قطاع الأدوية: مهارات للبيع
عندما تتبادَر الثورة الصناعية إلى الأذهان، غالبًا ما يَميل المرء إلى التفكير بالتطوُّرات التي حدثَت في قطاع صناعة الآلات والأنواع الجديدة من الطاقة التي استُكملَت أو حلَّتْ محلَّ العمل اليدوي البحت، وأتاحت تحقيق مكاسبَ هائلةٍ في مجال إنتاج السِّلَع الأساسية، إلا أنه مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت ثورة مُختلفة تمامًا قد بلغت أوج انطلاقها، وكانت تتميَّز بوجود علماء كانوا يَخترعون منتجات جديدة كليًّا في مختبراتهم، وفي بعض الحالات كانت هذه المُنتَجات — ومنها الأصباغ والأسمدة والمبيدات والأدوية ومواد التجميل والبلاستيك — بمنزلة إكسير يحلُّ مُشكلات تقنية قديمة استعصى حلُّها سابقًا، وفي بعض الحالات الأخرى كانت بدائل أقل سعرًا وأكثر فاعليةً من المواد الكيميائية والأدوية التي كانت متوافرةً آنذاك، أمَّا في بقية الحالات فقد كانت عبارة عن مُنتَجات تُلبِّي احتياجات جديدة لم يكن أحدٌ يعرفها من قبل، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأت هذه المنتجات تُدِرُّ على العلماء والشركات التي تدعمهم ثرواتٍ هائلةً لم تكن تخطر على بال.
***
من غرابة المُصادَفات أن تاريخ تطوُّر الاقتصاد شاء أن تبدأ هذه الثورةُ في ألمانيا وسويسرا؛ ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطورية البريطانية، وبصفةٍ أقل فرنسا؛ تسيطران على البحار؛ ولذلك كانت تكلفة وضمان الحصول على الموارد الضرورية مثل المعادن والزيوت والأخشاب والوقود تتفاوت بشكلٍ كبير بناءً على تقلُّبات الأسواق وتأثير الحروب على كافة البلدان بما فيها ألمانيا وسويسرا؛ ونتيجةً لذلك كان البحث عن مواد بديلة ومصادر أخرى كثيفًا ومعمقًا.
لحظة الإبداع
غالبًا ما يكون من الصعب تحديد الزمان والمكان اللذين تكوَّنت فيهما صناعةٌ ما تحديدًا دقيقًا، لكن مما لا شك فيه أن الصناعة الكيميائية الحديثة قد رأت النورَ خلال عيد الفصح من عام ١٨٥٦ في غرفة في الطابق العلوي في الطرف الشرقي الفقير من مدينة لندن. هناك، توصَّلَ ويليام بيركن — الطالب في علم الكيمياء — عن طريق المصادفة إلى اكتشاف مادة الموفايين، وهي أول مادة أنيلين اصطناعية للصباغة.
ومن المُفارَقات أن فكرة الصباغة الاصطناعية في مجملها قد حظيت بالقليل من الاهتمام من طرف المَعْنيِّين بالصناعة البريطانية؛ لأنهم كانوا يجلبون كميات وفيرة من الأصباغ الطبيعية من المُستعمَرات، أمَّا بالنسبة إلى سويسرا وبلدان أوروبية أخرى لديها صناعات نسيج مُزدهِرة، فقد كان هذا الاكتشاف بمثابة هِبَةٍ من السماء، وعندما وصلت مادة الموفايين إلى المختبَرات السويسرية، تبيَّنَ أنها ملائِمة للاستغلال في العديد من الاستعمالات الصناعية والصيدلية المفيدة الأخرى.
روعة الأعمال في القطاع الصيدلي
كان هذا الاكتشاف الهام قد سلَّطَ الضوء على ثلاثةٍ من أبرز الخصائص الرائعة التي ميَّزت المُنتَجات التي ظهرت تباعًا خلال الثورة الكيميائية، أوَّلًا: غالبًا ما أدت هذه المنتجات إلى خلق الطلب والإقبال الخاص عليها دون أن تحلَّ محلَّ أي مُنتَج آخَر، فعلى سبيل المثال: هناك مادة الفاليوم التي لم تأخذ مكانَ أيِّ مادة أخرى، ولكنها أصبحت رائجة جِدًّا ومعروفة في قطاع الأدوية، ولعلها أكثر المُنتَجات نجاحًا في عصرها؛ إذ إنها قد حقَّقت عائدات تناهز مليار دولار أمريكي — خلال ما يُقارب عقدَيْن من الزمن — لشركة روش التي اكتُشِف الفاليوم في مختبراتها.
