طوب وملاط البناء
لطالما كان التحدِّي الذي واجهَتْه سويسرا دومًا ولا تزال يتمثَّل بموقعها الهامشي، فعلى الصعيد السياسي، بقيَت سويسرا بعيدة عن مركز الأحداث في أوروبا، وهي لم تُشارك في صياغة مشاريع الاتحاد الأوروبي ولم تتدخَّل في الصراعات التي نشبت في القارة الأوروبية منذ عام ١٥١٥. وبالرغم من وجودها في قلب القارة الأوروبية جغرافيًّا، فإن طبيعتها تُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا بسبب الوديان السحيقة والقمم العالية التي يصعب اجتيازها، أمَّا تاريخيًّا فقد كان السفر والتداول التجاري عبر سويسرا يقوم على الحاجة أكثر منه على المُلاءَمة، والحاجة أم الاختراع، وفي الواقع تُشكِّل الطبيعة الجبلية في سويسرا حواجزَ كبيرةً تَحدُّ من قدرة التنقل بحريةٍ في جميع أنحاء البلاد، وهذا ما شجَّعَ السويسريين على تنمية مواهبهم لتكوين أجيال من المهندسين الموهوبين والمعماريين المُبدعين في قطاع البناء. فبينما كان الآخَرون يُفكِّرون في بناء الشوارع والطرق السريعة، كان السويسريون يفكرون في تشييد الأنفاق والجسور. إن شبكة السكك الحديدية السويسرية (التي يبلغ طولها الإجمالي أكثر من ٣ آلاف ميل) تعبر أكثر من ٨ آلاف جسر، وتمر عبر ٧٤٠ نفقًا يناهز طولها الإجمالي ٢٨٦ ميلًا، كما يبلغ طول شبكة الطرقات ٤٤٣٦٦ ميلًا، منها ١٠٧٩ ميلًا من الطرق السريعة التي يمر أكثر من ١٢٤ ميلًا منها في الأنفاق.
***
كان نشاط البناء المكثَّف الذي شكَّلَ البنيةَ التحتية الحديثة لسويسرا قد مثَّلَ القاعدة التي بَنَتْ عليها شركتان ضخمتان أعمالَهما، واحتلَّتَا مكانةً رائدة في قطاع مواد البناء على الصعيد العالمَي، وهما: شركة هولسيم وشركة سيكا. وعلى الرغم من أن المصممين والمعماريين الذين شيَّدوا الأعمال الاستثنائية التي عرفها قطاع البناء في بداياته قد ركَّزَ معظمهم على السوق المحلية السويسرية، وظلوا بالكاد معروفين في بقية العالم، فإن هناك العديدَ من المهاجرين السويسريين الذين تركوا بصماتهم على أفقِ مختلِفِ مدنِ العالم وخاصةً في الأمريكيتين، كما أن مدنًا مثل نيويورك وبوسطن وسان فرانسيسكو لم تكن لتبدو على ما هي عليه اليومَ لولا رؤى مهندسين مدنيِّين نشئوا وترعرعوا في سويسرا.
لم يَفُتِ الأوان للبدء في بناء بلد
بالرغم من أن التصنيع قد بدأ في وقت مبكِّر في سويسرا، فإن مشاريع البنية التحتية الهامة — مثل السكك الحديدية والمجاري المائية والطرقات الفرعية — قد انطلقت في وقت متأخِّر مُقارَنةً بمعظم البلدان الأوروبية الأخرى، ولكن كان هناك استثناء واحد لذلك وهو مشروع بارز في مجال الهندسة المائية تمثَّلَ في وضْعِ مجارٍ للمياه في نهر لينث، بين بحيرة زيورخ وبحيرة فالن، بهدف السيطرة على فيضان المياه واستصلاح الأراضي للزراعة. وقد دام العمل على هذا المشروع بين عامَيْ ١٨٠٧ و١٨١٦، وهو الآن يحتلُّ مكانةً متميزة في تاريخ سويسرا؛ لأنه — وقبل ٥٠ عامًا من إنشاء الاتحاد السويسري الحديث — جُمِع المال في جميع أنحاء البلاد لتمويل مشروع هندسي مائي يعود بالنفع على منطقة واحدة فقط دون سواها. وبينما كان العمل يجري حثيثًا على نهر لينث، كان المشروع يُعَدُّ مثالًا يُحتذَى به عن روح الوطنية والتشارك في المصالح. يعود تصميم هذا المشروع وتنفيذه إلى الخرائط الأولية التي رسمها في عام ١٧٨٣ مهندس من بيرن يُدْعَى أندرياس لانز، والتي تضمَّنت تحويلَ نهر لينث ليَصُبَّ في بحيرة فالن؛ ومِنْ ثَمَّ توجيه مساره عبر القنوات المائية حتى يصلَ إلى بحيرة زيورخ، وإلى اليوم يُعَد مشروع نهر لينث انتصارًا للهندسة على الطبيعة.
في البداية، ارسم خريطة
عندما بدأ قطاع البناء السويسري أخيرًا بالعمل بشكل جدي، كان تطوُّره مُتسارعًا بشكل مذهل، وبدأ ببناء السكك الحديدية، وبلغ أَوْجَه عند فتح نفق سانت جوتارد البالغ طول ٩ أميال، والذي لم يكن إنجازه مُمكنًا لولا توافُر القدرة على إجراء القياس الطبوغرافي الدقيق للغاية أثناء عمليات الحفر من جانبَي النفق في آنٍ واحد.
جرت المحاوَلات الأولى لرسم الخرائط الطبوغرافية على نطاق واسع في فرنسا في بداية القرن الثامن عشر عندما قام عالِمُ فلك يُدْعَى جاك كاسيني وخلفاؤه بمسحٍ ثلاثي الأبعاد للبلد بأكمله، كما رُسِمت خرائط طبوغرافية أخرى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في بريطانيا والدنمارك وبروسيا وساكسونيا، وفي ذلك الحين، كان فن رسم الخرائط الفرنسي يُعَدُّ مرجعًا إلى أنْ وُضِع معيارٌ جديد لرسم الخرائط على يد مهندس سويسري يُدْعَى جيوم هنري دوفور المولود في جنيف، والذي أصبح لاحقًا جنرالًا في الجيش. بدأ مشروع مسح الأراضي في سويسرا في عام ١٨٢٢، وكان المشروعَ العلمي الوحيد الذي شمل سويسرا برُمَّتها قبل إنشاء الكونفيدرالية الحديثة في عام ١٨٤٨، تولَّى دوفور المشروعَ في عام ١٨٣٢ بصفته مشرفًا عامًّا على الأشغال، ودفعه قُدُمًا بكلِّ حَزْم، على الرغم من أن الأموال المخصَّصة له من طرف البرلمان الاتحادي كانت دائمًا غير كافية.
كان ماسِحو الأراضي الذين يعملون تحت قيادته يقيسون بدقةٍ كلَّ وادٍ إلى جانبِ عددٍ لا يُحصى من قمم جبال الألب، وغالبًا ما حدث ذلك أمام أعين السكان المحليِّين المرتابين. وفي عام ١٨٤٥ نُشِرت أول خريطة بمقياس ١ : ١٠٠٠٠٠ غطَّت منطقة جنيف وحظيَت فورًا بكثيرٍ من الاهتمام، ولم يكن الناس مُندهِشين لدقةِ التفاصيل فحسب، بل أيضًا لأسلوبِ وفنِّ الرسم الهندسي. كان دوفور قد اختار تقنيةً غير معروفة حتى ذلك الوقت لتمثيل التضاريس السويسرية الوعرة، مُستخدِمًا الظلالَ لرسم المناظر الطبيعية كما لو كانت مضاءةً بضوء غير مرئي يصدر من الشمال الشرقي؛ مما أكسبها جودةً ثلاثية الأبعاد، وجعل الخرائط سهلةَ القراءة. لم يكن المشروع بالنسبة إلى دوفور مجرَّد مشروع علمي ورياضي، بل كان عملًا فنيًّا، وبتطبيق طريقة عمل موحدة لمسح الأرض في كل المناطق، حقَّق دوفور إنجازًا هامًّا في تقليص الفوارق السياسية والاقتصادية والدينية السائدة، وقدَّمَ مُساهَمةً كبيرة في صياغة هوية الأمة الحديثة العهد، وعندما نُشِرت الخرائط المُتبقية، تهاطلَت عليها الجوائز الدولية من كل مكان. ولعلَّ العرض الأبرز للخرائط في عام ١٨٨٣ في المعرض الوطني السويسري في مدينة زيورخ أظهَرَ أهميةَ هذه الخرائط في تجسيد إحساس السويسريِّين بانتمائهم إلى وطنهم. في البداية كان مشروع رسم الخرائط مشروعًا مدنيًّا جماهيريًّا، وكان من حق كل السكان الاطلاع عليه والتدقيق فيه، واليومَ يُمكن مشاهدةُ نسخةٍ من خريطة دوفور الأصلية المطبوعة على لوحة نحاسية في بهو الزوَّار في مبنى البرلمان الاتحادي الذي جُدِّد حديثًا في مدينة بيرن.
