وسائل النقل السويسرية: فن إتقان التواصل
لقد نشأت الحضارة الأوروبية القديمة في الجنوب من سويسرا، فيما يُسَمَّى اليومَ إيطاليا وجزر البحر المتوسط واليونان، إلا أن أوروبا في القرون الوسطى تطوَّرت في الشمال أيضًا؛ أيْ في ألمانيا وفرنسا وهولندا وبريطانيا، وعلى مدى قرون كانت سويسرا بوابةً عاليةَ الجدران بين هذَين الطرفين من أوروبا، ومَعْبرًا إجباريًّا أمام التجَّار والجيوش على حد سواء، وكان هناك تبادُلٌ نَشِط للبضائع بين المراكز الاقتصادية الكبرى في شمال أوروبا وجنوبها؛ ومن ثَمَّ كان لا بد من نقل البضائع بصعوبة عبر ممرات جبال الألب الضيقة. وحتى الأودية الجبلية النائية القريبة من الطرق المؤدية إلى تلك الممرات، كان على المسافرين والبضائع الآتية من بلدان بعيدة عبورها، وكانت تُحقِّق مداخيل كبيرة ساهمت في استقلال الكانتونات السويسرية الأولى، وفي الواقع كان الدور الذي لعبتْه سويسرا بصفتها معبرًا بين أهم المراكز التجارية الأوروبية عاملًا شديدَ الأهمية لازدهارها.
***
ما سرُّ موهبةِ السويسريين في نقل الأشياء؟
قال هانس يورج رودولف، المدير السويسري لشركة باركليز كابيتال إن السويسريين يتقنون مهارتين؛ هما: الدقة الهندسية والخدمات اللوجستية المعقَّدة؛ ومن ثَمَّ فلا عجبَ أن تكون سويسرا موطنًا لثلاثٍ من شركات النقل الرائدة في العالم، أمَّا ما يُثير الدهشة فهو عدم وجود أي ترابُط تاريخي بين رُزم البضائع التي كانت في السنوات الغابرة تُحمَل على سروج الخيول والدواب والحملات العسكرية التي قادها السويسريون ببراعةٍ خلال القرون الوسطى، وبين مجموعاتِ شركاتِ النقل والخدمات اللوجستية المعاصرة، وعلى الرغم من أن اسمًا مثل «بان ألبينا» يَحمل في ذاته ما يُذكِّر بالدور التقليدي الذي لعبته سويسرا بصفتها بلدَ عبور، فالمجموعات العالمية للخدمات اللوجستية التي تتَّخِذ اليومَ سويسرا مقرًّا رئيسيًّا لها تستمد جذورها من ظاهرةِ تسارُع التطور الصناعي في حقبةٍ زمنية أكثر حداثةً غيَّرت معالم الاقتصاد السويسري في القرن التاسع عشر. وقد شهدت سويسرا انتعاشًا ملحوظًا في تطوير بِنيتها التحتية وخصوصًا في قطاع السكك الحديدية، فضلًا عن الطرقات والملاحة النهرية التي كانت تفرضها أساسًا متطلبات التجارة الدولية، وفي مرحلةٍ لاحقة دفَعَ صِغَرُ حجم السوق المحلية شركاتِ الشحن لأن تُصبح إقليميةً أوَّلًا، ثم دولية، وأخيرًا عالمية.
وبما أن الخدمات اللوجستية هي تجارة ذات طابع دوري، فقد تعرَّضت الشركات السويسرية لخيبات أمل وانتكاسات خلال مسيرتها، غير أنَّ الشركات التي استطاعت البقاء والاستمرار اكتسبت شهرةً عالمية، وأصبحت من أفضل شركات النقل في العالم.
كل الحكاية بدأت مع جسر خشبي
كتب أسقفٌ في القرن الثالث عشر عن رحلته من شمال جبال الألب إلى جنوبها ما يلي: «كانت الطريق عبر ممر سانت جوتارد أسوأ طريق مررتُ بها في جميع رحلاتي.» وكان يُشير — على الأرجح — إلى مضيق شولينن الذي كان وَعِرًا ولم يكن عبوره ممكنًا حتى بداية القرن الثالث عشر حين بُنِي جسر خشبي هشٌّ كان يُعْرَف ﺑ «جسر الشيطان»، وكانت في كثيرٍ من الأحيان تجرفه المياه بعيدًا خلال الفيضانات، إلا أن سانت جوتارد كان ممرًّا تجاريًّا هامًّا جِدًّا، من جهةٍ بسبب موقعه المركزي، ومن جهةٍ أخرى لكونه أحد الأماكن القليلة في جبال الألب التي لا تَحتوي إلا على سلسلة واحدة من الجبال التي يجب تجاوُزها؛ ولذلك كان يُعاد بناءُ الجسر مرارًا وتكرارًا، وفي القرن السادس عشر استُبدِل بجسر من الحجر؛ مما زاد من أهمية هذه الطريق للتجارة السويسرية والتجارة بين الشمال والجنوب على حدٍّ سواء.
في العصور الوسطى كان النقل في أوروبا مصدرًا حيويًّا للربح المحلي، وكانت السلطات تستغلُّ ذلك قدْرَ المُستطاع، وكانت أكشاك تحصيل رسوم العبور تمثِّل موردًا هامًّا للدخل بالنسبة إلى كانتونات الاتحاد السويسري الأساسي، وقاعدةً ماليةً لتأمين استمرار التحالف الذي تمَّ التوصُّل إليه في عام ١٢٩١. كانت ممرات جبال الألب الممتدة عبر مسافات طويلة تربط أيضًا المدنَ السويسرية بشبكة التجارة الدولية؛ وبذلك كانت السيطرة على الممرات الجبلية مصدرًا لتوليد الدخل المستقر والنفوذ؛ نظرًا لأن الطرقات البرية — على عكس الموانئ البحرية — لا يُمكِن استبدالها دون مواجَهةِ صعوباتٍ كبيرة ودون تكبُّدِ خسائرَ ماليةٍ هامة، وطوالَ قرون عديدة كانت تدفُّقات السلع بين شمال أوروبا وجنوبها تَعتمد بشكل خاص على ممرات جبال الألب التي كان معظمها ملْكًا للكانتونات السويسرية، وفي هذا الصدد، كان ممر سانت جوتارد بين القرن الثالث عشر وبداية الثورة الصناعية لا يُمثِّل ممرًّا أسطوريًّا فحسب، بل يمثِّل كذلك أحدَ مواردها الطبيعية القليلة.
في الماضي، كانت تُستخدَم الخيول والبغال والحمير وحتى الماشية في نقل البضائع، ومنذ القرن الرابع عشر أصبحت الخيول المحمَّلة بالرزم أهمَّ وسائل النقل التجارية، وكانت الإدارات الإقليمية — التي عادةً ما تمثَّلت بدائرة محلية أو منطقة إدارية — هي المسئولة عن صيانة الدروب والممرات، وكانت تُنظَّم قوافل الخيول المحمَّلة بالبضائع على طول مسافاتٍ معينة من طرف المزارعين، وكان هذا بمثابة عمل إضافي لأعمالهم المعتادة، حتى إنه في بعض الحالات كان يتمُّ التفاوض على تداول حقوق تسيير الخيول المحمَّلة. وحتى فترة متقدِّمة من القرن التاسع عشر، بقيَ تحميل الخيول موردًا اقتصاديًّا هامًّا، ثم حصل أمران اثنان غيَّرا من طبيعة عمل وسائل النقل، أوَّلًا: حُرِّرَ السفر والتجارة من كافة القيود، ففي دستورِ عام ١٨٤٨، حُوِّلت مسئولية الإشراف على الطرقات الوطنية الهامة والجسور إلى الحكومة الكونفيدرالية، كما أُلغِيت جميع الرسوم التي كانت مفروضةً عليها، ثانيًا: أحدَثَ بناءُ خطوط السكك الحديدية عبر جبال الألب ثورةً نوعية في دور سويسرا بصفتها ممرًّا لوسائل النقل.
لكنْ أين كانت السكك الحديدية؟
قد يبدو من المُدهش أن تكون سويسرا قد تخلَّفت عن باقي بلدان أوروبا في بناء شبكات سككها الحديدية، هذا مع العلم بأن نظام السكك الحديدية السويسري اليومَ هو مَحطُّ أنظارِ العالم بفضل خدماته الجيدة، لكن عندما شُيِّدت خطوط السكك الحديدية أخيرًا، انطلقت عجلة التغيير بوتيرة سريعة جِدًّا.