ثانيًا: غالبًا ما يَميل التطور لأن يكون ترافقيًّا، فمعظم الاكتشافات تمهِّد الطريق لاكتشاف المزيد من الإمكانيات الإضافية التي إذا تُعومِل معها جَيِّدًا، يُمكن أن توسِّع أفقَ فرصِ الاستغلال الجديدة بشكل هائل، وعندما طوَّر ديميتري مندلييف — الصيدلي الروسي — الجدولَ الدوري لخصائص العناصر الطبيعية والكيميائية في عام ١٨٦٩، كان ذلك بمثابة ثورة في مجال ترسيخ المعرفة، وكان وَقْعها لا يقل أهميةً عن اكتشافات ماجلان وكولومبوس قبل بضعة قرون. كانت المكوناتُ الكيميائية الموجودة في الأرض قد مُسِحت ونُظِّمت، وكان هناك سباق بين العلماء الموهوبين والأكثر طموحًا لفهم أوجه الشبه فيما بينها وإمكانية مزجها معًا لتشكيل مُركَّبات جديدة ومفيدة، سواء أكانت لمستحضَرات التجميل أم الألوان الجديدة أم العطور أم الأدوية، أمَّا العناصر غير المشمولة في الجدول الدوري فلم تكن معروفةً لدى الباحثين الأصليين، وباتت مَدْعاة للفضول ووفَّرت إطارًا خصبًا للتنبُّؤ الدقيق بخصائص العناصر التي لم تُكتشَف بعدُ.
حقبة حكم العلماء
ثالثًا: أصبح العلماء يَحظَوْن بمكانة شبه مقدَّسة، حتى لو كان ذلك أمرًا غير اعتيادي. وفي هذا الصدد، قال ويليام ريتر، العالِم الأمريكي البارز في الكيمياء الحيوية وعضو الأكاديمية الوطنية للعلوم: «يُمكن أن يُمضي باحث كيمياء حياتَه بأكملها وهو يُثبت لنفسه أنه مخطِئ في انتظار اليوم الذي يُثبت فيه أن فرضيته صحيحة، ففي كثير من الأحيان حصلت اكتشافات جديدة وقيِّمة بفضل تغييرات طفيفة فقط في أساليب استخدام المواد، أو ربما أيضًا من خلال الملاحظات الصحيحة للمفاعيل الجانبية التي كانت تبدو دون أهمية تُذكَر.» وكان جيرد بينينج — الحائز على جائزة نوبل للعلوم الفيزيائية في عام ١٩٨٦ — قد وصف كذلك رحلته الشاقة المحفوفة بالشك في غالب الأحيان خلال سعْيِه لاكتشاف مجهر المسح النفقي قائلًا: «كانت تجربتي مشابهة لرحلة إبحار كولومبوس من أوروبا إلى أمريكا، فبينما كان يَعبُر البحار لم يكن يعرف بالتحديد مكانَ وجوده، أو ما إذا كان فعلًا يقترب من هدفه. ومن ثَمَّ فإن العلماء بحاجةٍ إلى الاعتماد على حدسهم وقناعاتهم وصبرهم، وكذلك على ضربة حظ. كانت الساعة على ما أظن تُشير إلى الثالثة صباحًا، وكنت وحيدًا في المختبر أجرِّب كلَّ أنواع الحِيَل التي لم ينجح أيٌّ منها، وفجأةً ظهرت ذرة واحدة بقيت منفردةً وحْدَها، وهنا عرفتُ فورًا أن ذلك قد نتج عن استقرار الذرة، لم أكن أعرف ما إذا كان عليَّ أن أضحك أو أن أبكي، فهذه كانت أهمَّ لحظةٍ في مسيرتي العلمية، وأكثر أهميةً حتى من اللحظة التي تلقَّيْتُ فيها مكالمةً هاتفية من طرف اللجنة المُشرِفة على منح جائزة نوبل.»
أكبر الصادرات السويسرية على الإطلاق
منذ البداية، كان السويسريون من أكبر المُستفيدين من هذه الثورة، واليومَ تبلغ قيمة شركة نوفارتِس وشركة روش مُجتمعتَين ٢٢٦ مليار فرنك سويسري، في حين تُقدَّر قيمة شركة نستله — وهي أهم شركة سويسرية — بمبلغ ١٦١ مليار فرنك سويسري، وأعمالها لا تزال مُزدهِرة.