حاجة مُلِحَّة إلى المهندسين
حتى تاريخ تأسيس كلية الفنون التطبيقية في مدينة زيورخ في عام ١٨٥٥ (التي أصبحَت الآن الجامعة التقنية الوطنية، وهي المكافئ السويسري لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، كان على المهندسين الطَّمُوحين إمَّا طلب العلم في الخارج وإما تعليم أنفسهم بأنفسهم. وعندما بدأ توسيع شبكة السكك الحديدية بشكل مُتسارِع في خمسينيات القرن التاسع عشر، كان المهندسون المؤهَّلون يَجلبون أساسًا من بلدان أخرى، وكان من بينهم المهندسان البريطانيان: هنري سوينبورن وروبرت ستيفنسون، اللذان كلَّفهما المجلس الاتحادي في عام ١٨٥٠ بوضْعِ الخطوط العريضة لشبكة السكك الحديدية السويسرية المتوقَّع العمل عليها. كان أول أستاذ جامعي في الجامعة التقنية الوطنية أجنبيًّا بدوره، وهو كارل كولمان (من أصل ألماني)، وكان قد ابتكر طريقةً عملية وفعَّالة لحساب وزن الحمولات ودرجات الضغط وسمَّاها «الحسابات الاستاتيكية البيانية»، وتمثَّلت باستخدام رسم بياني موحَّد يُمكِّن المهندسين من التواصُل بطريقة بسيطة ومفهومة، وهذا ما سهَّلَ ليس فقط القيام بوضع تصاميم أكثر جرأةً للإنشاء بمادة الحديد، بل شكَّلَ أيضًا الأساسَ لموهبة الرسم الهندسي المُبدع، وقد أتاح ذلك للمهندسين السويسريِّين تعزيزَ النظرية التقليدية القائمة على التحليل والعلوم الطبيعية، وذلك بإضافةٍ جمالية على هياكل الجسور.
ومع مطلع القرن، كان هناك من بين طلبة الجامعة التقنيَّة الوطنية طالبٌ بارز يُدْعَى أوثمار هيرمان أمان، وكان أول مهندس معماري يَحصُل على الميدالية القومية للعلوم من الولايات المتحدة، التي قال بمناسبة الحصول عليها: «إن طريق النجاح مفتوحٌ أمام كلِّ مَنْ لا يخاف من العمل الجاد والشجاعة والمثابرة.» كان أمان يتحلَّى بالفعل بهذه الصفات، فهو سويسري الأصل وُلِد بالقرب من مدينة شافهاوزن، وتخرَّجَ مهندسًا مدنيًّا في عام ١٩٠٢ من الجامعة التقنية الوطنية، وفي عام ١٩٠٤ سافر إلى الولايات المتحدة بغية قضاء سنتين، إلا أنه أمضى بقية حياته هناك، واليومَ تُعَدُّ الجسورُ التي قام بتصميمها جزءًا من أفق مدينة نيويورك والعديد من المدن الأخرى.
الرجل الذي بنى جسر جورج واشنطن
وقع اختيار أمان على الولايات المتحدة؛ لأنه مع بداية القرن العشرين كانت مشاريع بناء ضخمة قد بدأت ترى النور هناك، في الأصل كانت نيته اكتساب الخبرة في كيفية بناء الجسور الكبيرة لا غير، إلا أن مديرَه جوستاف ليندنثال — وهو مهندس من أصل نمساوي — قد سمح له سريعًا بالمشاركة في المشاريع الكبرى، وحاز على عددٍ من الترقيات في غضون وقت وجيز، وخلال بناء جسر «هيلز جايت» البالغ طوله ١٠١٧ قدمًا على الجانب الشرقي من نهر نيويورك، شغل أمان منصبَ نائبِ كبيرِ المهندسين، وفي السنة التي تلَتِ الحرب العالمية الأولى، كانت مشكلة بناء جسرٍ على نهر هدسون يربط بين مدينة مانهاتن ومدينة نيوجيرسي تشغل بال مهندسي مدينة نيويورك، وكان أمان من بينهم، كانت وجهة نظر أمان مختلفة تمامًا عن وجهة نظر ليندنثال، مديرِه في العمل ومعلِّمِه الذي اقترح بناء جسر معلَّق ضخم يتكوَّن من طبقتَيْن في نهاية شارع ٥٧، ويضم ٢٠ طريقًا للعربات و١٢ مسارًا للسكك الحديدية، أمَّا أمان فقد قدَّمَ خطة لبناء الجسر في موقعٍ أبعد باتجاه الشمال عند نهاية الشارع ١٧٩ حيث تكون ضفَّتا النهر أكثر تقارُبًا، وبالرغم من ذلك، كانت خطة أمان أكثر طموحًا؛ إذ إن طول المعبر المركزي للجسر كان أكثر من ٣٤٧٥ قدمًا؛ أيْ ما يزيد عن ضعفَيْ طول أي جسر معلَّق آخَر بُنِي حتى ذلك التاريخ (فمثلًا جسر بروكلين الذي افتُتِح في عام ١٨٨٣ يبلغ طول معبرِه المركزي ١٥٩٤ قدمًا).
بعد نزاع عنيف، نجحت فكرة أمان حيث اعتُبِر اقتراحه أكثر واقعيةً، والأهم من ذلك أن تمويله كان أكثر سهولةً. ترك أمان العمل لدى ليندنثال إثر هذا الخلاف، إلا أنه في عام ١٩٢٥ عُيِّن مهندسَ جسورٍ من طرف سلطات ميناء نيويورك ونيوجرسي، وبعد مرور عامين فقط، وُضِع حجر الأساس لبناء جسر هدسون. كان الجسر — الذي انتهى بناؤه في عام ١٩٣١، وأُعِيدَت تسميتُه «جسر جورج واشنطن» — بمثابة نقطة تحوُّل في مسيرة أمان البالغ من العمر ٥٣ سنة آنذاك، وبات يُعَدُّ أهمَّ مهندسِ جسورٍ على الإطلاق في القرن العشرين. عمل أمان أيضًا مهندسًا مستشارًا في مشروع بناء جسر «جولدن جيت» في سان فرانسيسكو، كما بنى جميع الجسور الهامة لحساب سلطات ميناء نيويورك ونيوجرسي التي تربط بين مدينة نيويورك والمناطق المحيطة بها. وبعد أن تقاعَدَ رسميًّا في عام ١٩٣٩، واصَلَ أمان العمل ليُتوِّجَ مسيرته العملية في سنٍّ متقدمة بتصميمِ جسر «فيرازانو ناروز» الرابط بين حي بروكلين وجزيرة ستاتن في نيويورك، وعند افتتاحه في عام ١٩٦٤، كان هذا الجسر الذي يبلغ طول معبره المركزي ٤٢٦٤ مترًا أطولَ جسرٍ معلَّق في العالم.
التفكير في الخرسانة والفولاذ
بخلاف المهندس أمان الذي هاجر إلى الولايات المتَّحدة، قرَّرَ شخص من خريجي الجامعة التقنية الوطنية آنذاك، يُدْعَى روبرت مايرت، البقاءَ في سويسرا، وعندما تخرَّجَ مايرت في عام ١٨٩٤، كانت براءة اختراع الخرسانة المسلَّحة قد سُجِّلت قبل عامين فقط، وكان هناك مهندس إنشاءات فرنسي يُدْعَى فرانسوا هينيبيك قد طوَّر نظامًا جديدًا يجمع بين قوةِ مُقاوَمةِ الشد في الفولاذ مع مُقاوَمةِ الضغط في الخرسانة، وفي عام ١٨٩٤ بنى أولَ جسر من الخرسانة المسلحة في العالَم في منقطة إشولزمات في كانتون لوتسيرن. كانت هذه المادة الجديدة والعملية التي يُمكن صبُّها في جميع الأشكال المطلوبة بمثابة حدثٍ ثوري أمام الشاب مايرت الذي كان محظوظًا بأن يستهلَّ مسيرتَه المهنية في تلك الفترة التي بدأ فيها بالفعل تسويقُ الخرسانة المسلحة، ولكن قبل أن يستغلَّ خصائصَها أيُّ مهندس مدني آخَر، قدَّر مايرت قيمةَ هذه المادة حقَّ قدرها، وحوَّل تصاميم الجسور إلى أشكال فنية رائعة، كما سعى طوال حياته لجعل أقواس جسوره نحيلةً وجذَّابة قدر المُستطاع. لم تكن جسور مايرت تمتدُّ عبر مسافات طويلة، لكنها كانت تُبرِز أناقةً لم يَسبق لها مثيل، هذا إلى جانب الاستغلال الفعَّال للمواد الأولية المستعملة في تشييدها. كان أول أعماله الكبرى جسر «شتاوفاخر» فوق نهر سيل في مدينة زيورخ، الذي بُنِي في عام ١٨٩٩، وكان لا يزال بالإمكان مشاهدة الطوب في بنيانه. لكنَّ مايرت — في جسره التالي في منطقة زووس — استخدَمَ مادةَ الخرسانة بشكلها الخام، وعن طريق شركته الخاصة المتخصِّصة في الخرسانة، حقَّقَ أعمالَه بنجاحٍ أيضًا ووسَّع نشاطه إلى ألمانيا وإسبانيا وروسيا، لكن الأمور تغيَّرت بعدما بات مُحاصَرًا هو وعائلته في روسيا عند اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٤، وبعد مرور عامين تُوفِّيَت زوجته وانهارت شركته في سويسرا، كما دُمِّرت مشاريعه في روسيا خلال ثورة أكتوبر من عام ١٩١٧.
