القصة كلها بدأت مع الحليب
بالرغم من أن مناطق شاسعة من جبال الألب ومنطقة الجورا في سويسرا غيرُ صالحةٍ للزراعة، ظلَّت تربية المواشي تُشكِّل النشاط الزراعي الأساسي، وبقيَ الحليب المُنتَج الرئيسي منذ العصور الوسطى. ولقد بدأَت صناعة الأغذية في سويسرا مع بداية استخراج مشتقات الحليب التي كانت في البداية تقتصر على إنتاج الزبد والجبن للأسواق المحلية، وكانت هذه وسيلةً فعَّالة لحفظ كمٍّ هائلٍ من السعرات الحرارية اللازمة، خصوصًا خلال أيام الشتاء الطويلة والقاسية. وسريعًا ما أصبح من الواضح أن التجارب والخبرة — إضافةً إلى التكنولوجيا — تتيح تحويلَ الحليب إلى منتجات يُمكِن أن تتجاوز الحدود والأذواق المحلية، وأدرك المنتجون أن الجبن غالبًا ما يتحسَّن مذاقه بمرور الوقت، وأن عملية تحويل الحليب إلى جبن تزيد من قيمته كما تخفض إمكانية تلفه؛ وبهذا فإن تطوير السويسريِّين لتقنياتٍ تساعِدهم على مواجهة عزلتهم باتَتْ مفتاحًا لولوج الأسواق العالمية.
***
أولى الماركات العالمية
في عام ١٦٨٧ بدأ كانتون بيرن بالترويج لتجارة الجبن كوسيلةٍ لتحفيز حركة التجارة المحلية وتعزيزها، هذا مع العلم أن مجموعاتٍ أخرى من منتجي الجبن كانت موجودةً في المنطقة، حتى قبل ذلك الحين، في أماكن مثل: غروبير (وهي المنطقة التي سُمِّيَ على اسمها جبن جروبير)، وكانتون فاليه، ومنطقة إمينتال، وبيرنر أوبرلند، وكانتون آبينتسيل، وهي مناطق ما زالت تُنتج ماركاتِ أجبانٍ معروفة في جميع أنحاء العالم. إلا أنه منذ أوائل القرن الثامن عشر كانت تسيطر على تجارة الحليب ومشتقاته — إلى حدٍّ كبير — البنوكُ وقطاعُ صناعة النسيج، اللذان كانا المؤسستَين الوحيدتَين اللتَين تملكان المواردَ المالية الكافية والعلاقات التجارية اللازمة للوفاء بمتطلبات التجارة عَبْر مسافاتٍ طويلة. وبعد خمسينيات القرن الثامن عشر، بدأ حجم الصادرات يزداد بسرعة، وفي بداية القرن التاسع عشر أصبح من الممكن شراءُ الأجبان السويسرية في العديد من البلدان الأوروبية، وكذلك في مناطقَ بعيدةٍ مثل شمال أفريقيا والولايات المتحدة، وكان جبن إمينتال أول علامةٍ تجارية سويسرية عالمية، وكانت هذه أول مرة تتمايز فيها الأجبان من حيث الشكل والمذاق. ويحتوي جبن إمينتال على فجواتٍ في شكل فقاعات يسبِّبها ثاني أكسيد الكربون، وتظهر نتيجةً للتفاوت في الضغط، وقد أصبح اسم إمينتال مرادفًا للجبن السويسري.
في ظل غياب قوانين تنظيم براءات الاختراع الدولية، كان من الصعب حماية الملكية الفكرية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بما يُسَمَّى بالوصفات المنزلية، ولم يَمْضِ على ذلك وقتٌ طويل حتى أدرك صانعو منتجات الألبان في البلدان الأخرى أن باستطاعتهم هم أيضًا إنتاجَ أجبانٍ مماثِلة وتسميتها إمينتال وأبنتسيلر، ومنافسة المنتجين السويسريين بها في أسواقهم المحلية، ولكنَّ المنتجين السويسريين تعلَّموا درسًا مهمًّا من هذه التجربة، وأدركوا أنه كان عليهم — منذ ذلك الوقت فصاعدًا — تطويرُ منتجاتِ أجبانٍ ذات قيمةٍ مضافة وجودة عالية، لدرجةٍ يصبح من الصعب تقليدها؛ والآن هناك قرابة ٤٥٠ صنفًا من الأجبان يتم تسويقها رسميًّا بصفتها جبنًا سويسريًّا، ويتميز كلُّ صنفٍ منها بمَلْمسه ومذاقه ومظهره ومصدره وأسلوب صناعته.
لمَّا كان الجبن المُعالَج مُنتَجًا جديدًا
تعزَّزت قوة شركة أجبان جيربر بشكل متواصل، وتزايدت يومًا بعد يوم، وبسرعةٍ جذبَتِ اهتمامَ المنافسين، وفي عام ١٩١٨ باع جيربر ٢٥ في المائة من أسهمه إلى الاتحاد المركزي السويسري لمنتجي الحليب، وفي عام ١٩٢٧ باع ٢٥ في المائة أخرى لشركة نستله، واليومَ أصبحت شركة أجبان جيربر مملوكةً لشركة إيمي — أكبر شركة سويسرية لمعالجة الحليب ومشتقاته — وهي ناشطة في جميع أنحاء العالَم بعد أن استحوذت على شركة روث، وهي مصنع للجبن الأمريكي، في عام ٢٠٠٩.
تحويل الحبوب المُرَّة الغريبة
على عكس الجبن، فإن أصول الشوكولاتة لم تنشأ في سويسرا، بل كانت بعيدةً عنها؛ ففي عام ١٥٠٤ رجع كريستوفر كولومبوس من رحلته الرابعة إلى العالَم الجديد حامِلًا معه مادةً غذائيةً جديدة وغريبة، ألا وهي حبوب الكاكاو. كانت هذه الحبوب غير المألوفة والشوكولاتة المستمَدة منها غريبة كليًّا عن كلِّ ما كان معروفًا آنذاك في أوروبا، ولم يكن المشروب الأصلي المصنوع من هذه الحبوب يحظى بشعبية في البلاط الإسباني؛ لأنه كان شديدَ المرارة، ولكنْ عندما استنبط هيرناندو كورتيز نُسخةً مُحلَّاة من هذا الشراب أُعجِب الناسُ به. كان مُقدَّرًا لهذه التجربة الغريبة والجديدة القادمة من أمريكا اللاتينية أن تجد لها مَوْطنًا، وأن تصبح أكثرَ المواد الغذائية شعبيةً في جميع أنحاء العالم، وفي مكانٍ لم يخطر على بالِ أحد، أَلَا وهو سويسرا، غير أن رحلتها كانت شاقَّةً وطريقُها ملتويًا.
لقد اكتشفَت ثقافتا الأزتِك والمايا القديمتان منافعَ نبتة الكاكاو، وساد الاعتقاد بين الناس بأن أكْلَ ثمرة هذا النبات يُكسِبهم القوةَ والحكمة، إلا أن الشوكولاتة قد اقتصرت على البلاط الإسباني وبقيت سرًّا حتى عام ١٦١٥ عندما تزوَّجت ابنة فيليب الثالث من الملك الفرنسي لويس الثالث عشر وجلَبَتها معها إلى فرنسا، عندها أصبحَتِ الشوكولاتة محبَّبةً لدى الطبقة الأرستقراطية في باريس، وانتشرت شعبيتُها والإعجاب بها من الحلقة الأرستقراطية الضيقة إلى جميع أنحاء أوروبا، بما في ذلك سويسرا، حيث كانت تربط نُخَبَها علاقاتٌ وثيقة بفرنسا بفضلِ خدماتِ المرتزقة، وبفضل اعتناقها الديانة نفسها.
كان من الواضح أن الشوكولاتة الصلبة الأُولى لم تكن تتضمن حليبًا في مكوناتها، ومن المُحتمَل أن يعود اختراع الشوكولاتة بالحليب إلى رجل سويسري يُدْعَى دانيال بيتر في سبعينيات القرن التاسع عشر، إلا أن شركة جوردان ويتماوس في دريسدن بألمانيا ادَّعت أنها كانت قد صَنعَت الشوكولاتة بالحليب في وقتٍ سابق لهذا التاريخ. وعلى الرغم من التنازُع على أصل اختراعها، إلا أن ما لا يختلف عليه اثنان هو أن الشوكولاتة بالحليب التي لا تتفتت حقَّقَتِ اختراقًا في الأسواق عندما بدأ السويسريون باستخدامِ رموزِ الجبال الخلَّابة والشاليهات الساحرة وحليب الألب على منتجاتهم لاستقطابِ زبائنَ جُدُد.
وكما هو الحال غالبًا في التاريخ، فإن النجاح يتبنَّاه آباءٌ كُثُر، ولكن مما لا شكَّ فيه أن الفضل يعود في هذا المضمار إلى عددٍ من الروَّاد الجريئِين الذين يستحقون الامتنان. وفي عام ١٨١٩، شيَّد شابٌّ سويسري يُدْعَى لويس كاييه أولَ مصنعٍ ميكانيكي لإنتاج الشوكولاتة بالقرب من مدينة فيفيه، وتبعه بعد ذلك عديدون، ومن بينهم ثلاثة رجالِ أعمالٍ أَصبحَت أسماؤهم بارزة، وهم: فيليب سوشار، ودانيال بيتر، ورودولف ليندت.
سمعة الشوكولاتة
يرجع الفضل في صنع سمعة الشوكولاتة السويسرية إلى فيليب سوشار، الذي كان قد بدأ مسيرته المهنية بصفته متدربًا في محل أخيه لصناعة الحلويات في بيرن، وفي عام ١٨٢٥ افتتح محلًّا خاصًّا به في مدينة نيوشاتيل، وبعد ذلك بعامٍ واحد انتقل إلى طاحونةٍ فارغة بالقرب من منطقة سيريير، وبنى هناك مصنعًا خاصًّا لإنتاج الشوكولاتة، ولكن بقي ما ينتجه عبارة عن حلوى داكنةٍ خشنة لم يُضَفْ إليها الحليب، ولكنْ كان هدفُه أن يصنع منها شوكولاتة مغذِّية تكون أسعارُها في متناول الجميع. وعندما وصلت السكة الحديدية إلى سيريير في عام ١٨٦٠، أعطى ذلك دفعةً قوية لشركته؛ إذ تزايَدَ الطلب على منتجاته من البلدان الأخرى؛ مما حداه إلى إقامة أول مصنع سوشار للشوكولاتة خارجَ سويسرا، تم بناؤه في عام ١٨٨٠ في لوراش في الجانب الألماني من الحدود السويسرية.
استغلَّ سوشار مكانةَ بلاده المتميزة في صنع الشوكولاتة بالحليب؛ فالحليب كان وفيرًا في بلده؛ ومن ثَمَّ كانت المادة الأولية رخيصةَ الثمن، ولكنه واجَهَ منافسةً شديدة، خاصةً من طرف عدد من الشركات الهولندية والبريطانية مثل: كادبوري وراونتري وهيرشي وفان هوتن، التي ظَهرَت جميعها في نفس الحِقْبة الزمنية لتُنافِسَ الشوكولاتة السويسرية، وكانت هذه الشركات من أصول الكويكرز (حركة دينية لها معتقداتٌ سليمة مماثلة لمعتقدات الآميش، وهي طائفة كوَّنها مهاجرون سويسريون وألمان وفرنسيون في بنسلفانيا في منتصف القرن السابع عشر).
لم تُعِقِ المنافسةُ نجاحَ سوشار، بل ازدهَرَت صناعته، وفي كثيرٍ من الأحيان، عبْرَ نقْلِ مَرافق إنتاجه إلى «عرين الأسد»؛ أيْ إلى أسواق المنافسين. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث واجهَتِ الصادراتُ عراقيلَ جمةً بسبب إعادةِ فرْضِ رسومٍ جمركية عالية، وبسبب القيود المفروضة على العملة؛ فتحَتِ الشركة مصانع شوكولاتة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والأرجنتين والسويد وجنوب أفريقيا، وكما كان الحال غالبًا بالنسبة إلى الأعمال التجارية السويسرية، كانت التدابيرُ الحمائية هي التي أجبرَتِ الشركاتِ السويسريةَ على أن تتحوَّل إلى شركاتِ إنتاجٍ محلية في بلدانٍ أجنبية؛ ومن ثَمَّ باتَتْ شركاتٍ عالميةَ النطاق قبل أن يصبح مفهومُ العولمة حديثَ الساعة الشائع.