لقد بلغت قيمةُ الصادرات السويسرية من قطاع الكيماويات والمستحضرات الصيدلية ما يُناهز ٧٦ مليار فرنك سويسري في عام ٢٠١٠، مما يجعله أهم قطاع في البلاد؛ إذ تفوق صادراته ضِعْف صادرات قطاع الساعات أو قطاع الآلات في سويسرا، كما أن قطاع الكيماويات والمستحضَرات الصيدلية يستثمر في مجال البحوث أكثرَ من القطاعات الثلاثة التي تَلِيه في الأهمية مجتمعةً.
ومن غير المفاجئ أن أغنى الأغنياء في سويسرا يَحملون أسماء عائلات صنعَتْ ثروتها في القطاع المذكور، ومنهم بيرتاريلي وبولخر وهوفمان وأوري وساندوز، كما أن أنشطتهم غالبًا ما كانت غريبةً تُثير التعجُّب، مثل: أليجني، وهو يختٌ بناه وقادَه أرنيستو بيرتاريلي وربح به كأس أمريكا في عام ٢٠٠٣، وكانت هذه أول مرة يربح فيها سباقَ اليخوت هذا شخصٌ يأتي من بلدٍ لا يُطلُّ على البحر.
عندما كان العِلم منسوبًا لألمانيا
ربما لم يَعُد معظم الناس يَذكرون أنه حتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت ألمانيا المركزَ العلمي للعلوم الكيميائية، وأن اللغة الألمانية كانت اللغة المشتركة والشائعة في هذا القطاع، وحتى نشوب الحرب العالمية الثانية كانت كُتب الكيمياء لا تُكتَب إلا باللغة الألمانية، وكان العديد من شركات الأدوية الأكثر أهميةً في المملكة المتَّحدة وفي أمريكا تنهلُ أصولَها من البراعة الألمانية، ويشمل ذلك ميرك وباير وشيرينج بلاو وفايزر وسميثكلاين بيتشام، كما أن العديد من المصطلحات الطبية اليابانية هي ترجماتٌ حَرْفية لمصطلحات ألمانية، وهذا يَعكس تأثيرَ الحقبة الزمنية التي اعتُمِدت فيها هذه المصطلحات.
القيمة السوقية مليار فرنك | الحصة في السوق نسبة مئوية | |
---|---|---|
نستله | ١٦١٫٧٧ | ٢٤٫٦ |
نوفارتِس | ١٢٨٫٠٩ | ١٩٫٥ |
روش | ٩٨٫٤٣ | ١٥٫٠ |
بنك يو بي إس | ٣٨٫١١ | ٥٫٨ |
إيه بي بي | ٣٥٫٣٠ | ٥٫٤ |
شركة زيورخ للتأمين | ٢٦٫١٤ | ٤٫٠ |
مجموعة كريدي سويس | ٢٥٫٣٧ | ٣٫٩ |
ريتشمونت | ٢٣٫٣٣ | ٣٫٦ |
سينجنتا | ٢٢٫٢٧ | ٣٫٤ |
ترانس أوشن | ١٥٫٦١ | ٢٫٤ |
إنَّ القسم الأكبر والأهم من الإنجازات العلمية يقوم على أساس السعي الدءوب والتبادُل المُنفتِح للمعرفة، وعلى الرغم من أن السويسريين بطبعهم يَميلون إلى السرية والتكتم، فإنهم اعتادوا أيضًا على التعاون على نطاق دولي وغالبًا ما يتحدَّثون عدة لغات، وبذلك أصبح العلماء السويسريون شركاء موضع ترحيب في نشر الاكتشافات الجديدة، كما كان بإمكانهم أيضًا الاستفادة من موقع سويسرا المناسب وبيئتها المُمتعة لجذب زملاء لهم من البلدان المجاوِرة.
سويسرا تَرِث التقاليد
بينما كانت وتيرة الثورة العلمية تزداد زخمًا، كان المعهد التكنولوجي في زيورخ وجامعتها يُعَدَّان من بين أفضل الكليات وفي طليعة عالَم الكيمياء الكلاسيكية الناطق بالألمانية، وهي مكانة حافظَتْ عليها هاتان المؤسَّستان إلى أن تحوَّلَ اهتمام علماء الكيمياء من المركبات الكيميائية إلى علم الأحياء الجزيئي والتكنولوجيا الحيوية في أواخر سبعينيات القرن المنصرم.
