وهو ما تجلى
في
تعامل عمر بن الخطاب مع «المؤلفة قلوبهم»
١٦٥ الذين ورد القول بشأنهم في آية الصدقات.
١٦٦ فرغم ما جرى القطع به من أن الآية «محكمة لا نعلم لها ناسخًا من كتاب ولا سُنَّة»،
١٦٧ فإن عمر بن الخطاب خصَّص دلالتها وحدَّدها بسياق الواقع. وهكذا، فإن إحكام
الآية، وعدم حصول نسخها، وبما يعنيه ذلك من استحالة تخصيص دلالتها من خلال السياق
اللغوي الذي جعل بعضهم يقطع بأن «الأمر (الذي تقرره تلك الآية) ماض أبدًا»، لم يحل دون
تخصيصها بما لا يمكن التماسه إلا من خارج اللغة. تقول الرواية: «جاء عيينة بن حصن
والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضًا سبخة، ليس فيها
كلأ ولا منعة، فإن رأيت أن تقطعناها، لعلَّنا نزرعها ونحرثها، فأقطعهما إياها أبو
بكر، وكتب لهما بذلك كتابًا، فقال طلحة بن عبيد الله أو غيره لعيينة بن حصن: إنَّا نرى
أن هذا الرجل (يعني عمر) سيكون من هذا الأمر بسبيل، فلو أقرأته كتابك، فأتى عيينة عمر
فأقرأه كتابه، فقال عمر: أهذا كله لك دون الناس؟ وبصق في الكتاب فمحاه، وقال له: إن
رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذٍ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا واجهدا
جهدكما.»
١٦٨ وهكذا، فإن ما يلحق بالإسلام في الواقع من «الذلة والعزة» هو ما يقف وراء
تحديد دلالة القول القرآني المتعلِّق بالمؤلفة قلوبهم وتخصيصها، وذلك على الرغم من بنائه
اللغوي المحكم الذي يحُول دون أن تكون دلالاته مخصصة من داخل بناء اللغة ذاته. ذلك يعني
أن الحدَّ الإجرائي المتعلق بالمؤلفة قلوبهم لا يكتسب من النص عليه في القرآن حضورًا
مؤبدًا أو مطلقًا، بل يظل مشروطًا بتحقيقه لمبدأ المصلحة بحسب ما يقرره الواقع. فالنص
القرآني لا يعلق إنفاذ السهم الخاص بهم على قوة الإسلام أو ضعفه، بل الواقع المتحقق
خارجه هو الذي يقرر الإنفاذ أو عدمه، وإلى ما قرره البعض من إمكان إنفاذ السهم بعد
تعليق عمر له. وهكذا، فإن تعليق عمر لإنفاذ السهم ليس بدوره نهائيًّا أو مطلقًا؛ لأنه
قد تنشأ ظروف تستلزم إعادة إنفاذه. ومن هنا ما يقرره ابن العربي من أنه قد «اختُلِف في
بقاء المؤلفة قلوبهم، فمنهم من قال: هم زائلون، قاله جماعة، وأخذ به مالك. ومنهم من
قال: هم باقون؛ لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام، وقد قطعهم عمر لما رأى
من إعزاز الدين. والذي عندي أنه إن قَوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أُعطوا سهمهم
كما
كان يعطيه رسول الله
ﷺ.»
١٦٩ وإذن، فإنه الوعي بأن الإنفاذ أو عدمه ليسا موقفين نهائيين أو مطلقين، بقدر
ما إنهما يتحولان تبعًا لحركة الواقع خارج النص. والمهم هنا هو ما يبدو من أن التعويل
على حركة الواقع في تحريك الدلالة القرآنية وتحويلها هو ممارسة تجد ما يؤسس لها في عمل
الصحابة أنفسهم، وهو — وللمفارقة — ما يعتبره من يقولون عن أنفسهم أنهم الوارثون لهؤلاء
الصحابة نوعًا من التجديف والخروج على صحيح الاعتقاد.
ولعلَّ ذلك ما يعين على فتح الباب أمام طريقة أخرى في مقاربة القرآن تتسع لدلالاته
المتعددة على نحو يمكن معه التحرك بينها بحسب ما يجري من تحولات في الواقع، وبما يتجاوز
ما استقر عليه التقليد من توجيه القرآن نحو النطق بدلالة واحدة تكون هي النهائية
والمطلقة من بين تلك الدلالات. وإذا كان هذا التقليد قد اعتمد آلية «النسخ» في توجيه
القرآن نحو النطق بدلالة بعينها تكون هي النهائية والمطلقة، فإن فتح الباب أمام التحرك
بين الدلالات المتعددة بحسب ما تمليه حركة الواقع، يعتمد آلية «التحديد بالسياق» الذي
يكون هو الأصل في تفعيل دلالة بعينها، في اللحظة التي تقتضيها.
وليس من شك فيما يعنيه ذلك من وجوب النظر فيما جرى ترسيخه من القول بأن ثمة في القرآن
ما هو «قطعي الدلالة». وإذا كان يلزم تفكيك الكيفية التي جرى بها تثبيت الدلالة القطعية
لنصوص القرآن، فإن نقطة البدء في هذا التفكيك تتمثَّل في الكشف عن مراوغة ربط قطعية
«دلالته» بقطعية «ثبوته». فإن من صاغوا مفهوم «القرآن نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت»
يقومون بهذا الربط لينقلوا الحكم على «الثبوت» بقطعية عدم إمكان الشك إلى «الدلالة».
وبالطبع، فإنهم يسكتون تمامًا عن تباين المجال الذي ينتمي إليه «الثبوت»، وهو التاريخ،
عن المجال الذي تنتمي إليه «الدلالة»، وهو المعنى، وبما لا بدَّ أن يؤثر على مضمون
«القطعية».
فإنه فيما ينتمي «الثبوت» إلى مجال التاريخ الذي يقبل كل ما يحدث فيه أن يكون موضوعًا
للقطع والتثبت، فإن «الدلالة» تنتمي إلى مجال المعنى الذي لا يقبل — بطبيعته — أن يكون
موضوعًا للقطع والتثبيت أبدًا. وبالطبع، لا يمكن التسوية أبدًا بين ما ينتمي إلى مجال
«الثبوت التاريخي»، وبين ما ينتمي إلى مجال «المعنى الدلالي»، وبمعنى أنه في حين أن
أحدًا لا يجادل في يقينية «ثبوت» القرآن، وبما يعنيه ذلك من إمكان — بل وجوب — التأكيد
على «قطعية» ثبوته، فإنه لا يمكن القول بقطعية دلالته ومعناه؛ لأن ذلك يعني وجوب القول
بأحادية الدلالة والمعنى، وهو ما لا يمكن لمسلم أن يقبله بخصوص القرآن.
وهكذا، فإن ما ينسحب على «الثبوت» لا يمكن أن ينسحب، آليًّا، على «الدلالة» بحسب ما
يقصد إليه الربط الذي يصطنعه المفهوم بينهما، وبما يعنيه ذلك مباشرة من أن الثبوت
القطعي لأصول الإسلام (قرآنًا وسنَّة) لا يمكن أن يحيل أبدًا إلى القول بقطعية
«الدلالة» التي يربطها البعض بهما. وإذا كان ثمة من يسعى إلى تثبيت «القطعية» فيما يخص
دلالة القرآن، عبر القول بأن عدم القول بقطعية دلالته لا يعني ما هو أكثر من القول
بظنية تلك الدلالة، و«أن وصف دلالة الآيات بالظنية يوجب — على قول أحدهم — كون القرآن
حجة ظنية ومعجزة غير قطعية؛ لأن الإعجاز يقوم على القطع واليقين»، فإنه يلزم كشف ما
ينطوي عليه هذا القول من مراوغة التسوية بين «القطعي» وبين «اليقيني» فيما يتعلق
بالدلالة. فإن عدم القطعية، فيما يخص الدلالة، لا يحيل، في الحقيقة، إلى المعنى غير
اليقيني أو الظني (بما هو نقيض للحق)، بقدر ما يؤشر على المعنى المنفتح المتحرك. ولعلَّ
ذلك يرتبط بأن القطعية إنما ترادف المعنى المطلق الثابت الذي يكون، لذلك، مقطوعًا به
أبدًا. وهكذا، فإن الأمر يتعلق بالدفاع عن الدلالة المفتوحة في مقابل الدلالة المغلقة،
وليس أبدًا بتكريس الدلالة الظنية في مقابل الدلالة اليقينية. وليس من شك في أن إعجاز
القرآن يكون أكثر رسوخًا في حال الدلالة المفتوحة منه في حال الدلالة المغلقة الجامدة،
وأعني من حيث لا ينكشف إعجازه الخالد إلا مع هذا الانفتاح للدلالة الذي يجعله قادرًا
على التجاوب مع شروط الواقع المتجدد، وليس العكس. وإذا كانت سهولة ترديد مفهوم «قطعي
الثبوت قطعي الدلالة» أتاحت له تداولًا واسعًا نسبيًّا بين الجمهور، فإن الغريب حقًّا
أن هذا «القطعي الدلالة» هو — بحسب تعريف الأصوليين له — مما يعز حصوله في القرآن. فإذا
كان «القطعي الدلالة هو ما دلَّ على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلًا، ولا مجال
لفهم معنى غيره منه»،
١٧٠ أو أنه على قول آخر «ما ينتقل بإفادة المعنى على قطع مع انحسام جهات
التأويل والاحتمال»،
١٧١ فإن ذلك مما يندر وجوده في القرآن، وإلى حدِّ أن «السيوطي» لم يجد إلَّا
مثالًا واحدًا له، في قوله تعالى:
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ، وبما
يعنيه ذلك من أنه لم يجد في القرآن ما ينطبق عليه «المعنى القاطع» إلا في شطر آية هو
عبارة — في الحقيقة — عن مسألة بسيطة في الحساب. وأما إذا جرى تعريف القطعي الدلالة
بأنه «كل نص دلَّ على فرض في الإرث مقدَّر» أو حد في العقوبة مقرر أو نصاب محدد»،
١٧٢ فإن ثمة من فروض الإرث المقدرة تصريحًا في القرآن، ما كان موضوعًا لاختلاف
الصحابة أنفسهم، وبما يعنيه ذلك من استحالة أن تكون محلًّا لدلالة قاطعة.