الاقتراب من الكمال
عندما عاد مايرت إلى سويسرا في عام ١٩١٩ واستقرَّ في مدينة جنيف، كان عليه أن يبدأ مجدَّدًا من الصفر، ومنذ ذلك الحين عاش حياةً متقشِّفة منعزلًا عن الآخرين ومكرِّسًا وقته كليًّا للهندسة المعمارية والصقل المستمر لجسوره المبنية من الخرسانة، وفي عام ١٩٣٠ افتُتِح جسر «سالجيناتوبل» في منطقة شيرز من كانتون جريزون، وبإنجازِ مَعبرٍ نحيفٍ طوله ٣٠٠ قدم تقريبًا، نجح مايرت في إظهار الجودة الجمالية للخرسانة. لقيَ هذا الجسر حماسةً وإعجابًا لدى المهندسين المتخصِّصين في جميع أنحاء العالم، وفي عام ١٩٩١ بات أول جسر من الخرسانة يُعَدُّ مَعْلَمًا للهندسة المدنية الدولية من طرف الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين. وفي السنوات العشر الأخيرة من حياته، اقترب عملُ مايرت من الكمال بفضلِ عددٍ من الجسور الأخرى التي قام ببنائها؛ فقد استطاع مايرت تحقيق الجودة الجمالية العالية المقرونة بالانخفاض في تكاليف البناء، وقام بنحت ما يُمكن تسميته بالأسلوب «السويسري» الذي يجمع بين تكاليف البناء المنخفِضة ونمط التصميم البسيط والمتناسق مع الطبيعة المحيطة.
بعد مايرت جاء دور كريستيان مين الذي وُلِد في كانتون بيرن في عام ١٩٢٧، وفي عام ١٩٥٧ أسَّس مين مكتبَه الخاص للهندسة المدنية في مدينة خور، واستمر في العمل حتى عام ١٩٧١ عندما أصبح أستاذًا للهندسة الإنشائية في الجامعة التقنية الوطنية في زيورخ مُركِّزًا عمله على تصميم الجسور. وفي عام ١٩٩١ ترك العمل في الجامعة واستمرَّ في العمل مستشارًا في مجال الهندسة، وأحد أهم أعماله منذ بداية تقاعُده من الجامعة التقنية الوطنية هو جسر «سونيبيرج»، بالقرب من مدينة كلوسترز، الذي انتهى العمل عليه في عام ١٩٩٨. كان مين هو مَنْ صمَّم هذا الجسر الذي حصل على جائزة «الهيكل المميز» من طرف الجمعية الدولية للجسور والهندسة الإنشائية في عام ٢٠٠١، كذلك طوَّرَ مين أيضًا المفهومَ التصميمي لجسر «زكيم بانكر هيل ميموريال» في بوسطن، وهو أعرض جسر بأسلاك حديدية، وواحد من معالم مدينة بوسطن.
مواد خام لبناء العالم الحديث
كانت الخرسانة بمثابة القاعدة الاقتصادية لمجموعة هولسيم السويسرية، وهي شركة كانت في السابق تُعرَف باسم هولدَربنك، وكانت الشركةَ الرائدة في السوق العالمية للإسمنت الذي يُعَدُّ اليومَ أهمَّ مكوِّن في صناعة مواد البناء. وفي بلدٍ يفتقر للموارد الطبيعية، كانت شركة هولسيم تستغلُّ واحدًا من الخيارت الطبيعية الموجودة بوفرة وهي الحجر الكلسي، فمعظم سلسلة جبال الجورا — التي تَعبُر شمال سويسرا على شكل قوس من مدينة جنيف وصولًا إلى مدينة شافهاوزن — تتكوَّن من هذا الحجر. ولإنتاج مادة الإسمنت يُخلَط الحجر الكلسي مع الطين ويُحْرَق في أفران ضخمة بدرجة حرارة مرتفعة للغاية (١٤٥٠ درجة مئوية)؛ ومن ثَمَّ يُطحَن. كانت قرية هولدَربنك الصغيرة في كانتون أرجاو القابعة على السفح الجنوبي لجبل الجورا مكانًا مناسبًا جِدًّا لإقامة مصنع للإسمنت، وكانت قد وُصِلت بشبكة السكك الحديدية في عام ١٨٥٨، ومع نهاية القرن التاسع عشر كان قد أُنشِئ العديد من مصانع الإسمنت في سويسرا، غير أن شركة أرجاو لإسمنت بورتلاند في قرية هولدَربنك هي الوحيدة التي حقَّقت النجاحَ على الصعيد العالمي. أُسِّستِ الشركة في عام ١٩١٣ إبَّان فترةٍ حَرِجةٍ لصناعة الإسمنت سادَت فيها حروبُ أسعار، وضغوطاتٌ من منافسين أجانبَ لدخول السوق السويسرية، وعلى الرغم من ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى، استطاعت شركة هولدَربنك — التي كانت آنذاك شركة إسمنت متطوِّرة للغاية — تحقيقَ نموٍّ سريعٍ بفضلِ سلسلةٍ من عمليات الاستحواذ والدمج التي قامت بها، وكذلك بفضل الإدارة الديناميكية السليمة التي مارستها.
وربما كانت اللحظة الحاسمة بالنسبة إلى مستقبل الشركة هي تلك التي حصلت في عام ١٩١٤، أيْ بعد عام واحد فقط على بداية نشاط مصنعها، عندما انضمَّ أرنست شميدهايني إلى مجلس إدارتها؛ حيث إنه كان شريكًا ومديرًا لإحدى الشركات التي استُحوِذ عليها.
الإسمنت وعلاقته الوثيقة بالسياسة
علاقة مصيرية
في عام ١٩٢٠ اشترى شميدهايني حصة في شركة سويسرية أخرى هي إترنيت فيركيه التي تُصنِّع موادَّ مركبةً من الإسمنت وألياف الأسبستوس التي تعمل وسيلةَ تعزيزٍ مُنخفِضةَ التكلفة تُحسِّن مقاومةَ قوة الشد، كما أن مادةَ الإترنيت شديدةُ المقاومة لعوامل الطقس أيضًا؛ ومن ثَمَّ تتميَّز بقدرتها على البقاء في الخدمة فترات طويلة. رأى شميدهايني في هذه المادة بديلًا رخيصًا ومميزًا للإسمنت في مختلف الاستخدامات (وبطبيعة الحال — في ذلك الوقت — لم تكن الآثار الصحية الكارثية لألياف الأسبستوس معروفةً بعدُ)، انطلق شميدهايني في توسيع أعمال الشركة في مجال الإترنيت على الصعيد الدولي، وبما أن الإنتاج في البلدان الأوروبية كان مُقتصِرًا على المصانع المُرخَّص لها من طرف مُخترِع المادة (وهو صناعي نمساوي يُدْعَى لودفيج هاتشيك)، استطاع شميدهايني بسرعةٍ الهيمنةَ على السوق من خلال عمليات الاستحواذ وشراء الأسهم في الشركات الناشطة في هذا المضمار. ومع نهاية العشرينيات قامت شركة هولدَربنك بالاستثمار لأول مرة في الخارج بإنشاء مصانع إسمنت حديثة في جنوب القاهرة، وأعقب ذلك عملية استحواذ قامت بها الشركة في لبنان في عام ١٩٢٩.
كانت السدود في جبال الألب، وشبكة الطرق السريعة التي بُنِيت خلال القرن العشرين قد استهلكَتِ الكثيرَ من الخرسانة (فمثلًا: استهلك بناء سد جراند ديكسنس وحده — البالغ ارتفاعه ٩٣٥ قدمًا — ٦ ملايين متر مكعَّب من الإسمنت)، إلا أن الطلب قد تراجَعَ خلال فترة الكساد الكبير، وعندما لقيَ شميدهايني حتفَه في حادثِ تحطُّمِ طائرةٍ في صحراء سيناء في عام ١٩٣٥، ورث أبناؤه الشركةَ التي كانت آنذاك على حافة الإفلاس. بدأ إرنست شميدهايني الابن وأخوه ماكس العملَ على توحيد وتعزيز أعمال الشركة واتِّباعِ استراتيجيةٍ ارتكزت منذ البداية على التوسُّع، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد قطاع البناء ازدهارًا كبيرًا في أغلب البلدان الصناعية؛ مما أعطى الإخوة شميدهايني دفعةَ دعمٍ هائلة، وبحلول الخمسينيات باتت مبيعات شركة هولدربنك في السوق السويسرية لا تُساوي سوى جزءٍ ضئيل ومُتناقِص مُقارَنةً بمجمل مبيعاتها في الخارج.