تميَّزت سويسرا أيضًا بتقاليد عريقة وتاريخ طويل في مجال الرعاية الصحية، فمنذ العصور الرومانية كانت البلاد تُعَدُّ مكانًا مناسبًا للعلاجات الطبيعية وموقعًا نقيًّا يوحي بالثقة، فيه منتجعات صحية وعيادات طبية يلجأ إليها الزوَّار الأوروبيون الأثرياء كلما أرادوا تجديدَ حيويتهم ونشاطهم. كان هناك سويسري يُدْعَى باراسيلسوس هو الذي شرع في استخدام المواد الكيميائية والمعادن في الطب في القرن الخامس عشر فيما كان يُوصَف ﺑ «نهضة الطب»، كما أن سويسرا هي البلد الذي كانت ألوانُ رايته الوطنية مصدرَ إلهامٍ لعَلَم الصليب الأحمر الدولي الذي أصبح رمزًا للمساعدات الطبية المهنية في جميع أنحاء العالم.
حادث سار
كما هو الحال بالنسبة إلى العديد من الاختراعات، كان اختراع مادة الأنيلين محض مصادَفة، فكان المدعو بيركن يحاول توليف مادة الكينين التي كانت آنذاك العلاجَ الوحيد المعروف لمرض الملاريا، والذي كان يتعيَّن استخراجه بتكلفة عالية من قشور أشجارٍ تنمو في جنوب أمريكا، ولم تكن طريق انتشار مادة الموفايين إلى جميع أنحاء العالم سهلة، في البداية استفاد بيركن كثيرًا؛ لأن مادة الموفايين كانت تُتيح إنتاجَ صباغٍ جيد بلون أرجواني عميق كان يُعَدُّ في تلك الفترة من أغلى ألوان النسيج. واصَلَ بيركن اكتشاف أصباغ اصطناعية أخرى في حين لم يكن البريطانيون ولا الفرنسيون مهتمين باغتنام الفرص التي توفِّرها هذه الاكتشافات الجديدة، وفي الواقع تركَّزَ تطوير هذه الأصباغ المحلية لتُصبح موادَّ صيدلية عالَمية على أيدي أشخاص في ألمانيا وسويسرا أدركوا الطاقات الصناعية لهذه المواد الكيميائية، وتمتَّعوا بحرية العمل دون قيودٍ تتعلق ببراءات الاختراع أو القوانين البيئية.
وسرعان ما أصبح واضحًا أن الأصباغ يُمكن أن تكون نقطة انطلاق لإنتاج الأدوية وغيرها من الاستعمالات المفيدة الأخرى؛ إذ إن هناك علاقةً كيميائية بين الأصباغ والأدوية، وقد ثبت أن أصباغ الأنيلين كانت في السابق تُستخدَم في العديد من الأدوية العلاجية، ومنها العلاجات المضادَّة للبكتيريا ولمرض السرطان (وهو أمر من قبيل المفارقة بعد أن ثبت أن الأصباغ التي تحتوي على مادة الأنيلين هي نفسها التي تتسبَّب في مرض السرطان).