وإذ يحيل ذلك إلى حركية الدلالة وعدم ثبوتها، حتى فيما يخص الفروض المقدرة بالنص،
فإنه يلزم التأكيد على أن تلك الحركية تبقى محكومة، ليس فقط بحركة السياق خارج النص،
بل
— وهو الأهم — بالمبدأ الأسمى الكامن داخله. وإذ لا يجوز القطع — والحال كذلك — بدلالة
قاطعة للنص الذي يقرر فرضًا مقدرًا، فإن القطع يصبح أكثر استحالة فيما يتعلق بالنصوص
التي لا تقرِّر فروضًا، بل تدور حول علاقات هي موضوع للتغيُّر بطبيعتها، بحسب ما يفرض
سياق
الواقع. ولعلَّه يمكن التمثيل لذلك بعلاقة المسلمين بغير المسلمين (النصارى تحديدًا)،
التي تمثِّل أحد تحديات بناء الدولة الحديثة في العالم العربي والإسلامي؛ فإنه يستحيل
القول بأن القرآن يقرر دلالة نهائية ومطلقة لتلك العلاقة.
يؤكد ذلك أن المصادر القديمة (موسوعات التفسير وكتب أسباب النزول) تربط نزول آية
النهي عن موالاة اليهود والنصارى بما جرى في وقعة «أُحُد» (بين المسلمين وقريش)، حين
أصر فريق من مسلمي يثرب (المدينة) على ربط انخراطهم في جيش النبي الكريم باستمرار
موالاتهم لليهود، وبما يعنيه ذلك من إدخالهم كطرفٍ يلعب دورًا حاسمًا في المواجهة مع
قريش. ولما كانت علاقة المسلمين باليهود (وربما النصارى) غير مستقرة منذ الهجرة إلى
يثرب، فإن القرآن الكريم أورد النهي عن موالاتهم:
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ،
لكيلا يكون لتلك العلاقة غير المستقرة أثر في الإضرار بمصالح المسلمين. إن ذلك يعني أن
اضطراب علاقة المسلمين مع يهود يثرب (ومع النصارى بالتبعية) هو الأصل في النهي عن
موالاتهم، وليس لكونهم يهودًا أو نصارى. إنه، بلغة الفقه، هو «العلة» التي إذا غابت جاز
أن يتغير حكم النهي إلى الجواز. ولعلَّ ذلك بالذات هو ما يقف وراء ما أورده القرطبي،
في
تفسيره لهذه الآية، من أن أبا حنيفة قد «أجاز للمسلمين موالاتهم (أي اليهود والنصارى)
والانتصار بهم على المشركين»،
١٧٣ حيث الحكم عنده يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. فإنه لو كان النهي عن
موالاتهم مطلقًا، وأعني صادرًا عن مجرد كونهم يهودًا أو نصارى، لكان القرآن الكريم قد
قرَّره منذ البدء، ولم يكن ليسمح للمسلمين بموالاتهم أو طلب النصرة منهم أبدًا.
وأما أن يكون القرآن سمح للمسلمين بموالاة النصارى، والاستنصار بهم بالذات، وأقرَّ
ذلك، بل وأثنى عليه، فإن ذلك ما تقطع به آيات التنزيل المتعلقة بواقعة الهجرة إلى
الحبشة. فقد أورد النيسابوري أن آية:
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ
مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى قد «نزلت
في النجاشي وأصحابه»؛ (حيث) قال ابن عباس: كان رسول الله
ﷺ بمكة، يخاف على أصحابه
من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه إلى النجاشي، وقال:
إنه ملك صالح، لا يظلم، ولا يُظلَم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين
فرجًا، فلما وردوا عليه أكرمهم، وقال لهم: تعرفون شيئًا مما أُنزل عليكم، قالوا: نعم،
قال: اقرءوا، فقرءوا وحوله القسيسون والرهبان، فكلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا
من الحق، قال الله تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا
مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ.
١٧٤ وهكذا، تتضافر الرواية النبوية مع القرآن في التأكيد، ليس فقط على جواز
ولاية النصارى بالذات، بل على وقوع هذه الولاية فعلًا، حيث يروي الطبري عن المهاجرين
من
المسلمين قولهم: «قدِمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار، أمِنا على ديننا، وعبدنا
الله، لا نُؤذَى ولا نسمع شيئًا نكرهه.»
١٧٥ إذن، فإنه الجوار والإكرام، والأمن على الدين والدنيا، وعدم الأذيَّة
(وكلها من معاني النصرة التي هي معنى الولاية في القرآن)، وقد عاشها المسلمون واقعًا
متحققًا مع نصارى الحبشة. فهل لأحد، بعد ذلك، أن ينهى عن هذه الولاية مطلقًا، أم أنه
يلزمه الوعي بشروط السياق المحدِّد لحكمها؟
وفضلًا عن كل ما سبق، فحين يدرك المرء أن مفهوم الولاية لم يرِد، في القرآن الكريم،
بمعنى الحكم السياسي أبدًا، بل بمعنى طلب النصرة فقط، فإنه لا يملك إلا القطع بأن
القائل بدعوى عدم جواز ولاية النصارى، يتخفى وراء نهي القرآن الكريم — في ظل ظروف
بعينها — عن الاستنصار بهم، ليجعل منه نهيًا عن توليهم مناصب الحكم السياسي، وهو ما لا
يعنيه القرآن الكريم أبدًا، بل إن ذلك ما يبدو وكأن التاريخ قد فرضه. وإذ يؤكد ذلك على
حقيقة أن موجِّهات القراءة لا تقع — والحال كذلك — داخل القرآن، بل خارجه، وبكيفية يكون
معها القرآن مجرد ساحة للصراع على المعنى الذي يجري فرضه عليه، فإنه يلزم التأكيد على
أن هذا المعنى المفروض كثيرًا ما يأتي في عكس الاتجاه الذي يؤشِّر عليه المبدأ التأسيسي
الأسمى الكامن في القرآن (الذي هو عدم التمييز بين الآدميين إلا بالتقوى والعمل
الصالح).
وهنا فإنه إذا كان السعي الدءوب، من جانب البعض، إلى تسييد المنظومة المعرفية القديمة
(في شتى جوانبها الفقهية والتفسيرية والعقائدية والحديثية وغيرها) يرتبط بتحويلها إلى
مطلقٍ يتجاوز حدود الارتباط بأي شروط تاريخية أو معرفية، فإن هذا التحويل لها إلى أبنية
مطلقة، إنما يقوم — في جوهره — على تصور نوع المعنى الذي تحمله. فإن ثمة تصور للمعنى
يكون فيه من قبيل «المعطى» الذي يتم تلقيه جاهزًا، وهو، بالطبع، ما يتعالى بالمنظومة
الحاملة له إلى مقام المطلق غير القابل للتجاوز. وعلى العكس من ذلك، فإن ثمة تصورًا مغايرًا
للمعنى يكون فيه من قبيل «التكوين» التاريخي الذي ينتجه البشر (في تفاعلهم المزدوج مع
الواقع والنصوص)، وهو ما يفرض حضورًا للمنظومة الحاملة له على نحوٍ يعكس إمكان تجاوزها،
والانتقال منها إلى غيرها.
وإذا كان تصور المعنى كتكوين ينتجه البشر يقوم على ربطه بالنظام اللغوي للخطاب من
جهة، وبكل من حركة الواقع وأفق القارئ من جهة أخرى، فإن تصور المعنى كمعطى يقوم — في
المقابل — على اعتباره قصدًا لصاحب النص الذي يضعه ثابتًا وجاهزًا داخل نصِّه، وبكيفية
يكون معها هبة مخصوصة يعطيها هذا المالك للنص لمن يشاء ممن يصطفيهم. وبالطبع، فإنه إذا
كان التصور الأول للمعنى كتكوين ينطوي على تأكيد حركيته وانفتاحه (بما يتفق مع طبيعة
الوجود الإنساني)، فإن تصوره كمعطى ينطوي على تأكيد انغلاقه والسعي إلى احتكاره. ولكن
الأخطر من ذلك هو أن هذا التباين بين تصوريْن للمعنى، إنما يعكس حقيقة أن عالم المعنى
هو، في حقيقته، ساحة للتصارع الاجتماعي والسياسي. فإذ يكشف تصور المعنى كتكوين ينتجه
البشر عن الدور الفاعل لهم، فإن تصوره كمعطى يتلقاه البشر جاهزًا يكشف، في المقابل، عن
محض خضوعهم واستلابهم الكامل. ولعلَّ ذلك يعني أن ما يخايل به دعاة الإسلام السياسي —
من الساعين إلى احتلال صدارة المشهد الراهن في مصر وغيرها — من أن معنى القرآن هو معطى
ثابت جاهز تلقَّاه السلف وصاغوه في أنظمة سلوك واعتقاد لا بدَّ من تكرارها الآن، لا يجاوز
كونه مجرد ستار يخفون وراءه سعيهم لإخضاع الجمهور والسيطرة عليه.
وهكذا، فإن السعي إلى تثبيت هيمنة السلف كسلطة قابضة على الرأسمال الرمزي لجماعة
المسلمين — والذي يتحقق من خلال تصوير هؤلاء السلف على أنهم وحدهم، ودون غيرهم، هم
الممسكون بالمعنى الحقيقي، والمراد من الله، للقرآن — إنما ينطوي على القصد إلى تحصين
السعي الراهن لجماعات الإسلام السياسي إلى تثبيت سلطتها عبر التخفي وراء سلطة هؤلاء
السلف. إن ذلك يعني أن السلف لم يكونوا هم الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا هم السلطة
القابضة على المعنى المراد من الله للقرآن، بل إنه قد جرى وضعهم هكذا للتخفي السياسي
وراءهم. وهكذا، فإنه كان لا بدَّ أن يتحول السلف إلى سلطة للتغطية على أوضاع سياسية
بعينها، ولم يكن ذلك ممكنًا إلا عبر افتراض مفهوم المعنى المطلق المراد من الله
للقرآن، وبما يعنيه ذلك من أن السياسة، لا الحقيقة، هي الأصل في هذا التصور
للمعنى.