ومنذ رحلة بداية الثورة الصناعية في منتصَف القرن الثامن عشر حصل توسُّع سريع في القنوات البحرية والطرق السريعة في بريطانيا، تلا ذلك — في بداية القرن التاسع عشر — بناءُ خطوط السكك الحديدية التي كانت قفزةً نوعية جسَّدها الاكتشاف الذي حقَّقه جورج ستيفينسون في عام ١٨٢٩، وهو قاطرة البخار «روكيت» أي الصاروخ، التي أدَّت أخيرًا إلى توفير مورد طاقة عالي الكفاءة في سوق السكك الحديدية، ومنذ أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر انتشرت في البلدان المجاوِرة لسويسرا كفرنسا وألمانيا والنمسا شبكاتُ سككٍ حديدية واسعة.
أمَّا في سويسرا، فلم تُنشَأ مشاريع كبرى في قطاع السكك الحديدية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي عام ١٨٤٤ وصل إلى سويسرا أولُ خطِّ سككٍ حديدية من بلدٍ مجاور عندما شُيِّد جزء من خط الألزاس الذي بلغ طوله ١٫٥ ميل، انطلاقًا من الحدود مع فرنسا وصولًا إلى مدينة بازل، وبعدها كانت مدينة زيورخ سبَّاقةً في توسيع شبكة السكك الحديدية بفضل الجهود الكبيرة التي بذَلها ألفريد إيشر، وهو رجلُ سياسةٍ ومِن روَّاد رجال الأعمال ومؤسِّس ما يُعْرَف اليومَ باسم بنك كريدي سويس وشركة التأمين سويس لايف، وافتُتِح أول خط سكك حديدية ممتد كليًّا داخل سويسرا بين مدينة زيورخ ومدينة بادن في عام ١٨٤٧، إلا أن هذا الخط (الذي بالكاد بلغ طوله ١٢ ميلًا) بقيَ طوالَ سبع سنوات خطًّا معزولًا وغير متَّصل بأي خطٍّ آخَر.
اللحاق بالرَّكْب بسرعة واندفاع
بدأ ازدهار بناء السكك الحديدية في عام ١٨٥٥، بعد تمرير قانون في التشريعات التي صاغتها الحكومة الاتحادية التي نشأت في عام ١٨٥٢، والتي عهدت بمهمةِ بناءِ وتشغيلِ السكك الحديدية لأرباب عمل من القطاع الخاص مع منْح الامتيازات للكانتونات. كانت الحكومة السويسرية الحديثة العهد تَفتقِر إلى التمويل اللازم لمثل هذه الاستثمارات الضخمة، في حين لم يتردد المستثمرون من القطاع الخاص في اقتناص هذه الفرصة، وبفضل التمويلات الواردة بمعظمها من رءوس أموال أجنبية، بدأ المُستثمرون بتشييد الخطوط واحدًا تلو الآخر بسرعة خارقة، وبحلول أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر كان قد مُدِّد ١٥٠٠ ميل من خطوط السكك الحديدية، أيْ ما يُمثِّل نصف الشبكة القائمة اليوم، وفي غضون ٣٠ سنة لم تستطع سويسرا اللحاقَ برَكب جيرانها الأوروبيين فحسب، بل تفوَّقت عليهم أيضًا، وبحلول عام ١٨٩٠ أصبحت تمتلك أكثر شبكات السكك الحديدية كثافةً في أوروبا.
وحتى الآن يبقى الجزء الأكثر إثارةً للإعجاب من شبكة السكك الحديدية السويسرية هو خط سانت جوتارد، الذي وافَقَ على بنائه المجلسُ الاتحادي في عام ١٨٦٩ بعد عقودٍ من الجدل السياسي. أمَّا العوامل الحاسمة التي أدَّت إلى اختيار مسار سانت جوتارد، فكانت توحيد إيطاليا تحت حكم ملكي وإنشاء اتحادٍ فيدرالي في شمال ألمانيا. وكان كلا البلدَين يَرغبان في ربط المناطق الصناعية في منطقة نهر الراين الألمانية بشمال إيطاليا، وكانا على استعدادٍ للمساهمة في دفع تكاليف إنشاء خط السكك الحديدية هذا.
التكلفة الحقيقية لخط سكك حديدية
إن مقارَبة تشييد الخط من الجانبَيْن الشمالي والجنوبي واجهَتْ صعوبات هائلة، لكن التركيز كان مُنْصبًّا على شقِّ نفق طوله ٩ أميال بين بلدة جوشينن وبلدة آيرولو، وعندما طُرِحت المناقَصة لاستقطاب العروض لتشييد المشروع، تعهَّدَ مقاولٌ من جنيف يُدْعَى لويس فافر بتسليم النفق جاهزًا في غضون ٨ سنوات. عمل فافر بأكثر من طاقته، وتُوفِّي وهو يُحاول احترام موعد التسليم الطموح جِدًّا الذي تعهَّدَ به، وفُتِح أخيرًا نفق سانت جوتارد في عام ١٨٨٢؛ أيْ بعد عامين من موعد تسليمه الأساسي، إلا أن هذا المشروع لقيَ قدرًا عاليًا من التقدير والإعجاب داخل سويسرا وخارجها، بحيث بات يُوصَف ﺑ «مشروع القرن»، وكان يُقارَن أحيانًا بافتتاح قناة السويس في عام ١٨٦٩، ولم يُنجَز مشروع مماثل بهذه الضخامة إلا بعد مرور ١٠٠ سنة عندما انتهى تشييد خط السكك الحديدية العابر لجبال الألب عام ٢٠١٠، الذي يربط بين طرفَيْ نفق جوتارد ويبلغ طوله ٣٤ ميلًا (وهو أطول نفق سكك حديدية في العالم).
لكن هذا النمو المحموم للسفر بقطارات السكك الحديدية كان له سلبياته؛ إذ أُنشِئ العديد من الشركات في هذا المجال في سويسرا بسرعة فائقة، وبحلول عام ١٩٦١ كان أربعة أخماس شركات السكك الحديدية السويسرية تُعاني من صعوبات اقتصادية، وأصبحت مشكلات التنسيق فيما بين العديد من شركات السكك الحديدية الخاصة واضحةً خلال الحرب بين فرنسا وبروسيا خلال عامَيْ ١٨٧٠ و١٨٧١؛ ونتيجةً لذلك وُضِع قانون جديد لتنظيم السكك الحديدية دخل حيِّز التنفيذ في عام ١٨٧٢، وبموجبه انتقلَت إلى الحكومة الفيدرالية الصلاحيةُ الحصرية لإعطاء تراخيص السكك الحديدية، ومكَّنتها من وضع القواعد الأساسية المتعلِّقة بالبناء والتشغيل وتحديد الجداول الزمنية والرسوم. وفي عام ١٨٩٨ تمَّت المصادقة على شراء أكبر خمس شركات للسكك الحديدية من طرف الحكومة بموجب استفتاء شعبي، وعلى هذا الأساس أُنشِئت هيئة السكك الحديدية الفيدرالية السويسرية في عام ١٩٠٢، وحتى اليوم بقيَت الحكومة السويسرية المساهِمَ الأكبرَ في مجال السكك الحديدية الوطنية، وعلى الرغم من تحويل هذه الهيئة إلى شركة مساهمة عامة محدودة في عام ١٩٩٩، فإن جميع أسهمها بقيت مملوكة للدولة.
حركة المواصلات هي محور الرأسمالية
تصل الكيلومترات العديدة من السكك الحديدية، التي مُدَّتْ في سويسرا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بينَ أنحاء من البلاد كانت في السابق معزولة ومنفصلة، وقد أدَّت هذه السكك الحديدية — التي لم يَسبِق لها مثيل في الحجم ومدى التعقيد — إلى نقل السلطة والقوة الصناعية من المدن القائمة على ضفاف الأنهر مثل بازل وجنيف وسانت جالن إلى مدنٍ بعيدة مثل زيورخ وفينترتور وبيرن؛ مما جعَل التبادُل التجاري للمواد الخام والبضائع يَزدهِر بشكل منقطع النظير، كما سهَّل تنقُّلَ الأشخاص بشكل غير مسبوق، وكانت هذه أولى أُسس نظام الرأسمالية الحديثة التي لا تزال قائمةً حتى اليوم.