طريق قصيرة ربطت بين الأصباغ والأدوية
شهدت تلك الفترة بداية وضع الأسس لثلاثٍ من أكبر أربع شركات متخصصة في الكيمياء والمستحضرات الصيدلية في مدينة بازل. كانت أولها شركة جايجي التي أنشأها جوهان جاكوب مولر-باك الذي تعاقَدَ مع جي آر جايجي، وهو تاجِر من بازل متخصِّص في تجارة المواد الكيميائية والأصباغ والأدوية، وبنى طاحونة للأصباغ الطبيعية هناك في عام ١٨٥٧. بعد عامين تولَّى ألكسندر كلافيل مهمةَ إنتاجِ مادة الفوشين — وهي صبغة أرجوانية اللون — في مصنع صباغة الحرير التابع له في مدينة بازل، وفي عام ١٨٧٣ باع كلافيل مصنع الصباغة إلى شركة جديدة لصناعة المواد الكيماوية في مدينة بازل اسمها بيندشيدلر وبوش، التي أصبحت خلال السنوات العشر التالية شركة بازل للصناعات الكيميائية (سيبا)، ثم بعد مرور عامين تأسَّست شركة كيرن وساندوز لصناعة الأصباغ.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، بات من الواضح أن تجارة المستحضرات الصيدلية ستكون تجارة رابحة، وفي عام ١٨٩٦ تأسست في بازل شركة إف هوفمان لاروش وشركاؤه، وأصبحت أول شركة تركِّز نشاطها منذ البداية على المستحضرات الصيدلية، وقامت بترويج دواء للسعال يُسَمَّى «سيرولين» في عام ١٨٩٨، وسرعان ما حذَتْ شركة بازل للصناعات الكيميائية حذْوَ شركة لاروش وأنتجت مستحضر «أنتيبيرين» (وهو خافض حرارة تعود براءة اختراعه إلى شركة هوخست)، وفي نفس الفترة تقريبًا قامت شركة دوران وهيجنين بإنتاج دواء مضاد للالتهابات باسم «سالول»، وهو أول دواء مسكِّن للألم تُنتجه شركةٌ من مدينة بازل. وخلال تسعينيات القرن التاسع عشر، بدأت شركة ساندوز أيضًا بإنتاج المواد الصيدلية الأساسية، وبصفتها متعاقدًا فرعيًّا قامت بإنتاج دواء «أنتيبيرين» الذي لاقى رواجًا كبيرًا في جميع أنحاء العالَم خلال فترات أوبئة الأنفلونزا. غير أن الشركة قلَّدت أيضًا منتجات أخرى غير مَحمية بقوانين براءات الاختراع، ولتغطية المخاطر الصناعية المتزايدة وتأمين التمويل المرتبط بتطوير المنتجات، حُوِّلت الشركات العائلية واحدةً تلو الأخرى إلى شركات مساهمة عامة محدودة، وفي عام ١٨٨٤ تحوَّل اسم شركة بينشيدلر وبوش إلى شركة سيبا، وفي عام ١٨٩٥ أصبحت شركة ساندوز شركةً عامة وتلتها شركة جايجي في عام ١٩٠١.
وبالعودة إلى تلك الفترة، يشعر المرء أنها كانت مشابِهة لفترة حُمَّى البحث عن الذهب؛ إذ كان تجار المواد الكيميائية والمستحضرات الصيدلية يتنافسون فيما بينهم لتحقيق الأرباح بكل الوسائل، سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة، وكان هناك العديد من الوعود الغريبة مثل ادِّعاء قدرة الشفاء من أعراض معينة، ومنها على سبيل المثال استعادة الشعر المفقود، وكان من الصعب على المستهلكين معرفة ما إذا كانت تلك الوعود صادقةً أم كاذبة، أم بكل بساطة مخادعة. كانت حداثة العلم والمكوِّنات الكيميائية، وكذلك غياب معايير الرقابة والإشراف، عواملَ اجتمعَتْ معًا لخلْقِ جوٍّ من الشك والريبة.
كان روبرت بيندشيدلر قد خرق عقدًا مع شركة هوخست يُنظم مبيعات دواء أنتيبيرين، فأُدِينَ بالاحتيال في عام ١٩٠٠، وتُوفِّي في السنة التالية في السجن، كما غُرِّم مولر باك في إحدى المناسبات، وأُجبِر على دفع معاشات وتعويضات مالية أخرى لعائلةٍ كانت تسكن بجوار مصنع شركة سيبا بسبب معاناتها من أعراض تسمُّم، وفي مناسبةٍ أخرى حكمَتْ مدينة بازل على الشركة نفسها بدفع تكاليف تركيب أجهزة خاصة لتجنُّب ضخ النفايات السامة في نهر الراين.
وكما هو الحال غالبًا في تاريخ الصناعة السويسرية، كان لا بد من حدوث اضطراب كبير خارج حدود سويسرا لكي تبدأ شركاتها العامة باستغلال الفرص الدولية الفعلية التي كانت متاحةً أمام شركات المواد الكيميائية لتتحوَّل إلى شركات أدوية، فعندما حاصَرَ الحلفاء ألمانيا في بداية الحرب العالمية الأولى، كانت سويسرا قادرةً على سدِّ الفراغ الحاصل في العديد من الأسواق والاستفادة من ارتفاع الأسعار في قطاعَيْ صناعة الأدوية والأصباغ. وخلال فترة الحرب أصبح هناك طلبٌ كبير على المطهِّرات والمسكنات والمهدئات وأدوية خفض الحرارة. وبين عامَيْ ١٩١٣ و١٩٢٠ ازدادت صادرات سويسرا من المواد الكيميائية بمقدار سبعة أضعاف، وقفزت مبيعات شركة ساندوز من ٦ ملايين فرنك سويسري في عام ١٩١٤ إلى ٣٧ مليون فرنك في عام ١٩١٧.