ولعلَّ ذلك ما تؤكده حقيقة أن هناك من الشواهد العديدة ما يدل على أن ممارسة هؤلاء
السلف الذين أُريد لهم أن يكونوا قابضين على نوعٍ من المعنى المكتمِل الثابت والمتفَق
عليه
للقرآن، لا تشي أبدًا باعتقادهم في هذا النوع من المعنى المعطى للقرآن. ولعلَّ مثالًا
لتلك الشواهد يأتي مما تحتشد به — وبغزارة لافتة — موسوعات التفسير والفقه الكبرى مما
يمكن اعتباره تأريخًا واسعًا لأفكار وآراء الصحابة والتابعين الذين تتشكَّل منهم النواة
الصلبة لجيل السلف. ولعلَّ نظرة على تلك الأفكار والآراء تتبدى عن ضروب من التباين
والتعارض الحاصل بين هذا السلف، سواء تعلق الأمر بفهم آية أو استنباط حكم أو غيره.
وبالطبع، الأصل فيما يقوم بينهم من التباين، إنما يجد ما يؤسسه في الأفق المعرفي
والاجتماعي الذي يؤطر وعيهم، وفيما عرفه واقعهم من تطور، وذلك فضلًا عن الطبيعة اللغوية
للخطاب القرآني التي تجعل منه ساحة للإضمار والإجمال والإطلاق والتضمين والتعميم، بل
أحيانًا للسكوت وعدم التصريح، وذلك على النحو الذي اقتضى اجتهادًا بشريًّا في إنتاج
المعنى، كان لا بدَّ أن يتباينوا فيه بحسب ميولهم وانتماءاتهم. ولعلَّ وعيهم بأنهم
كانوا ينتجون المعنى باجتهاد، ولا يتلقَّونه جاهزًا كاعتقاد، يتجلَّى فيما كانوا يختتمون
به
أقوالهم — أو كتاباتهم — من تعبير «والله أعلم»، الذي يكشف عن روح منفتحة لا تعتقد في
امتلاكها لكامل العلم، بل إنها تفتح الباب — بما يعكسه هذا التعبير من إقرارها بمحدودية
علمها — أمام الآخرين ليضيفوا اجتهاداتهم إلى — أو حتى على أنقاض — إنجازها. وتأتي
المفارقة، هنا، من السعي إلى تثبيت الاعتقاد بأن هؤلاء السلف الذين اجتهدوا في إنتاج
معنى القرآن، ضمن شروط وعيهم وواقعهم، تلقَّوا المعنى على سبيل الهبة المخصوصة لهم، وأن
أحدًا بعدهم ليس له إلا أن يقف عند حدود هذا الذي تحصَّلوا عليه في لحظة فريدة، لا
سبيل إلى تكرارها أبدًا.
وكمثال على أن المعنى كان ساحة للاختلاف والقول بالرأي بين الصحابة، فإنه يمكن
الإشارة إلى ما أورده أبو بكر الجصاص من اختلاف الصحابة وقولهم بالرأي في عديد من
المسائل المتعلقة بأحكام المواريث. وإذ قد يندهش المرء إزاء القول باختلاف الصحابة حول
آيات الأحكام والفروض المقدَّرة التي يشيع القول إنها من قبيل ما هو قطعي الدلالة، فإنه
لا يجد ما يفعله بخصوص ما يقوله الجصاص من أنه «قد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع
الزوج والزوجة (يعني إذا مات الزوج وترك الزوجة مع أبويه، أو توفيت الزوجة وتركت الزوج
مع أبويها)، فقال علي (ابن أبي طالب) وعمر (ابن الخطاب) وعبد الله بن مسعود وعثمان (بن
عفان) وزيد (ابن ثابت): للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وللزوج النصف
وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. وقال ابن عباس للزوج والزوجة ميراثهما، وللأم الثلث
كاملًا (من الميراث كله)، وما بقي فللأب. وقال (أي ابن عباس): لا أجد في كتاب الله ثلث
ما بقي.» ورغم أن هذا الذي مضى إليه ابن عباس (الذي تُنسَب إليه الروايات أنه «حبر الأمة،
وتُرجمان القرآن ودليل التأويل»)
١٧٦ في ضرورة أن تأخذ الأم الثلث كاملًا هو — على قول الجصاص وابن كثير وغيرهما
— ما «يدل عليه ظاهر القرآن» لأن الله تعالى يقول:
فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ،
١٧٧ فإنه يبدو غريبًا انعقاد الإجماع من الصحابة والتابعين على غير ما يقول به
ظاهر القرآن. والطريف أنه حين أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت مستفسرًا: «أين تجد ثلث
ما
بقي في كتاب الله؟»، فإن زيدًا قد أجابه: «إنما أنت رجل تقول برأيك، وأنا رجل أقول برأيي.»
١٧٨ وإذا كان للمرء أن يتساءل عن أصل الرأي الذي انحاز إليه زيد ومعه — على قول ابن كثير
— معظم الصحابة والتابعين والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء،
١٧٩ والذي يقول بما لم يجد له ابن عباس أثرًا في كتاب الله، فإنه لن يجد إلَّا
ما تورده المصادر من أنه «التقليد الاجتماعي الأبوي» الذي يرفض أن يكون للأنثى نصيبًا
من الميراث يربو على نصيب الرجل، وبما يعنيه ذلك من خضوع القرآن — عبر فعل القراءة —
لتوجيه التاريخ ومحدداته.
لكنه يلزم التنويه بأنه ما كان يمكن لهذا التقليد الاجتماعي الأبوي أن ينتج تأثيره في
الواقع، لولا أن طريقة الأداء اللغوي للقرآن تسمح له بذلك. ولعلَّ ذلك ما يؤكده قول
«ابن العربي» بخصوص قوله تعالى:
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ الذي رأى أنه يشير إلى «معضلة
عظيمة، فإنه تعالى لو قال: فإنْ كن نساء اثنتين فما فوقهما، فلهن ثلثا ما ترك؛ لانقطع
النزاع. فلما جاء القول هكذا مُشكِلًا، وبيَّن حكم الواحدة بالنصف، وحكم ما زاد على
الاثنتين بالثلثين، وسكت عن حكم البنتين أُشكلت الحال، فرُوي عن ابن عباس أنه قال: تُعطى
البنات النصف كما تُعطى الواحدة، إلحاقًا للبنتين بالواحدة من طريق النظر؛ لأن الأصل
عدم
الزيادة على النصف، وأن ذلك لما زاد على البنتين، فتختص الزيادة بتلك الحال. والجواب:
أنه الله سبحانه وتعالى لو كان مبينًا حال البنتين بيانه لحال الواحدة وما فوق البنتين
لكان ذلك قاطعًا، ولكنه ساق الأمر مساق الإشكال، لتبيين درجة العالمين، وترتفع منزلة
المجتهدين في أي المرتبتين إلحاق البنتين أحق.»
١٨٠ وبالطبع، فإن هذا الذي يشير إليه ابن العربي من «سوق القرآن للأمر مساق
الإشكال، ومجيئه بالقول مُشكِلًا، وعدم وضوح بيانه — ولو في بعض الأحيان — على نحوٍ
قاطعٍ، وسكوته عن الحكم على نحو يؤدي إلى إشكال الحال» هو الباب الذي يستطيع من خلاله
التقليد الاجتماعي توجيه القرآن إلى الوجهة التي يريد.
وإذ يتحقق توجيه التاريخ للقرآن من خلال فعل القراءة، فإن هذا الفعل يبقى حاضرًا حتى
في حال الاكتفاء بمجرد ترديد آياته، ومع ملاحظة أن كل ما يرتبط بهذا الفعل من ضروب
التوجيه (الناعمة والغليظة) لا تكون — في غالب الأحوال — موضوعًا لوعي الممارسين لها.
ويتحقق هذا التوجيه ليس فقط عبر إنطاق وإسكات دلالات بعينها ينطوي عليها القرآن، بل عبر
ما يبدو وكأنه إبدال الدلالات التي فرضها التاريخ بتلك التي يتضمنها القرآن. ولعلَّ
مثالًا على هذا الضرب الأخير من التوجيه، الذي يجري فيه استبدال دلالة التاريخ بدلالة
القرآن، يأتي من قراءة آية قرآنية تنشغل بتعيين معنى المسلم والإسلام، وبما لذلك من
تعلُّق مباشر بمسألة عدم جواز ولاية غير المسلمين، وأعني بها قوله تعالى:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
١٨١
فإن الدلالة المستقرة، في وعي الجمهور، لهذه الآية تنبني على أن معنى الإسلام ينصرف
إلى ذلك الدين الذي ابتعث به النبي الكريم محمد، وبما لا بدَّ أن يترتب على ذلك من أن
المسلمين هم — وفقط — أتباع هذا النبي الكريم. ولسوء الحظ فإن هذه الدلالة التي
استقرت، في وعي الجمهور، للفظتي إسلام/مسلمين تمثل تضييقًا أو حتى نكوصًا عن الدلالة
التي يقصد إليها القرآن خلال استخدامه لكلتا اللفظتين، بل إن اختبارًا لهذا الاستخدام
القرآني يكشف عن أن هذه الدلالة المستقرة للفظتي إسلام/مسلمين تكاد أن تكون قد تبلورت
وتطورت خارج القرآن، على نحو شبه كامل. وإذن، فإنها تبدو أقرب ما تكون إلى الدلالة
الاصطلاحية، التي تمتزج فيها المقاصد الواعية وغير الواعية لمن اصطلحوا عليها، وعلى
النحو الذي تعكس فيه عناصر تجربتهم التاريخية، ولو كان ذلك على حساب القرآن ذاته. فإذ
تنبني الدلالة الاصطلاحية على صرف معنى لفظة مسلمين مثلًا، إلى أتباع النبي محمد فحسب،
فإن الدلالة السيمانطيقية، الغالبة على الاستخدام القرآني لتلك اللفظة ذاتها، لا تقصر
المعنى على هؤلاء فقط، بل تتسع به ليشمل غيرهم من أتباع الأنبياء السابقين أيضًا.