وضع الأسس لسلالة كبيرة
تحتلُّ أعمال الإخوة شميدهايني اليومَ مركزًا مهيمنًا في قطاع مواد البناء. كان إرنست قد تولَّى — بالشراكة مع أخيه ماكس — إدارةَ شركتَيْ هولدَربنك وإترنيت، ولكن إرنست ركَّز اهتمامه على الإسمنت، وماكس على ألياف الأسبستوس، في حين استمرَّ قريبهما بيتر في إدارة شركة العائلة لإنتاج طوب البناء (في ذلك الوقت كان مصنع طوب البناء في زيورخ قد أصبح أكبر شركات الإنتاج في سويسرا، وانطلاقًا منه أُنشِئت لاحقًا شركة كونزيتا، وهي شركة سويسرية قابضة تمارس مجموعةً واسعة من الأنشطة على الصعيد العالَمي في مجالات المصانع والآلات والمواد الرغوية والطلاء والعقارات، وحتى المعدات والألبسة الرياضية من خلال ملكيتِها لشركة ماموت المتخصِّصة في هذا المجال).
كانت هناك سمة مميزة لأفراد سلالة شميدهايني بالإضافة إلى تفانيهم في ريادة الأعمال، ألا وهي التزامهم تجاه المجتمع، فاكتسابُ الثروات يعني لهم تحمُّلَ المسئولية أيضًا. على سبيل المثال، خلال الحرب العالمية الأولى، شَغَلَ إرنست منصب رئيس المكتب الوطني السويسري للتعويضات مقابل راتب يومي بلغ ٣٠ فرنكًا سويسريًّا، كما قام بالتفاوض مع الدول الكبرى لضمان توفير المواد الخام الأساسية لسويسرا، وفي عام ١٩٣٦ ساعَدَ جاكوب الثاني مجموعةَ شركاتِ هندسةٍ في زيورخ اسمها إيشر فيس على الخروج من أزمةٍ كانت تعصف بها. دخل ماكس شميدهايني عالم السياسة، وفي البداية انضمَّ إلى المجلس البلدي في مدينة بالجاخ، ثم إلى مجلس كانتون مدينة سانت جالن، وأخيرًا أصبح عضوًا في المجلس الوطني بين عامَيْ ١٩٥٩ و١٩٦٣، (وهي فترةٌ قال عنها شخصيًّا إنه كان يشعر خلالها بالضجر)، وحاليًّا يُدير ابن ماكس المدعو توماس شميدهايني مؤسسةَ إرنست التي أُنشِئت بهدف زيادة الوعي بأهمية قيادة الأعمال والاقتصاد بين صفوف الشباب السويسري.
التلمذة الصناعية الخطيرة
بينما كانت شركة هولدَربنك تنمو وتتوسع، كانت تبحث عن مواقع جديدة قريبة من موارد المواد الخام الأولية وإمدادات الطاقة وطرق النقل، فأُنشِئ مصنع في جنوب أفريقيا في عام ١٩٣٧، ثم في عام ١٩٥٠ دخلت الشركة سوق أمريكا الشمالية عندما قامت ببناء مصانع ضخمة للإسمنت بالقرب من مدينة كيبيك في كندا، إضافةً إلى مصانع كبرى في الولايات المتحدة، وتبع ذلك إقامة شبكة واسعة من مرافق الإنتاج في البرازيل وكولومبيا وفنزويلا ودول أمريكا الوسطى، وفي منتصَف السبعينيات قام ماكس شميدهايني بتنظيم الخلافة في إدارة الشركة ونقلها إلى الجيل الرابع للعائلة، ووفقًا لتقاليد الأسرة، تعلَّمَ ولدا ماكس: توماس وشتيفان، كلَّ أسرار وخبايا مواد البناء من أسفل السلم إلى أعلاه، فعمل توماس رئيسَ عمَّالٍ مناوبًا في شركة هولدربنك في ألبيرو، ثم مديرَ مصنعٍ في المكسيك، أمَّا شتيفان فقد أمضى فترة تدريبه في مصنع شركة إترنيت في البرازيل، حيث كان يَحمل أكياس المواد الخطرة وهو غافل عن مدى خطورتها. وفي عام ١٩٧٥ عُيِّن توماس عُضوًا في مجلس إدارة الشركة الأم وارتقى تدريجيًّا ليأخذ زمام إدارة المجموعة، وفي نفس السنة تولَّى شتيفان إدارة شركة إترنيت وأصبح عُضوًا في مجلس إدارتها، ثم في عام ١٩٧٦ عُيِّن مديرًا لمجموعة إترنيت بكاملها.
وبمجرَّد سقوط الستار الحديدي، سارَعَ توماس شميدهايني بدفع شركة هولدَربنك للتوسع نحو أوروبا الشرقية، كما كثَّفَ أعمالها في شرق آسيا، وقام ببناء مصنع في فيتنام في عام ١٩٩٣. وبعد الأزمة المالية في أواخر التسعينيات، حقَّقت الشركة المزيدَ من التوسع في الأسواق الناشئة وعلى وجه الخصوص في الهند؛ حيث نجحت شركة هولسيم (وهو الاسم الجديد للشركة منذ عام ٢٠٠١) في الدخول بقوةٍ في عام ٢٠٠٥ إلى هذه السوق التي أصبحَتْ ركيزةً هامة للشركة، وسرعان ما باتَتْ هولسيم ثاني أكبر منتج للإسمنت في البلاد. عندما تسلَّمَ شميدهايني إدارةَ شركة هولسيم، لم تكن أعمالها في آسيا ذات شأن، ولكن بحلول عام ٢٠٠٩ — أيْ في غضون جيل واحد — نما صافي إيرادات الشركة من المبيعات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بمعدل ٣٠ في المائة؛ أيْ أقل بقليل مما كان عليه في أوروبا، وتقريبًا بنفس معدل النمو في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية مجتمعتَيْن.
الألياف المعجزة أصبحت كابوسًا
بعدما تولَّى شتيفان شميدهايني إدارةَ شركة إترنيت بفترة وجيزة، اكتشف أن إرثه كان مسمومًا؛ فألياف الأسبستوس — التي كانت تُعَدُّ «معجزة» في حينه — تحمل في طيَّاتها سُمًّا يتسبَّب في أمراض الرئة القاتلة، وفي أوائل السبعينيات كانت الإجراءات القانونية قد بدأت بالفعل في الولايات المتحدة ضد قطاع صناعة مادة الأسبستوس. في البداية كان شميدهايني يأمل أنه إذا ما تعامَلَ مع مسألة الأسبستوس بالشكل الصحيح، فقد يتمكَّن من تجنُّب الاضطرار إلى التخلِّي كليًّا عن استخدامها؛ ومن ثَمَّ أمر بإجراء بحوث مكثَّفة سعيًا إلى إيجاد منتجات بديلة عنها، لكن التغيير كان صعبًا، فألياف الأسبستوس كانت تُستخدَم في جميع منتجات شركة إترنيت، أمَّا المواد البديلة فكان لا بد من إيجاد صيغة تركيب مختلِفة لكل مُنتَج على حِدَة؛ ولهذه الأسباب قرَّرَ شميدهايني في بداية الثمانينيات التخلِّي كليًّا عن شركة إترنيت وبدأ يبيع المصانع التابعة لها والحصص التي يَملكها فيها، الواحد تلو الآخر، وفي عام ١٩٨٩ تولَّى أخوه توماس إدارةَ المصنع الأصلي في منطقة نيدرأورنين، وبعد مرور عام مُنِع استخدام مادة الأسبستوس في سويسرا.
البساطة والقوة
بعد ذلك، حوَّل شتيفان نشاطَه نحو الاستثمارات المالية والصناعية، ولاقَتْ أعماله نجاحًا باهرًا ارتقى بعائلة شميدهايني إلى قمة النخبة الصناعية السويسرية في الربع الأخير من القرن العشرين. وخلال الثمانينيات قام كلٌّ من البنوك السويسرية الكبرى الثلاثة (كريدي سويس وسويس بانك كوربورايشن ويونيون بانك أوف سويتزرلاند) بتعيين فرد من أفراد عائلة شميدهايني عضوًا في مجلس إدارته، هذا وقد لعب شتيفان دورًا حاسمًا وبنَّاءً في عددٍ من أهم مشاريع إعادة الهيكلة التي تمَّت خلال الثمانينيات، ويشمل ذلك إنقاذَ قطاع صناعة الساعات السويسري، وعمليةَ إدماج شركة آسيا مع شركة براون بوفيري (انظر الفصلين: الثاني والثامن).