النموذج السويسري للمنافسة
شهدت فترة السلام التي تلت نهاية الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٨ عودة التنافس على الأسعار كما كان متوقَّعًا، ولكنَّ ثلاثًا من أكبر الشركات السويسرية، وهي سيبا وجايجي وساندوز، تجاوبَتْ مع هذا الواقع المستجد بإنشاء مجموعة تجارية سُمِّيَت بازلر إي جي، التي سرعان ما هيمنت على السوق. وعلى الرغم من أن الشركات الثلاث بقيت مستقلَّة من الناحية القانونية، فإنها وضعت برامجَ استثمارٍ وتوسُّعٍ منسَّقة بدقة فيما بينها، إلى جانب منظومة للمشاركة في المشتريات، واتفاقيات لتحديد الأسعار، وحتى لتنسيق تقاسم الأرباح في صيغ صارمة ومحدَّدة سابقًا. كانت الأهداف الرئيسية هي الحفاظ على الأسعار والدفاع عن مصالح المجموعة ضد المنافسة الألمانية الشديدة، وبالرغم من أن صناعة الأصباغ الأوروبية قد وجدت نفسها في مُواجَهة المنافسة القادمة من الولايات المتحدة، فإن مجموعة ثلاثية تضمُّ ألمانيا وفرنسا وسويسرا قد تشكَّلت وعملت جنبًا إلى جنب من عام ١٩٢٩ إلى عام ١٩٣٩.
وباتِّباع النمط النموذجي، بدأ أصحاب الصناعة في سويسرا بتسويق منتجاتهم على الصعيد العالمي عن طريق شركات التسويق والمبيعات الخارجية التابعة لهم، لكن بعد حوالي عام ١٩٢٠ بدأ تزايُد الحماية في العديد من البلدان بتهديد الصادرات، وشجَّع على إنشاء مصانع إنتاج في الخارج. قبل الحرب العالمية الأولى كانت روسيا القيصرية أكبر وأهم سوق لشركة روش، بحيث إنها شارفت على الإفلاس بعد خسارة هذه السوق بطريقةٍ مفاجئة، في حين أن شركة سيبا — على سبيل المثال — رأت حصتَها في السوق الأجنبية ترتفع من ١٦ في المائة في عام ١٩١٤ إلى ٧٠ في المائة في عام ١٩٣٢، وفي عام ١٩٢٥ ذكرت الغرفة التجارية في مدينة بازل أن أكثر من نصف العمال في قطاع صناعة الكيماويات في سويسرا يعملون في الخارج، وخلال نفس الفترة كانت صناعة الأدوية تحتلُّ مكانةً هامة في الأنشطة التجارية للشركات (باستثناء شركة جايجي التي لم تدخل مجال صناعة الأدوية إلا في عام ١٩٤٠).
اللجوء إلى ولاية نيوجيرسي
كانت الأعمال في مجالَي الأصباغ وصناعة الأدوية تتطور بدرجات متفاوتة وتتباعد تدريجيًّا؛ حيث أصبحت صناعةُ الأدوية هي الأقوى في الأسواق الدولية، وبحلول عام ١٩٣٩ كان عدد العاملين في قطاع صناعة الأدوية السويسري يناهز ١٦٥٠٠ عامل، وكان ثلث هذا العدد فقط يعمل في سويسرا. كانت الشركة الأكثر انتشارًا على الصعيد الدولي هي شركة روش التي قرَّرت في عام ١٩٤٠ نقل مقر عملياتها الرئيسي عبر المحيط الأطلسي إلى ضاحية نوتلي في نيوجيرسي على بُعْدِ بضعة أميال من منطقة مانهاتن؛ حيث بُنِيت نسخة مصغرة مطابقة للأصل من الشركة في بازل تخوُّفًا من احتمال سقوط سويسرا في قبضة ألمانيا النازية، كما انتقل إميل باريل — رئيس مجموعة روش — مع عائلته للسكن في أمريكا. وعلى الرغم من أن سويسرا كانت مهدَّدة بالغزو من طرف الجيش الألماني، فإن الأوساط الاجتماعية في مدينة بازل كانت تَعُد عملَه خطوةً انهزامية.