وهكذا، فإن اللفظة مسلمون/مسلمين قد ورد في القرآن حوالي ست وثلاثين مرة، انطوى فيها
—
في الأغلب — على دلالة تسليم المرء وجهه لله، من دون أن يكون ذلك مقرونًا بالدعوة إلى
أتباع نبي من الأنبياء بعينه، بل إن بعض الآيات تستخدم لفظة مسلمون/مسلمين للإشارة —
على نحو صريح — إلى مَنْ هم مِنْ غير أتباع النبي محمد. ومن ذلك، مثلًا، إشارته إلى بني
يعقوب باعتبارهم من المسلمين، وذلك في قوله تعالى:
أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ
مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
١٨٢
والحق أن المرء يلحظ أن القرآن يكاد، على العموم، أن يصرف دلالة اللفظة إلى فعل
التسليم لله وذلك فيما تلح الدلالة الاصطلاحية على صرف الدلالة إلى فعل الإتباع لنبي
من
أنبياء الله بالذات. وتبعًا لذلك، فإنه إذا كان غير المسلم هو — بحسب دلالة الاصطلاح
المستقرة في وعي الجمهور — كل من لا يتبع دين النبي محمد، فإنه — وبحسب الدلالة
المتداولة في القرآن — هو كل من لا يسلم وجهه لله، وبما لا بدَّ أن يترتب على ذلك من
أن
كلَّ من يسلم وجهه لله حقًّا، هو من المسلمين، حتى ولو لم يكن متَّبِعًا لدين النبي
الخاتم.
وإذ يفتح ذلك الباب أمام إدخال البعض ممن يقال إنهم من غير المسلمين إلى دين الإسلام،
ابتداء من تسليمهم الوجه لله، فإنه سوف يفتحه بالمثل أمام إخراج الكثيرين ممن يقال إنهم
من المسلمين، من دين الإسلام؛ لأنهم لا يعرفون الإسلام بما هو تسليم الوجه لله، بل بما
هو قناع لتسليم الناس — أو حتى استسلامهم — لهم ولسلاطين الأرض، بدلًا من إله السماء.
فإذا كان القصد من تسليم الناس وجوههم لله وحده، هو تحريرهم من الخضوع لكل آلهة الأرض
الزائفة، فإن ما يجري من تحويل الدين إلى قناعٍ لاستعباد الناس وتيسير السيطرة عليهم
لا
يمكن أن يكون من قبيل الإسلام أبدًا. ولعلَّ ذلك يكشف عن عدم انضباط مفهوم غير المسلم،
وأعني من حيث تبقى المسافة قائمة بين المعنى الذي يصرفه إليه القرآن من أنه من لا يسلم
وجهه لله، وبين المعنى الذي فرضه عليه التاريخ من أنه من لا يتبع نبوة محمد عليه
السلام. وبالطبع، لا مجال للاحتجاج بأن معنى الإسلام، بما هو تسليم الوجه لله، قد تحقق
على الوجه الأكمل مع نبوة النبي الخاتم محمد، فإن القرآن يتضمن بين جنباته ما يزحزح هذا
الاعتقاد، وذلك حين يمضي إلى أن ثمة من اليهود والنصارى والصابئة من يتشارك مع المؤمنين
بنبوة محمد عليه السلام في تسليم الوجه لله حقًّا، وأنهم، بسبب ذلك، «لهم أجرهم عند
ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، إذ يقول تعالى:
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا (يعني بمحمد)
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ.
١٨٣
وهكذا، فإن القرآن لا يقصر معنى الإسلام بما هو تسليم الوجه لله — حتى بعد ابتعاث
النبي محمد — على المؤمنين بنبوَّته فحسب، بل إنه يتسع بهذا المعنى ليشمل غيرهم أيضًا.
وغني عن البيان أن ذلك يرتبط بحقيقة أن مدار تركيز القرآن هو على فعل تسليم الوجه لله
وحده، وليس على الباب الذي يتحقق من خلاله هذا الفعل. وحتى على فرض أن القرآن يمضي إلى
أن الباب الأكمل لتحقق هذا الفعل هو باب النبي محمد، فإنه لم يدحض إمكان تحقُّقه من غير
هذا الباب أيضًا. يبدو، إذن، أن التاريخ، وليس القرآن، هو ما يقف وراء تثبيت الدلالة
المستقرة للآية القرآنية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ، وهو ما يدرك من يستدعي هذه الآية
أنه سيلعب دورًا حاسمًا في توجيه المتلقين لها إلى إنتاج ذات الدلالة المستقرة. وهو
يدرك أيضًا أن إثارة المعنى السيمانطيقي المتداول في القرآن للفظة إسلام سوف يؤدي، لا
محالة، إلى زحزحة الدلالة التي قام التاريخ بترسيخها. ومن هنا ما يبدو من السكوت تمامًا
عن هذا المعنى، رغم ما يبدو من سيادته الواضحة على عالم القرآن. وإذ يحيل ذلك إلى
«القرآني» يكون تقريبًا في قبضة «التاريخي» — ولو كان ذلك على حساب ما يقرره القرآن
صراحة — فإن المشكلة تأتي من أن القصد إلى التعالي بما ينتجه البشر، من أنظمة معرفية
واجتماعية وغيرها، يدفع إلى التغطية على هذا «التاريخي» وإقصائه على نحو كامل، وبما
يرفع هذه الأنظمة إلى مقام المطلقات ذات القداسة.
ومن هنا أن تصور دخول الإنسان في تركيب معنى القرآن (وهو التصور الذي يتجاوب مع ما
بدا من دخول الإنسان في التركيب البنائي واللغوي للقرآن) كان لا بدَّ أن ينعكس على
طبيعة المعرفة التي تنشأ حول القرآن. فإذا كان تصور المعنى قائمًا في القرآن على نحوٍ
مطلق ونهائي، ومن دون أن يكون للإنسان إلا أن يتلقاه كما هو (وبما يتجاوب مع الإقصاء
الكامل للإنسان عن التركيب اللغوي والبنائي للقرآن) قد ترتب عليه انبثاق أنظمة معرفية
ومذهبية تحتكر لنفسها الإطلاق والقداسة، فإن دخول الإنسان في عالم القرآن (على صعيد
المعنى والتركيب واللغة) سوف يترتب عليه ظهور أنظمة معرفية تؤكد على تجاوبها مع تحديدات
السياق التاريخي والاجتماعي وشروطه.
وهنا فإنه إذا كانت الأنظمة المعرفية التي تدَّعي لنفسها الإطلاق والقداسة تؤسس هذا
الادعاء على وهم تطابقها الكامل مع الوحي، على النحو الذي تكون فيه تكرارًا للمعنى
المطلَق القائم في الأزل، فإن الأنظمة النقيضة التي تربط نفسها بسياقات إنتاجها تؤكد
على
عدم إمكان التطابق مع الوحي، بل على عدم إمكان تطابق الوحي ذاته (بصوره المتعددة) مع
المعرفة الإلهية ذات الحضور المطلق. فإن استحالة مطابقة صور الوحي (التي بدا أنها تتحدد
بواقع البشر ووعيهم) للمعرفة الإلهية (التي لا شك في طبيعتها الثابتة المطلقة) لا بدَّ
أن يحيل إلى وجوب افتراض مسافة بينهما
١٨٤ هي التي تؤسس لكل ما ينشأ حول تلك الصور المتعددة من ضروب شتى من الفهم
والتأويل. وبالطبع، فإن أي واحد من تلك الضروب المتباينة في الفهم والتأويل التي تنشأ
حول صور الوحي (والقرآن هو إحدى تلك الصور بالطبع) لا يمكن، بدوره، أن يطابق الوحي أو
يستنفده، وبما يعنيه ذلك من وجوب افتراض مسافة تقوم بين هذا الضرب من الفهم وبين القرآن
بما هو إحدى صور الوحي، وهي المسافة التي تؤسس لإمكان تجاوز كل واحد من ضروب الفهم تلك،
إلى غيره.
وبالطبع، فإنه إذا كان القرآن، بما هو إحدى صور الوحي، هو بمثابة تمثيل للمعرفة
الإلهية لا يطابقها أو يستنفدها، فإنه يلزم، بالمثل، أن يكون كل ما تبلور حوله من
منظومات معرفية (تفسيرية وفقهية وعقائدية وصوفية وفلسفية وغيرها) هي بمثابة تمثيلات لا
تطابقه أو تستنفده. وبمثل ما كان الأصل في عدم مطابقة صور الوحي للمعرفة الإلهية التي
تصدر عنها، يتأتى من تحدد تلك الصور بطبيعة واقع المُخاطَبين بها من البشر ووعيهم، فإن
ما ينتجه هؤلاء المُخاطَبون بالوحي من أنظمة معرفية، تعكس فهمهم له، إنما يتحدد، بدوره،
بطبيعة وعيهم ونظام واقعهم معًا. فإنه يستحيل أن يكون واقع المُخاطَب ووعيه محددين لما
يتلقاه من الوحي من الله، ولا يكونان محددين لما ينتجه هذا المُخاطِب نفسه من معرفة
تنشأ حول هذا الوحي؛ إذ كيف لهما أن يحددا ما يصدر عن الله (من الوحي)، ولا يحددان ما
يصدر عن الإنسان (من ضروب المعرفة بهذا الوحي)؟
وهكذا، فإنه إذا كان البعض من منتجي تلك المنظومات (وبالذات العقائدية والفقهية)
يطابقون — بحسب ما بدا آنفًا — منظومات المعرفة التي ينتجونها مع نص الوحي، ويتصورون
أنها تستنفده كليًّا، وبما يعنيه ذلك من إكسابها طابع الإطلاق والقداسة، وبكيفية يستحيل
معها تخطيها وتجاوزها، فإن ذلك يعني تجاهلًا، أو حتى جهلًا كاملًا بالكيفية التي تنبني
بها تلك المنظومات المحددة. فالحق أنها تكون نتاج تفاعل الوحي (الإلهي) مع الوعي
(الإنساني)، وهي العملية التفاعلية التي تتحقق، على الدوام، في إطار واقع بعينه. إن ذلك
يعني أنها تكون نتاج الالتقاء التفاعلي بين عناصر ثلاثة، أحدها فقط (وهو الوحي) ينتمي
إلى المجال الإلهي، بينما ينتمي العنصران الآخران (الوعي والواقع) إلى المجال الإنساني.
وحين يلاحظ المرء أن العنصر الإلهي نفسه، وهو الوحي، جرت صياغته بحسب بناء واقع
المُخاطَبين به من البشر ووعيهم، فإن ذلك يحيل إلى غلبة ما ينتمي إلى مجال «الإنساني»
في تشكيل تلك المنظومات المعرفية، لا من حيث إن عنصرين من العناصر الثلاثة المكونة لها
ينتميان إلى هذا المجال، بل من حيث إن العنصر الإلهي فيها إنما يصاغ، بدوره، بحسب
مقتضيات الواقع الإنساني ودواعيه.