كان الاقتصاد الزراعي السويسري في بداية القرن التاسع عشر بسيطًا نسبيًّا، وكانت الشركات في معظم مناطق البلاد تعمل بصفتها مؤسَّساتٍ محليةً مستقلة، وغالبًا ما كانت عائلية، ويشمل ذلك المزارع والمتاجر وورش الحِرَفيِّين وشركات التصنيع الصغيرة مثل شركات المنسوجات، ولكن ظهور السكك الحديدية في منتصَف القرن التاسع عشر عزَّزَ نشوء الشركات الحديثة الكبيرة، وغيَّرَ الأسلوب التقليدي الذي كان متَّبَعًا حتى ذلك الحين في إدارة الأعمال. كما أن كِبَر حجم العمليات ودرجة تعقيدها شكَّلَ أول اختبار لقدرة الجمهورية السويسرية الجديدة على تولِّي المسئولية نيابةً عن الكانتونات والمجتمَعات المحلية الممانعة، التي لم تكن تثق بأي نوعٍ من أنواع السلطة المركزية، خاصةً تلك التي تؤدِّي إلى تغييرِ ما هو مألوف من أساليب العمل.
كان تنوُّع المهام ومداها — ابتداءً من المسح والهندسة حتى البرمجة والجداول الزمنية والمحاسَبة — يتطلَّب تنظيمًا على نطاقٍ لم يَسبِق له مثيل، كما أن النُّظُم الهادفة لدعم هذه الصناعة الجديدة — ويَشمل ذلك الإدارة والتمويل وتحليل الأعمال والخدمات اللوجستية — كانت قد هيَّأت البنية التحتية وكوَّنت مفهومَ العمل الجماعي والاهتمام بالتفاصيل والكفاءة والدقة في المواعيد التي باتَتِ اليومَ من مميِّزات العديد من الشركات السويسرية. ويُعَدُّ نظام السكك الحديدية واحدًا من الإنجازات السويسرية الأكثر إثارةً للإعجاب، ويَحظى بالأولوية القصوى من حيث تخصيص الأموال العامة اللازمة له.
في البداية لا بد من تهيئة الأنهار
كان توسيع شبكة السكك الحديدية قد مكَّنَ قطاع الصناعة السويسري من إيصال مُنتَجاته بسرعةٍ أكبر إلى الأسواق العالَمية، غير أن السكك الحديدية وحدَها لم تكن كافية، فقد لعب الشحن على نهر الراين أيضًا دورًا حاسمًا، حتى إن إحدى شركات الشحن على الراين قد أصبحت منظمة لوجستية تعمل اليومَ في جميع أنحاء العالم.
في البداية لم يكن الشحن ذا أهمية كبيرة بالنسبة إلى مدينة بازل، وعلى الرغم من ذلك، فقد أصبحت هذه المدينة اليومَ على رأس قطاع الملاحة على نهر الراين، إلا أن التيار المائي القوي والتفرُّعات العديدة في الجزء العلوي من نهر الراين بين مدينة بازل ومدينة فورمس، أدَّيَا بالمراكب الشراعية وتلك المدفوعة بقدرة حصانية محدودة إلى عدم القدرة على نقل البضائع على النهر إلا نزولًا، غير أنه في عام ١٨١٧ بدأ العمل على تحسين الملاحة في هذا الجزء من النهر، ولم يُنتَهَ من هذا المشروع الجبَّار إلا بعد مرور ٦٠ سنة، ولكن بحلول عام ١٨٣٨ بات بإمكان بازل فعليًّا شحن البضائع على المراكب ببطءٍ من مدينة ستراسبورج وإليها.
في البداية، تمكَّنَتِ السكك الحديدية التي بدأت العمل في عام ١٨٤٤ في منطقة الألزاس من شحنِ قدرٍ كبير من الحمولات؛ ومن ثَمَّ أتاحت الاستغناء جزئيًّا عن مراكب الراين البطيئة، لكنَّ تسارُعَ وتيرة التصنيع في أواخر القرن أثبتَتْ أن قدرة السكك الحديدية على النقل لم تَعُد تكفي وَحْدَها؛ ونتيجةً لذلك أُنشِئت تعاونية المراكب السويسرية بدعمٍ من شركات الكهرباء والغاز المملوكة من طرف القطاع العام، التي كانت تحتاج إلى طريقةٍ تضمن بها نقل إمدادات الفحم بكميات كبيرة، ومع توسيع أرصفة نهر الراين في بازل، بات الشحن النهري يحوز على قدرٍ إضافي من الأهمية، وبالرغم من منافسة السكك الحديدية، كان الشحن النهري أقلَّ تكلفةً، خصوصًا عندما يتعلَّق الأمر بنقل البضائع الثقيلة مثل المواد الكيميائية السائلة والحبوب والحصى والرمل والأخشاب.
قطاع مراكب النقل يرفض أن يغرق
خلال سنوات ما بين الحربَيْن العالميتَين، خفضت السكك الحديدية أسعارَ الشحن بمقدار كبير، وكان ردُّ فعلِ تعاونيةِ النقل النهري أنْ قامت بتوسيع نطاق عملها. وفي عام ١٩٣٨ اشترت التعاونية شركةَ وكيلِ شحنٍ يُدْعَى هانس إم أوبرشتيج يعمل في مدينة بازل منذ زمن طويل، وغيَّرت اسمها ليُصبح شركةَ الشحن السويسرية، واستثمرَت في شراءِ سفنٍ لنقل البضائع تعمل بالمحرِّكات، وهي سفنٌ يسهل الإبحار والمناوَرة بها مُقارَنةً بالسفن التقليدية.
خلال الحرب العالمية الثانية، فتحَتِ الشركة مكتبًا في لندن وآخَر في نيويورك، وبدأت بالعمل في الملاحة عبر المحيطات، وعندما انتهتِ الحرب وسَّعت شركة الشحن السويسرية نشاطَها للعمل أيضًا في مجال الشحن الجوي. آنذاك كانت أعمال الشحن على نهر الراين قد تراجعت، أمَّا على الصعيد الدولي فقد بدأت أعمال وكالات الشحن تشهد ازدهارًا، وفي عام ١٩٥٤ ركَّزت الشركة جميعَ مصالحها في مجال الشحن تحت علامة واحدة هي «ألبينا»، وفي عام ١٩٦٠ غُيِّر الاسم ليصبح «بان ألبينا».
في البداية، كانت بان ألبينا مجرَّد تكتُّل من الشركات التي تعمل بشكل مُستقل ونادرًا ما تتشارَك في شيءٍ سوى الملكية، وغالبًا ما يعتمد النمو على ضربة حظ أو على فرصة ثمينة، فعلى سبيل المثال، في عام ١٩٥٤ فُتِح فرع للشركة في نيجيريا وأصبحت أعماله رائدةً في مجال الشحن فيما كان يُعرَف بأكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان، وهذا ما أعطى هذا الفرعَ سبْقَ الريادة عندما بدأت الطفرة النفطية في بداية السبعينيات بعد انتهاء حرب بيافران، وسرعان ما أصبحت شركة بان ألبينا الناقلَ الرئيسي لأجهزة التنقيب ومنصات النفط.
شركة بان ألبينا وحركة «الرأسمالية الاجتماعية»
لم يكن التوسُّع في أوروبا الغربية بالأمر السهل، فالنجاح أو الفشل يتوقَّف أساسًا على العلاقات العامة وعلى كفاءة مديري الفروع الفردية، وبعض هؤلاء كانوا من الشخصيات التي تتحلَّى بالكفاءة وقدرة الإدارة، في حين كان أغلبهم لا يَتقبَّل بسهولةٍ التعاونَ المنظَّم مع زملائهم. وكان أحدهم — فالتر شنايدر في فرع النمسا — ناجحًا جدًّا في تحقيق أجندته الخاصة، ففي عام ١٩٦٧ أراد دمْجَ فرعِ شركة بان ألبينا في النمسا مع أكبر الشركات المنافِسة لها وهي مجموعة سودلاند، وكان بذلك يهدف إلى احتلال مركز الريادة في قطاع الشحن النمساوي، وعندما رفض مجلس إدارة الشركة هذه الصفقة؛ لأنه كان يرى فيها تركيزًا كبيرًا للخطر، قرَّرَ شنايدر المضي قُدُمًا على أي حال بمساعَدةٍ وتمويلٍ من إرنست جوهنر، رجل الأعمال السويسري الذي كان يَستثمِر أمواله في قطاع الشحن الدولي منذ عام ١٩٦٠.
كانت هذه بدايةَ علاقةِ تبادلٍ تجاري طويل الأمد بين جوهنر وشركة بان ألبينا. كان جوهنر مؤيدًا متحمِّسًا لمفهوم «الرأسمالية الاجتماعية» الذي تجسَّدَ ببناء وحدات سكنية معيارية للموظفين في سويسرا، وفي وقت من الأوقات كانت أعمال شركة إرنست جوهنر تمثِّل تقريبًا سدسَ مجموع نشاط قطاع البناء في سويسرا، غير أن استثمار جوهنر في شركة بان ألبينا هو الذي ساعَدَ على ازدهار الشركة لتُصبح مجموعة دولية اشترَتِ القسمَ الأكبر منها لاحقًا شركةُ إلكتروواط في عام ١٩٧١، وقد شكَّلت عائداتُ صفقة البيع التي قُدِّرَت ﺑ ١٧٠ مليون فرنك سويسري رأسَ المال الذي استُخدِمَ لإنشاء مؤسسة إرنست جوهنر للأعمال الخيرية، التي أصبحت في بداية السبعينيات المساهِمَ الوحيد في شركة بان ألبينا.