وربما كان سبب ذلك الانتقال مدفوعًا بتعاطُف روش مع اليهود المضطهَدين في ألمانيا وفي أماكن أخرى، فقد وظَّفت الشركة عددًا من العلماء الموهوبين من اليهود الألمان ووفَّرت لهم الإقامةَ في نيوجيرسي؛ حيث كان بإمكانهم القيام ببحوثهم في جوٍّ من السلام والأمان، في حين كانت شركات سيبا وجايجي وساندوز تمتنع عن توظيفهم خوفًا من انتقام الألمان.
كرم شركة روش الأسطوري
بدأت الشركات السويسرية الرائدة — قبل الحرب العالَمية الثانية وبعدها — تستثمر بكثافةٍ وعلى نطاق واسع في مجال البحوث في القطاع الصيدلي، وفي أغلب الأحيان دون تفكير يُذكر في التطبيقات العملية لنتائج هذه البحوث، وكان كَرَم شركة روش أسطوريًّا، خاصةً في تمويل البحوث الأساسية في هذا القطاع، وبفضل اكتشاف وتطوير بعض المجموعات من المنتَجات الناجحة، شهدت كلُّ شركات المواد الكيميائية والصيدلية السويسرية الكبرى فتراتِ ازدهارٍ متكرِّرة في حجم مبيعاتها بعد الحرب العالمية الثانية.
حقَّقت شركة روش إحدى أهم النجاحات المذهلة في مسيرتها عندما شرعت في إنتاج الفيتامينات التي يرجع اكتشافها إلى تادوس رايخشتاين، وهو بولندي هاجَرَ إلى مدينة زيورخ مع عائلته في عام ١٩٠٥. تولَّى رايخشتاين منصبَ مدرس مساعد في المعهد التكنولوجي في زيورخ، وكان يعمل في مختبَر يقع في الطابق السُّفلي، ولم تكن لديه سوى مُعَدَّات بسيطة عندما نجح في استخلاص فيتامين سي بمساعدة طلابه، وفي عام ١٩٣٣ سجَّلَ براءة اختراعه، ثم باعه إلى شركة روش، كان ردُّ الفعل الأول لماركوس جوجينهايم المُشرِف على قسم البحوث في الشركة آنذاك باردًا وغير متحمِّس، لكن شيئًا فشيئًا بدأت الشركة تُدرك الأهمية الطبية للمادة الجديدة؛ ومن ثَمَّ التغيير الذي يُمكن أن يرافقها في خيارات أساليب الحياة الجديدة.
فجأة أصبحت الفيتامينات في كل مكان
سرعان ما أصبحت شعبية فيتامين سي في قطاع صناعة الأدوية تُشكِّل أفضل الأمثلة التي شهدها القطاع حتى ذلك الحين عن كيفية خلق سوق جديدة لمُنتَج جديد، عملت شركة روش جنبًا إلى جنب مع شركة نستله، وأطلقت مُنتَج شوكولاتة بالفيتامين في السوق، وكذلك مُستحلَب ألبان يُدْعَى نيستروفيت، وسُوِّق المُنتَج بوصفه مشروبًا صحيًّا لاقى رواجًا كبيرًا بشكلٍ خاص لدى الأطفال (ومن ثَمَّ لدى الأمهات). وبهذه الطريقة كانت شركة روش قادرةً على استعمال فيتامين سي لفتح سوق جديدة لمُنتَجاتٍ تَقِي من المرض، كما رُوِّج لعدد لا حصرَ له من سُبل استخدام فيتامين سي، ولفترةٍ من الزمن كان يُوصَف كذلك بأنه علاج معجزة لمرض السرطان، واليومَ يُنتج قطاع صناعة الأدوية حول العالم ١١٠ ألف طن من فيتامين سي الاصطناعي (حمض الأسكوربيك) سنويًّا. استغلت شركة روش كذلك الأهمية التي يَنسبها خبراء التغذية للفيتامينات (وفي بعض البلدان حتى الخبز الأبيض يحتوي على فيتامينات مُضافة، وفي الواقع يُمنَع بيع الخبز الأبيض في المملكة المتحدة إذا لم تُضَف الفيتامينات إليه)، واصلت شركة روش نجاحها لتصبح الشركةَ الرائدة عالميًّا في أسواق الفيتامينات الاصطناعية، من خلال منتجاتها من الفيتامين «آي» و«بي١» و«بي٢» و«كيه١»، وعلى مدى عقود من الزمن ظل فيتامين سي أهمَّ منتجات مجموعات شركات روش، إلى أن انخفضت المبيعات خلال التسعينيات، عندما اضطرت الشركة لدفع غرامة مالية بحوالي ٣٫٢ مليارات فرنك سويسري بتهمة تحديد الأسعار بطريقة مخالِفة للقانون في الولايات المتحدة وأوروبا، وحصل ذلك في الوقت الذي بدأت فيه إمدادات الفيتامين الرخيصة من الصين تستحوذ على حصة متزايدة باستمرار من سوق الفيتامينات. وفي عام ٢٠٠٢ باعت شركة روش قسم الفيتامينات والمواد الكيميائية الفاخرة التابع لها إلى شركة دي إس إم، وهي مجموعة شركات هولندية متخصِّصة في العلوم الحياتية.