الحب والمال وصناعة الشوكولاتة
هناك شخصيةٌ أخرى هامَّة في تاريخ صناعة الشوكولاتة، هي دانيال بيتر، الذي قد يكون مخترعَ الشوكولاتة بالحليب في عام ١٨٧٥. بادئ ذي بدء، لم تكن له أيُّ علاقةٍ بصناعة الحلويات؛ فقد كان والده جزَّارًا في مودون بكانتون فود، وبدأ هو متدربًا في تجارة البقالة، ثم في مصنعٍ للشموع في مدينة فيفيه. وفي الواقع كان الحب هو الذي وضعه على طريق صناعة الشوكولاتة؛ إذ إنه تزوَّجَ في عام ١٨٦٣ من كبرى بنات صانع الشوكولاتة فرانسوا لويس كاييه، وبعد ذلك بوقت قصير أكمَلَ دورةَ تدريبٍ عملي في مصنعٍ للشوكولاتة في مدينة ليون؛ ومِن ثَمَّ استخدَمَ اسم والدِ زوجته لإنشاء شركةِ بيتر كاييه وشركاؤه.
خلال السنوات القليلة الأولى، واجهَتِ الشركةُ بعضَ الصعوبات، لكن بيتر — بعد عدة تجارب على الشوكولاتة بالحليب — نجح في عام ١٨٧٥ في صنع أوَّل شرابِ شوكولاتة بالحليب على شكلِ مسحوق، ثم استغرق الأمر ١٣ سنة قبل أن ينجح في صنعِ ألواح الشوكولاتة الصلبة التي كان يُسوِّقها تحت علامة «جالا بيتر». وعندما أَطلَق المُنتَج في السوق البريطانية تحت اسم «شوكولاتة بيتر الأصلية بالحليب»، استطاع أخيرًا أن يحقِّق نجاحًا باهرًا، وانتهى به المطاف في عام ١٩١١ إلى دمج شركته مع شركة والد زوجته. أدركَتْ شركة نستله أن هذه الشركة المندمجة من شأنها أن تسهِّل لها الدخولَ إلى سوقٍ سريعةِ النمو، فاشترَتْ في البداية ٣٩ في المائة من الشركة قبل أن تستحوذ عليها كليًّا في عام ١٩٢٩. كانت شركة بيتر كاييه أوَّلَ مَنْ فتح الأبواب أمام نستله لغزو سوق صناعة الشوكولاتة، وهي قطاعٌ يُدِرُّ عليها اليومَ إيراداتٍ قيمتُها ١١٫٢٦ مليار دولار أمريكي في أكثر من ٦٠ بلدًا حول العالم.
كان رودولف ليندت واحدًا من أهم الرواد الثلاثة في صناعة الشوكولاتة السويسرية؛ حيث إنه صنع أولَ شوكولاتة ليِّنة في العالم باستعمال آلة لبشر الشوكولاتة وخَلْطها تُسَمَّى «كونش»، وهي آلة تعطي الشوكولاتة قوامًا ليِّنًا يجعلها تذوب في الفم بنعومةٍ عوضًا عن القوام الخشن المتفتِّت الذي كانت تتَّسِم به من قبل. تقول الأسطورة إن ليندت — الذي كان عمره آنذاك ٢٤ عامًا — نسي إيقافَ تشغيل آلة الخلط التي كانت تعمل بطاقة المياه طَوال عُطلة نهاية الأسبوع، ولدى عودته يوم الإثنين صباحًا وجد فيها خليطَ شوكولاتة شديدَ الليونة استطاع صبَّه في القوالب دون مَشقَّةٍ ودون الحاجة إلى حقنه، وهذا واحدٌ من الأمثلة العديدة عمَّا يُسَمَّى «اختراع الصدفة» أو حُسْن الحظ الذي يأتي دون سابق إنذار، والذي حدَّدَ معالمَ التنمية الصناعية السويسرية ودفع عجلتها.
للآلة سرها
بعد اكتشافه هذا الاختراع المهم، حافَظَ ليندت — المتبصِّر في مجال التجارة — على سرِّ خليطه طيَّ الكتمان طوال ٢٠ عامًا، وأعطى حقوقَ بيع مُنتَجه بعمولةٍ إلى الحلواني جون توبلر في مدينة بيرن، غير أنه بقي حريصًا على عدم الإفصاح عن سر وصفته، وكان ليندت يمارس ضغوطات مستمرة لتقليص عمولة توبلر حتى اضطر هذا الأخير إلى فتح مصنعه الخاص آخِذًا معه زبائنه. وبعد أن كان ليندت قد رفض — في العديد من المناسبات — بيعَ شركته أو دمجها مع شركة أخرى، واجَهَ ظروفًا صعبةً اضطُرَّ على إثرها إلى بيع شركته في عام ١٨٩٩ بمبلغ ١٫٥ مليون فرنك سويسري إلى شركة شبرونجلي للشوكولاتة، وكانت هذه بداية أكبر شركة شوكولاتة سويسرية بقيت ملكيتها في أيدٍ مستقلةٍ — ليندت وشبرونجلي — ولديها ثمانية مصانع إنتاج خاصة بها في أوروبا وفي الولايات المتحدة، وتبيع منتجاتها في أكثر من ١٠٠ بلد. ولاحقًا انفصلت الشركة من جديد؛ إذ أُدرِجت شركة ليندت وشبرونجلي في سوق الأسهم، في حين بقيت شبرونجلي شركةً عائلية خاصة يملكها ويُدِيرها فَرْدان من الأسرة، هما توماس وميلان برنوسيل.
يعود الفضل في نجاح صناعة الشوكولاتة السويسرية بالأساس إلى مزايا التفوق النسبي فيما يخصُّ السعر والجودة، وكذلك إلى ابتكار وتطوير المنتجات، سواء أكان ذلك بمحض الصدفة أم بخلافه، إلا أن الشوكولاتة كانت قد لاقت في وقتٍ لاحق رواجًا بفضل بداية السياحة الدولية؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت سويسرا واحدة من أكثر الوجهات السياحية شعبيةً بين صفوف الأثرياء من جميع أنحاء العالم، ولا غرابةَ أن السياح قد تعلَّموا حبَّ الشوكولاتة السويسرية وأذاعوا صيتها في بلدانهم، وبحلول عام ١٩٠٠ كان أكثر من ثلث صادرات الشوكولاتة في العالم يأتي من سويسرا، وأصبحت هذه التجارة مصدرًا هامًّا للعمالة وموردًا للعملات الأجنبية.
بدايات شركة نستله، من هاينريخ إلى هنري
على الرغم من أن نستله هي أكبر الشركات السويسرية وأكثرها شهرة، فإن جذورها لا تعود إلى الشوكولاتة ولا إلى سويسرا، وغالبًا ما كان أهم الأشخاص في تاريخ الصناعة السويسرية من المهاجرين واللاجئين الذين تركوا وراءهم كل شيء، ولم يكن لديهم الكثير ليخسروه، وفي كثير من الأحيان كانوا يعملون على هامش المجتمع بسبب إمكانياتهم المتواضعة واختلاف معتقداتهم وصعوبة قبولهم في المجتمعات المحلية، وكانت الطريقة الوحيدة لكسب احترام الآخرين وتقديرهم تكمن في تحقيق الإنجازات، وكان من بين هؤلاء هاينريخ نستله الذي وُلِد في عام ١٨١٤ في مدينة فرانكفورت في ألمانيا، وجاء إلى سويسرا في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر هَرَبًا من الاضطهاد السياسي.
وفي عام ١٨٣٩، بدأ نستله الشاب بالعمل مساعدًا لصيدلي اسمه مارك نيكولييه في مدينة فيفيه، وكان لنيكولييه تأثيرٌ حاسم على نستله الذي سريعًا ما غيَّر اسمه الأوَّل إلى الفرنسية ليصبح «هنري نستله»، وأظهر منذ البداية نوعًا من الفضول الذي يحفِّز على الابتكار، وتحت رعاية صاحب عمله، تعلَّمَ نستله الأساليبَ المعمولَ بها في علم الكيمياء الذي كان يشهد تطورًا سريعًا في تلك الفترة، وهذا ما ساعَدَ نستله أيضًا على الاندماج في مجتمع فيفيه، وأدَّى به في النهاية إلى تأسيس شركةٍ مستقلة خاصة به.
وباستخدام المباني والمعدات التي حصل عليها من نيكولييه، أجرى نستله تجاربَ على مجموعةٍ واسعة من التراكيب الكيميائية تشمل الزيوت والمشروبات الكحولية والخل والأسمدة، متَّبِعًا الطريقة التي تعلَّمها تحت إشراف معلمه، كما جاء أيضًا بفكرة جديدة لإنتاج المياه المعدنية بنكهة الليمون بعدما عمل على إيصال المياه العذبة إلى مكان عمله عبر الأنابيب. كان نستله من أوائل رجال الأعمال في سويسرا الذين سوَّقوا مشروبات غازية بنكهات مختلفة معبَّأة في زجاجات على صعيد تجاري، كما كان إلى حدٍّ ما طفلًا معجزةً، وتمكَّن قبل عامه الثلاثين من القفز من منصب مساعد إلى مالكٍ مستقلٍّ يدير مصنعه الخاص.
وفضلًا عن ذلك، بدأ هذا المهاجر الفضولي والمحب للاطلاع يُظهِر موهبة في تحويل الابتكار إلى نجاح تجاري. وفي عام ١٨٤٩ أنشأ نستله مختبرًا كيميائيًّا وركَّز نشاطه على تطوُّر منتجات كان يشعر أنها ستلقى قبولًا لدى المستهلكين، وكان عدد سكان سويسرا يتزايد باستمرار، وبما أن الأُسَر كانت تُنفِق آنذاك ما بين ٥٠ و٨٠ في المائة من دخولها على الغذاء، قرَّرَ نستله إذًا التركيزَ على المنتجات الغذائية.
الوصفة السحرية للأطفال الرُّضَّع
كان نستله يُدرك أن القوى العاملة في المصانع تضم الكثير من الرجال والنساء الضعفاء الواهنين، وأن ساعات العمل الطويلة وتَدنِّي الأجور والتغذية غير الملائِمة وأساليب الحفاظ على النظافة غير الكافية تتسبَّب في معدلاتِ وَفَياتٍ مرتفعة بين الأطفال والرُّضَّع، إضافةً إلى أن النساء اللواتي يرغبن في العمل في المصانع لا يُمكِنهن ذلك بسبب الرضاعة الطبيعية، بينما تعمل أُخْرَيات وتتركن أطفالهن دون توفير الكمية اللازمة من الحليب لهم؛ وبذلك كانت الحاجةُ إلى إيجادِ بديلٍ مناسِبٍ لحليب الأم قد حفَّزت نستله على استنباطِ طريقةٍ لحفظ الحليب من التلف لكي يُلائِم تغذية الأطفال بشكل مأمون.
رأت الوصفة السحرية النورَ في عام ١٨٦٧، فانطلاقًا من تحليل حليب الأم، نجح نستله في تصنيع مسحوقٍ قابلٍ للذوبان يتكوَّن من خليط الحليب والخبز الهش (البسكويت الجاف) الذي يتميز بقيمة غذائية عالية، ويمكن تغذية الأطفال به بأمان، وكانت طريقة التحضير مناسِبةً جِدًّا للأمهات العاملات؛ إذ إنها لا تتطلَّب سوى غلْيِ المسحوق بالماء لبضع دقائق فقط، وبعد تجارِبَ ناجحةٍ افتُتِح مصنعُ إنتاجٍ تجريبي في نفس العام، وتجاوزت المبيعات الأولى كلَّ التوقعات، وفي غضون سبع سنوات بِيعَ ١٫٦ مليون علبة من المُنتَج الجديد، وأصبحت شعبيتُه واسعةَ النطاق، ليس فقط في سويسرا بل كذلك في جميع أنحاء أوروبا الغربية، وكذلك في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وروسيا وأستراليا والهند. اخترع نستله «غذاء الأطفال»، وأصبح هذا المُنتَج العلامةَ التجارية الأولى للشركة، وبات لها حضورٌ عالمي فعلي. إن العلامات التجارية تُبنَى على الثقة، ولم تكن نستله لتستطيع إيجادَ مُنتَج لكسب الثقة أفضلَ من مُنتَج «غذاء الأطفال» الذي يجسِّد روابطَ الثقة بين الأم وطفلها.