ظاهرة العقود اللوجستية
حتى منتصَف السبعينيات، كان تركيز شركة بان ألبينا منصبًّا على عمليات الشحن التقليدية في أوروبا والمحيط الأطلسي، وكان الركود الذي أعقب أزمة النفط في عام ١٩٧٤ قد دفع الشركة إلى فتح أسواق جديدة في الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدِّرة للبترول وفي الدول النامية، وبعدها في الأمريكيتَين وجنوب شرق آسيا والصين، وفي النهاية باتت هذه الشبكة تشكِّل القاعدة التي أُنشِئ على أساسها ما يُسَمَّى «العقود اللوجستية»، التي غَدَتْ لاحقًا في التسعينيات عنوانًا للنجاح؛ فعلى سبيل المثال، استهوت هذه الخدمة شركةَ الإلكترونيات التي تقوم بتجميع أجزاء أجهزة الكمبيوتر المحمول في أربع مصانع مختلفة، وتستورد المكونات من ١٥ بلدًا أو أكثر، ثم تشحن المنتجات النهائية إلى ٦٠٠ وكيل حول العالم، وقد طوَّرت شركة بان ألبينا برامج معقَّدة لجميع الاحتياجات اللوجستية لدعم هذا النوع من عمليات الإنتاج والتوزيع، وقامت بتنفيذ العمل بموجب برنامج صارم لتسليم المكوِّنات عند الحاجة إليها فقط في عملية الإنتاج؛ مما جنَّب الشركات المصنِّعة تجميدَ الأموال في مخزونات القطع والمكونات. بدأ العديد من الشركات يستعين بأطراف خارجية للقيام بهذه المهام اللوجستية؛ فعلى سبيل المثال، أوكَلَت شركة بي إم دبليو إلى شركة بان ألبينا مهمةَ توريدِ قطعِ الغيار المصنوعة في سنغافورة ونقلها إلى مصانع التجميع وشبكة وكلاء البيع في الصين، كما عهدت شركة فولكس فاجن إلى شركة بان ألبينا مهمةَ بناءِ نظامٍ للنقل والخدمات اللوجستية بين المكسيك وأوروبا لتجميع سيارات فولكس فاجن «بيتل» الجديدة في المكسيك.
حقَّقت مثل هذه الصفقات أرباحًا عاليةً ومتواصِلة لشركة بان ألبينا التي طُرِحت في سوق الأسهم السويسرية في عام ٢٠٠٥، ويعود نجاح الشركة المالي جزئيًّا إلى قدرتها على الحفاظ على بنية تحتية وهيكلية مَرِنة، فالجزء الأكبر من استثماراتها يُسخَّر لتطوير مؤهِّلات موظفيها وتكنولوجياتها المعلوماتية وتوسيع أسواقها بدلًا من شراء الشاحنات والسفن والطائرات. غير أن شركة بان ألبينا تعرَّضت في عام ٢٠٠٧ إلى نكسةٍ شديدة عندما وجَّهت إليها وزارةُ العدل الأمريكية تهمةَ انتهاكِ قوانين مكافحة الفساد في إطار أعمالها الهامة في نيجيريا، اعترفت الشركة بارتكابِ خطأ فيما يُسَمَّى مجازًا «التسريع في الدفع» عند استيراد مَنصَّات الحفر وتخليصها من السلطات الجمركية النيجيرية، وفي عام ٢٠٠٨ انسحبت الشركة نهائيًّا من نيجيريا.
تجارة ترى النور خلال معركة ووترلو
في مدينة بازل، رأتِ النورَ شركةٌ عالمية أخرى ناشطة في مجال الخدمات اللوجستية، وهي شركة دانزاس التي لم تَعُدْ موجودةً اليومَ كاسْمٍ تجاري. بدأ تأسيس شركة الشحن هذه بعد هزيمة نابليون في معركة ووترلو في عام ١٨١٥، فعندما رجع الملازم الفرنسي لويس دانزاس من المعركة إلى مسقط رأسه في بلدة سانت لويس (بقرب مدينة بازل)، التحق بشركة شحن تابعة لميشال ليفيك الذي دعا الشاب دانزاس البالغ من العمر ٢٧ سنة آنذاك ليصبح شريكًا له. وكما كان الحال بالنسبة إلى شركة دانزاس ازدهرت شركة ليفيك وميني، وعندما تولَّى إميل جول بن دانزاس إدارةَ الشركة قام بنقلها إلى مدينة بازل، بعد ذلك أنشأ شبكةَ فروعٍ للشركة في سويسرا ابتداءً من مدينة زيورخ في عام ١٨٧٢.
مرَّرَ دانزاس السلطةَ إلى وكيله العام لوران فيرتسينجر في عام ١٨٧٨، إلا أن الشركة حافظت على اسم دانزاس المُحترَم، وبعد وقت قصير فازت الشركة بعقدٍ لشحن الطرود الدولية لصالح هيئة البريد والبرق والهاتف السويسرية، وشمل هذا العقد — من بين أشياء أخرى — ضمان تسليم الطرود إلى لندن خلال ٢٤ ساعة. قادَتْ عائلة فيرتسينجر الديبلوماسية الشركةَ بنجاح خلال السنوات الصعبة للحرب العالمية الأولى، وازدهرت الشركة خلال فترة ما بين الحربين العالميتَين مستفيدةً من رَواج حركة الشحن المنقول بحرًا عبر موانئ شمال ألمانيا والشحن إلى إيطاليا، وخلال الحرب العالمية الثانية تمكَّنت الشركة من الحفاظ على أعمالها باستخدام البرتغال المحايدةِ قاعدةً لأعمالها، كان الفضل في ذلك يعود أساسًا إلى هانس هات وكيلِ الشركة في ليشبونة، الذي أصبح لاحقًا الرئيس التنفيذي. كان هات وبعده ابنه قد أنشآ منذ الخمسينيات شبكةَ شركاتٍ فرعية عالَمية وفتحَا مكاتبَ في نيويورك وأمريكا اللاتينية، ومنذ عام ١٩٧٩ استمر توسيع أعمال الشركة على الصعيد العالمي تحت إشراف دافيد ليندر الذي اشترى مجموعة جنترانسكو البريطانية في عام ١٩٨٠، كما أنشأ أو اشترى شركاتٍ في أستراليا وبلجيكا وهولندا والنمسا وهنغاريا واليابان وتايوان، وبحلول عام ١٩٨٩ كان لشركة دانزاس ممثِّلون في ٣٦ بلدًا وفي ٤١ ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية.
شركة دانزاس تقع ضحية النمو والتغيير
في بداية التسعينيات، كان على شركة دانزاس — مثل الكثير من الشركات الأخرى — أن تُوقِف موجة الشراء لتستوعب الكمَّ الكبير من الشركات التي استحوذت عليها، بعد ذلك بدأت الشركة بممارسةِ إعادةِ تنظيمٍ هيكليٍّ وحوَّلت اهتمامها من أوروبا إلى أمريكا وشرق آسيا. ولكن فترة التسعينيات كانت أيضًا فترةً صعبة بالنسبة إلى شركات الخدمات اللوجستية الأوروبية؛ لأن عملية رفع القيود التنظيمة التي فرضها الاتحاد الأوروبي قد أدَّت إلى تغييرِ نظامِ النقل الأوروبي تغييرًا جذريًّا، وعلى الرغم من أن صحيفة وول ستريت جورنال قد رجَّحت في عام ١٩٩٠ أن تكون شركة دانزاس واحدة من شركات الخدمات اللوجستية الأوروبية القادرة على البقاء والاستمرار، فإن تنظيمها المجزَّأ (أكثر من ١٠٠ شركة صغيرة، وإدارة مركزية موسعة) جعل المجموعةَ أضعفَ وأكثرَ تعرُّضًا للمخاطر، وسرعان ما تراجعت الإيرادات بشكلٍ حاد، ومع أن المجموعة خضعت لعملية إعادة تنظيم في هيكليتها، فإن النمو بقي هزيلًا.
في ديسمبر ١٩٩٨ قامت مؤسسة البريد والاتصالات السلكية واللاسلكية التابعة للحكومة الألمانية بتقديمِ عرضٍ رسمي بقيمة ١٫٥ مليار فرنك سويسري للاستحواذ على الشركة، ولم يكن أمام دانزاس خيار سوى القبول.