ولعلَّه يلزم التنويه هنا، بأن دخول هذا «الإنساني» في بناء تلك المنظومات المعرفية
لا يكون على نحوٍ واحدٍ أبدًا، وأعني أنه إذا كان يدخل في بناء المنظومة العقائدية من
خلال الجانب السياسي بالذات، فإنه يدخل في بناء المنظومة الفقهية من خلال الجوانب
المجتمعية، وطبعًا من دون أن يعني ذلك أن السياسي لا حضور له في الفقهي، أو أن المجتمعي
لا حضور له في العقائدي، بل الأمر يتعلق بغلبة الواحد منهما على بناء منظومة بعينها.
ومن هنا ما يقال من «إن الفقه الإسلامي في الحجاز وفي العراق في القرن الثاني الهجري
—
والفترة التي نرقبه فيها وهي فترة حياة مالك — لم يكن فقهًا واحدًا لوحدة الزمن ووحدة
الدولة الأموية (يعني وحدة السياسة)، كما لم يكن قد اختلف لسقوط الأموية عنه بعد قيام
العباسية، بل كان فقهًا في الحجاز يتعرض لظروف ومؤثرات ليست هي التي كان يتعرض لها في
العراق لاختلاف البيئتين، وإن كان ما بين البيئتين من تفاعل يؤثر أثره على حياة كل
بيئة، مع استمرارها واضحة الشخصية، بتمايز مؤثراتها ومقوماته الواضحة فيها، وسنرى أمثلة
كثيرة لاختلاف تناول المسألة الواحدة في الفقه الحجازي عن تناولها في الفقه العراقي،
مع
قرب الزمن ووحدة الدولة؛ ولهذا لا نسلم مع أصحاب الأدوار السياسية أن الفقه الإسلامي
واحد وحدة لا تنفصم في قرن كذا أو تحت حكم دولة كذا؛ لأنَّا نعتبر ذلك وقوفًا عند ظواهر
سطحية، من قيام أسرة أو انهزام أسرة، وليست تلك هي المؤثرات الاجتماعية في الحياة
العلمية، أو الحياة العملية، أو الحياة الفنية.»
١٨٥ وإذا كان تغاير البيئة المجتمعية يؤسس، هكذا، لتباين المنظومات الفقهية —
وإلى حدِّ ضرب المثل باختلاف الفقه الحجازي (الحديثي) عن الفقه العراقي (القياسي)
لاختلاف البيئتين — فإنه يلزم التنويه بأن التغاير المجتمعي لا يكون فقط بين بيئة وأخرى
داخل لحظة زمنية واحدة، بل إنه يتحقق أيضًا داخل بيئة واحدة من لحظة زمنية إلى أخرى.
وإذن، فإن التغاير المجتمعي لا يكون مكانيًّا فقط بين بيئة وأخرى، بل يكون زمنيًّا
أيضًا داخل نفس البيئة. إن ذلك يعني أنه ليس فقط ما يصلح لمكان (مجتمعي) قد لا يصلح
لمكان آخر، بل إن ما يصلح لزمان (مجتمعي) قد لا يصلح، بدوره، لزمان آخر. وغني عن البيان
أن هذا الربط للفقهي بالمجتمعي (المتغاير مكانيًّا وزمنيًّا) لا بدَّ أن يحيل إلى
ديناميكية الفقهي وحركيته، وعلى النحو الذي يفتح الباب أمام خلخلة أبنية فقهية لا تزال
راسخة في زمان مغاير (ولو في الشكل على الأقل) للزمان المجتمعي الذي تبلورت داخله.
ولعلَّه يمكن القول، ضمن هذا السياق، أن أبواب الفقه الخاصة بالمرأة بالذات تكاد —
مقارنة بكل أبواب المنظومة الفقهية الأخرى — أن تكون هي الأكثر إبرازًا للطبيعة
المجتمعية البطريركية التي تبلورت داخلها. وبالطبع، فإن خلخلة تلك المنظومة الفقهية
الخاصة بالمرأة يبدو لازمًا، لا من حيث اختلاف البيئة المجتمعية الراهنة عن تلك التي
تبلورت فيها، بل، وهو الأهم، من حيث إن قراءة للقرآن تنطلق من وجوب التمييز فيه بين
الإجرائي والتأسيسي، وذلك بما هو ساحة التقاء بين الإلهي (الكلي/الأزلي) والإنساني
(الجزئي/التاريخي) إنما تفتح الباب أمام ضرورة — بل وجوب — تلك الخلخلة.
وهنا تلزم الإشارة إلى أن الوعي بفاعلية قانون البيئة في عملية استقبال الوحي (وما
تفرَّع عنه من مذاهب فقهية وعقائدية) لا يخص أجيال المحدثين فقط، بل إنه يظهر جليًّا
عند
القدماء المتقدمين، وحتى من أولئك الذين يقال إنهم من التابعين. فمن المشهور ما يُروى
عن
رفض الإمام مالك (صاحب المذهب الفقهي المعروف) لطلب الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور
بتطبيق قواعد فقهه في العراق وسائر أمصار المسلمين، على النحو الذي يسمح بتحقيق وحدة
فقهية/تشريعية تتجاوز معها دولة الخلافة الاختلافات الشرعية التي بدا أنها تمثِّل تهديدًا
لوحدتها السياسية. يصوِّر ابن المقفع (وهو الناصح الأيديولوجي لأبي جعفر المنصور) أمر
هذه الاختلافات المهددة قائلًا: «ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين
(الشام والعراق) وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ
اختلافها أمرًا عظيمًا في الدماء والفروج والأموال، فيُستحَل الدم والفرج بالحيرة، وهما
يحرَّمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيُستحَل في ناحية منها ما يحرَّم
في
ناحية أخرى.»
١٨٦ ومن هنا ما يوصي به الخليفة من أنه «لو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه
الأقضية والسير المختلفة، فتُرفَع إليه في كتاب ويُرفَع معها ما يحتجُّ به كل قوم من
سنة أو
قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله إليه ويعزم
له عليه، وينهي عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابًا جامعًا لرجونا أن يجعل الله هذه
الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكمًا واحدًا صوابًا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة
لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر «إلى» آخر الدهر
إن شاء الله.»
١٨٧ ويبدو أن الخليفة لم يجد في نفسه القدرة على أن يكتب هذا الكتاب الجامع،
فعرض الأمر على فقيه زمانه الكبير الإمام مالك.
ومن هنا ما أورد ابن سعد (
في الطبقات) عن الواقدي
قال: «سمعت مالك بن أنس يقول: لما حجَّ أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه وحادثته،
وسألني فأجبته، فقال: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها، يعني
الموطأ، فتُنسخ نسخًا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين
منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، لا يتعدوه إلى غيره، ويدَعوا ما سوى ذلك من هذا
العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية المدينة وعلمهم، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين،
لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وروَوا روايات، وأخذ كل
قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وإنَّ ردهم عما قد
اعتقدوه شديد، فدَع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال: لَعَمري
لو
طاوعتني على ذلك لأمرت به.»
١٨٨ وهكذا، فإن الأصل في رفض مالك لمطلب الخليفة هو وعيه باختلاف بيئات الأمصار
عن بيئة المدينة التي يتحدد بها فقهه. وإذا كان الخليفة يقيم دعواه على حمل الأمة على
ما في
الموطأ على أن «أصل العلم (هو) رواية «أهل»
المدينة وعلمهم»، فإن مالك لا يتردد في القطع بأن «اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه
الأمة، كلٌّ يتبع ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله»،
١٨٩ وبما يعنيه ذلك من إقراره بأن علمه ليس أصح أو أهدى من علم غيره، وأنه ليس
العلم/الأصل الذي ينبغي على الجميع أن يتبعوه. وانطلاقًا من قبوله لمبدأ الاختلاف على
هذا النحو، فإنه يقرر ضرورة ترك الناس وما هم عليه من الفقه، وما اختاره أهل كل بلد
لأنفسهم. ولأن الناس يختارون لأنفسهم ما يتفق مع عوائدهم، فإن ردَّهم عنه — ليأخذوا بغيره
— يكون سببًا في إدخالهم في الحرج والمشقة. وليس من شك في أن فرض الفقه الخاص ببيئة
المدينة (ذات الطابع البدوي المتجانس) على بيئة العراق (الأكثر تحضرًا واختلافًا) يكون
من قبيل الإثقال على الناس بما لا يطيقون على قول مالك. وهكذا، تكون البيئة — حسب مالك
— هي الأصل الذي تنضبط به عملية تبلور الفقه وتلقيه في البيئات المتباينة. ولعلَّ ذلك
هو الأصل في اختلاف الأقوال الفقهية وتعددها الذي يردُّه مالك إلى عنصري الزمان والمكان،
حيث «إن أصحاب رسول الله
ﷺ قد تفرقوا في البلاد، فأفتى كلٌّ في عصره بما رأى، وإن
لأهل هذا البلد (يعني مكَّة) قولًا، وأهل المدينة قولًا، ولأهل العراق قولًا.»
١٩٠
إن المفارقة هنا تأتي من التباين الواضح الذي يبدو فيه رجل «الفقه» أكثر ديناميكية
ومرونة من رجل «السياسة»، الذي ينبغي أن تكون مرونته حاضرة على الدوام؛ إذ فيما يبدو
رجل «الفقه» حريصًا على ترك أهل كل بلد وما اختاروا لأنفسهم من الفقه الذي يتفق مع
عوائدهم، وعدم الإثقال عليهم بردِّهم عمَّا ألفوه، وبما يعنيه ذلك من القبول باختلافهم،
فإن
رجل «السياسة»
١٩١ يسعى إلى أن يحمل الناس على العمل بفقه واحد لا يتعدَّوه إلى غيره، ولو اقتضى
الأمر حملهم على ذلك بالسيف أو السوط. والأخطر من ذلك هو الاستراتيجية التي يتبنَّاها
رجل
السياسة في إنجاز مطلبه، والتي تقوم — وبالأساس — على التعالي بهذا الفقه إلى مقام
العلم/الأصل، وذلك في مقابل الانحطاط بغيره إلى مقام العلم المحدث. وبالطبع، فإن ذلك
يؤكد على حقيقة أن السياسة كانت هي الأصل في إطلاق سيرورة التعالي التي كان القرآن أحد
ساحات اشتغالها الرئيسة. وحين يدرك المرء أن الشافعي سوف يكون هو رجل «الفقه» الذي
سيتجاوب مع مطلب التعالي بالفقه الذي يبتغيه رجل «السياسة»، فإنه سوف يتحقق من المركزية
التي يمثِّلها الشافعي في إطار التعالي بمنظومة المعرفة التي تحققت لها السيادة في
الإسلام.