تنحَّى توماس عن منصب رئيس اللجنة التنفيذية في عام ٢٠٠١، كما تخلَّى لاحقًا في عام ٢٠٠٣ عن منصب رئيس مجلس إدارة الشركة، فتسلَّمَ ماركوس أكرمان منصبَ الرئيس التنفيذي في عام ٢٠٠٢، وفي عام ٢٠٠٣ أصبح رولف سويرون رئيسَ مجلس الإدارة. بقيت شركة هولسيم وفيَّة لأعمالها الرئيسية، وباتت منذ التسعينيات أكبرَ منتِجٍ للإسمنت في العالم، ولديها شركات تابعة وحقوق أقلية في كل القارات الخمس، وفي عام ٢٠٠٩ كانت الشركة — البالغ عدد عمالها ٨٠ ألفَ شخصٍ يعملون في ٢٠٠٠ موقع — قد حقَّقت صافي مبيعات بلغ ٢١٫١ مليار فرنك سويسري وهامش ربح بلغ ٢٫٨ مليار فرنك سويسري، أمَّا مقر المجموعة الذي كان في السابق في بلدة يونا (حيث لا يزال المقر الرئيسي للشركة القابضة) وحاليًّا في مدينة زيورخ، فيحتلُّ مكاتبَ متواضِعةً وبسيطةً تقوم الشركة باستئجارها عوضًا عن امتلاكها.
إمبراطورية المواد المضافة والمواد اللاصقة
في عام ١٩١٠ — أيْ قبل سنوات قليلة فقط من دخول شميدهايني إلى شركة هولدَربنك — جرَّبَ رجل أعمال يُدْعَى جاسبار فينكلر من منطقة فور آرلبيرج في النمسا حظَّه في سوق مواد بناء مختلفة تمامًا، وفي عام ١٨٨٩ انتقل فينكلر إلى مدينة زيورخ التي كانت تنمو آنذاك بوتيرة مذهلة، وسرعان ما عثر على وظيفةٍ فيها بصفته معماريًّا، كانت محاولته الأولى لإقامة شركته الخاصة المتخصصة في إعداد كتل الجرانيت في محاجر كانتون تيسين لاستخدامها من طرف شركات البناء في مدينة زيورخ، قد باءت سريعًا بالفشل. وخلال بحثه عن مجال عمل جديد، أخذ فينكلر يَشْغَل نفسَه بتجربة مواد كيميائية مُضافة يمكن خلطها مع الإسمنت أو الخرسانة لتغيير خصائصها بطرق محددة، وفي عام ١٩١٠ أسَّس فينكلر بالشراكة مع صيدلي محترف شركةَ «فينكلر وشركاؤه» في مدينة زيورخ، طوَّرت الشركة منتجًا جديدًا تحت اسم «سيكا-١»، وهو محلولٌ من الكلوريد وسيليكات الكالسيوم الذي يسدُّ فتحات طوب البناء ويُحصِّنه ضد الرطوبة عندما يُضاف إلى الملاط.
في البداية كانت المبيعات متواضِعة، غير أن النجاح تحقَّقَ في عام ١٩١٨ عندما مُدِّدت خطوط الكهرباء على مسلك سانت جوتارد للسكك الحديدية من مدينة لوتسيرن وصولًا إلى منطقة كياسو، وهذا ما استدعى تحصينَ جميع الأنفاق وعزْلَ الرطوبة عنها على طول الطريق التي بُنِيت منذ ٣٠ عامًا. كان هناك ٦٧ نفقًا تبلغ مساحة أسطحها الإجمالية الداخلية ٦٣٥ ألف قدم مربع؛ مما تطلَّبَ من شركة كاسبار فينكلر وشركاؤه تزويدَ ٣٥٠ طنًّا من مادة «سيكا-٣» ومادة «سيكا-٤» العازلة للرطوبة بسعرٍ بلغ ٤٥٠ ألف فرنك سويسري (أيْ ما يعادل حوالي ٤ ملايين فرنك سويسري اليوم).
التوسُّع ببطءٍ ولكن بثبات
بعد أن أصبح هذا النجاح في جَعبته، عزَم فينكلر على التوسُّع خارج حدود البلد، ومرةً أخرى كانت السنوات الأولى لانطلاق أعماله صعبة؛ إذ إنه فشل في بيع التراخيص لمُنتَجه، كما أن أول شركة تابعة أنشأها في عام ١٩٢١ في بلدة دورميرسهايم في جنوب ألمانيا لم تحقِّق سوى نتائج متواضِعة (كان ذلك نتيجةً لركود الاقتصاد الألماني، ثم التضخُّم الهائل الذي ساد إثرَ الحرب العالمية الأولى). لكن في عام ١٩٢٥ وظَّفَ فينكلر مهندسَ بناءٍ له خبرة تجارية جديدة، فوسَّع أعمال الشركة بنجاح عن طريق الاستثمار في شركات في لندن وميلانو وباريس، وفي وقت لاحق، عندما الْتحَقَ زوج ابنته فريتز شينكر بالشركة، تسارعت وتيرة التوسُّع بإنشاء فروع في إسبانيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا واليابان والبرازيل، كما أن فرع لندن أسَّسَ بدوره فروعًا تابعة له في كلٍّ من كندا وأستراليا والهند وبعض المستعمَرات الأفريقية. وفي عام ١٩٣٠ جمع فينكلر وشينكر أعمالَ الشركة في كافة أنحاء العالم تحت راية شركة قابضة باسم «سيكا هولدينج» ومقرها في جلاروس. سُمِّيت الشركة على اسم المُنتَج الأوَّل، بالرغم من أنه في تلك الأثناء قد طُوِّرت مجموعة من المنتَجات الكيماوية الأخرى مثل المواد العازلة للرطوبة والمواد المضافة للخرسانة.
بالنسبة إلى مجموعة سيكا، كانت الحرب العالمية الثانية سببًا في تزايُدِ الطلب على منتجاتها، خاصةً أن بناء المخابئ والتحصينات الدفاعية في جبال الألب كان يتطلَّب كمياتٍ هائلةً من المواد العازلة للرطوبة ومواد تسييل الخرسانة، بينما كانت الشركات التابعة لها في الخارج تنتج وتزوِّد البلدان المضيفة لها، سواء أكانت من بلدان المحور المعادي أم من محور الحلفاء. وإثر انتهاء الأعمال العدائية، استفادت شركة سيكا من الطفرة الاقتصادية في أوروبا، وجرَّبت في البداية مُنتَجاتها دون الاستثمار كثيرًا في مجال البحث والتطوير، وتدريجيًّا أصبح من الواضح أن التوزيع الجغرافي للمخاطر لم يكن كافيًا في حد ذاته لشركةٍ تتعامل مع المواد الكيماوية المتخصِّصة؛ لأنها بحاجةٍ أيضًا إلى توسيع نطاق منتجاتها باستمرار. وفي أواخر الخمسينيات كثَّفت شركة سيكا نشاطاتها في مجال البحث والتطوير، وفي عام ١٩٦٢ بدأت بإنتاج الراتنجات الاصطناعية، وقد تحوَّلت الشركة اليومَ إلى شركةٍ متخصِّصة حقيقيًّا في مجال المواد الكيميائية بدلًا من شركةٍ تقوم بمجرد مزْجِ عددٍ من المواد التي تشتريها.
المُنتَج المميز
على الرغم من توسُّع الشركة بشكل متسارع في الخارج، فإنها بقيت شركةً متوسطةَ الحجم، ففي عام ١٩٦٠ عندما احتفلَت بمناسبة مرور خمسين عامًا على تأسيسها، كانت قيمة مبيعات المجموعة بأكملها تُعادل ٥٠ مليون فرنك سويسري، وفي نفس العام تولَّى روموالد بوركارد — زوج ابنة شينكر — رئاسةَ الإدارة التنفيذية للشركة ودفع بها قُدُمًا بتنويع مجموعات المنتجات، ومن بين أمور أخرى، ركَّز على اللباد الخاتم من البلاستيك، وعلى مُنتَج سيكافليكس الذي هو عبارة عن مادة مانعة للتسرب مشكَّلة من عنصر واحد، كانت الشركة قد طوَّرته في عام ١٩٦٨ ودخل إلى الأسواق العالمية من الباب الواسع خلال السبعينيات. من حُسْن الحظ أن بيركارد كان قد حقَّقَ هذا الإنجاز؛ لأن شركة سيلكا واجهت — خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩٧٠ و١٩٧٥ — مشكلات عويصةً في خضمِّ أزمة النفط العالَمية، فنجاحُ مُنتَج سيكافليكس بصفته مادة لاصقة لجميع الأغراض والاستعمالات هو الذي أتاح للشركة الدخولَ إلى عالَم صناعة السيارات (عن طريق الاستحواذ على شركة ليشلر للكيماويات في مدينة شتوتجارت في عام ١٩٨٢)، وبهذه الطريقة، بات بإمكان الشركة الحدُّ من اعتمادها الكلي على قطاع البناء الذي يَخضَع للتقلُّبات الدورية.