كان لشركة دانزاس آنذاك قوةٌ عاملة تضم ١٦ ألفَ موظف، وعائداتٌ سنوية تُقدَّر ﺑ ٧ مليارات فرنك سويسري، وبعد وقت قصير نَمَتْ هذه التجارة أكثر فأكثر بعد أن اشترت مؤسسة البريد الألمانية المزيدَ من شركات الخدمات اللوجستية في السويد وهولاندا والولايات المتحدة، لكن في عام ٢٠٠٦ دُمِجت معًا العلاماتُ التجارية اللوجستية التابعة لمؤسسة البريد الألمانية — وهي: دي إتش إل، والبريد الألماني، ويورو إكسبريس، ودانزاس — تحت علامة تجارية واحدة هي: دي إتش إل، وبذلك اختفى اسم دانزاس من الوجود بعد مرور قرنَيْن من الزمن على تاريخ تأسيسها.
كيف يُمكن لشركةٍ ما أن تُصبح واحدة من أفضل الشركات في العالم؟
في حين انتهت شركة دانزاس في أيادي الألمان، قامت شركة كبيرة أخرى للخدمات اللوجستية بشق طريقها في الاتجاه المعاكس. كانت مجموعة كونيه وناجل ذات الجذور الألمانية تشغِّل ٥٥ ألف موظف في أكثر من ١٠٠ بلد في عام ٢٠٠٩، وفاقت إيراداتها ١٧ مليار فرنك سويسري، وباتت — إلى جانب شركة إيه بي بي — واحدةً من الشركتين السويسريتَين المُدرَجتين في لائحة أفضل ٢٥ شركة في العالم بحسب تصنيف مؤسسة آي تي كيرني، وقد أُنشِئت هذه الشركة العملاقة في مجال الخدمات اللوجستية في عام ١٨٩٠ على أيدي أوجُست كونيه وفريدريخ ناجل في مدينة بريمن الألمانية.
وُلِد كونيه في عام ١٨٥٥ وكان والده حطَّابًا، وسُرِّح من عمله خلال الركود الاقتصادي في منتصف عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر بعد أن أكمل تدريبه، وبدأ العملَ كاتبًا في شركة شحن في بريمن تُسَمَّى آف آر نويمان. ارتقى كونيه سُلَّمَ الرُّتَب في الوظيفة ليُصبح شريكًا، وخطب ابنة صاحب الشركة نويمان، إلا أنها تُوُفِّيَت صدفة قبل موعد الزفاف، وتعكَّر لاحقًا صفو العلاقة بين كونيه ونويمان. وفي عام ١٨٩٠ غادر كونيه الشركة ليقوم بإنشاء شركته الخاصة بالشراكة مع فريدريخ ناجل الذي كان يَعمل وكيلَ شحنٍ في شركةِ نويمان، استطاع الرجلان بعناءٍ جمعَ رأس مالٍ لم يتجاوَز ٣٠ ألف مارك ألماني، وقاما بنشر إعلان في جريدةِ أخبارِ بريمن المحلية بأن: «وكالة شحن وخدمات تحت اسم كونيه وناجل قد أُنشِئت هنا في مرفأ مدينة بريمن.»
أهم شيء هو الالتزام بالمواعيد
في البداية كانت أعمال الشركة ترتكز على الموانئ البحرية الألمانية في بحر الشمال، وبعد ذلك فُتِح أول فرع في مدينة هامبورج في عام ١٩٠٣، ولعلَّ العنصر الأساسي للقيمة الإضافية بالنسبة إلى عمل وكيل الشحن يكمن في تجميع شحنات العديد من الزبائن، لتشكيل حمولة واحدة تُشحَن إلى نفس الوجهة بهدف خفض التكاليف، ولكن الخطر في ذلك هو أن مقطورات السكك الحديدية كان يجب أن تسير أحيانًا نصف ملآنة ليستطيع وكيل الشحن الالتزام بالمواعيد المحددة، أمَّا وكالة كونيه وناجل فقد طبَّقت جدولَ مواعيدَ منضبطًا جِدًّا، حتى لو كان ذلك على حساب تحمُّل تكاليف إضافية، واستطاعت بذلك كسب ثقة زبائنها.
كانت أعمال الشركة جيدة بما فيه الكفاية على مدى نصف قرن، بالرغم من أن كلتا الحربين العالميتَين قد تسبَّبتا في انهيار قطاع التجارة البحرية. بعد الحرب العالمية الثانية نوَّعت الشركة نشاطها ودخلت مجال الشحن الجوي في محاولةٍ منها لكسر حلقة التقلُّب الدوري بين الكساد والازدهار، وبعد أعوام قليلة وسَّعت شركة كونيه وناجل نشاطَها لتصل إلى كندا والشرق الأوسط وبلدان البنلوكس، وفي عام ١٩٥٩ أُسِّست شركةٌ شقيقة لها في سويسرا ترأَّسَها لأمدٍ طويل كلاوس ميخائيل كونيه وحوَّلها إلى شركة عالَمية في عام ١٩٧٥، وحتى قبل هذا التاريخ كانت الشركة قد اهتمَّت بتطوير نفسها من مجرد شركة شحن ألمانية تقليدية إلى مقدِّم للخدمات اللوجستية المتكاملة، وأصبحت أيضًا واحدةً من الشركات الأكثر ديناميكيةً في العالم.
الاستثمار لا يخلو من المخاطر
كانت الشركة تضعُ لنفسها باستمرارٍ معاييرَ قياسيةً جديدة وتسعى لتحقيقها، فعلى سبيل المثال، في عام ١٩٦٥ كانت أول شركة شحن تضع نظامًا لمعالجة البيانات إلكترونيًّا، وفي عام ١٩٩٥ وضعت برنامجًا متكامِلًا لتتبع أثَر الشحنات في جميع أنحاء العالم، وبعد مرور ثلاث سنوات فقط أصبح بإمكان الزبائن تتبُّع شحناتهم الخاصة عبر الإنترنت خلال فترة شحنها؛ ومن ثَمَّ بات بإمكان شركة ليفي شتراوس — مثلًا — معرفة المكان الدقيق لشحنتها من بنطلونات الجينز المصنوعة في الصين، وهي في طريقها إلى لندن، وهذا التحسُّن في الخدمة ساعد الشركة على تقليل حجم مخزونات السلع إلى حدٍّ كبيرٍ وتخفيضِ الاستثمار في رأس المال اللازم للتشغيل. وفي الواقع فإن استراتيجية النمو الهائل والمتواصِل التي اتَّبعتها شركة كونيه وناجل كانت تنطوي على بعض المخاطر؛ فمشروع استثمارها في شراء وامتلاك السفن المحفوف بالمخاطر في وقت مبكر من السبعينيات كان قد كلَّفها ما يقارب ٥٠ مليون دولار أمريكي، وفي عام ١٩٨١ بينما كانت الشركة تُشغِّل نحو ٨٥٠٠ شخص، اضطرَّ كونيه إلى بيع ٥٠ في المائة من أسهم الشركة إلى مجموعة شركات لونرو البريطانية، لكنه بقيَ الرئيس التنفيذي، وعمل جنبًا إلى جنب مع مدير شركة لونرو — رولاند «تايني» راولاند — الذي كان في ذلك الوقت من الشخصيات الأكثر إثارةً للجدل في مجال الأعمال التجارية البريطانية، ومن هذا المنصب هيَّأَ كونيه شركته لولوج سوق الاتحاد الأوروبي؛ مما جعله يكسب لقبَ رجل أوروبا «مستر يوروب» في عام ١٩٨٨، وكان بذلك قد حقَّقَ نجاحًا باهرًا مكَّنه في عام ١٩٩٢ من إعادة شراء جميع أسهم شركته التي كانت مملوكة لشركة لونرو.
أول مَن حطَّ رحاله على أرض الصين
كجزء من استراتيجيتها الهادفة إلى التوسُّع المتواصِل، شرعت المجموعة بتنفيذ عمليات استحواذ في جميع أنحاء العالم، كما اشترت أيضًا شركة فيروفياسبيد في سويسرا، ولكن ربما يكون الأهم من ذلك هو أن شركة كونيه وناجل قد أصبحَت أول شركة للخدمات اللوجستية يُسمَح لها بإنشاء شركة تابعة ومملوكة منها بالكامل في شانغهاي في عام ٢٠٠٤، وبعد مرور سنة فقط مُدِّدَ الترخيص ليشمل الصين كلها. وفي عام ٢٠١١ تولَّى كارل جيرناند منصبَ رئيس مجلس الإدارة عوضًا عن كونيه في وقتٍ كانت فيه الشركة قد نمَت لتُصبحَ إحدى «الشركات الثلاث الكبرى» في معظم مجالات الأعمال اللوجستية العالَمية، والشركة الرائدة عالميًّا في مجال الشحن البحري.