وعلى العكس من ارتباط الفقهي بالمجتمعي، وإلى الحدِّ الذي جعل «الفقيه» يعارض مطلب
«السياسي» في أن يفرض مذهبه على جميع المسلمين دون اعتبار ظروف البيئات التي يعيشون
فيها، فإن دور السياسة كان هو الأبرز في تشكيل المنظومات الاعتقادية بالذات. حيث كانت
مسألة الإمامة والحكم هي الأصل في نشأة الفِرَق التي ابتدأ معها تبلور منظومات الاعتقاد
في الإسلام. فإذ يعدِّد الشهرستاني وجوه الخلاف التي نشأت منها الفِرَق العقائدية، فإنه
يعيِّن الخلاف حول الإمامة بما هو أعظمها، حيث إن «أعظم خلاف بين الأمة (هو) خلاف
الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل
زمان.»
١٩٢ وهنا يلزم التنويه بأن اعتبار الشهرستاني للإمامة «قاعدة دينية»، وليست
سياسية، يندرج في إطار التطور — الذي تحقق مع الفِرَق المتأخرة لاحقًا — والمتمثل في
إخفاء «السياسي» وراء قداسة «الديني».
١٩٣ وإذ يبدو، هكذا، وجوب التمييز بين نوعين من الفِرَق العقائدية، فإن أساس
التمييز بينهما يتمثَّل في أنه فيما كانت تقنَّعت الفِرَق المتأخرة بقناع الدين وأخفت
السياسة كأصلٍ لها، فإن الفِرَق المبكرة تميزت بتحدُّدها بالسياسة، على النحو الذي ينعكس
في مجرد تسمياتها. فإنه فيما تنتسب الفِرَق المتأخرة (الأشعرية والماتريدية مثلًا) إلى
أسماء أشخاص يجري التعالي بهم إلى مقام المصطفين دينيًّا، فإن الفِرَق المبكرة — التي
تواتر ظهورها منذ القرن الأول الهجري — تنتسب، في المقابل، إلى فعل سياسي. ولم يكن هذا
الفعل السياسي إلا التنازع على السلطة أو الإمامة الذي انفجر «في زمان أمير المؤمنين
علي رضي الله عنه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له».
١٩٤ فقد بدا أن ما راح يجري النظر إليه على أنه فعل «الفتنة» هو الحدث الأكثر
مركزية في ظهور فرق الخوارج والشيعة، بل حتى المعتزلة والمرجئة. فإذ تنتسب فرقة الخوارج
إلى «الخروج» الذي هو فعل ثورة واعتراض، فإن الشيعة تنتسب، في المقابل، إلى «المشايعة»
التي هي فعل تأييد ومناصرة. وإذ تميِّز المصادر بين المعتزلة الأوائل الذين اعتزلوا
الصراع السياسي بين الإمام علي ومعاوية، وبين المعتزلة اللاحقين عليهم الذين نشئوا من
الخلاف بين واصل بن عطاء وأستاذه الحسن البصري حول مرتكِب الكبيرة، فإنه يلزم التنويه
بأن «الكبيرة» التي اختلفا عليها كانت ذات مضمون سياسي يرتبط بالحكم في قتلى المسلمين
في حروب الفتنة. وبالطبع، فإن ذلك يعني أن الاعتزال المتأخر نشأ من موقف سياسي بدوره.
وأيضًا فإن الإرجاء الذي تُنتسَب إليه «المرجئة» لم يكن إلا فعلًا سياسيًّا ينطوي على
القصد إلى دعم السلطة القائمة بمساعدتها على التفلُّت من محاسبة أهل الأرض ومساءلتهم
لها، وإرجاء محاسبتها عن أخطائها إلى يوم الحساب السماوي. وهكذا، فإن هذه الفِرَق
جميعًا قد تبلورت في قلب مواقف سياسية، وبكيفية ظلَّت معها التسمية حاملة للأصل السياسي
الذي نشأت منه الفرقة، مهما جرى لاحقًا من السعي لإخفائه، ليبقى الشكل الديني مهيمنًا
وحده.
وكما حدث في الفقه، حين انعكس التحدُّد بالبيئة على وعي صاحب المذهب بحدوده، فإن
تحدُّد
منظومات الفِرَق العقائدية بالسياسة قد انعكس على وعي البعض منها، على الأقل، بحدود —
وعدم إطلاقية — ما يعتقدون فيه. ففي سياق سعي المعتزلة إلى تفسير أصل تسميتهم، فإن
وعيهم بالجذر السياسي لهذه التسمية
١٩٥ لم يمنعهم من الاحتجاج عليها من السُّنَّة. ومن هنا أنهم قد «احتجوا أيضًا
بالخبر الذي رواه سفيان الثوري عن ابن الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم؛ وهو قوله: ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة.»
١٩٦ وهكذا، فإنهم لم يحتكروا النجاة لأنفسهم، وبحيث يكون كل مخالفيهم من
الهالكين، بل اعتبروا أنفسهم الأكثر برًّا وتقوًى من غيرهم، ولكن من دون أن يحرموا
مخالفيهم من الدخول تحت مظلة البر والتقوى أيضًا. وهكذا، فإنهم، وفقط، يفْضلون غيرهم
من
الذين يشاركونهم الوقوف داخل دائرة البر والتقوى، ولا يحتكرون الفضل وحدهم. والحق أن
القيمة القصوى للأقوال المنسوبة إلى سفيان الثوري، بخصوص المعتزلة، إنما تتمثَّل في ربطها
بين ردِّ تسمية الفرقة إلى أصل سياسي، وبين انعكاس ذلك على انفتاحها وقبولها للآخر،
وبالكيفية التي لم تندفع معها إلى التعالي بمعتقدِها إلى مقام الحقيقة المطلقة المطابقة
لما يقوم في اللوح المحفوظ، والتي يلزم — لذلك — إقصاء كل مَنْ يخالفها باعتباره من
ضلالات أهل البدع والأهواء.
ولعلَّ ذلك ما تكشف عنه مقارنة هذه الصيغة غير الإقصائية لحديث افتراق الأمة التي
لا
تحصر الحق في فرقة واحدة على حساب سائر الفِرق الأخرى، مع الصيغة الإقصائية التي يحتكر
بها أهل فرقة بعينها «الحق» لأنفسهم، ويستبعدون غيرهم من دائرته على نحو كامل؛ إذ تقول
الصيغة الإقصائية للرواية المنسوبة إلى النبي عليه السلام: «ستفترق أمتي على ثلاث
وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، والباقون هلكى. قيل: ومن الناجية؟ قال: أهل السُّنَّة
والجماعة. قيل: وما السُّنَّة والجماعة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي.» ولم يقف
الشهرستاني عند حدِّ إيراد هذه الصيغة، بل إنه راح يؤسس لما فيها من الإقصائية بالقول:
«إن الناجية أبدًا من الفرق واحدة، إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في واحدة، ولا يجوز
أن تكون قضيتان متناقضتان متقابلتان على شرائع التقابل، إلا وأن تقتسما الصدق والكذب،
فيكون الحق في إحداهما دون الأخرى. ومن المحال الحكم على الخصمين المتضادين في أصول
المعقولات بأنهما محقَّان صادقان. وإذا كان الحق في كل مسألة عقلية واحدًا، فالحق في
جميع
المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة.»
١٩٧ وهكذا، ينتقل الشهرستاني من واحدية الحق في المسألة الواحدة، إلى واحدية
الفرقة التي يكون معها الحق في جميع المسائل، وهي — بالطبع — الفرقة الناجية التي لا
بدَّ أن يكون سائر ما عداها من الهالكين.
وبالطبع، فإن للمرء أن يتوقع وجوب انعكاس الفارق بين هاتين الصيغتين للحديث، على
صعيد
المعرفة، تباينًا بين منظومتين، تتعالى «إحداهما» بنفسها إلى حيث تكون تكرارًا متطابقًا
مع الحق المطلَق القائم في الأزل، وذلك فيما تعتبر «أخراهما» نفسها جزءًا من السعي إلى
بلوغ الحق الذي يتحدد بالشروط الإنسانية المتحولة، ومن دون أن يؤثر في انفتاح اجتهادها
أنها تميز نفسها بكونها الأكثر اقترابًا من مركز الحق. وقد انعكس هذا التباين، في تصور
كل واحدة من الفرقتين لنفسها، على الموقف من مسألة الدلالة في القرآن. فإذ يقف أصحاب
التعالي بأنفسهم إلى مقام «أهل الحق»، الذي لا يشاركهم فيه غيرهم من أهل الأهواء، عند
محض الدلالة الظاهرة التي تتيح لهم التطابق مع ما يدَّعون أنه الحق المطلق، وذلك من حيث
تغلق باب الاشتغال — على نحو كامل — أمام العقل الذي ينفتح معه باب التعدد والتنوع، فإن
العقل يدخل في تركيب الدلالة عند الآخرين من الذين تتسع ساحة الحق لهم ولغيرهم. والغريب
أن ثمة صيغة لحديث افتراق الأمة تتحدد فيه الفرقة الناجية بأنها «التي تسلك ظاهر الشرع
ولا تؤوِّله»، وذلك على عكس الفرق الهالكة «التي تأخذ بالتأويل»، حيث تنسب المصادر إلى
ابن رشد أنه نصَّ في تفسيره لحديث «ستفترق أمتي على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار
إلا واحدة»، بأن «الواحدة هي التي سلكت ظاهر الشرع، ولم تؤوِّله، وأن أول من غيَّر هذا
الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم.»
١٩٨ وهكذا، يربط أهل الحق أنفسهم بالدلالة الظاهرة، وذلك فيما يتم ربط الهالكين
من أهل الضلال بالدلالة المؤوَّلة. فإذا كانت الدلالة الظاهرة تحيل إلى مبدأ الثبات الذي
يناسب الإطلاق والتعالي، فإن الدلالة المؤوَّلة تحيل — في المقابل — إلى مبدأ التحول
الذي
تتحدد ضمنه الدلالة بالسياق، وبكيفية تناسِب التعدُّد الذي يقتضيه مبدأ التأويل.