واليومَ أصبحت سيكا أخيرًا شركةً عالَمية (ففي عام ١٩٨٩ تجاوزت مبيعاتها المليار فرنك سويسري)، وكيَّفت هيكلها الإداري وفقًا لذلك، وبالرغم من أن ٥٤ في المائة من أسهم الشركة قد بقيَت في أيدي عائلتَيْ بوركارد وشينكر، فإن العائلتَين قد تخلَّتا عن إدارتها، ومنذ التسعينيات ما زالت الشركة تنمو باستمرار.
الركض وراء نمط النمو العالمي
وكما كان الشأن بالنسبة إلى شركة هولسيم، فإن شركة سيكا قد سارعت خُطَى تطوُّرها من خلال سلسلةٍ من الروابط التجارية في بلدان مُختلِفة، وبين عامَيْ ٢٠٠٠ و٢٠١٠ قامت الشركة بإنجاز أكثر من ٤٠ عملية استحواذ صغيرة ومتوسِّطة الحجم، وتعمل الشركة حاليًّا في ٧٤ بلدًا في جميع أنحاء العالم، ولديها ١٢٠ منشأة إنتاج.
تُساهِم الشركة أيضًا بشكل كامل في النمو المذهل الذي تَشهده البلدان النامية، فإيراداتها من هذه البلدان قد نمَت من ١٠١ مليون فرنك سويسري في عام ١٩٨٠ إلى ١٫٥٦٦ مليار فرنك سويسري في عام ٢٠١٠. وفي الصين وحدها، سيتمُّ إنفاق ٢٠ ترليون دولار أمريكي حتى عام ٢٠٣٠ في مشاريع تهيئة البِنية التحتية التي تتطلَّب مُنتَج شركةِ سيكا لمعالجة الخرسانة، وفي الوقت الحالي لا يُعالَج سوى ٣٠ في المائة فقط من الخرسانة المُستخدَمة؛ ومن ثَمَّ لا تزال هناك إمكانياتٌ كبيرة غير مُستغَلَّة للتوسُّع، وعلاوةً على ذلك، هناك اهتمام مُتزايد بموضوع المحافظة على المياه، وشركة سيكا هي الرائدة في العالم في إنتاج المواد العازلة والمانعة للتسرُّب للاستعمال في خزانات المياه والسدود والأنابيب ومجاري مياه الصرف الصحي.
في عام ٢٠١٠ كانت شركة سيكا، التي نقلت مكتبها الرئيسي إلى مدينة بار في كانتون تسوج، وظَّفَت قوةً عاملة بلغت ١٣٥٠٠ شخص، وحقَّقت مبيعات بمبلغ ٤٫٤ مليارات فرنك سويسري، وصافي ربح يُناهز ٢٢٦ مليون فرنك سويسري.
حشْدٌ من المورِّدين على المستوى العالمي
في القرن العشرين حقَّقَ قطاع البناء السويسري نجاحًا على الصعيد العالَمي، ويعود الفضل في ذلك بشكل خاص إلى مهندسِيه المدنيِّين الموهوبين، وإلى مجموعتَين كبيرتَين هما: هولسيم وسيكا، لكن هناك العديد من الشركات الصغيرة التي لها أيضًا أهمية دولية في مجالات تخصُّصية محدَّدة، وإحداها هي شركة أوميا التي تتَّخذ من مدينة أوفترينجن مقرًّا لها، والتي تُنتج المعادن الصناعية من كربونات الكالسيوم، خاصةً لمواد الحشو وأصباغ الطلاء. تعود جذور هذه الشركة إلى عام ١٨٨٤ عندما فتح جوتفريد بلوس مصنعَ معجونٍ في مدينة أوفترينجن، إلا أنها اليومَ تُشغِّل أكثر من ٦ آلاف شخص في أكثر من ١٠٠ موقع في ٥٠ بلدًا، وفي عام ٢٠٠٩ بلغت مبيعاتها ٣٫٧ مليارات فرنك سويسري. وفي مجال تجهيزات الصرف الصحي، استطاعَت شركة جيبيريت بناء سمعة عالَمية بعيدة كلَّ البعد عن بداياتها في القرن التاسع عشر عندما فتح جاسبار ميلخيور ألبيرت جيبيرت ورشة سباكة في مدينة رابرسفيل في عام ١٨٧٤، واليومَ تعمل الشركة في ٤١ بلدًا، وتشغل ٥٦٠٠ شخص، وتحقِّق مبيعات بحوالي ٢٫٢ مليار فرنك سويسري. وكمثالٍ ثالث: هناك شركة فوربو هولدينج، التي يقع مقرها في مدينة بار، وتصنع أغطية الأرضيات والمواد اللاصقة، كما أنها تنشط أيضًا في مجال تقنية نقل الطاقة الصناعية، والسيور الناقلة من الوزن الخفيف. أُنشِئت الشركة في عام ١٩٢٨ على أيدي ثلاثة من مُصنِّعي مادة اللينوليوم للأرضيات من ألمانيا والسويد وسويسرا تحت اسم كونتيننتال لينوليوم يونيون، ولاحقًا طُوِّرت أو دُمِجت أنشطةٌ أخرى من خلال عمليات الاستحواذ، وجرى تغيير اسم الشركة إلى فوربو في عام ١٩٧٤، وفي عام ٢٠٠٩ كانت تشغِّل حوالي ٦ آلاف شخص في ٣٥ بلدًا، وبلغت مبيعاتها حوالي ١٫٨ مليار فرنك سويسري.
في المقابل، لم تُحصِّل أيٌّ من الشركات السويسرية العاملة في قطاع البناء والتشييد كنشاط أساسي على مكانة بين نظيراتها من الشركات العالَمية، فشركة إنبلانيا — أكبر شركة بناء في سويسرا — تعود بداياتها إلى عام ١٨٨٦، عندما أُسِّست مجموعة شركات باتيجروب ودُمِجت لاحقًا مع شركة تشوكيه التي أُنْشِئت في عام ١٨٧٢ لتكوين شركة إنبلانيا. ولكن حتى بعد عملية الإدماج، بقيَت الشركةُ صغيرةَ الحجم مُقارَنةً بمجموعات البناء الدولية الكبرى، وهي تُركِّز نشاطها بشكلٍ حصري تقريبًا على السوق المحلية. ومع ذلك فإن قطاع الإنشاءات وصناعة لوازم البناء يَحتلُّ مكانةً هامة في الاقتصاد السويسري، ففي عام ٢٠٠٩ كان القطاع يُشَغِّل حوالي ٨٠ ألف شخص؛ أيْ ما يُعادل عددَ عمالِ شركة هولسيم في جميع أنحاء العالم، وهناك أيضًا ما يُقارب ٩٧٠٠ مكتب هندسة مدنية في سويسرا تشغِّل جميعها أكثر من ٥٥٧٠٠ شخص، ويُمارس العديد من هذه المكاتب أنشطة على الصعيد الدولي، وتُحقِّق مجتمعةً مداخيلَ تُقدَّر بحوالي ٩ مليارات فرنك سويسري، كما أن قطاع البناء في سويسرا هو أيضًا مصدرُ عمالةٍ رئيسيٌّ للأجانب.
اتِّباع سياسة التقشُّف
كانت سنوات عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته بمثابة «العصر الذهبي» للهندسة المدنية. وفي سويسرا خصوصًا، حيث كانت هناك حاجةٌ إلى بناء العديد من الجسور، طوَّر المهندسون المدنيون نمطًا خاصًّا لاقى استحسانًا كبيرًا بين صفوف المهندسين المعماريين آنذاك، ومقارنةً بالهندسة القوطية في العصور الوسطى، أشادوا خاصةً بالتناسُق التام بين الأشكال والتصاميم والجانب الوظيفي. وعندما زار المهندس السويسري لوكوربوزييه مدينة نيويورك، أثنى على إنجاز المهندس أمان في بناء جسر جورج واشنطن، وفي بيان صدر عنه في عام ١٩٢٣ تحت عنوان «بيان عن فن العمارة»، كتب ما يلي: «لقد استرشد المهندس في عمله بسياسة التقشُّف، وتقيَّدَ بحسابات دقيقة لينشئ جسرًا في تناغم تام مع قانون الكون، وبذلك حقَّقَ الانسجام.» كان هناك أيضًا إعجابٌ بالسدود الكبيرة لتوليد الطاقة الكهرومائية التي بُنِيت في وديان جبال الألب النائية، والتي تجعل سويسرا مكتفيةً ذاتيًّا في مجال توليد الطاقة، وقد أصبح السد رمزًا للأمة الحديثة المستنيرة. كان مشروع بناء سد جريمسل (الذي انتهى العمل عليه في عام ١٩٣٢) إلى جانب مشروع بناء السد الموجود في منطقة لافال دي ديس، من بين المشاريع الضخمة التي تَطلَّبت مستوًى عاليًا من التخطيط والنقل والإمداد والتنفيذ، وبالرغم من أن «العصر الذهبي» لبناء السدود قد بدأ إثرَ الحرب العالمية الثانية، فبين عامَيْ ١٩٥٠ و١٩٧٠ بُنِي حوالي ١٢ سدًّا كهرومائيًّا يفوق ارتفاعُ كلٍّ منها ٣٣٠ قدمًا، ومن بينها سد جراند ديكسنس الذي كان عند الانتهاء من بنائه في عام ١٩٦٥ أعلى سدٍّ في العالم.