وإلى جانب شركة دي إتش إل وشركة دي بي شينكر التابعتين لمؤسسة البريد الألمانية، تُعَدُّ شركة كونيه وناجل من بين أكبر ثلاث شركات في العالم من حيث مجال امتدادِ أعمالها دوليًّا وعدد الخدمات التي تقدِّمها، كما أن مؤسسة تكنولوجيا المعلومات الدولية التابعة لها تُشغِّل ألفَ اختصاصيِّ معلومات و٨٣٠ شريكًا تجاريًّا، وتعمل بميزانية بلغت ٢٥٠ مليون فرنك سويسري (إنَّ قدرات تجميع ومعالجة البيانات في المؤسسة ممتازة؛ فهي تحفظ ٢٦٠ مليون وثيقة في مخازنها، و٣ تيرابايتات من المعلومات في قائمة بياناتها الإلكترونية).
كانت شركة كونيه وناجل رائدةً من حيث حصتها في السوق في عام ٢٠٠٩ المحسوبة على أساس حجم دورة أعمالها (انظر الجدول التالي)، ووفقًا للبيانات المنشورة من طرف الشركة، فإن النمو في حركة الشحن بالحاويات قد تضاعَفَ خلال السنوات العشر الماضية (انظر الجدول التالي).
شركة الطيران الضائعة
لقد أثبتت شركات مثل بان ألبينا ودانزاس وكونيه وناجل أن بلدًا صغيرًا — مثل سويسرا — يُمكنه أن يكون فعليًّا قاعدة لشركاتِ خدماتٍ لوجستية تعمل في جميع أنحاء العالم، غير أن هذه الشركات تَعُد نفسَها شركات عالمية بقدر ما هي شركات سويسرية. ولكن هذا الواقع لم يَنطبِق بالضرورة على شركة الطيران الوطنية «سويس آير»؛ لأن انتماءها لسويسرا هو جزء جوهري من برنامج عملها؛ ومن ثَمَّ فإن انهيارها في عام ٢٠٠١ سدَّد ضربةً قوية لقِيَمها الوطنية السويسرية.
لعلَّ القاسم المشترك بين الخدمات اللوجستية السويسرية وقطاع الطيران هو صِغَر حجم السوق المحلية، الذي دفع الشركات باستمرار — منذ بداية نشأتها تقريبًا — إلى البحث عن أسواق أكبر حجمًا في الخارج. لقد صُمِّمت الطائرات لقطع مسافات طويلة، غير أن سويسرا بلد صغير لا مسافات كبيرة فيه، وإضافةً إلى ذلك، عندما توسَّعَ السفر جوًّا وأصبح سوقًا تجاريةً عامةً، أجبر حجمُ السوق المحلية الصغير الخطوطَ الجوية السويسرية في مرحلةٍ مبكرة على عدِّ نفسِها شركةَ تصديرٍ يقع مقرُّها الرئيسي في سويسرا.
وكما كان الحال بالنسبة إلى العديد من شركات الطيران في الدول الصناعية الأخرى، فإن أصول شركة الخطوط الجوية السويسرية تعود إلى مآثِرِ رجالِ أعمالٍ مندفعين وطيَّارين متحمِّسين أقاموا مشاريعَ أنشطةٍ متفاوتة خلال العشرينيات، ثم اجتمعوا ووحَّدوا جهودَهم في عام ١٩٣١ بإيعازٍ من الحكومة ليُشكِّلوا شركةَ الخطوط الجوية السويسرية التي كانت تضمُّ آنذاك ١٣ طائرة، وطاقمًا مؤلَّفًا من ٦٤ موظفًا من بينهم ١٠ طيَّارين.
اختراع مهنة المُضيفة الجوية
في عامها الأوَّل، اشترت شركةُ الخطوط الجوية السويسرية طائرتَيْ «آريون» العاليتَي السرعة من شركة لوكهيد في الولايات المتَّحدة؛ مما جعلها رائدةً في مجال الطيران الأوروبي. كان هناك ابتكارٌ آخَر من الولايات المتحدة أعطى شركة سويس آير ميزةً تنافسية أخرى، وهو مهمة «المضيفة الجوية» التي تتلخَّص في تلبية رغبات الركَّاب والسهر على راحتهم خلال الرحلات الجوية؛ مما ساهَمَ في تعزيز سمعة الشركة، وكانت نيلي دينر أولَ مضيفة جوية في أوروبا، ولكنَّ قطاع الطيران التجاري في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية أصبح شِبْهَ متوقِّفٍ تقريبًا.
كانت مرحلة الانتعاش الأولى التي تلت الحرب العالمية بطيئة، كما أن أزمة الجنيه الإسترليني في سبتمبر ١٩٤٩، عندما انخفضت قيمة العملة البريطانية بمقدار الثلث، قد جعلا شركة سويس آير تُدرِك أن نموذج عملها في أوروبا عبر مسافات قصيرة بات مهدَّدًا، وكان على الشركة الاستثمار في رحلات خطوط المسافات الطويلة، وكانت بحاجةٍ إلى مساعدة الحكومة للقيام بذلك. دفعت الحكومة الفيدرالية مبلغ ١٥ مليون فرنك سويسري لشراء طائرتين من نوع دي سي ٦ بي المخصَّصة للمسافات الطويلة، وقامت بتأجيرهما للشركة، وفي المقابل خفَّضت الشركة من القيمة الاسمية لأسهمها بنسبة ٣٠ في المائة، وفي نفس الوقت عُيِّن فريقٌ جديد للإدارة العليا. ومنذ ذلك الحين كان هناك رجلان أثَّرا بشكلٍ حاسم على مصير شركة الطيران، وهما: صحافيٌّ سابق يُدْعَى فالتر بريختولد، ورجلُ أعمالٍ في قطاع صناعة النسيج يُدْعَى رودولف هيبرلاين. كوَّنَ الرجلان فريقًا قويًّا وناشطًا بصرف النظر عن الشكوك التي كانت سائدة خلال سنوات ما بعد الحرب، وحقَّقا نموًّا مُستدامًا — حتى وإن كان محمومًا إلى حدٍّ ما — طوال عقدَيْن من الزمن.
مصرف كبير طائر في الفضاء
نَمَتْ شركة الخطوط الجوية السويسرية لتُصبح واحدة من الشركات الرائدة في أوروبا، وكانت من بين أوائل الشركات التي اشترت أنواعًا جديدة من الطائرات، واستطاعت الشركة تغطية تكاليف استثماراتها العالية، ليس عن طريق زيادة قروضها، بل بفرض سياسة صارمة لاستهلاك (خفض) قيمة الأصول الثابتة، وفي غضون عشر سنوات أُهلِكت (خُفضت) القيمة الدفترية للطائرات إلى مستوًى رمزي، ولكن بفضل الصيانة الجيدة وتغيير قطع الغيار بانتظام، بقيت القيمة الحقيقية للطائرات عاليةً إذ بِيعت في بعض الأحيان بسعرٍ أعلى من سعر شرائها الأوَّلي، وبسبب هذه الاحتياطيات المخفية، تمكَّنت سويس آير من الحفاظ على الاحتياجات المالية الهائلة للشركات تحت السيطرة، حتى إنه غالبًا ما كان يُشار إليها ﺑ «المصرف الطائر».
إن الجودة العالية للخدمات التي بدأ تقديمها قبل الحرب العالمية الثانية، قد طُوِّرت وحُسِّنت بمقدارٍ إضافي خلال سنوات الازدهار التي تلت الحرب، ونظرًا لأن الطيران الجوي كان يخضع لعمليةِ توحيدٍ مُتواصِلة للمعايير أكثر من أي وقتٍ مضى، باتت شركة سويس آير أكثر تمايزًا عن سواها من الشركات، وكما كان الأمر بالنسبة إلى قطاعَي صناعة الساعات والصناعات الهندسية، حقَّقت شركة سويس آير نجاحًا كبيرًا في بناء سمعتها الصلبة المتميِّزة بدقة المواعيد، والجدارة بالثقة والاعتماد والنظافة، وخلال الستينيات والسبعينيات أصبحت واحدةً من أفضل وأشهر شركات الطيران في العالم، وسنة بعد سنة، فُتِحت مسارات جديدة للطيران وارتفعت المداخيل (محقِّقة زيادة قدرها أربعة أضعاف بين عامَيْ ١٩٥٧ و١٩٦٧)، كما ارتفع عدد العمال (من أكثر من ٧ آلاف شخص في عام ١٩٦٠ إلى حوالي ١٥ ألف شخص في عام ١٩٨٠).