وضمن نفس السياق، فإنه لن يكون غريبًا أن يورِد ابن القيم صيغة لحديث افتراق الأمة
تجعل الضلال قرين القول بالرأي في الفقه، وبما يعنيه ذلك من أن الحق يرتبط — بمنطق
المخالفة — بوجوب مجانبة الرأي، والبعد عنه. وهكذا، فإنه قد أورد عن رسول الله قوله:
«تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم.»
١٩٩ وهكذا، فإنه إذا كان أهل التعالي والإطلاق — الذين يطابقون قولهم مع الحق
المطلق — يربطون أنفسهم بالأخذ بالدلالة الظاهرة في القرآن، وبتجنُّب القول بالرأي في
الفقه، فإن من يمكن القول إن مخالفيهم من أهل التحدد بالسياق — الذين لا يقصرون الحق
على قولهم — يربطون أنفسهم بالدلالة المؤوَّلة في القرآن، وبالقول بالرأي في الفقه. وليس
من شك في أن هذا الانقسام بين الفريقين يعكس التباين بين منظومتين معرفيتين، تنزع
«إحداهما» — وهي التي تحققت لها السيادة في عالم الإسلام — إلى التعالي بنفسها إلى مقام
التطابق مع الحق المطلق، وذلك فيما تطرح الأخرى نفسها كأحد الوجوه التي يتجلى من خلالها
هذا الحق. وبالطبع، فإن هذا التباين يرتبط، في العمق، بتصور كل منظومة للدور الذي يكون
للإنسان في التعاطي مع الأصول (وعلى رأسها القرآن).
وغني عن البيان أنه يستحيل ضمن هذا السياق الذي تلعب فيه البيئة (مجتمعية وسياسية)
دورًا حاسمًا في تشكيل المنظومات الفقهية والعقائدية، القول بأن أيًّا منها — أو حتى
كلها — يمكنه أن يطابق القرآن أو يستنفده كليًّا، تمامًا بمثل ما لا يمكن لواحدة من صور
الوحي المتعددة أن تطابق علم الله غير المحدود أو تستنفده. ولعلَّه يبقى، في النهاية،
أن
الأمر نفسه إنما ينطبق على الإسلام الذي لا يمكن الادعاء بقدرة أحد أشكاله على استنفاده
أيضًا.
وبالمثل فإن دخول الإنسان في القرآن (على صعيد المعنى والتركيب واللغة) سوف يفتح
الباب أمام تعدد صور الإسلام بحسب تعدد البيئات الثقافية التي انتشر فيها. وهنا يصار
إلى أن ثنائية المعرفة الإلهية وتمثيلاتها (في صور الوحي) والقرآن وتمثيلاته (في
منظومات المعرفة المختلفة) إنما تؤسس لثنائية أخرى، هي ثنائية الإسلام وتمثيلاته في صور
وأشكال وجود تتباين بحسب اختلاف البيئات الجغرافية والثقافية التي انتشر فيها. وهنا يلزم
مقاربة إشكالية العلاقة بين الثقافة والدين على العموم. فإن اختلاف البيئات الطبيعية
لا
بدَّ أن يؤدي إلى اختلاف الثقافات التي تتشكَّل فيها، وذلك من حيث إن الثقافة تتكون من
جملة الاستجابات التي تبلورها جماعة بشرية ما في مواجهة ما تفرضه عليها بيئتها الطبيعية
من تحديات. وإذا كانت هذه الاستجابات تتسع لتشمل كل ما تنتجه الجماعة، من الآثار
المادية والمعنوية والرمزية، على مدى تاريخها، فإن أهم ما تنتجه، على الإطلاق، هو جملة
القواعد الذهنية التي تكون بمثابة المجال الشفاف الذي تتشكَّل فيه عقول الأفراد المنتمين
إليها. ومن هنا ما يمكن المصير إليه من أن الفرد، كل فرد، هو حدث ينشأ داخل الثقافة،
وعلى النحو الذي تكون معه هذه الثقافة — وخصوصًا في حال كونها ذات حضور تاريخي راسخ —
المحدِّد الأهم لاستقبال الفرد لكافة الظواهر الوافدة على تلك الثقافة، ومنها الدين
بالطبع. وإذ يجري، هكذا، استقبال الدين بحسب تحديدات الثقافة، وبما يحيل إليه ذلك من
وجوب أن يتشكَّل بحسب أنظمة الثقافة التي يرحل إليها، فإن ذلك يعني أن تتعدد صوره
وأشكاله، بحسب التعدد الحاصل في أنظمة الثقافة.
ولأن الدين، والحال كذلك، لا يأتي إلى الإنسان وهو محض صفحة بيضاء، بل بما هو تكوين
ثقافي سابق، أيًّا كانت بدائية الثقافة التي ينشأ فيها، فإن كل واحدة من البيئات
الثقافية المتباينة التي انتشر فيها الإسلام كان لا بدَّ أن تترك بصمتها على صورته.
وهكذا، فإن قانون الاستيعاب ضمن تحديدات الثقافة القائمة كان هو الحاكم لحركة الإسلام
في شبه الجزيرة العربية وخارجها. ولقد بلغ من قوة تأثير هذا القانون أن جرى المصير إلى
أنه «بالتزام البيئة المادية (والثقافية)، والإقليم الجغرافي والظرف المكاني، يكون هناك
أصل منضبط لفهم الحياة وتوجيه نشاط الإنسان، إذ لا شيء يوجه هذا النشاط، مثل طبيعة
بيئته المادية، وفي حدود طاقتها ومعونتها يكون النشاط المعنوي للحي فيها، فدينه وعلمه
وحكومته واقتصاده وغيرها، مما توجهه بيئته ويلوِّنه إقليمه، ثم ما يصل إليه من خارجها،
فهو لا بدَّ مرهون بتقبُّلها، وصلاحيته للحياة فيها، فهي التي تقبل من المؤثرات الطارئة
ما تقبل فتؤقلمه، وترفض من ذلك ما ترفض فتستبعده، وبهذا ينضبط كل نشاط للإنسان (حتى
نشاطه الديني طبعًا).»
٢٠٠ وهكذا، فإن البيئة (المادية والثقافية) هي التي تتقبَّل فتؤقلم وتشكِّل، أو
ترفض فتقصي وتستبعد، حتى فيما يخص الدين الإلهي. وبالطبع، فإنه كان يلزم، ضمن هذا
السياق، أن يختلف الشكل السوسيو/ثقافي للإسلام الشرق آسيوي (الإندونيسي مثلًا) الذي جرى
استيعابه ضمن تقاليد الثقافة الهندية الراسخة، عن الشكل الثقافي للإسلام العربي أو
الأفريقي الذي جرى استيعابه ضمن تقاليد الثقافة البدوية الصحراوية، في الأغلب.
ولعلَّ الوعي بهذه الحقيقة يعين على بلورة مقاربة مختلفة لإحدى الإشكاليات التي تفرض
حضورها الحاسم على عالم الإسلام المعاصر، وهي إشكالية العلاقة بين الدين والدولة. فإن
التباين بين البيئات التي انتشر فيها الإسلام كان لا بدَّ أن يفرض تباينًا في ترتيب
العلاقة بين الدين والدولة، على النحو الذي يستحيل معه فرض ترتيب واحد لتلك العلاقة.
ويترتب ذلك على حقيقة أنه إذا كان «اختلاف أجيال البشر (في أحوال العمران) إنما هو
باختلاف نحلتهم (أسلوبهم) في المعاش»،
٢٠١ وكان أسلوب المعاش مما تلعب طبيعة البيئات التي يعيش فيها الناس الدور
الرئيس في تقريره، فإن ثمة من تلك الجماعات من أتاحت لها ظروف بيئاتها أن تتبلور
حضاريًّا على نحو راحت فيه تسبق جماعات أخرى، تعيش ظروفًا أخرى وشروطًا مختلفة. وهكذا،
فإن ثمة من البيئات من تدفع بقاطنيها دفعًا إلى الاستجابة لما تفرضه عليهم من تحديات
على نحو يجبرهم على إبداع أساليب في المعاش نتجت عنها، أو حتى أنتجتها، قواعد في
الاجتماع مغايرة لتلك التي تقررها طبائعهم الأنانية (وبما تمخض عنه ذلك من ظهور
الحضارات العظمى)، وذلك في مقابل من تدفعهم ظروف بيئاتهم إلى البقاء على نفس أسلوب
المعاش الطبيعي، وبحيث لا يفارقونها أبدًا ما لم يحدث ما لولاه لظلُّوا على نفس الحال
أبدًا. وضمن هذا السياق، فإنه يبدو أن الجماعات التي سبقت في التبلور الحضاري عبر إبداع
أساليب في المعاش مجاوزة لقواعد المعاش الطبيعي كانت هي تلك التي عاشت في وديان الأنهار
العظيمة، وأعني من حيث إن أفراد هذه الجماعات قد وجدوا أنفسهم في مواجهة أنهار هائجة
يستحيل العيش في وديانها إلا بالتمكُّن من ضبطها وترويضها عبر بناء الجسور والسدود
وقنوات السقاية والتصريف، وهو ما يستحيل أن يقوم به فرد واحد أو حتى أفراد عدة، بل لا
بدَّ فيه من انتظام الأفراد في تكوينات كبرى تعرف الازدحام والاختلاط، وبحيث يتجاوزون
فيها روابط «الدم» إلى روابط «مدنية» أرقى، لكي يكون لعملهم أثره الملموس، وبما يستتبع
قيام تلك التكوينات من نشوء المُلك والتدبير السياسي بكل مقتضياته ولوازمه (من الكتابة
والسجل والتنظيم والمعرفة والعبادة والبناء والعمارة وغيرها). إن ذلك يعني أن الجماعات
التي تقطن وديان الأنهار قد جابهت ظروفًا فرضت عليها أن تبلور قواعد اجتماعها المدني
والسياسي، على النحو الذي أمكنها من بناء الدول والحضارات العظيمة (والملاحظ أن
الحضارات العظيمة التي ظهرت في مصر وأرض ما بين النهرين والهند والصين قد نشأت في وديان
وأحواض الأنهار الكبرى على الأغلب)، وبما يعنيه ذلك من أن نشوء الحضارات الكبرى قد
ارتبط بالانتقال من سياق «الاجتماع الطبيعي»، الذي لا يخضع فيه الفرد إلا لقانون
نفسه، إلى فضاء «الاجتماع المدني والسياسي» الذي يضطر فيه الفرد إلى الانصياع لما يجاوِز
ذاته مما يتعلق بمصلحة المجموع.