من علامة تجارية رائعة إلى مُقاطَعة رهيبة
لم يكن نستله ليتصوَّر أن مُنتَجًا طُوِّر خصوصًا لتحسين التغذية وإنقاذ الأرواح سيُفضِي بعدَ مرور قرنٍ من الزمن إلى حملةِ مُقاطَعةٍ لجميع مُنتَجاته، وإلى تحويل علاقات الشركة مع عامة الناس إلى كابوس؛ ففي عام ١٩٧٧ أطلق نشطاءُ شعارَهم الذي لا يُنسَى: «نستله تقتل الأطفال»، مُدَّعين أن حملات الإعلان والترويج المكثفة التي تقوم بها الشركة لأغذية الأطفال تجعل الأمهات في البلدان النامية متلهِّفاتٍ لاستعمال مُنتَج نستله بأي طريقة، سواء أكانت آمنة أم لا، وفي أسواقٍ يَسُودها الفقر وترتفع فيها نسبةُ الأمية، لا تستطيع الأمهات القراءةَ لاتباعِ إرشادات التحضير، فيخلِطْنَ المسحوقَ بالمياه المحلية الملوَّثة، أو يستعمِلْنَ كميةً قليلة جِدًّا من المسحوق نظرًا لسعره المرتفع؛ وبذلك يتركْنَ أطفالهن يتضورون جوعًا عن غير قصد، وقد تفاوتت تقديراتُ خسائرِ الشركة التي استمرت حتى أوائل الثمانينيات لتصل إلى ٤٠ مليون دولار، وفي مثل هذه الأحداث يتبادر إلى الذهن ما قاله يومًا الرئيسُ التنفيذي السابق لنستله بيتر برابيك: «نستله هي واحدة من أكثر الديمقراطيات الفعالة في العالم، وهناك مليارات من الناس الذين يشترون منتجاتها يوميًّا، وكأنهم ينتخبونها بحرية.» ولكن مما لا شك فيه أن نستله كانت بطيئةً في إدراك أهمية التحدي الذي تفرضه علاقاتُها العامة مع المستهلكين.
في البداية كان هدف هنري نستله إنتاجَ غذاءِ أطفالٍ يكون في متناول الجميع، ولم يدَّخِر جهدًا في محاولة إقناع الأطباء والأمهات بفوائده، وعلى الرغم من أن طاقته وحُسْن نواياه لم يكن لهما حدود، إلا أن موارده المالية كانت محدودة، وبحلول عام ١٨٧٣ تجاوَزَ الطلب على منتجات نستله القدرات الإنتاجية للشركة؛ ممَّا أدَّى إلى عدم احترام مواعيد التسليم. وفي عامه الحادي والستين، كان نستله يدير شركتَه بفتور؛ إذ بدأت أفكارُه تتَّجِه نحو التقاعُد، وكان هناك عضوٌ سابق في برلمان الكانتونات يُدْعَى جول مونارت ويقيم في فيفيه، وكان مهتمًّا بالشركة منذ فترة طويلة، وفي عام ١٨٧٤ قَبِل نستله عرْضَ مونارت البالغ مليونَ فرنك سويسري لشراء الشركة التي كانت تشغل آنذاك ٣٠ عاملًا؛ وبذلك اكتسب مونارت ملكيةَ شركةٍ ستبلغ قيمتُها في يومٍ من الأيام حوالي ٢٠٠ مليار فرنك سويسري، وتشغل لحسابها ٢٨٠ ألفَ شخص.
روابط الشركة مع أمريكا
ضاعَفَ أصحابُ الشركة الجُدُد طاقةَ الإنتاج بسرعة، وحوَّلوا اهتمامَهم نحو منتجات جديدة، وأحدُ هذه المنتجات كان الحليبَ المكثَّف الذي ابتُكِر في الولايات المتحدة، واكتسب بسرعةٍ شعبيةً كبيرة، ومن المُفارَقات أن هذه الفرصة أتَتْ من خلال مُهاجِرٍ أمريكي يعيش في سويسرا.
كان شارل بايج يعمل قنصلًا أمريكيًّا في زيوريخ عندما رأى أن سويسرا — بكميات الحليب الوفيرة فيها، وسهولة الوصول منها إلى السوق الأوروبية كلها — كانت الموقعَ المثالي لإنشاءِ مصنعٍ للحليب المكثَّف، هذا مع العلم أن اختراعَ وإنتاجَ أولِ حليب مكثَّف ومُعلَّب كان قد تم في الولايات المتحدة على يد جايل بوردن قبل بضع عشرة سنة، وقد خطَّطَ شارل بايج للحصول على ترخيصٍ لإنتاجِ وبيْعِ «حليب بوردن» في السوق الأوروبية، وجنبًا إلى جنب مع أخيه جورج بايج كوَّنا شركة أنجلو سويس للحليب المكثَّف في مدينة خام بكانتون تسوج التي تُعتبَر المنطقةَ الرئيسية لصناعة الألبان في سويسرا، وقد صِيغَ اسم الشركة لكسْبِ ودِّ البريطانيين الذين كان يأمل بايج أن يبيعهم قدْرًا كبيرًا من حليبه المكثَّف. شهدت بداياتُ شركة أنجلو سويس نجاحًا كبيرًا، وفي عام ١٨٧٧ قرَّرَتِ الشركةُ — مدفوعةً بحماسةِ الثقة — توسيعَ مجموعةِ منتجاتها بتصنيع الجبن ومنتجات الحليب الخاصة للأطفال الرُّضَّع، ولم تلبث نستله أن ردَّتْ على ذلك بإطلاقِ مُنتَج خاص بها من الحليب المكثَّف، عندها نشبَتْ حربُ أسعارٍ كانت عواقبُها باهظةَ الثمن. ولكن في عام ١٩٠٥ قامت شركتا نستله وأنجلو سويس للحليب المكثَّف أخيرًا بوضْعِ حدٍّ لهذه المنافسة الشَّرِسة من خلال دمْجِ الشركتين معًا تحت اسم شركة نستله وأنجلو سويس للحليب. كان جورج بايج ضدَّ عمليةِ الدمج، لكنْ إثْرَ وفاته وافقَتْ أرملته وابنه على الصفقة، وأُدِيرت الشركة عن طريق مكتبَيْن مسجَّلين: واحد في فيفيه، والآخَر في خام، وكان للشركة المندمجة سبعةُ مصانع في سويسرا وستةٌ في المملكة المتحدة، وثلاثةٌ في النرويج، ومصنعٌ واحد في كلٍّ من الولايات المتحدة وألمانيا وإسبانيا، وكانت هذه الصفقة بمثابة حجرِ أساسٍ لإنشاء تجارةٍ عالميةِ النطاق.
عملية دمج سويسرية كلاسيكية
بالرغم من أن شركة أنجلو سويس توسعت وصارت أكثر ربحية، فإن نستله استطاعت بطريقةٍ ما الحفاظ على مقر الشركة في فيفيه مع إبقاء اسمه نستله مهيمنًا عليها. تُوفِّي شارل بايج وبدأ أخوه يهتم أكثر فأكثر بالأعمال في الولايات المتحدة عوضًا عن أوروبا، إلا أن الروابط استمرت بوجود ستيف هوخ، سليلِ أسرة بايج، ورئيسِ المؤسسة السويسرية الأمريكية، وعضْوِ مجلسِ إدارةِ شركة نستله.
كانت مرحلةُ النمو الأولى لشركة نستله عضويةً إلى حدٍّ ما؛ إذ إن السوق كانت حديثة العهد نسبيًّا وسريعة النمو، وترافق معها نمو الشركة. أتاحت عملية الاندماج مع أنجلو سويس لشركة نستله الاستفادةَ من الطلب المتزايد على منتجات الألبان قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها، ولمُواجَهة ضرائب الاستيراد المتزايدة في أستراليا — ثاني أكبر سوق لنستله في مجال الصادرات — قرَّرَتِ الشركة في عام ١٩٠٧ أن تبدأ بتصنيع منتجاتها محليًّا هناك.
الحرب تُنتج مفهوم العولمة
جاءت الموجة التالية من النمو نتيجةً للحرب؛ لأن سويسرا كانت مُحاطة ببلدان في حالةِ حربٍ بالرغم من أنها لم تشارك فيها، فعند اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٤، كانت معظم مصانع نستله قائمةً في أوروبا، وبحلول عام ١٩١٦ كانت مصانع نستله غالبًا ما تبيع كلَّ مخزونها من الحليب لتلبية احتياجات المدن المحلية بسبب نقص الحليب في سويسرا، غير أن مشكلات الشحن أدَّت إلى زيادة تكاليف التصنيع والتشغيل، كما أن القيود المفروضة على استخدام مرافق الإنتاج في البلدان المتحاربة قد زادت من حِدَّة الصعوبات التي واجهتها نستله، ولمعالجة هذه المشكلات قررت الشركة التوسع في البلدان الأقل تضررًا من الحرب، وبدأت بشراء المصانع وخاصةً في الولايات المتحدة؛ حيث كانت للشركة علاقاتٌ مع العديد من الشركات هناك.
وبحلول عام ١٩٢١ باتت نستله تملك ثمانين مصنعًا، وبلغ إنتاجها العالمي ثلاثة أضعاف ما كان عليه في عام ١٩١٤، بينما كان منافسوها الأوروبيون واقعين في شِراكِ واحدةٍ من أسوأ الحروب على الإطلاق. وبعدَ طفرةٍ قصيرةِ الأمد ما بعد الحرب، ألحقَتْ عودةُ المنافَسة والحماية خسائرَ جسيمةً بالشركة في عام ١٩٢١؛ مما أدى إلى إعادة هيكلتها بشكل جذري وإلى رفع معدل التمويل الذاتي؛ ولهذا السبب كانت نستله في وضع جيد أتاح لها مُواجَهةَ الركود الكبير مُقارَنةً بمنافسيها الذين كانوا يفتقرون إلى النقد (ويبدو أن إحدى سمات الشركة السويسرية «أنها تعيش في حدود إمكانياتها»، وترفض أن تعتمد على الاقتراض المصرفي لتحقيق نموها)، وعلاوةً على ذلك كانت الشركة تُعيد الاستثمارَ في رأس مالها بشكل متزايد لتنمية أصولها وممتلكاتها من مصانع ومَقرَّات تنمو خارجَ سويسرا وفي أهم الأسواق.
أصبحت نستله قوية جِدًّا، حتى إن الركود الكبير لم يكن له إلا تأثيرٌ ضئيل على تقدُّمها، كما أن شركتها الفرعية في الولايات المتحدة بالكاد شعرَتْ بانهيارِ سوقِ الأسهم وبالانكماش الاقتصادي عام ١٩٢٩، وبالرغم من أن الأرباح في عام ١٩٣٠ كانت قد انخفضت بنسبة ١٣ في المائة عن العام الذي سبقه، فإن نستله لم تواجِه مشكلات ماليةً كبيرة. وفي الواقع — باستثناء عام ١٩٢١ — لم تخسر الشركة أموالًا طوال سنواتِ نشاطها منذ عملية دمجها مع أنجلو سويس، ويرجع الفضل في ذلك أساسًا لإدارتها الحَذِرة، وممَّا ساعَدَها أيضًا هو أن قطاع صناعة الأغذية لا يتأثَّر كثيرًا بالتقلُّبات الاقتصادية؛ لأن طبيعة البشر تحتِّمُ عليهم أن يأكلوا، فلا يمكنهم تأجيل شراء الأغذية كما يؤجلون شراء الساعات الفاخرة أو الخدمات الرأسمالية الباهظة الثمن.
نجاح فوري واكَبَ القهوةَ الفورية
أطلقَتْ نستله أولَ مُنتَج لها لا يحتوي على الحليب في عام ١٩٣٨، وكان ذلك المُنتَج هو «نِسكافيه»، وكانت هذه القهوة الفورية الحديثة (القهوة السريعة الذوبان) ثمرةَ ثماني سنوات من الأبحاث التي بدأت عندما تساءَلَ ممثِّلٌ من معهد القهوة البرازيلي إذا كان في وسْعِ نستله أن تُصنِّع «مكعَّباتٍ من القهوة» لمساعدة البرازيل في حفظ الفائض الكبير من القهوة لديها، وأتى مُنتَج نستله على شكلِ مسحوقٍ قابلٍ للذوبان عِوَضًا عن المكعبات، مما يسمح للمستهلكين بالتحكُّم في كمية القهوة التي يريدون استخدامها، وسريعًا ما اكتسبت نسكافيه سمعةً عالَمية بعد إطلاقها في الولايات المتحدة في عام ١٩٣٩ حيث كان نجاحها استثنائيًّا، وتحافظ نسكافيه اليومَ باستمرارٍ على مكانةٍ عالية بين العلامات التجارية الأكثر رواجًا من خلال إرضاء عُمَلائها في جميع أنحاء العالم، كما أنه بالنسبة للكثير من الناس أصبحت نسكافيه رمزًا للقهوة الفورية.