غير أن قطاع السفر الجوي هو مجالُ عملٍ محفوفٌ بالتقلُّب وعدم الاستقرار، وخلال إدارة آرمين بالتينزفايلر بصفته رئيسًا تنفيذيًّا، واجهَتْ شركة الخطوط الجوية السويسرية تحديَّات نتجت عن أزمة النفط في عام ١٩٧٣، وحرب الأسعار التي أعقبت تحرير مسارات الطيران الداخلية في الولايات المتحدة، كانت تكاليف الأجور مرتفعة حتمًا لدى شركة خطوط الطيران السويسرية؛ ولذلك كان عليها تخفيض التكاليف الأخرى مرارًا وتكرارًا لتستطيع البقاء والاستمرار في العمل، ولكن التحدي الأكبر نَجَمَ عن التغييرات التنظيمية في أوروبا، فعندما قرَّرَ الاتحاد الأوروبي في أواخر الثمانينيات تحريرَ النقل الجوي في الدول الأعضاء، استُبعِدت سويسرا من هذه السوق (وفي ديسمبر ١٩٩٢ صوَّتَ الناخبون السويسريون بفارقٍ ضئيل ضد الانضمام إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية)، حاولَتْ سويس آير توسيعَ نطاقِ أعمالها في السوق من خلال التعاون مع شركة دلتا — وهي شركة طيران في الولايات المتحدة الأمريكية — ومنظومة شركات الطيران الإسكندنافية إس آي إس، مما كان من شأنه أن يتطور إلى تحالُفٍ رباعي (مشروع ألكازار)، كما كان متوقَّعًا أيضًا انضمام شركة الخطوط الجوية الهولندية والخطوط الجوية النمساوية، غير أن المفاوضات تعثَّرت بسبب مَطالِب سويس آير المفرطة والمبالَغ فيها (المدفوعة من قِبَل بعض المُغالِين في «الوطنية الاقتصادية» من عامَّة الشعب)، وبذلك خسرت الشركة فرصةً لتعزيز مكانتها وقدرتها على التصدِّي للمنافسة العالمية المتزايدة.
صدمة الإفلاس
أحدث إفلاس شركة سويس آير صدمةً لدى الشعب السويسري، كما أثار جدلًا كبيرًا حول أسلوب النخبة في الإدارة والحوكمة في رئاسة الشركات، وهو مفهوم يُعْرَف باسم «فيلز» (وهي كلمة ألمانية تصف القماش المصنوع من الألياف المتلبِّدة والمحاكة بكثافة مثل الصوف)، وهذه صورة تجسِّد العلاقةَ الحميمة بين النخبة من الصناعيِّين والمصرفيين السويسريين التي تطوَّرت خلال التجربة العسكرية المشتركة وعبر الروابط التي تجمع بين أعضاء مجالس إدارات الشركات المختلفة. كان مجلس إدارة شركة الخطوط الجوية السويسرية مكوَّنًا من أكبر وأفضل ما جادت به مجالات السياسة والصناعة والاقتصاد من الشخصيات، وكانت حسنات مثل هذا المجلس تتمثَّل في الثقة وسهولة التواصل والالتزام بموجبات العمل، أمَّا سيئاتُه فكانت «التفكير الجماعي» والتضارب الجوهري في المصالح نتيجةً للروابط المعقَّدة والاعتماد المتبادَل بين أعضاء المجلس في شركةٍ بهذا الحجم، وعندما ظهرت أزمة سويس آير، شعر الكثيرون بأن مجلس إدارتها قد فشل في العمل حصريًّا من أجل مصلحة الشركة، لكن ذلك جاء بعد فوات الأوان.
رفع القيود والاختلالات الناجمة عنه
كان هناك عددٌ من العوامل التي ساهمت في انهيار شركة الخطوط السويسرية، ومن بينها تحرير المجال الجوي التابع للاتحاد الأوروبي؛ مما أدى إلى خلق منافسة شَرِسة مع شركات الطيران ذات الأسعار المنخفِضة مثل شركة إيزي جيت وشركة رايان آير، هذا إلى جانب الاختلال المُتواصِل في مقومات المنافسة بسبب الدعم الذي تُقدِّمه الحكومات إلى شركات طيرانها الوطنية، كما أن هيكلية نفقات شركات الطيران العريقة — مثل سويس آير — كانت مرتفعةً مُقارَنةً بشركات الطيران الحديثة العهد، وكان عدد المسافرين يَزداد بكثرة في المطارات مما جعل الحصول على حقوق الهبوط والإقلاع في أوقاتٍ مناسبة أكثرَ صعوبةً، ولم تكن شركة سويس آير في موقع قوي يُخوِّلها الحصولَ على مثل هذه الحقوق في العواصم الأوروبية الرئيسية. ولعل أحد التحديات التي واجهتها شركات طيران — مثل سويس آير — نَجَمَ عن تقريرٍ نشرته مؤسَّسة ماكنزي التي قدَّرت أن قطاع الطيران الجوي بمجمله قد تكبَّد خسائر طوال الفترة ما بين عامَيْ ١٩٨٠ و٢٠٠٠، وخلال هذه الفترة قدَّمت ٤٣ شركة طيران في الولايات المتحدة وحدها مُطالَباتٍ للحماية من الإفلاس بموجب الفصل ١١.
على الرغم من هذا كله، كان لا يزال هناك مكان لشركة طيران سويسرية دولية، فما تبقَّى من الشركة اشترَتْه مجموعة من المستثمرين من القطاعَيْن العام والخاص، وبِيعت أجزاءٌ مختلفة من مجموعة سويس آير، وتراجعت نشاطاتها في مجال الطيران الجوي بشكل كبير، ودُمِجت مع شركةٍ منافِسة سابقة هي شركة كروس آير المتخصِّصة في الرحلات المحلية، التي كانت في السابق فرعًا من شركة سويس آير، وأُنشِئت شركة جديدة تحت اسم «سويس» لتحلَّ محلَّ سويس آير، وبعد ثلاث سنوات بِيعتْ بمبلغ ٣٣٩ مليون فرنك سويسري لشركة الخطوط الجوية الألمانية العملاقة لوفتهانزا، التي دمجَتِ الشركةَ الفرعية الجديدة سويس، غير أنها سمحت لها بالحفاظ على اسم علامتها التجارية مُنفصِلًا، وعلى طاقم إدارة خاص بها، ومكتبِها الرئيسي الخاص في سويسرا. وبحلول عام ٢٠٠٦ عادت الشركة إلى تحقيق الأرباح من جديد، وسرعان ما أصبحت جوهرةَ تاجِ شركةِ لوفتهانزا من حيث حجم أرباحها، وفي عام ٢٠٠٨ كانت مُساهَمةُ شركة سويس في مجمل أرباح أعمال شركة لوفتهانزا في مجال حركة الركاب قد بلغت ٤٠ في المائة، وفي عام ٢٠٠٩ حقَّقت أرباحًا بلغت ٩٣ مليون يورو، في حين تكبَّدَ مجملُ عمليات شركة لوفتهانزا في مجال الطيران خسائرَ بلغت ١٠٧ ملايين يورو.
لماذا سويسرا بالذات؟
كانت سويسرا في السابق — ولا تزال إلى حدٍّ ما — ممرًّا يَربط بين الشمال والجنوب، إلا أنها أصبحت اليومَ أكثرَ من ذلك بكثير، فبعد بدايات مُتواضِعة، وبالرغم من التحديات الكبيرة التي اعترضتهم، أثبت السويسريون براعتَهم في جميع مجالات النقل الأساسية؛ فشبكةُ السكك الحديدية السويسرية، البالغ طولها أكثر بقليل من ٣ آلاف ميل، والتي تضم ١٩٢ ميلًا من السكك الحديدية لكل ١٠٠٠ ميل مربع من الأراضي، هي شبكة السكك الحديدية الأكثر كثافةً في أوروبا، وبالمثل فإن نجاح شركة لوفتهانزا في شركة سويس الفرعية التابعة لها يشير إلى أنه لا يزال من الممكن تشغيل شركة طيران دولية مربحة انطلاقًا من سويسرا.