ولعلَّه يجدر ملاحظة أن الدين لا يلعب دورًا تأسيسيًّا في البلوغ بتلك التكوينات
البشرية المبكرة إلى حال «الاجتماع المدني»، بقدر ما هو أحد التكوينات التي تكون ضرورية
في ضبط الاجتماع، وليس في إنشائه وإحداثه. والعجيب أن يكون ابن خلدون أدرك، ابتداء من
هذه الحقيقة، أن حضور الدين ليس ضروريًّا في كل اجتماع بشري. فإنه، وبعد أن برهن على
أنه لا بدَّ لكل اجتماع «من وازع (حاكم) يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من
العدوان والظلم»، راح يكشف عن محاولة الفلاسفة الاستناد إلى هذا البرهان في «إثبات
النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان»، حيث «يقررون هذا البرهان إلى
غايته، وأنه لا بدَّ للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون بعد ذلك: «هذا» الحكم لا بدَّ
أن
يكون بشرعٍ مفروضٍ من عند الله يأتي به واحد من البشر، وأنه لا بدَّ أن يكون متميزًا
عنهم
بما يودِع الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه». لكن ابن خلدون يعترض
على ذلك مقررًا أن «هذه القضية غير برهانية كما تراه، إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من
دون ذلك (أي من دون الدين)»، بل يبرهن على دعواه بما يقطع به الواقع من أن «أهل الكتاب
والمتبعين للأنبياء قليلون بالنسبة لمن ليس لهم كتاب (أو دين سماوي)؛ الذين هم أكثر أهل
العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار، فضلًا عن الحياة. وكذلك هي لهم لهذا العهد
في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب.»
٢٠٢ وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كانت التجربة جعلت ابن خلدون يقرر أن «الوجود
وحياة البشر قد تتم من دون الدين»، فإنها أيضًا هي ما سوف تجعله يقرر أن «الوجود وحياة
البشر لا تتم — في بعض الأحيان — من دون الدين». وعلى أي الأحوال، فإنه إذا كان هناك
من
الاجتماعات البشرية ما قد تحقق من دون الدين (وهي الأكثر على قول ابن خلدون)، فإنه يبقى
أن الدين (سواء كان وضعيًّا ناشئًا أو سماويًّا وافدًا) قد لعب دورًا مركزيًّا في رسوخ
الدول والممالك التي تبلورت في إطار تلك الاجتماعات، وأعني من حيث كان الرأسمال الرمزي
الذي استثمرته تلك الدول في ضبط سلوك رعاياها. لكنه يبقى أن الدين لم يكن، في إطار تلك
التكوينات البشرية النهرية، صانعًا للاجتماع المدني، بقدر ما كان ثمرة له.
وعلى العكس من ذلك، فإن الصحاري قد فرضت أسلوبًا في المعاش لم يسمح بتجاوز قواعد
الاجتماع الطبيعي، وذلك لاستحكام عوائد التوحش وأسبابه في نفوس قاطنيها حتى «صار لهم
—
على قول ابن خلدون — خلقًا وجبلة، لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء
المواطن». وفضلًا عن ذلك، فإن الصحاري فرضت على قاطنيها — وبحسب ما تقول تجربة العرب
التي سجلها ابن خلدون باستفاضة — ألَّا يجاوز اجتماعهم حدود الأفراد الذين تقوم بينهم
رابطة الدم، أو العصبية. ويرتبط ذلك بأن أسلوب معاشهم قائم على الغزو والانتهاب لما
تقرر من أن «طبيعتهم هي انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم يكون في ظلال رماحهم …
«وأنه» لا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد؛ لأنهم بذلك تشتد
شوكتهم، ويُخشى جانبهم.»
٢٠٣ وغني عن البيان أن هذا النمط في المعاش يستلزم عدم الاستقرار في مكان
بعينه، ولذلك فإن «غاية الأحوال العادية عندهم هي الرحلة والتقلب، وذلك مناقض للسكن
الذي به العمران: فالحجر مثلًا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من
المباني ويخربونها عليه. والخشب أيضًا إنما حاجتهم إليه ليتخذوا منه أعمدة وأوتادًا
لخيامهم، فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران.»
٢٠٤ وهكذا، فإن الصحاري ألزمت قاطنيها بنمطٍ من الاجتماع الطبيعي الذي لا يمكن
أن يتبلور في إطاره أي نوع من التأنس والعمران، وهو نمط من الاجتماع يرتبط بما يقول ابن
خلدون أنه «استحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقًا
وجبلة.» وإذا كان «استحكام عوائد التوحش وأسبابه» قد جعل منه خُلقًا وجبلة للعرب، فإنه
قد أسس لنمطٍ من الاجتماع «الحيواني»، الذي لن يكون بإمكان العرب تجاوزه إلى نمط
الاجتماع «الإنساني» إلا بوساطة «الدين».
فإنه لما كان مما يستحيل، وعلى نحو كامل، إخراج الجماعات البشرية من قاطني الصحاري
من
دورة هذا الاجتماع الطبيعي (أو بالأحرى الحيواني) عبر إحداث تغيير مادي في البيئة التي
يعيشون فيها على نحو يفتح الباب أمام أسلوب في المعاش يمهد لنمط من الاجتماع الإنساني
الأرقى، فإنه لم يكن بدٌّ من تدخل السماء، فأنزل الله وحيه، وأمدَّهم بعونه. فالقصد من
الوحي هو تهذيب الجماعات والأقوام الذين لم تمكِّنهم ظروف بيئاتهم وعقولهم من أن يحققوا
ذلك لأنفسهم. ومن هنا ما لاحظه الكثيرون من أن وظيفته الرئيسة هي نقل الجماعات التي
فرضت عليها ظروفها أن تكون الأشرس والأكثر وحشية إلى حال الاجتماع الإنساني. قال ذلك
فيلسوف التنوير الألماني ليسينغ (
Lessing) بخصوص
العبرانيين الذين ضاعوا في الصحراء بعد الخروج من مصر، حين مضى إلى «إن الله اختار
شعبًا واحدًا، هو أكثر الشعوب قحة وشراسة كي يبدأ معه عمله التربوي من الأساس.» وهو نفس
ما قال به ابن خلدون قبله، بخصوص العرب، حين مضى إلى أنهم «لخُلق التوحش الذي فيهم هم
أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعْدُ الهمة والمنافسة في الرياسة؛
فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية، ذهب خلق الكبر والمنافسة
منهم، وسهل انقيادهم واجتماعهم … وحصل لهم المُلك والتغلب.»
٢٠٥
وهكذا، فإن الدين أو الوحي قد لعب في حياة بعض الجماعات البشرية دور الرافعة اللازمة
لنقلها من طور الاجتماع الطبيعي الحيواني إلى طور الاجتماع المدني الإنساني. وأما طريقة
التدبير السياسي لهذا الاجتماع الإنساني المدني، فإنه قد تركه للناس بحسب ما تهديهم
إليه عقولهم ومصالحهم وتجاربهم، وهو ما تكاد تقطع به تجربة المسلمين مع الدولة التي
تكشف عن بنائهم لها في انفتاح كامل على تراث وممارسة الأمم المجاورة (الفرس والروم
بالذات).
وإذ يحيل ذلك إلى دور مركزي تلعبه البيئة — بجانبيها المادي والثقافي — في صورة وشكل
الدين ومذاهبه وترتيب علاقته مع الدولة، وأنه لا حضور إلا لتلك التشكُّلات المشروطة
ثقافيًّا ومجتمعيًّا التي تمثل ما يمكن اعتباره خبرة الدين في المجتمعات المختلفة، فإن
ذلك يعني أن ما يجري الترويج له من أنه إسلام السلف المتعالي الذي يقوم فوق تلك
التشكُّلات الثقافية، ولا بدَّ لذلك من فرضه على كل البيئات، بما هو الإسلام الحق
النقي، سوف يكون — هو نفسه — مجرد واحد من تلك التشكُّلات التي لا يمكن فهمها خارج
البيئة التي تبلورت فيها. وبالطبع، فإن السعي إلى نفي كون هذا الإسلام (ذي الصبغة
الوهابية) هو أحد التشكُّلات المشروطة بالبيئة التي تبلور فيها، إنما يرتبط بسعي
الداعين له إلى تثبيت نوع من الهيمنة السياسية والمجتمعية التي تتخفى وراءه. وهنا يجوز
القول إن تشكُّلات الإسلام بحسب البيئات، على العموم، هي نتاج الخبرات المحلية للبلدان
المفتوحة في تفاعلها مع أصول الإسلام، وليست أبدًا ترجمة مطابقة تستنفد ما في هذه الأصول
من إمكانيات للتشكُّل (المكاني والزماني) لا تقبل الحصر، وهو ما يمكن التمثيل له
باعتبار الإمام مالك لمركزية عمل أهل المدينة في تشكيل تجربة الإسلام المديني.
وهنا يشار إلى أنه إذا كانت دعوى الإسلام الواحد الذي يلزم تطبيقه في كل مكان — بصرف
النظر عن أي اختلاف ثقافي وجغرافي بين البيئات التي ساد فيها الإسلام — هي إحدى الدعاوى
الأكثر مركزية لخطاب التعالي بالسلف، فإنه يلزم التنويه بأن هذه الدعوى لا تنفصل عن
التصور المستقر في هذا الخطاب للقرآن كصفة قديمة لله (بما هو كلامه)، وليس كخطاب
للعباد، وهو التصور الذي يجد أصوله عند الآباء الأوائل لهذا الخطاب وعلى رأسهم الشافعي
وابن حنبل والأشعري. وبالطبع، فإن ذلك يعني أن تصور القرآن كخطاب للعباد، وعلى النحو
الذي يجعل الإنسان داخلًا في تركيبه (تنزيلًا وتأويلًا)، هو ما سيفتح الباب أمام ضروب
من التشكُّل المعرفي والسياسي والمجتمعي التي هي الشرط اللازم لفاعلية حقيقية تؤسس
لإخراج العرب — وربما المسلمين جميعًا — من المأزق الذي ينحبسون فيه على مدى
القرون.