غير أن الحرب العالمية الثانية كانت لها عواقب وخيمة على شركة نستله؛ ففي عام ١٩٣٩ تراجعت الأرباح إلى ٦ ملايين دولار أمريكي مُقارَنةً بأرباح العام الذي سبقه، التي بلغت ٢٠ مليون دولار أمريكي، وكما كان الوضع في الحرب العالمية الأولى، عانت الشركة من نقصٍ في المواد الغذائية والإمدادات الكافية من المواد الأولية، ولكي تَشنَّ نستله معركتَها الخاصة ضد الحرب، قرَّرت الشركة تقسيمَ مَقرِّها بنقل جزءٍ من الإدارة والفريق التنفيذي إلى مكتبٍ في ستانفورد في ولاية كونيكتيكت حيث يُمكِنها الإشرافُ على الأسواق البعيدة بنحوٍ أفضل، كما كان مكتب ستانفورد أيضًا بمثابةِ إجراءٍ احتياطي في حالِ وقعَتْ سويسرا تحت السيطرة النازية.
إلا أن الحرب جلبت معها أيضًا فرصةً بفضل حياد سويسرا؛ إذ كان البريطانيون والفرنسيون يقاطعون المنتجات الألمانية، إلا أن مصانع نستله بقيت بمنأًى عن المقاطعة. وعندما دخلت الولايات المتحدة في الحرب في عام ١٩٤١، كان هناك طلبٌ كبير على النسكافيه والحليب المجفَّف من طرف القوات المسلحة الأمريكية، فقفز إجمالي مبيعات نستله من ١٠٠ مليون دولار أمريكي قبل الحرب إلى ٢٢٥ مليون دولار في عام ١٩٤٥، وهذا يشمل الزيادة الهائلة التي سُجِّلت في أمريكا الشمالية؛ حيث ازدادت قيمة المبيعات من ١٤ إلى ٦٠ مليون دولار أمريكي.
نستله تشتري المزيد من المصانع
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وانطلاقًا من أُسُسٍ متينةٍ لشركة متعددة الجنسيات، بدأت نستله باتباع طريق مختلف تمامًا نحو النمو، فبعد أن ركَّزت الشركة بشكل كبير على النمو العضوي الطبيعي، بات لديها شهية هائلة للاستحواذ على منتجات جديدة في مناطق مختلفة، مثل شركة ماجي للتوابل في أوروبا، وشركة فيندوس للأغذية المُجمَّدة في إسكندينافيا التي أَفْضَتْ لاحقًا إلى ظهورِ علامةِ «تيسترز تشويس» — أيْ خيار المتذوِّقين — وهي القهوة المجفَّفة بالتجميد، كما استحوذت نستله على «ليبي»، وهو مصنع أمريكي لصناعة عصائر الفاكهة، وعلامة «ستوفيرز» التي أدخلت منتجاتِ نستله إلى قطاعِ الفنادق والمطاعم وأطلقت مجموعةً من المُقبِّلات المجمَّدة ذات السعرات الحرارية المنخفضة والتي لاقت رواجًا جَيِّدًا.
ولعل واحدة من أكثر الابتكارات ربحيةً في الجيل السابق تشكِّل مثالًا آخَرَ للإنجازات التي تحقَّقت بمحض الصدفة وليس نتيجةً للتخطيط الدقيق، ففي أواسط الثمانينيات أدركت نستله أن الطلب على نسكافيه قد أُصِيب بالركود، وأن هناك حاجةً للاستثمار في شيءٍ آخَر يُعِيد البريقَ من جديدٍ إلى العلامة التجارية الأصلية، وبدأت ملامحُ هذا المولود الجديد تظهر في عام ١٩٨٥ عندما اشترت نستله شركةً أمريكية لتحميص البن اسمها «الإخوة هيل»، وبعد مرور عامين أصبح لها حصةٌ في شركة دالماير في ميونيخ للقهوة المخمرة، وخلال فترة إعادة التَّمَوْضُع التي شهدتها الشركة، تبادَرَتْ إلى ذهن الباحثين في مختبراتِ نستله في فيفيه طريقةٌ تقنيةٌ كانوا قد اكتسبوها من معهد باتيل ميموريال؛ حيث تُعبَّأ القهوة المحمَّصة والمطحونة في كبسولات مُغلَقة بإحكامٍ يمكن استخدامها في آلة إسبرسو مصنوعة خصوصًا لهذا الغرض.
دخول اليابان من الباب العريض
في البداية لم يرغب أرتور فورَر — الرئيس التنفيذي لنستله آنذاك — باستثمارِ أيِّ مجهودٍ يُذكَر في هذا المُنتَج الجديد خوفًا من أن ينافس نِسكافيه، وفي عام ١٩٨٧ حُظِرَ العمل على أيِّ تطويرٍ إضافي له، عند ذلك قرَّرَ إيريك فافر — وهو عالِم في الغذاء لدى نستله — مُواصَلةَ الأبحاث بصفةٍ مستقلة، وفي عام ١٩٨٤ كان عليه الذهاب بعيدًا حتى اليابان لإقناع رئيس نستله هناك بإجراء اختبار للمُنتَج الجديد في السوق المحلية. حقَّقَتِ التجرِبةُ نجاحًا كبيرًا، وبذلك شهدت نستله ولادةَ «نِسبرسو». تأسَّسَتْ شركة نِسبرسو، وهي شركة مملوكة كليًّا من نستله في عام ١٩٨٦ في فيفيه، وأُطلِق المُنتَج في السوق اليابانية في عام ١٩٨٧ (أيْ في نفس العام الذي تولَّى فيه جون بول جايار منصبَ الرئيس التنفيذي في نِسبرسو).
كانت السنوات العشر الأولى صعبةً على نِسبرسو؛ إذ كانت الأغلبية العظمى من أعضاء الإدارة العليا لا تُؤمِن بالمُنتَج ولا تقدِّم له الدعم، وفي الأساس كانت الشركة تركِّز على إمكانيةِ بيعِ المُنتَج في المكاتب والشركات الصغيرة، إلا أن هذه لم تُظهِر رغبتَها في شراءِ نظامِ الكبسولة الجديد، وكانت المحلات التجارية ترفض بيعَ الكبسولات، كما رفَضَ أصحابُ المصانع تصنيعَ الآلات الجديدة على مسئوليتهم الخاصة، ولكن ذلك لم يُثْنِ فافر — الذي كان آنذاك مسئولًا عن العمليات — عن عَزْمه، فأمر بتصنيع ١٠٠٠ آلة، وبدأ ببيعها للأفراد، كما أقام نظامَ بيعٍ مباشِر يُمكِن فيه تمرير طلب الشراء عبر البريد أو الهاتف ولاحقًا عبر الإنترنت، وكان كل ذلك لا يتماشى مع تقاليد الشركة الأم نستله، وعلاوةً على ذلك، أدخَلَ جايار في عام ١٩٨٩ فكرةَ «نادي نِسبرسو».
براءات الاختراع ليست أبدية
نجحَتِ الفكرة، وفي عام ١٩٩٥ حقَّقت نسبرسو أرباحًا لأول مرة، ومنذ ذلك الحين كان معدلُ نموها السنوي يتراوح بين ٣٠ و٤٠ في المائة، وبحلول عام ٢٠٠٤ كان لها ٣٣ محلًّا و١٧ شركة فرعية في ٣٥ بلدًا، إضافةً إلى ١٫٦ مليون عضو ناشط في نادي نسبرسو، وفي عام ٢٠٠٩ باتت العلامة تشغِّل ٤٥٠٠ موظف في أكثر من ٥٠ بلدًا، ومع اعتماد الممثل جورج كلوني كنجم لحملتها الإعلامية والترويجية، نجح المُنتَج الجديد في تحقيق مبيعات فاقَتْ بكثير ٢٠ مليار فرنك سويسري، وبفضل نسبرسو تُصدِّر سويسرا اليومَ كمياتٍ من القهوة تتعدَّى قيمتُها صادرات الجبن أو الشوكولاتة، وبقيَ على نسبرسو أن تُثبِت ما إذا كان بإمكانها الحفاظ على حصتها القوية في السوق بالرغم من منافسة شركة سار لي وشركة إيثيكال للقهوة (السويسرية أيضًا) اللتين تُصنِّعان كبسولات القهوة التي يمكن استخدامها في آلات نِسبرسو، خاصَّةً أن براءات الاختراع قد انتهت صلاحيةُ احتكارها في عام ٢٠١٢.
تحقِّق نسبرسو عائداتٍ تناهز ٣ مليارات دولار أمريكي، وتتمتع بأعلى نسبة أرباح مُقارَنةً بجميع علامات نستله الأخرى التي يبلغ عددها ٦٠٠٠ علامة تجارية، وذلك بفضل نموذج عمل مماثِل لنموذج عمل خرطوشة الحبر لطابعة الكمبيوتر الذي يقوم على مبدأ الترابط والتكامل، حيث يصبح العملاء متعلِّقين بالعلامة ويشترون مُنتَجها مرارًا وتكرارًا.
حاجة ماسَّة لماركات جديدة
بالرغم من النجاح الذي حقَّقته نسبرسو، بقي سجلُّ الابتكار والتطوير لدى نستله في أواخر القرن العشرين مُخيِّبًا للآمال بشكل عام، وفي عام ١٩٨١ عندما أصبح هلموت ماوخر مديرًا عامًّا، كان المساهمون في الشركة والعديد من المراقبين في السوق، يشكِّكون في قدرة نستله على الحفاظ على نموها المثير للإعجاب نظرًا لحجمها الهائل، وعلى سبيل المثال، فإن تحقيق معدل نمو بنسبة ١٠ في المائة كان يَتطلَّب في حينه مبلغ ٥ مليارات دولار من الإيرادات الجديدة، وهذا مبلغ يتعدَّى بكثيرٍ ما تحقِّقه أيٌّ من علاماتها التجارية الأخرى باستثناء نسكافيه، وحسابيًّا بدا ذلك بكل بساطة شبه مستحيل.
كان لفلسفة إدارة نستله اللامركزية العديدُ من المزايا المفيدة، لكنها كانت تشجِّع الإقطاعيات المحلية أيضًا مما جعل من الصعب الابتكار في جزءٍ واحد من المؤسسة، ثم تعميم الابتكار على الأجزاء الأخرى، كما أن قسم الأبحاث والتطوير التابع لنستله لم يحقِّق ابتكاراتٍ خارقةً بالرغم من المبالغ الكبيرة التي كانت تُستثمَر فيه.
وضع ماوخر خطةً تهدف إلى تحويل المشكِّكين بالشركة إلى مؤمنين بها، وكان ماوخر قد تَدرَّبَ في مصنعٍ للحليب تابعٍ لنستله في ألمانيا حيث كان يعمل والده، وبالرغم من بداياته المتواضِعة، كان له حسٌّ عملي إضافةً إلى معرفته الشاملة بخبايا عالَم الأعمال التجارية، وهذا ما ساعَدَه على تسلُّق سُلَّمِ النجاح في إدارة الشركة، ولكن بما أنه كان يعيش ويعمل على بُعْدِ ٣٠٠ ميل من مقر سكنه، لم يكن المرشَّح الأمْثَل لقيادة نستله خلال فترة النمو والتوسُّع العالمي غير المسبوقة التي تلت.
السماح بازدهار المواهب المحلية
في العادة يميل معظم القادة إلى اعتماد المركزية في السلطة، غير أن ماوخر سلك الاتجاهَ المعاكس لذلك تمامًا، فقد خفض النفقات العامة من خلال إعطاء المزيد من الصلاحيات إلى الوحدات العاملة المحلية، وقلَّصَ عددَ كبار الموظفين في المقر الرئيسي، الذين كانوا يحاولون التدخلَ في شئون مَن هم أقربُ منهم إلى الأسواق والعملاء. وفلسفة ماوخر — بأن دور المقر الرئيسي هو الخدمة عوضًا عن القيادة — تتشابه بشكلٍ ملحوظ مع النموذج السويسري للحكم؛ حيث تعود السلطةُ إلى المواطنين.
انغمَسَ ماوخر بعدَ ذلك في حملةِ تسوُّقٍ تركَّزت على اكتسابِ منتجات جديدة ودخول أسواق جديدة أيضًا، كانت وجهةُ نظره أن أفضل أنواع الابتكار هو عندما تلبِّي السلعُ المبتكرة احتياجاتِ الزبائن — أيْ أن يكون الابتكار محليًّا — وأن نستله قد أصبحت كبيرةً جِدًّا وبطيئةَ الحركة؛ ومن ثَمَّ يصعب توقُّعُ تحقيقِ المزيد من النمو من خلال الاستثمار في قسم الأبحاث والتطوير المركزي التابع لها، وكان شعاره: «من الأفضل الاستثمار في ابتكارٍ أثبَتَ صلاحيتَه محليًّا بدلًا من الاستثمار في جهود ضئيلة ومتباينة لمجموعة من العلماء.»