كانت سياسة قِطاع الطاقة السويسري آنذاك تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وكانت هناك شركات قد ساهمت بشكل كبير في توسيع نطاق قدرات سويسرا في مجال الطاقة، وهي: شركة إلكتروواط التي أُسِّست في عام ١٨٩٥ تحت اسم إلكتروبنك، وكذلك المشروع المشترك بين شركة آي إي جي (جنيرال إلكتريك كومباني) من برلين ومصرف كريدي سويس (الذي كان اسمه الأصلي كريديت آنشتالت)، وكذلك شركة موتور كولمبوس التي بدأت نشاطها بصفتها شركةَ تمويلٍ في نهاية القرن التاسع عشر.
الطاقة وقوة تأثيرها
لقد دَفعتِ الحروبُ والأزمات الاقتصادية والقيود المفروضة على العملة شركةَ إلكتروبنك إلى تكييف أوجه نشاطها باستمرار، فالقسم الفني الذي أُنشِئ بصفته قسمَ نشاطٍ فرعي في عام ١٩٢٠، أصبح في عام ١٩٤١ يعمل بشكلٍ كلي بصفته شركةَ هندسةٍ مدنية، ثم بدأ خلال الحرب بتصميم محطاتِ طاقةٍ تغذِّيها خزاناتُ إمداداتٍ ضخمة، متضمنةً تلك الموجودة في مناطق مونفوازان وماتمارك وألبولا-لاندفاستر وجوشينالب. وفي عام ١٩٦٥ أصبح القسم المذكور شركةً مستقلَّة تحت اسم إلكتروواط، وحقَّقَ نموًّا جعل منه أكبرَ شركةٍ للهندسة المدنية في سويسرا.
قامت شركة إلكتروواط بتصميم وبناء محطات طاقة في سويسرا وخارجها، ومن بينها سد أتاتورك (الذي انتهى العمل عليه في عام ١٩٩٢)، وسد كراكايا (في عام ١٩٨٧)، وكلاهما في تركيا. لكن بحلول أواخر الخمسينيات، كان تصميم محطات الطاقة قد تجاوَزَ ذروته، وبذلك اضطرت الشركات (ولم تكن تلك المرة الأولى) إلى البحث عن نشاطٍ بديل. أمَّا بالنسبة إلى شركة إلكتروواط، فقد أصبحت خبرتها المكتسَبة في بناء غُرَف الضغط الهيدروليكي تُطبَّق في بناء الأنفاق أيضًا، في حين أن شركة موتور كولمبوس قد عملت — من بين نشاطات أخرى — في مجال تصميم محطات الطاقة النووية بما فيها التخطيط لبناء محطة في منطقة كايزر أوجست، وهو مشروع كان لا بد من التخلِّي عنه في عام ١٩٨٨ بعد مداولات سياسية طال أمدها (استُوعِبت شركة موتور كولمبوس في مجموعة ألبيك).
وفَّرَ البرلمان الاتحادي فرصَ عملٍ كثيرة للمهندسين السويسريين عندما أصدر قراره في عام ١٩٦٠ لبناء شبكة الطرق السريعة الوطنية، التي كان من المقرَّر أن يبلغ طولها ١١٤٣ ميلًا، وأصبح هذا المشروع أكبر مشروع سويسري للهندسة المدنية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع أنه في ذلك الوقت لم يكن أحدٌ يتصوَّر أنه سيظلُّ غير مُكتمِل إلى يومنا هذا، بالرغم من مرور ٥٠ عامًا على بداية الأشغال فيه. وكما كان الحال بالنسبة إلى بناء السكك الحديدية، كانت سويسرا مُتخلِّفةً في هذا المجال أيضًا مُقارَنةً بالبلدان الأخرى، ففي الولايات المتحدة وإيطاليا وألمانيا كانت الطرقات السريعة في الخدمة منذ عقود، لكن في سويسرا كان الأمر أكثر صعوبةً، تمامًا كما كان الأمر سابقًا بالنسبة إلى السكك الحديدية، وذلك بحكم المشهد السياسي المقسَّم إلى كانتونات وبلديات ذات حكم ذاتي واسع النطاق؛ ونتيجةً لذلك، كانت كلُّ السلطات الفيدرالية أكثر دقةً في التخطيط؛ إذ شملت شبكة الطرقات السريعة جميعَ أنحاء البلد بشكلٍ مُتوازن، وأخذت بعين الاعتبار كلَّ المناطق.
الحاجة إلى هندسة متكاملة
لقد تغيَّرَ الإطار الذي عرفه قطاع الهندسة المدنية بشكلٍ كبير في العقود الأخيرة؛ نظرًا للآثار البيئية وغيرها من المؤثِّرات التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار في كل مرحلة من مراحل العمل. وقد سبق للمُهندسين السويسريِّين أن كوَّنوا بالفعل سمعةً تشهد بأن منهج عملهم هو أكثر وعيًا وشموليةً في مجال إدارة المشاريع الكبرى، ولعل المثال الأكثر وضوحًا على ذلك هو طريق السكك الحديدية الجديد الذي يجتاز جبالَ الألب، والمعروف كذلك باسم خط السكة الحديدية الجديد عبر جبال الألب، وهذا المشروع الذي تعود جذوره إلى الأربعينيات قد صُمِّم لتمكين القطارات من السير عبر قاعدة جبال الألب بخطٍّ مستقيم وبسرعةٍ فائقة دون تدرُّجات شديدة في الانحدار، ودون منعطَفات حادة من شأنها أن تُبطِئ سرعة القطارات. كانت الفكرة أن خط السكة الحديدية هذا سوف يُصبح أكثر وسائل النقل جاذبيةً للشاحنين في أوروبا؛ ومن ثَمَّ فسوف يُخفِّف ضغط حركة المرور على الطرقات السريعة. لاقى المشروع صعوباتٍ من الناحيتين: التقنية والمالية، إذ كان يتطلَّب بناء أنفاق طويلة عبر جبال الألب؛ ولذلك كان يُؤجَّل باستمرار، إلا أن الحاجة إلى بنائه باتَتْ مُلِحَّة خلال الثمانينيات عندما أصبحت حركة مرور الشاحنات عبر بعض مرتفَعات جبال الألب مزدحمة جِدًّا، واستجابةً لضغوطات عامة الشعب، وضعت السلطات السويسرية قيودًا على أوزان الشاحنات التي تَعْبُر جبال الألب وعلى حركة تنقُّلها، لكن تطبيق مثل تلك الإجراءات أثارَ غضبَ البلدان المجاوِرة لها، ففي حين غضبت ألمانيا وإيطاليا من مضمونها، اشتكت فرنسا والنمسا من أن الشاحنين قد حوَّلوا حركةَ مرورِ شاحناتهم من سويسرا إلى ممرات الألب التابعة لهما، التي تشكو بدورها من الازدحام.
١٩٥٠ | ١٩٧٠ | ١٩٨٠ | ٢٠٠٠ | ٢٠١١ | |
---|---|---|---|---|---|
هولسيم (١٩١٢) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | ١٢٠٣ | ٥٢٤٧ | ١٤٠١٢ | ٢٠٧٤٤ |
مجموع عدد العمال | – | ٩٧٠٠ | ٢٩٥٦٠ | ٤٤٣٢٠ | ٨٠٩٦٧ |
عدد العمال في سويسرا | – | ١٣٩٠ | ٢٣٨٠ | ٢٧٨٠ | ٢٠٤٠ |
سيكا (١٩١٠) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | ٢١٣ | ١١٠٠ | ١٩٩٨ | ٤٥٥٦ |
مجموع عدد العمال | – | ٢٤٨٠ | ٦٢٤٠ | ٧٨٧٠ | ١٤٣٦٨ |
عدد العمال في سويسرا | – | – | ١٠٨٠ | ١٠٦٠ | ١٩٠٠ |
أخيرًا رأى المشروع النور في أواخر الثمانينيات، ولكن بمقاربة جديدة، فبعد أن كانت السلطات المعنيَّة بالأمر تعتمدُ بشكل خاص على خدمات الشركات الهندسية الكبرى مثل شركة إلكتروواط وشركة موتور كولمبوس، اللتين كانتا تهيمنان على السوق حتى ذلك الحين، اختارت إقامة قاعدة عمل واسعة النطاق أساسها مهنة الهندسة المدنية السويسرية تحت قيادة وتنسيق شركة إرنست بازلر وشركاؤه، وهي شركة حديثة العهد تأسست في عام ١٩٨١، كما أُنشِئت وحدة تنظيم وتنسيق خاصة للمشروع. وعلى مدى أكثر من ٢٠ عامًا، التزمت الشركةُ تأمينَ التناسق التام والمستمر في تخطيط وبناء نفقَيْن رئيسيَّيْن يمرُّ أحدهما تحت جبل سانت جوتارد، والآخَر تحت جبل لوتشبيرج، إلى جانب تقديم المعرفة التقنية الجديدة في الآن نفسه.