ولكن — مرةً أخرى — إن الإنجاز الحقيقي لا يكمن فيما حقَّقَتْه سويسرا في الداخل، إنما ما حقَّقَتْه خارجَ حدودها، فشركاتُ «بان ألبينا» و«دانزاس» و«كونيه وناجل» هي ثلاث شركات عملاقة في مجال النقل، تتنافس في جميع مجالات النقل البري والبحري والجوي، وكذلك عبر الأنهار وعلى السكك الحديدية، في أهم المسارات الرئيسية التي تصل بين أرجاء العالم، وإلى جانب نقل البضائع، أصبحت هذه الشركات جزءًا لا يتجزَّأ من إدارة مخزونات زبائنها، وامتدادًا متمِّمًا لأعمالهم.
المصدر | المكان المقصود | حجم التجارة العالمية ٪ (٢٠١٥) | مجموعة النمو السنوي ٪ (٢٠١٠–٢٠١٥) |
---|---|---|---|
آسيا | آسيا | ٢٧٫٣ | ٨ |
آسيا | أوروبا | ١٢٫٧ | ٦٫٨ |
آسيا | أمريكا الشمالية (باستثناء المكسيك) | ١١٫٦ | ٧٫١ |
أوروبا | آسيا | ٧٫٨ | ٦٫٦ |
أمريكا الشمالية | آسيا | ٧٫٢ | ٨٫٣ |
أوروبا | أمريكا الشمالية | ٢٫٥ | ٣٫٨ |
آسيا | أمريكا اللاتينية (ومن ضمنها المكسيك) | ٢٫٤ | ٧٫٢ |
أوروبا | أفريقيا | ٢ | ٤٫٣ |
أمريكا اللاتينية | أمريكا الشمالية | ٢ | ٤٫٣ |
أمريكا الشمالية | أوروبا | ١٫٩ | ٤٫٩ |
أمريكا اللاتينية | أوروبا | ١٫٧ | ٣٫٦ |
أمريكا الشمالية | أمريكا اللاتينية (ومن ضمنها المكسيك) | ١٫٧ | ٤٫٨ |
أوروبا | الشرق الأوسط | ١٫٦ | ٥٫٢ |
أمريكا اللاتينية | أمريكا اللاتينية | ١ | ٣٫٩ |
أمريكا اللاتينية | آسيا | ١ | ٦٫٤ |
أوروبا | أمريكا اللاتينية | ٠٫٩ | ٤ |
المجموع | ٨٥٫٣ | ٦٫٨ |
كما أن في سويسرا شركات نقل أصغر حجمًا وأقل شهرةً تُهيمِن على بعض الميادين التخصُّصية في قطاع النقل، ومنها شركة إم آي تي للنقل التي تأسَّست في بازل في عام ١٩٤٥، والتي تُهيمن على قطاع نقل البضائع ذات القيمة العالية مثل الأعمال الفنية والمجوهرات والأموال والأفلام. فعندما يُقرِّر متحفُ ميتروبوليتان للفنون في نيويورك، أو متحفُ تيت في المملكة المتحدة — مثلًا — إعارةَ جزءٍ من مجموعته الفنية إلى متاحف أخرى وراء البحار، لا بد أن يتركَّز الاعتبار الأساسي على توفير الحماية والأمان للقطع الفنية، ومؤخرًا فُوِّضت أيضًا هذه الشركة من طرف جيه بي مورجان لتأمين وإدارة مرافق لتخزين الذهب إثر ارتفاع الطلب في أوساط المستثمرين.
وشركة جلينكور، التي تُعَدُّ أكبر شركة لتجارة السلع الأساسية في العالم، هي قيد التحوُّل بشكلٍ مُتزايد إلى شركةٍ للخدمات اللوجستية. فإلى جانب تنظيم عمليات شراء وبيع النفط والزنك والفحم ومجموعة متنوعة من السلع الأساسية الأخرى، تمتلك الشركة أو تستأجر أسطولَها الخاص من السفن، كما تتولى إجراءات الجمارك والتأمينات والتخزين لحساب زبائنها.
١٩٥٠ | ١٩٧٠ | ١٩٨٠ | ٢٠٠٠ | ٢٠١١ | |
---|---|---|---|---|---|
كونيه وناجل (١٨٩٠) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | – | – | ٨٢٤٧ | ١٩٥٩٦ |
مجموع عدد العمال | – | – | – | ١٣٧٧٠ | ٦٣١١٠ |
عدد العمال في سويسرا | – | – | – | ٢٨٠ | ٤٧٠ |
بان ألبينا (١٩٣٥) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | – | ٣٠٠٠ | ٥٣٧٣ | ٦٤٩٩ |
مجموع عدد العمال | – | – | ٩٠٦٠ | ١١٥٩٠ | ١٥٠٥١ |
عدد العمال في سويسرا | – | – | – | – | ٧٤٠ |
قبل ١٨٠٠ | |
١٢٣٠ | بناء «جسر الشيطان» على مضيق شولينن الذي جعل من ممرِّ سانت جوتارد طريقَ عبورٍ هامًّا. |
١٧٥٠–١٧٥٩ | مدينة بيرن تُطوِّر شبكةَ طرقات في جميع أنحاء سويسرا، أولى طرقات النقل عبر جبال الألب. |
١٨٠٠–١٨٩٩ | |
١٨٤٧ | افتتاح أول خط سكة حديد على أرض سويسرا، من مدينة زيورخ إلى مدينة بادن. |
١٨٥٢ | المجلس الفيدرالي يفتتح شبكة السكك الحديدية أمام شركات الشحن والتجار. |
١٨٧٠ | خلال الحرب الفرنسية البروسية، نُقِل المكتب الرئيسي لشركة دانزاس وشركة ليفيك وميني من فرنسا إلى مدينة بازل. |
١٨٨٢ | افتتاح نفق سانت جوتارد للسكك الحديدية. |
١٨٩٠ | في بريمن بألمانيا وضَعَ أوجست كونيه وفريدريخ ناجل أُسسَ شركة كونيه وناجل. |
١٩٠٠–١٩٩٩ | |
١٩٠٢ | إنشاء السكك الحديدية الفيدرالية السويسرية. |
١٩٠٤ | تأسيس شركة الملاحة في الجزء العلوي من نهر الراين في بازل، وفي الشركة التي أصبحت لاحقًا شركة بان ألبينا. |
١٩١٩ | تأسيس شركة ميتلهولزر وشركاؤه للتصوير الفوتوغرافي والنقل الجوي للركاب، وهي أول شركة طيران سويسرية في زيورخ، دُمِجت في عام ١٩٢٠ في شركةٍ منافِسة لها، وهي شركة آد-أسترا. |
١٩٢٥ | شركة طيران أخرى اسمها بال آير أُسِّست في مدينة بازل. |
١٩٣١ | عملية إدماج شركة بال آير وشركة آد-أسترا لتكوين شركة سويس آير. |
١٩٧٥ | ألفريد كونيه يؤسس شركة كونيه وناجل الدولية في كانتون شفيتس. |
١٩٩٩ | إدارة البريد الألماني دويتشيه بوست تستحوذ على شركة دانزاس. |
منذ ٢٠٠٠ | |
٢٠٠١ | توقُّف شركة سويس آير عن العمل. |
٢٠٠٢ | إنشاء شركة سويس على أنقاض شركة سويس آير التي بِيعت إلى شركة لوفتهانزا في عام ٢٠٠٥. |
٢٠٠٦ | اختفاء اسم العلامة التجارية دانزاس. |
٢٠١٠ | وَصْل مسارَيِ الحفر من الجانبَيْن لاستكمال أشغال حفر نفق سانت جوتارد الجديد. |
٢٠١٧ | فتح النفق الجديد أمام حركة التنقل. |
إن آفاق النقل المستقبلية المتوقَّعة تبدو إيجابية، والتجارة العالمية هي بين أول المستفيدين من العولمة؛ لأنها تؤدي إلى توسيع أحجام التبادلات وتخفيض تكاليف النقل، وعلاوةً على ذلك، أصبح العالم اليومَ أقلَّ حمائيةً في تعاملاته؛ ومن ثَمَّ ازدادت فوائد الإنتاج محليًّا وشحن المنتجات إلى الخارج (فقد انخفَض متوسِّط التعريفة الجمركية على التجارة من ٢٨ في المائة إلى ١٤ في المائة في الدول غير الأعضاء في منظَّمة التعاون الاقتصادي منذ ١٩٨٥، ومن ٨ في المائة إلى ٣ في المائة في الدول الأعضاء في المنظمة).
وبالرغم من أن مقرات شركات: بان ألبينا ودانزاس وكونيه وناجل وجلينكور ومات، تقع في بازل وتسوج وزيورخ، فهي قادرة بنفس السهولة أن تُقيم مقرات لها في لندن ونيوجيرسي وسنغافورة، ولكن هذه الشركات موجودة في سويسرا؛ لأن رأيَ هانس يورج رودولف بأن السويسريين بارعون في الخدمات اللوجستية صائبٌ.