لم يكن حجمُ الشركة يمثِّل عائقًا بالنسبة إلى ماوخر، ففي عام ١٩٨٥ استحوذَتْ نستله على «كارنيشن»، وهو مصنع في الولايات المتحدة للحليب ومستلزمات الحيوانات الأليفة ومنتجات الطهي بمبلغ ٣ مليارات دولار أمريكي، وكانت هذه آنذاك واحدةً من أكبر عمليات الاستحواذ في تاريخ صناعة الأغذية. وفي عام ١٩٨٨ دفعت نستله مبلغ ٢٫٥٥ مليار جنيه إسترليني (أيْ ما يعادل ٤٫٤ مليارات دولار أمريكي) لشراء «راونتري ماكنتوش»، وهي شركة بريطانية رائدة في مجال تصنيع الشوكولاتة، وكانت هذه أيضًا أكبرَ عمليةِ استحواذٍ على شركة بريطانية من طرفِ جهةٍ أجنبية في ذلك الوقت، وفي نفس العام اشترت نستله شركة «بويتوني» المتخصصة في صناعة المكرونة الإيطالية والحلويات.
لم يكن ماوخر يشعر بالقلق تجاه وتيرة توسُّع الشركة، ففي عام ١٩٩١ وحده، قامت نستله بشراء ٣١ شركة، كما أضافت مصنعًا جديدًا في الصين أيضًا، وفي عام ١٩٩٢ دخلت بقوة إلى مجال المياه المعدنية من خلال الاستثمار في علامة «فيتيل» وشراء «بيرييه» بمبلغ ٢٫٣ مليار دولار أمريكي، في عملية استحواذ واجهت اعتراضًا شديدًا، وخلالَ فترةِ إدارةِ ماوخر، استحوذَتْ شركة نستله على مجموعةٍ مختارة ومتنوعة من الشركات مثل: بويتوني بيروجينا وسبيلر لأغذية الحيوانات الأليفة، وآلبو، وفريسكيز، وهيرتا.
نستله تتكيف لتصبح شركة عالمية
كانت سلسلة عمليات الاستحواذ الواسعة هذه قد أصبحت ممكنةً فقط عن طريق تغيير الهيكلية القديمة للأسهم؛ ففي عام ١٩٨٨ أنهَتِ الشركة قيْدًا كان معمولًا به منذ عام ١٩٥٩، وهو أن تكون ملكيةُ ثلثَيْ رأسمالها مقتصرةً على المواطنين السويسريين؛ وفي عام ١٩٩٣ تم إلغاء مبدأ «السهم الصادر لحامله دون حق التصويت» بالكامل، ومنذ ذلك الحين أصبح كلُّ سهمٍ واحد في نستله يعادل صوتًا واحدًا. كان ريتو دومنيكوني — مدير المالية لدى نستله في عهد ماوخر — قد وصف الهيكلية القديمة للسهم ﺑ «القيد المالي»؛ إذ لم تكن الشركة قادرةً على إصدار أسهم جديدة، كما كان المستثمرون الأجانب يُعامَلون بصفتهم مواطنين من الدرجة الثانية، فهم يشاركون في رأس المال دون أن يكون لهم حقُّ تصويتٍ يتناسب مع قيمة استثماراتهم. تخلَّت شركة نستله عن علاقاتها الحميمة مع البنوك والمساهمين السويسريين، ودخلت حلبةَ المنافَسة في أسواق الأسهم العالَمية، واليومَ انعكس الوضعُ وأصبح المساهمون الأجانب يسيطرون فعليًّا على ٦٣٫٥ في المائة من رأس المال المساهم.
علامات تجارية تحقق كل منها دورة أعمال سنوية تزيد عن مليار دولار
لقد مُنِيَت بعض الشركات التي حازت نستله على ملكيتها بالفشل؛ فتخلت نستله عن فيندوس؛ لأن منتجاتها قد واجهت مُناهَضةً من أجزاء أخرى من الشركة، وكانت نستله قد غزت أسواق النبيذ أيضًا عبر استحواذها على شركة واين وورلد إستايت، وهي مجموعة مصانع نبيذ في ولاية كاليفورنيا الشمالية، وكانت هذه الصفقة فاشلة، فبِيعَتِ الشركةُ في عام ١٩٩٥، إلا أن مثل هذه الإخفاقات والخسائر كانت قليلةً ومتباعِدة، ولكن الأهم هو أن الرهانات الكبرى قد حقَّقَتِ الأهدافَ المرجوَّةَ منها، وساهمت — كلٌّ بحسب حجمها — في نموِّ نستله الهائل. لم يكن لعلامات المياه المعدنية ومستلزمات الحيوانات الأليفة والمثلجات وجودٌ في شركة نستله في بداية التسعينيات، ولكن بحلول عام ٢٠١٠ (أيْ بعد مرور عشرين عامًا، وبعد شراء العديد من الشركات)، حقَّقَتْ نستله نموًّا في مبيعات في هذه المنتجات يناهز ٢٨٫٧ مليار فرنك سويسري (منها ٩٫١ مليارات من المياه المُعبَّأة، و١٣٫١ مليارًا من مستلزمات الحيوانات الأليفة، و٦٫٥ مليارات من المثلجات)، وعندما سُئِل ماوخر عن سبب اختياره لهذه القطاعات، أجاب بتواضُع: «كنت أحبُّ أن أقرأ صحيفتي مثل أي شخصٍ آخَر وأستمع إلى مديري المناطق المحليين، فتبيَّنَ لي بوضوحٍ إلى أين يتَّجِه العالَم.»
وفي عام ١٩٩٧ عُيِّنَ بيتر برابيك رئيسًا تنفيذيًّا للشركة، وبدأ يتسلَّم إدارة الشئون اليومية في شركة نستله من ماوخر، وقد ميَّزَ برابيك نفسَه عن الآخرين من خلال إنجازاتٍ تمثَّلَتْ بتأسيسِ وتنميةِ أعمال الشركة في بلدان مختلفة في أمريكا الجنوبية، وكان واضحًا أنه المُفضَّل لدى ماوخر ليكون خلفًا له، وقد اتَّبَعَ برابيك نفسَ أسلوبِ سلفه في إدارة الشركةِ واستمرَّ في القيام بعملياتِ استحواذٍ كبيرة وحاسمة.
نفاد مساحة النمو
استثمرت شركة نستله في عام ٢٠٠٢ مبلغ ١٠٫٣ مليار دولار أمريكي للاستحواذ على شركة رالستون بورينا، وهو ما جعل منها الشركة الرائدة عالميًّا في قطاع مستلزمات الحيوانات الأليفة المتسارع النمو، وفي العام التالي دفعت الشركة مبلغ ٢٫٨ مليار دولار أمريكي للحصول على حصة الأغلبية في شركة «دراير جراند آيس كريم»، غير أن وتيرة الاستحواذ قد تباطأت مع مطلع الألفية عندما عادت الشركة إلى اعتمادِ منهجِ النمو العضوي، وكان ذلك لأسباب عديدة، فقد تضاءل عدد البلدان والمنتجات التي ترغب نستله في إضافتها إلى حقيبتها؛ إذ استحوذت هي ومنافسوها على جميع العلامات التجارية الهامة تقريبًا، إضافةً إلى أن قيود مكافحة الاحتكار قد تزايدت.
ونتيجةً لذلك، تحوَّلَ اهتمامُ بيتر برابيك نحوَ تعزيزِ عمليات نستله وزيادة فعاليتها، وحُوِّلَتْ إدارة المصانع — التي كانت قد قُسِّمت عبر تاريخ نستله بحسب البلدان — إلى فروع إقليمية، كما نُظِّمَتِ المنتجات المتشابهة في شكل وَحداتِ عملٍ استراتيجية؛ ممَّا أضاف إلى أنشطةِ نستله العالمية المزيدَ من التناسُق والتماسُك.
لقد عرفت نستله حِقْبة من «الزمن الجميل» خلال إدارة كلٍّ من ماوخر وبرابيك، فمنذ أن أصبح ماوخر مديرًا تنفيذيًّا في بداية الثمانينيات، ارتفعت عائدات الشركة من ٢٤٤٧٩ مليون فرنك سويسري في عام ١٩٨٠ إلى ١٠٩٧٧٢ مليون فرنك سويسري في عام ٢٠١٠؛ أيْ ما يعادل نسبةَ نموٍّ تصل إلى ٤٫٩٦ في المائة سنويًّا، مُقارَنةً بالنمو السكاني في العالَم البالغ ١٫٤ في المائة (وهو معدل جيد للنمو في قطاع الصناعات الغذائية)، وقد واكَبَ هذا التوسُّعَ تحسُّنٌ ملحوظ في الكفاءة الأساسية، فارتفعت هوامش الأرباح الإجمالية من ٣٫٤٩ في المائة خلال الفترة ما بين عامَي ١٩٥٥ و١٩٨٠، إلى متوسط بلغ ٧٫١٧ في المائة بين عامَي ١٩٨٠ و٢٠١٠. عندما وصل ماوخر إلى رئاسة نستله، كان حجم الشركة يعادل ثلثَيْ حجمِ شركة «يونيليفر»، أمَّا الآن فقد أصبح حجمها يعادل ضِعْفَيْ يونيليفر تقريبًا وأربعة أضعاف شركة «دانون». إن حجم نستله ومعدلات أرباحها أتاحا لها التمتُّعَ بمزايا ربحيةٍ ضخمة في مجالات الشراء والأبحاث والإعلان، وساهما في إعطاء المساهمين سببًا وجيهًا للاحتفال بإنجازاتها؛ إذ تحقق مبلغ ١٧١٣٤٢ مليون فرنك سويسري (الفرق بين القيمة السوقية في ١٩٨٠ والقيمة السوقية اليوم) كزيادةٍ في قيمة الشركة لصالح المساهمين خلال تلك الفترة.