١٨٠٠–١٨٩٩ | |
١٨٠٧ | بداية أشغال مدِّ القنوات في نهر لينث بين بحيرة فالن وبحيرة زيورخ. |
١٨٢٢ | بداية أشغال عملية مسح الأراضي لإنجاز مشروع دوفور لتحديد خريطة سويسرا. |
١٨٧٤ | جاسبار جيبرت يفتح ورشة سباكة في مدينة رابرسفيل، أصبحت فيما بعدُ شركةَ جيبيريت. |
١٨٨٤ | جوتفريد بلوس يفتح مصنعَ معجونٍ في مدينة أوفترينجن، أصبح لاحقًا شركة أوميا. |
١٨٩٥ | تأسيس مصرف للشركات التي تعمل في مجال الكهرباء، أصبح لاحقًا شركة إلكتروواط (التي أُعيدت تسميتُها في عام ١٩٤٦). |
١٩٠٠–١٩٩٩ | |
١٩٠٤ | أوثمار هيرمان أمان، مهندس جسور، يبدأ مسيرته المهنية في الولايات المتحدة. |
١٩١٠ | جاسبار فينكلر أسَّسَ شركةً تحمل اسمه في مدينة زيورخ، أصبحت لاحقًا شركة سيكا، واخترع الملاط العازل للرطوبة. |
١٩١٣ | شركة أرجاويشه بورتلاند سيمنتفابريك تبدأ نشاطها في بلدة هولدَربنك، أُعِيدت تسمية الشركة في وقت لاحق بشركة هولسيم. |
١٩١٨–١٩٢٢ | عُزلَ نفقُ السكة الحديدية في سانت جوتارد باستخدام مواد من صنع شركة سيكا. |
١٩٢٨ | تأسيس شركة كونتيننتال لينوليوم التي أصبحت لاحقًا شركة فوربو. |
١٩٣٠ | افتتاح جسر سالجيناتوبل الذي صمَّمه روبرت مارت، والذي كان إنجازًا رياديًّا في بناء وتشييد الجسور. |
١٩٥٧ | ماكس فريش يُخلِّد صورة المهندس الذي لا يكلُّ ولا يملُّ في مسرحيته «هومو فيبر». |
١٩٥٧ | كريستيان مين يُؤسِّس مكتبَه الخاص للهندسة المدنية في مدينة خور. |
١٩٦٠ | بداية أشغال تشييد شبكة الطرقات السريعة في سويسرا. |
١٩٦٥ | قسم الهندسة المدنية التابع لشركة إلكتروواط يصبح شركة مستقلة بذاتها. |
١٩٦٧ | بداية تشغيل سد ديكسنس الكبير الذي كان في ذلك الوقت أكبر سد في العالم. |
١٩٩٣ | بداية أشغال الحفر في نفق طريق السكة الحديدية الجديد الذي يجتاز جبال الألب. |
منذ ٢٠٠٠ | |
٢٠٠٦ | تأسيس شركة إنبلانيا للبناء إثر عملية إدماج بين مجموعة باتيغروب وشركة تشوكيه. |
وفي عام ١٩٩٣ بدأ العمل، وحُفِر النفقان في وقتٍ واحد من خمس نقاط مُنفصِلة لاختصار الوقت اللازم للبناء، لكن الإنجاز الهائل في مشروع خط السكك الحديدية الجديد عبر جبال الألب لم يكن حفْر النفقَين، بل تمثَّلَ في تأمين الإدارة المَرِنة للعملية في ظلِّ هيكلٍ حكومي معقَّد لاتخاذ القرارات عبر فترة زمنية طويلة، إضافةً إلى العمل على تطوير وتعزيز مهارات المهندسِين المدنيِّين المعنيِّين.
الاستراتيجية السويسرية: الصبر والتبصُّر والتأهُّب
إن تطوُّر قطاع البناء السويسري والصناعات ذات الصِّلة به اتَّبع أنماطًا لُوحِظت في قطاعات أخرى، ففي وقت مبكِّر يَبرُز بعض رجال الأعمال أو المهنيين الموهوبين ثم تتطوَّر أعمالهم لتُصبح شركات عالمية، وشركتا هولسيم وسيكا في هذا القطاع هما في الواقع شركتان كبيرتان جدًّا، وهناك شركات أخرى عالية التخصُّص تلعب دورًا هامًّا، وتُقدِّم منتجات أو خدمات راقية تكون في بعض الأحيان حيوية ولا غِنى عنها.
كانت هذه الشركات في بداياتها تسعى إلى تجاوُز حدود الأسواق السويسرية المحلية والانطلاق إلى الخارج لإحراز نجاح أكبر، إمَّا بتحقيق إنجازات مهنية أكبر كما هو الحال بالنسبة إلى أوثمار هيرمان أمان، وإما بتطوير أعمال على الصعيد العالَمي كما فعلت شركات هولسيم وسيكا وجيبيريت وغيرها، ولطالَما كانت هذه الشركات في معظمها شديدة الحرص على تطوير تكنولوجياتها وأسواقها، كما استطاع أغلبها التكيُّف مع المتطلبات المتغيرة بنجاح.
لقد كانت هذه الشركات تعمل منذ أمد بعيد، وتحلَّتْ ببُعْدِ النظر خلال الأوقات الصعبة، مُدركةً أن الأعمال تمرُّ بفتراتِ ازدهارٍ وفتراتِ كسادٍ بحكم طبيعتها التي تتطلَّب رأسَ مالٍ استثماريًّا عاليًا، وبحكم التقلُّبات الدورية في محيطها، كانت الشركات تُدار في الغالب من طرف أصحابها، وأحيانًا حتى أفراد الجيل الثالث أو الرابع المتحدِّرين من عائلات مالكيها دون كللٍ ولا ملَل، وتظلُّ فِرَقُ إدارتها في الخدمة لأمد طويل؛ ومن ثَمَّ تتكوَّن علاقات متينة مع صفوف الموظَّفين، فماركوس أكرمان مثلًا بقي في خدمة شركة هولسيم رئيسًا تنفيذيًّا طوال ٣٣ عامًا، وبحسب مصادر قريبة من الإدارة العليا للشركة، فإنَّ معرفتَه العريقة والمتعمِّقة بجميع خبايا قطاع صناعة الإسمنت في كل أنحاء العالم تجعل منه شبه موسوعة كاملة في هذا المجال.
وهذه المعادلة — إذا كان بالإمكان تسميتُها معادَلة — قد تكون أكثر ملاءمةً للعقلية السويسرية منها للعقلية السائدة في بلدان أكبر وأكثر تنوعًا مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتَّحدة، ولا شيء يدلُّ على أن هذه المعادلة لن تستمرَّ في تحقيق النجاح مستقبلًا.
مصرفي متخصص في العقارات
إنَّ الاستقرار الذي تتمتع به سويسرا، وما لديها من قدرةٍ على اجتذاب رجال الأعمال الأجانب، يَنطبقان أيضًا على قطاع العقارات التجارية والسكنية، وسيرًا على خُطى نيكولا حايك، جاء مُهاجرٌ لبناني آخر إلى سويسرا هو عبد الله شاتيلا، واستقرَّ في جنيف في الثمانينيات، وعائلة شاتيلا معروفة جِدًّا في عالم المجوهرات، في حين أن نيكولا حايك كان قد بَنى ثروته في قطاع العقارات في لبنان.
لقد نجَح عبد الله شاتيلا في الجمع بين أصوله اللبنانية التي تتميَّز بالديناميكية والذوق الرفيع وبين القيم السويسرية في مجالات الابتكار والمهنية العالية والعمل الجاد والاهتمام بالقيم الإنسانية، واستطاع بذلك بناءَ مجموعةِ عملٍ راقية ومربحة في مجال العقارات يقع مقرها في جنيف وتُقدِّم خدماتٍ شاملةً ومميزة للعملاء من جميع أنحاء العالم.