عام | أوروبا | أمريكا الشمالية | آسيا | مناطق أخرى |
---|---|---|---|---|
١٩٠٥ | شركة أنجلو سويس للحليب المكثف (سويسرا) | |||
١٩٢٩ | بي سي كيه للشوكلاتة السويسرية | |||
١٩٤٧ | أليمنتانا (سويسرا) | |||
١٩٦٠ | كروس آند بلاكويل (المملكة المتحدة) | |||
١٩٦١ | لوكاتيلي (إيطاليا، بيعت في ١٩٩٨) | |||
١٩٦٢ | فيندوس الدولية (السويد، بيعت في ١٩٩٩) | |||
١٩٦٩ | فيتال شركة عامة للمياه المعدنية (فرنسا) | |||
١٩٧٠ | ليبي ماك نيل وليبي (الولايات المتحدة) | |||
١٩٧١ | أورسينا فرانك (سويسرا) | |||
١٩٧٣ | ستوفر كورب (الولايات المتحدة) | |||
١٩٧٤ | لوريال (فرنسا)، بلاو كويلين (ألمانيا) | |||
١٩٧٧ | مختبرات ألكون (الولايات المتحدة، بيعت في عام ٢٠١٠) | |||
١٩٧٨ | شامبورسي (فرنسا) | |||
١٩٧٩ | بيتش-نت كورب (الولايات المتحدة) | |||
١٩٨٥ | كارنيشن (الولايات المتحدة) | |||
١٩٨٨ | بويتوني بيروجينا (إيطاليا)، راونتري (المملكة المتحدة) | |||
١٩٨٩ | جنيرال ميلس (الولايات المتحدة) | |||
١٩٩٠ | شركة كوكاكولا (الولايات المتحدة) — علامات كورتيس، بايبي روث وباترفينجر (الولايات المتحدة) | |||
١٩٩٢ | بيرييه (فرنسا)، كوكولادوفني (الجمهورية التشيكية) | |||
١٩٩٣ | فينيتالجيل (إيطاليا)، سان برناردو (إيطاليا) | دير بارك (الولايات المتحدة) | ||
١٩٩٤ | غويلانا (بولندا) | ألبو (الولايات المتحدة) | ||
١٩٩٥ | أورتيغا (الولايات المتحدة) | روسييا (روسيا) | ||
١٩٩٦ | مينِرال ليبانيز (لبنان)، أوسيم (إسرائيل) | |||
١٩٩٧ | سان بيليجرينو (إيطاليا) | شنغهاي فولَر فودز (الصين)، نستله دايري فارم (هونج كونج، الصين)، لونج آن (فيتنام) | ||
١٩٩٨ | سبيلر لمستلزمات الحيوانات الأليفة (المملكة المتحدة) | علامات بوردن: كليم (الولايات المتحدة) | ||
١٩٩٩ | هاجن داس (الولايات المتحدة) | |||
٢٠٠٠ | باور بار (الولايات المتحدة) | |||
٢٠٠١ | رالستون بورينا (الولايات المتحدة) | |||
٢٠٠٢ | شولَر (ألمانيا)، سبورتلر لأغذية الرياضيين (ألمانيا)، آكوا كول (المملكة المتحدة/فرنسا)، إيدن فايل (المملكة المتحدة)، سبورتنغ (ألمانيا)، مختبرات إنيوف (فرنسا) | شيف أمريكا (الولايات المتحدة)، سباركلينج سبرينج (الولايات المتحدة)، درايَر غراند للمثلجات (الولايات المتحدة) | سانت سبرينج (روسيا) | |
٢٠٠٣ | موفنبيك قسم صناعة المثلجات (سويسرا) | دايري بارتنرز أميركا (أمريكا اللاتينية، تم التوقيع في ٢٠٠٢)، كلير واتر (روسيا) | ||
٢٠٠٤ | فالوياتيلو (فنلندا) | |||
٢٠٠٥ | ديلتا للمثلجات (اليونان)، فاجنر للمنتجات المثلجة (ألمانيا) | |||
٢٠٠٦ | جيني كرايج (الولايات المتحدة)، شركة جوزيف جورميه للمكرونة والصلصة (الولايات المتحدة) | آنكل توبي (أستراليا) | ||
٢٠٠٧ | قسم التغذية الطبية لنوفارتِس (سويسرا)، ينابيع المياه المعدنية هينييه (سويسرا)، بيار ماركوليني (بلجيكا) | إسكيموباي، تشيبويك للمثلجات (الولايات المتحدة)، جيربر لتغذية الرُّضَّع (نوفارتِس/الولايات المتحدة) | مصنع روزسكايا كونفكشوناري آر كيه إف (روسيا) | |
٢٠١٠ | كرافت فودز للبيتزا المجمدة (الولايات المتحدة وكندا) |
لماذا نجحت نستله في جعل عمليات الاستحواذ التي قادتها تحقِّق نموًّا مربحًا، في حين أن العديدَ من خبراء الإدارة والاستثمار يَرَوْن أنَّ معظم عمليات الاستحواذ تتسبَّب في تدهورِ قيمةِ حقوق المساهمين؟ من الثابت أن المشترين غالبًا ما يدفعون أسعارًا مُبالغًا فيها لعمليات الاستحواذ؛ لأنهم يعتمدون على رؤية استراتيجية متفائلة وعلى تآزُرِ أهدافٍ يثبت فعليًّا لاحقًا أنه صعب المنال، والواقع هو أن المواهب البشرية لا تستحسن كثيرًا فكرةَ بيعها لعلاماتٍ أو شركاتٍ أخرى، وأفضلُ الموظفين غالبًا ما يتركون العملَ آخذِينَ معهم الكثيرَ ممَّا كان سببًا في نجاح الشركة.
لقد حافظَتْ شركةُ نستله على سجلِّ لافت للنظر في عمليات الاستحواذ الناجحة، من خلال تجنُّب الوقوع في فخِّ المَخاطِر العادية المعروفة، وفي هذا الصدد قال هانس يورج رودلوف — رئيس باركليز كابيتال وأحد كبار المسئولين التنفيذيين السابقين في مصرف كريدي سويس: «لقد نجحت عمليات الاستحواذ التي قام بها السويسريون؛ لأنهم لا يدفعون أسعارًا مبالغًا فيها، ويميلون إلى التفكير بأن تآزُر الأهداف لا وجودَ فعليَّ له، إنهم يريدون رؤيةَ النتائج الملموسة والواقعية بدلًا من الخطط الكبيرة.»
١٩٨٠ | ٢٠١٠ | المعدل السنوي للنمو | |
---|---|---|---|
العائدات/مليون فرنك سويسري | ٢١٦٣٩ | ١٠٩٧٢٢ | ٤٫٩٦٪ |
هامش الربح الإجمالي٪ | ٢٫٧٩ | ٣١٫٢٠ | |
صافي الدخل/مليون فرنك سويسري | ٦٨٣ | ٣٤٢٣٣ | ١٣٫٤٦٪ |
القيمة السوقية لرأس المال/مليون فرنك سويسري | ٦٩٧٤ | ١٧٨٣١٦ | ١١٫٠٢٪ |
كان ماوخر يؤمن بأنه يكتسب الأشخاص والمواهب، ولا يكتسب مجرد شركات، فيقول: «لقد نجحت هذه الشركات؛ لأنها كانت تُدار من قِبَل كفاءات محلية ممتازة، ونحن قد بذلنا قصارى جهدنا للاحتفاظ بها، كُنَّا نتفق معًا على الأهداف ونترك لهم العناية بتحقيقها.» وكدليلٍ آخَر على الثقة، كان ماوخر يسمح حتى ببقاءِ أعضاءِ إدارة الشركة المشتراة ويتركهم يديرون أعمالًا قائمةً لنستله في قطاعِ عملٍ أو في بلدٍ معين: «لقد كانوا أفضل مِنَّا؛ ومن ثَمَّ، إنْ لم تكن قادرًا على مواجهتهم، فمن الأحسن أن تكون في صفِّهم.»
وفي خضمِّ فترة التوسُّع هذه أثبتت نستله أنها ما زالت قادرة على الابتكار الخلَّاق اللافت للنظر، ويتجلَّى ذلك مثلًا في نجاح المنتجات التي اشترت نستله علاماتها التجارية مثل «كيت-كات» التي تحمل اسم «راونتريز» في سوق المملكة المتحدة، والتي أصبحت الآن علامةً تجارية عالَمية متوافرة بصِيَغ عديدة، وهذا ما لم تستطع روانتريز تحقيقَه بالرغم من جميع إمكانياتها.
الفئة | نسبة النمو ٪ |
---|---|
المشروبات | ٦٫٦ |
منتجات الألبان | ٥٫٨ |
الأغذية | ٥٫٠ |
مستلزمات الحيوانات الأليفة | ٦٫٣ |
صناعة الحلويات | ٥٫٢ |
المياه المعدنية | ٨٫٢ |
المثلجات | ٥٫٤ |
حليب الأطفال | ٩٫١ |
أغذية الأطفال | ٥٫٦ |
منتجات المحافظة على وزن صحي | ٦٫٥ |
وإلى جانب هذه النجاحات في عمليات الاستحواذ، كانت نستله تتوقع وتحدِّد مسبقًا القطاعات التي من شأنها أن تحقِّق معدلات نمو أكبر من غيرها في الأسواق، على سبيل المثال: تجارة الماء وأغذية الأطفال ومستلزمات الحيوانات الأليفة، كما أن التمييز في انتقاء العلامات التجارية مهم جِدًّا في هذه المجالات، وهنا أيضًا كانت نستله قادرةً على بناء علامات تجارية مألوفة وموثوق بها.
لقد أظهرت الدراسات أن العلامات التجارية تتمتع بقدرٍ عالٍ من المرونة وقدرة التكيُّف، وربما يعود ذلك إلى أن «العلامة» هي بمثابة «وعد»، والوعود التي يتم الوفاء بها مرارًا وتكرارًا تعزِّز الولاء، فمن ناحيةٍ يكون المستهلكون على استعدادٍ لدفْعِ أسعارٍ أعلى مقابل ذلك الوعد، ومن ناحيةٍ أخرى، تحقِّق الشركات قدرًا أكبرَ من الأرباح. وبامتلاكها ٢٩ علامة تجارية تحقِّق عائداتٍ تفوق ١ مليار دولار أمريكي، يبدو أن نستله تتمتع بوضعٍ جيد يمكِّنها من الحفاظ على موقعها في السوق.
نستله ليست فريدة من نوعها
سيكون من الخطأ إعطاء الانطباع أن عملاق فيفيه، نستله، بعد ٦٠ عامًا من العمل الدءوب على الاستحواذ، هي المجموعة الوحيدة الهامة في قطاع الأطعمة في سويسرا، هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فشركة كنور المعروفة في جميع أنحاء العالم بأنواع الحساء ومكعبات التوابل تحتل أيضًا مكانةً بارزة في هذا المجال. أسَّس كارل هاينريخ كنور شركةَ كنور في البداية في مدينة هايلبرون جنوب غرب ألمانيا في عام ١٨٣٨، وكان الحساء الجاهز — سواء بشكل مسحوق أو سائل — مُنتَجًا جديدًا في حينه، كما كان الطلب على الصنفين كبيرًا جِدًّا لدرجة أن ابنه كارل قرَّرَ إنشاء مركز تعبئة وتوضيب لتجارة الصادرات في عام ١٨٨٥. لكن الشركة انتظرت حتى عام ١٩٤٩ لتطلق أول علبة حساء بوصفة المكرونة بالدجاج التي سريعًا ما أصبحت معروفةً في جميع أنحاء العالم.
كانت طريقة تحضير الحساء السريعة هذه في تناغُم مع التوجُّه الجديد نحو الوجبات الفورية، وهو اتجاه تبعته مُنتَجات أخرى لكنور أقل شهرةً مثل: مزيج الأعشاب والتوابل والبطاطا المهروسة السريعة التحضير، ومسحوق الحساء السريع الذوبان الذي يمكن تحضيره في كوب. ومنذ عام ١٩٨٥ أصبحت كنور مملوكةً من بيست فودز، وهي شركة أمريكية استحوذت عليها شركة يونيليفر في عام ٢٠٠٠. واليومَ تُعتبَر كنور أكبرَ علامةٍ تجارية في مجموعة يونيليفر من حيث حجم المبيعات، ويمكن أن يُعزَى جزءٌ كبير من ذلك إلى التسويق القوي للعلامة الذي اعتمدته إدارتها السويسرية الأولى، كما نقلت شركة يونيليفر العديد من المنتجات التي كانت تُباع تحت علامة «ليبتون» إلى مجموعة منتجات كنور.
هناك أيضًا علامة تجارية متخصصة أخرى ذات مكانة عالية، وهي هيرو، التي تتوافر علبها الصغيرة ضمن مكونات فطور الصباح في الفنادق في جميع أنحاء العالم، ويتم شحن أكثر من ٣٢٠ مليون علبة منها من مصانع الشركة كلَّ عام. أُنشِئَتْ شركةُ تجهيز الخضار والفواكه هذه في عام ١٨٨٦ على يد جوستاف هينال وجوستال زايلر. تُوفِّي زايلر في عام ١٨٩٠، والتحق كارل روث بالشركة، وفي عام ١٩١٠ جُمِع أولُ حرفَيْن من اسم هينكل واسم روث ليكوِّنا لأول مرة اسم العلامة هيرو. وفي عام ١٩٩٥ اشترى رجلُ أعمالٍ ألماني يُدعى آريند أوتكار حصةَ الأغلبية في هيرو، وفي عام ٢٠٠٣ تحوَّلت ملكية الشركة بكاملها إلى أسرة أوتكار.
وهناك علامة تجارية أخرى ذات أصول سويسرية لاقت نجاحًا هي أوفومالتين، التي تُعرَف لدى الناطقين بالإنجليزية باسم أوفالتين، واليومَ باتت أوفالتين واحدة من علامات الشركة المشتركة للأغذية البريطانية أسوشييتد بريتيش فودز، إلا أن مشروب الحليب بنكهة المالت كان قد طوَّره صيدلي من مدينة بيرن يُدعَى جورج فاندر، وكان ابنه قد باع هذا المشروب في الأسواق لأول مرة في عام ١٩٠٤. وفي بداية العشرينيات كانت أوفالتين من بين أولى العلامات التجارية التي استُخدِمت في رعاية الأحداث الرياضية، وكانت حاضرة في عشرين دورة متتالية للألعاب الأولمبية.
الرجل الذي كان يُدعى جاكوبس
أحد أكثر رجال الأعمال ديناميكيةً ونجاحًا، ذاك الذي استطاع تغييرَ سمات صناعة الأغذية في سويسرا خلال الجيل الماضي، كان بدوره أيضًا مهاجرًا، لكنَّ أصولَه لم تكن متواضِعة، فكان كلاوس جاكوبس سليلَ أسرة أرستقراطية عريقة من بريمن ذات سمعة عريقة في تجارة البن. لم يكن جاكوبس يميل إلى الاستراحة على مجد أسلافه كما هو شأن الكثير من الذين يَرِثون ثروات كبيرة، فقد قاد جاكوبس حملةَ توسُّعٍ جريئة وشديدة، لدرجةِ أنَّ نستله بدأ يتساءل برهبة كيف يمكن تقييمُ رجلِ الأعمال هذا، الموهوب والمليء حيويةً ونشاطًا، الذي بدأ يحقِّق نجاحاتٍ باهرة.
تسلَّمَ جاكوبس المشعل من أبيه في عام ١٩٧٢ ليصبح المدير العام، ثم تولَّى دمج شركة جاكوبس ذات العلامة التجارية القوية في السوق الأوروبية للبن، مع شركة سوشار الشهيرة في مجال صناعة الشوكولاتة، لتشكيل شركةٍ رائدة في أوروبا للشوكولاتة والقهوة. كان جاكوبس الوريثَ الوحيد الذي يعمل في الشركة، ولم يكن يحبُّ القيامَ بجميع الأعمال لصالح أفراد الأسرة الآخرين الكُسالى الذين لا يُساهِمون في تقاسُم الأعباء، فقام — بمساعدة مصرف يو بي إس — بتنظيمِ قرضٍ كبير لشراء حصصهم، وقدَّمَ كضمان لهذا القرض أسهمًا في شركة جاكوبس سوشار.
سرعان ما أصبح جاكوبس معروفًا بقدرته على إيجاد ذوي الكفاءات الاستثنائية الذين تجذبهم الفرصة لإثبات قدراتهم في فترة وجيزة، والمشاركة في إحدى أعظم تجارب النمو الضخمة في سوقٍ لولاه لكانت غالبًا ما تتَّسِم بالرصانة. كان جاكوبس يعطي العاملين معه حريةً كبيرة في التصرُّف كما كان يُكافِئهم بسخاء، وفي هذا الصدد، قال أندرياس شفايتسر، وهو مدير تنفيذي سابق لدى جاكوبس، ويعمل حاليًّا في المقر الأوروبي لمنظمة الرؤساء الشباب: «يبدأ الأشخاص العاملون في مجال صناعة المواد الغذائية بالتدرب لدى شركة «بروكتر آند جامبل»، ثم ينتقلون إلى شركة جاكوبس من أجل المال، لينتهي بهم المطاف في نستله من أجل السمعة.»
ومن بين الكفاءات الاستثنائية التي التحقت بالشركة كان هناك فرانسوا ستيج، وهو رجل من أصول فرنسية مفعم بالحيوية، قاد أولَ غزوةٍ دولية على الأسواق الفرنسية، ونجح في جعل مُنتَج جاكوبس سوشار المُنتَج رقم واحد في سوق البن في فرنسا، من خلال سلسلة من عمليات الاستحواذ وحملات الترويج الذكية. لم يكن من السهل إقناع المستهلكين الفرنسيين الفَطِنين بشرب القهوة الألمانية، غير أن أوروبا كانت آنذاك بصدد التوحُّد، وكانت شركة جاكوبس تمرُّ بفترةٍ تَسهُل فيها المُعامَلات التجارية. كان جونتر بولت قد درَسَ مع جاكوبس في المدرسة نفسها، كما عمل مع والده بشكل وثيق، تَولَّى بولت منصبَ المدير المالي، وكان بمثابةِ عاملِ مُوازَنةٍ أمامَ خيال جاكوبس الخصب وعدم قدرته على تقدير العواقب؛ إذ وفَّرَ بولت لجاكوبس الطَّمُوحِ والصعبِ المِراس أحيانًا — على الأقل بحسب المعايير السويسرية — قدْرًا من الثبات والاستمرارية، وقدَّمَ له وجهات نظر مستقرة كان لها طابعٌ أبوي دون مُغالاة في العاطفة. كما أن شارل جيبهارد — السويسري المنضبط — الذي وصفه أندرياس جاكوبس بأن «له حسًّا عاطفيًّا عاليًا»، قد ساعَدَ جاكوبس على تسيير وضبط علاقاته مع المؤسسات السويسرية المحافظة؛ إذ إن طباعَ الطبقةِ الأرستقراطية وأثرياءِ شمال ألمانيا المتفاخرين لا تتناغم دائمًا مع الطَّبْع السويسري الأكثر تواضُعًا ومُساواةً. أصبح جيبهارد نائبَ رئيسِ مجلس إدارة جاكوبس هولدينج، وكان له دورٌ فعَّال في عملية دمج شركتَيْ شوكولاتري كاليبو مع كاكاو باري (التي أصبحت باري كالبو)، وكذلك عملية دمج شركتَيْ آديا وإيكو (التي أصبحت أديكو) في عام ١٩٩٦.
الديون والاستقلالية لا يتماشيان معًا
كان جاكوبس قد قطع شوطًا كبيرًا في عقد الصفقات وبناء تجارته حتى أواخر الثمانينيات، وعندما مرَّ الاقتصاد بفترة انكماش، وجدت شركة جاكوبس نفسَها تكافِح من أجل تسديدِ ديونها والإيفاءِ بمتطلبات نفقات رأس المال الضخمة. كان لبنك يو بي إس ديونٌ مُضاعَفةٌ لدى جاكوبس، فمن ناحيةٍ هناك ديونٌ على مستوى الشركة القابضة قدَّمَها المصرف لمساعدة جاكوبس على شراء حصص أفراد أسرته، ومن ناحيةٍ أخرى ثَمة ديونٌ على مستوى أعمال الشركة.
دخل جاكوبس في مُحادَثات لإنشاءِ مشروعٍ مشتركٍ مع شركة فيليب موريس التي كانت آنذاك من بين أكبر شركات السلع الاستهلاكية في العالَم، ولكنه قرَّرَ في نهاية المطاف بيع الشركة لفيليب موريس. وفي عام ١٩٩٠ دُمِجَت شركة جاكوبس سوشار مع شركة كرافت جنرال فودز، وبقي مقرُّها الأوروبي في زيورخ.
بذلك انتهت قصة كلاوس جاكوبس وعلاقته بشركة جاكوبس سوشار، لكن ذلك لا يعني أنه اعتزَلَ الأعمالَ والتجارة، فقد قام بفصل الأنشطة غير الخاصة بالسلع الاستهلاكية عن جاكوبس سوشار، وشكَّلَ منها شركةً أصبحت معروفةً الآن باسم باري كاليبو، واليومَ تُعتبَر هذه الشركة أكبرَ شركةٍ منتجة للشوكولاتة الخام في العالَم، ويترأَّسُها أندرياس جاكوبس ابن كلاوس جاكوبس الذي يهتمُّ بالمقتنيات الصناعية التابعة لأفراد الأسرة. كان أندرياس شميت — الذي عمل مع كلاوس جاكوبس — قد أصبح المديرَ التنفيذي ورئيسَ مجلس الإدارة خلال فترة التحوُّل التي مرَّتْ بها الشركة، وعندما باشَرَ جاكوبس العملَ مع شركة باري كاليبو، كانت الشركةُ تنتج ٥٠ ألفَ طنٍّ من الشوكولاتة الصناعية المُخصَّصة لصناعة الحلويات والمثلجات وألواح الشوكولاتة التابعة للعلامات التجارية الخاصة. وتنتج الشركة اليوم ١٫٣ مليونَ طنٍّ تأتي مادتها الخام — الكاكاو — من أكثر من ١٠٠ ألفِ مُزارِعٍ من بلدان مثل جمهورية ساحل العاج وإندونيسيا، ويبلغ حجم الشركة الآن ثلاثةَ أضعافِ حجمِ أقربِ منافسيها، ومن بينهم شركتَي آرتشر دانييلز وكارجيل. كما أصبح جاكوبس أكبرَ المساهمين في شركة أديكو، التي لعب دورًا حاسمًا في تشكيلها من خلال دمج شركتَيْ آديا وإيكو في عام ١٩٩٦، وشركة أديكو هي أكبر مُزوِّد لكوادر موظَّفي العمل المؤقت في العالَم، وتتقدَّم على مانباور ورندستاد. كما أن باتريك مايسناير — الرئيس التنفيذي لشركة أديكو — هو كذلك من أتباع جاكوبس، وكان سابقًا الرئيسَ التنفيذي لشركة باري كاليبو.
أنشأ جاكوبس مؤسسةَ جاكوبس الخيرية، وفي عام ٢٠٠١ تبرَّعَ بثروته البالغة ٢٫٣ مليار فرنك سويسري لدعم تنمية الشباب، وعلى سبيل المثال: تبرعت المؤسسة في عام ٢٠٠٦ بمبلغ ٢٠٠ مليون فرنك لجامعة جاكوبس في مدينة بريمن. تُوفِّي جاكوبس في ١١ سبتمبر عام ٢٠٠٨، ومن بعده تولَّى ابناه: أندرياس وكريستيان مسئولية إدارة المؤسسة، ثم في وقت لاحق، انضمَّ إليهما أَشِقَّاءُ من الأسرة يصغرانهما سنًّا، وهم: لافينيا ونيكولا وفيليب.
وفي غضون فترة حياة واحدة بنى جاكوبس بنجاحٍ شركاتٍ رياديةً في السوق في ثلاث صناعات مختلفة.
هل سيكون المستقبل بروعة الماضي؟
أظهرت مسيرات الشركات الرائدة في مجال الصناعات الغذائية السويسرية التي وردت في هذا الفصل الكثيرَ من نقاطِ القوة في تاريخ التجارة السويسرية وصولًا إلى الأزمنة المعاصرة، أوَّلًا وردت قصصُ رجالِ أعمالٍ استثنائيين من أصول مُتواضِعة، كانوا إمَّا من السويسريين وإما من المهاجرين غالبًا، بنوا شركاتهم بحَزْمٍ وموهبةٍ وبراعة، كلٌّ في مجاله، وكان عليهم — في طرفة عين — أن يحوِّلوا اتجاهَ أعمالهم ويتكيَّفوا مع السوق، ويستحوذوا على شركاتٍ أجنبية، وينتقلوا إلى الخارج أو أن يبيعوا شركاتهم إلى منافسيهم من السويسريين أو من الأجانب. ولعل أكثر ما يدعو للدهشة هو جرأتهم في التوسُّع حول العالم، بالرغم من أن ذلك في العديد من الأحيان كان ناجمًا في بادئ الأمر عن الرغبة في تخطِّي العقبات الجمَّة التي يفرضها صِغَرُ حجمِ السوق السويسرية.
ثانيًا: هناك اثنتان أو ثلاثٌ من أقوى الشركات السويسرية — وبالخصوص نستله — التي أصبحت من بين أقوى المجموعات الغذائية في العالم، والتي كان عليها أن تستغلَّ نفسَ الفرص وتواجه نفسَ التحديات التقليدية التي واجهَتْها كافةُ الشركات التي تتمتع بنفس المكانة، وخلال هذه المرحلة بدا أداؤها جَيِّدًا بصفةٍ استثنائية، هذا على الرغم من بعض العثرات أحيانًا، وبعض الظروف الخاصة المواتية.
لكن الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب تبقى في السؤال: كيف سيدير العمالقة السويسريون — وخاصةً نستله — أعمالَهم في المستقبل في ظروفٍ قد تكون أقلَّ ملاءمةً؟
إن النمو السريع في قطاع الصناعات الغذائية خلال القرن الماضي — الذي استغلته نستله وشركات سويسرية أخرى بنجاح — كان نتيجةَ عددٍ من العوامل: منها كثافة سكانية أكبر، ومتوسط عمر أطول، وتحوُّل الناس من الريف للعيش في المدن، والزيادة المتوافرة للإنفاق في دخول الأفراد. كان عدد سكان العالَم في عام ١٩٠٠ يقارب ١٫٦ مليار نسمة، أمَّا الآن فقد أصبح ٦٫٨ مليارات نسمة، ومن المتوقَّع أن ينمو هذا العدد ليصل تقريبًا إلى ٩ مليارات نسمة بحلول عام ٢٠٥٠، كما أن متوسط العمر المتوقَّع قد تضاعف، وأصبحت الدخول أعلى بكثير مما كانت عليه في مطلع القرن. يعيش أكثر من ٧٠ في المائة من سكان البلدان المتقدمة في المدن، وعليهم أن يشتروا طعامَهم بدلًا من إنتاجه بأنفسهم في المزارع كما كانوا يفعلون في عام ١٩٠٠.
كما أن سكان المدن الذين يَتنقَّلون أكثر فأكثر، يعتمدون بشكل متزايد على شركات لديها علامات تجارية موثوق بها مثل نستله وليندت، وهذه الثقة — بمجرد اكتسابها — تترسخ ويجري تناقُلها من جيلٍ إلى آخر؛ ففي النهاية عادةً ما يشتري البالغون المنتجات نفسها التي كانوا يتمتعون بتناولها عندما كانوا صغارًا، وهذه الثقة تمثِّل أيضًا حاجزًا أمام المنافسة؛ لأنه من الصعب إقناع عملاء جدد بتجربة منتجات جديدة.
عالَم المستهلكين الأثرياء
في هذه الأثناء، ليس هناك مؤشرات تدلُّ على وجودِ تباطُؤٍ في وتيرة دمج وتوحيد النشاط في قطاع الصناعة العالمية للغذاء، كما أن هذا القطاع — في الواقع — لا يزال مجزَّأ للغاية؛ ممَّا يشير إلى وجود مجال واسع للنمو أمام الشركات القوية وذات الإدارة الجيدة، وحتى نستله — أكبر منتج منفرد في العالم — لا تتعدى حصتها في السوق العالمية نسبة ٣ في المائة تقريبًا بحسب معايير القياس المستخدَمة، كما أن أكبر ٢٠ منتجًا للأغذية والمشروبات في العالَم مجتمعين يحوزون على حصةٍ في السوق العالمية تُقدَّر بحوالي ٢٠ في المائة، هذا مُقارَنةً بقطاع صناعة الأدوية، حيث تسيطر أكبرُ عَشر شركات على نصف حجم السوق العالمية تقريبًا.
سويسرا لم تَعُدْ كما كانت
لم تَعُد نستله تستفيد من علاقاتها الودية الوطيدة مع المصارف السويسرية، ولا من بعض أساليب المحاسبة السويسرية المميزة وغير المألوفة التي ساعدَتْها على إنجاز عمليات الاستحواذ التي قامت بها بعد الحرب العالمية الثانية (ومن المُفارَقات أن الشركة قد حقَّقَتْ أداءً أفضلَ ابتداءً من أول التسعينيات بعد أن تخلَّتْ عن الامتيازات المذكورة)، وقد استفادت شركة نستله كثيرًا — تمامًا كما فعل غيرها من الشركات — من الفرص الكبيرة التي أتاحتها قوانين المحاسبة، والتي كانت تخولها حذْفَ أو شطْبَ الفرق بين سعر شراء الأسهم والقيمة الدفترية للأصول المُكتسَبة (التي تُعرَف بالقيمة المعنوية للاسم التجاري)، وهو ما أعطى الانطباعَ الوهمي بأن عائد الشركة على حقوق المساهمين قد ارتفع فقط نتيجةً لعملية الاستحواذ.
تحظى نستله بمكانة جيدة — بالمقارنة مع نظيراتها من الشركات — تتيح لها تحديثَ وتعزيزَ إدارتها العليا ومهاراتها المتخصصة من داخل صفوف كوادرها وعمَّالها البالغ عددهم ٢٧٨ ألفَ موظفٍ في ٨٦ بلدًا. وبالرغم من أنها كانت في السابق تميل إلى تفضيل تشغيل الموظفين السويسريين، يظهر الآن جليًّا أنها أصبحت شركةً متعددةَ الجنسيات على جميع الأصعدة، ويصادف فقط أن مقرَّها قائمٌ في فيفيه.
ربما من المرجَّح أن تكون المخاطر التي قد تتعرض لها نستله على المدى المتوسط متأتية من حوادث أو إخفاقات غير مرئية سلفًا تتعلق بمتطلبات الحوكمة. وبالرغم من أن نستله مُدرَجة في سوق الأسهم منذ فترة طويلة، فإنها بقيت في الواقع — حتى قبل عشرين عامًا مضت — شركةً يُدِيرها «صاحبُ عملٍ» له ضميرٌ مهني كبير، أَلَا وهو سويسرا، أمَّا اليوم فتُدِير الشركةَ مجموعةٌ من المديرين المهنيين الذين يعملون كموظَّفِي ائتمانٍ بالوكالة عن مجموعةٍ واسعةٍ ومتفاوتةٍ من المساهمين المجهولي الأسماء، والذين غالبًا ما يُقاس التزامهم تجاه الشركة بفترة أشهر عوضًا عن أجيال، وهذا أمر لا بأْسَ به عندما تسير الأمور على ما يُرام، ولكن عندما تتأزم الأحوال، يمكن أن يلجأ المساهمون الذين يهتمون بالاستثمار القصير الأمد إلى التخلي بسرعةٍ عن استثمارٍ لم يَعُد مأمونًا أو مجديًا.
النموذج الجديد
إن إحدى المعارك الرئيسية في قطاع تجارة الأغذية في العقود القليلة الماضية كانت قائمةً بين سلع العلامات التجارية وسلع علامات متاجر البيع بالتجزئة، على تصدُّر واجهاتِ المحلات التجارية. ولقد خاضت شركةُ نستله معركتَها هذه في بلدٍ تِلْو الآخَر بصبرٍ وثبات، ومن المتوقَّع أن تستمر على هذا المنوال في المستقبل.
قد وضع بيتر برابيكك مؤخرًا وصفًا لنموذجٍ جديد في قطاع الصناعة الغذائية، إذ لاحَظَ بيتر — على مر التاريخ — أن العالَمَ علَّقَ اهتمامًا كبيرًا على ظاهرة الجوع؛ ولذلك ركَّزَ قطاع صناعة الأغذية اهتمامَه على توفير أعلى قدرٍ من السعرات الحرارية بالنسبة إلى ثمن المُنتَج، ولا يزال هذا النموذج قائمًا بالنسبة إلى البلدان النامية، لكنَّ العالم الغربي قد وصل إلى مرحلة التخمة، فارتفاعُ الدخلِ الفردي المتوافر للإنفاق، يعني أن الأُسَر الأوروبية تنفق في المتوسط ما يعادل ١٣ في المائة من دَخْلها على الأغذية، وهذا يمثِّل أقلَّ من نصفِ ما كان ينفقه الناس في الجيل السابق، وحتى هذا المبلغ يبدو أكبرَ ممَّا هو ضروري، وذكرت الأمم المتحدة في تقريرٍ لها مؤخرًا أن عددَ الأشخاص الذين يعانون من الإفراط في الأكل قد تجاوَزَ رسميًّا عددَ أولئك الذين يعانون من سوء التغذية، وفي أمريكا يعاني ثلاثة من أصل كل خمسة أشخاص من زيادة الوزن، وواحد من أصل خمسة أشخاص يعاني من البدانة المفرطة.
ومن المتوقَّع أن تصل نسبة البدانة في الغرب إلى معدلات وبائية، وأن تكون لها تداعيات من شأنها أن تتجاوز بكثير أهميةَ التحديات الحالية التي تقع على كاهل أنظمة الرعاية الصحية، كما أن الإفراط في تناول الطعام يؤدي إلى أمراض خطيرة ومُكلِّفة، بما في ذلك الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم ومرض السكري والاكتئاب. وأظهرت الدراسات أن ٨٠ في المائة من حالات أمراض القلب و٧٠ في المائة من السكتات الدماغية و٩٠ في المائة من مرض السكري — وهذه ثلاثة من الأسباب العَشرة الرئيسية للوفاة — ترتبط بالتغذية.
لقد حاولَتْ نستله ولوجَ سوقِ التغذية الطبية في السنوات الأخيرة، وهذا يشمل استحواذها في عام ٢٠٠٦ على قسم التغذية الطبية لشركة نوفارتِس، وفي سبتمبر ٢٠١٠، أُنشِئت شركةُ نستله للعلوم الصحية المختصَّة بتطوير العلاجات الغذائية للمشكلات الصحية، وفي مايو ٢٠١١ وُوفِق على شراء مختبرات «بروماثوس إنكوربوريتد»، وهي شركة أمريكية متخصصة في تشغيل حالات اضطرابات المَعِدة، وبعد مرور شهرين اشترت حصةً في شركة فيتال فودز صانعة المنتجات المستخرَجة من فاكهة الكيوي لمعالجة الإمساك، والهدف هو تطوير أعمال تجارية تجمع، على حدٍّ سواء، بين الرعاية الصحية والصناعات الغذائية، ولكن — كما هو الحال عادةً بالنسبة إلى القطاعات الصناعية الأخرى «الجديدة» أو المتحولة — لا يكون واضحًا في البداية كيف ستسير الأمور، لا سيَّما بسبب الصعوبات المتعلقة بتداخل المصالح وتضاربها.
ليست نستله الشركة الوحيدة التي تصبو إلى لَعِب دورٍ في قطاع الصناعات الغذائية الذي يَتوجَّه شيئًا فشيئًا نحو التغذية الطبية؛ فشركات الأدوية أيضًا تدخل في هذا المجال نفسه عندما تنفد فترةُ احتكارِ براءات اختراع الأدوية الأكثر بيعًا.
أسواق الأسهم تتطلب نتائج
لن يكون معروفًا ما إذا كانت نستله ستحقق نجاحًا في مجال التغذية الطبية أم لا قبل مرور بعض الوقت. ومع أن الشركة معروفة بصبرها وطول باعها، لكن هذه السمات لا تنطبق على أسواق الأسهم العالمية. ولكن من ناحيةٍ أخرى، تتمتع الشركة بالعديد من مزايا التفوق الطبيعية في هذا المجال، وقد قال توماس فيلاور — وهو رئيسٌ تنفيذي سابق لدى شركة نوفارتِس، ويشغل حاليًّا منصبَ مدير التشغيل لدى شركة التأمين سويس ريه، إن شركة نوفارتِس قد واجهت صعوبات في تحقيقِ أرباحٍ مالية في قطاع الأغذية الطبية، لكنه يشعر أنه من المستحسَن مزاولةُ النشاط في هذا المضمار بصفتها شركةَ سلعٍ استهلاكية لديها مهاراتٌ تسويقية عالية لتوفير البضائع للمستهلك، وليس بصفتها شركةَ أدويةٍ تركِّز نشاطَها على العقاقير العلاجية.
١٩٥٠ | ١٩٧٠ | ١٩٨٠ | ٢٠٠٠ | ٢٠١١ | |
---|---|---|---|---|---|
شركة نستله (١٨٦٦) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | ١٨٧٧ | ١٠٢٠٥ | ٤٦٣٦٩ | ٦١٤٢٢ | ٨٣٦٤٢ |
عدد الموظفين الإجمالي | ٤٣٣١٠ | ٩١١٧٠ | ١٩٩٠٢٠ | ٢٢٥٥٤٠ | ٣٢٧٥٣٧ |
عدد الموظفين في سويسرا | – | – | ٦٩٠٠ | ٦٦٠٠ | ٩٠٠٠ |
شركة إيمي (١٩٠٧) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | – | ٣٥٨ | ١١٥٠ | ٢٦٢٠ |
عدد الموظفين الإجمالي | – | – | ٧٨٠ | ١٣٣٠ | ٣٥٣٠ |
عدد الموظفين في سويسرا | – | – | – | – | ٣٠٧٠ |
ليندت وشبرونجلي (١٨٤٥) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | ٢٥ | ٢٢٥ | ٩٧٥ | ١٥٣٧ | ٢٨٢٥ |
عدد الموظفين الإجمالي | ١٠٠٠ | ١٠٠٠ | ٣٨٨٠ | ٥٨٧٠ | ٧٤١٠ |
عدد الموظفين في سويسرا | – | – | ١٣٠٠ | ٨٧٠ | ٩٨٠ |
وباختصار، فإن التوقعات تبيِّن أن وضْعَ المجموعات السويسرية في الصناعة الغذائية هو على أفضل ما يمكن أن يكون، فلا يوجد نقصٌ في الفرص ولا في التحديات في أسواق الغذاء العالمية، والشركات السويسرية لم تَعُد تتمتع بمزايا تفوُّق هامة في هذه الأسواق فقط؛ لأن مَقرَّاتها تقع في سويسرا، إلا أنها تتميز بإرثٍ عريقٍ من الثقة المبنِيَّة على تحقيق الوعود لمليارات من المستهلكين وطوال أجيال عديدة. وهذا الكمُّ الهائلُ من الثقة أدَّى — في عام ٢٠١٠ — إلى تصنيفِ نستله الشركةَ الأكثرَ ربحيةً في العالم من بين الشركات الخمسمائة العالمية الكبرى المُدرَجة حسب تصنيف مجلة فورتشن لأعلى ٥٠٠ شركة عالمية؛ حيث بلغ صافي ربحها لتلك السنة ٣٦٫٦ مليار دولار، متقدِّمةً بذلك على شركاتٍ عملاقةٍ مثل إكسون ومايكروسوفت وآبل وجنرال إلكتريك، وفي خضمِّ المنافسة الرأسمالية العالمية الشَّرِسة، من الجليِّ أن نستله شركةٌ رابحة.
لقد قطع السويسريون شوطًا كبيرًا منذ أيامِ تحويلِ الحليب وصناعة الجبن، وحتى لو كانت التوقعات أقلَّ شاعريةً وإثارةً ممَّا كانت عليه قبل مائة عام، فمن الصعب التخمين كيف يمكن أن تكون الأمور أحسنَ بكثيرٍ ممَّا هي عليه الآن.