العقل السليم في الجسم السليم
تمَّ التوصل إلى اكتشاف سويسري آخَر في قطاع صناعة الأدوية، وكان له أثر كبير في المجتمع، وإن كان ذلك بطريقة مختلفة تمامًا، ألا وهو ثنائي إيثيل حمض الليسيرجيك، واختصاره إل إس دي. خلال الثلاثينيات كان ألبرت هوفمان وهو عالم كيمياء يعمل في شركة ساندوز على مشتقات اصطناعية جزئيًّا من أشباه قلويات فطر الأرجوت؛ بهدف اكتشاف مُحفِّز يساعد على التنفس ويُحسِّن الدورة الدموية. كانت شركة ساندوز قد عرفت النجاح سابقًا مع أشباه القلويدات عندما أنتجت مادة من الإرجوتامين لمنع النزيف أثناء الولادة، والتي ثبتَت فعاليتها أيضًا في معالجة الصداع النصفي. وعندما كان هوفمان يجرِّب اكتشافه على نفْسِه كمُحفِّز للدورة الدموية مرَّ بحالات من الهلوسة التي لعبت دورًا كبيرًا في التحوُّلات الاجتماعية التي شهدتها الخمسينيات والستينيات. كان تيموثي ليري — الطبيب النفسي والكاتب الأمريكي — هو مَن قام باكتشاف وتعريف هذه الآثار التي كانت مصدر إلهام للثورة الثقافية المضادة في الستينيات، وبمُصطَلحات علمية ساعدت مادة إل إس دي على فتح مجالات جديدة للبحث في النواقل العصبية في الدماغ، وتُعَدُّ اليومَ واحدًا من أُسس تطوير صناعة الأدوية لمعالجة الأمراض النفسية.
كارثة مادة دي دي تي
التخبط في حيز غير واضح المعالم
أوقفت شركة جايجي إنتاج مادة دي دي تي في أواخر الستينيات، غير أنها لاقت نجاحًا أكبر مع المبيد «أترازين» الذي استُخدِم لحماية الحبوب في الولايات المتَّحدة في أواخر الستينيات وطوال فترة السبعينيات. ومن المفارقات أن مولر نفسه قد حذَّر مسبقًا من هذه التطورات خلال الكلمة التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة نوبل قائلًا: «من المتعارَف عليه اليومَ أن بعض المواد الأساسية والوصفات قادرة على إفراز نشاط فسيولوجي معيَّن، لكن على الرغم من كل هذه النتائج، فنحن لا نزال بعيدين عن قدرة إثبات أي تفاعل فسيولوجي متوقَّع لتركيبةٍ ما بشكل موثوق فيه وجدير بالاعتماد، وبعبارة أخرى، فإن العلاقة بين تركيبة ما وتفاعلها الفسيولوجي لا تزال حتى الآن غير ثابتة.»
وفي نفس السياق توصَّلَ ليو شتيرنباخ إلى اكتشافٍ أدى إلى مستوًى مماثل من التغييرات الجذرية في عادات المجتمع. وُلِد شتيرنباخ في عام ١٩٠٨، وهو مهاجر من بولندا كان قد هرب من الحكم النازي بمساعدة شركة روش، وفي عام ١٩٤١ لحق بمدير شركة روش إميل باريل إلى الولايات المتَّحدة، وساعد على بناء قسم البحوث في الشركة هناك. وفي عام ١٩٥٤ كان هوفمان لاروش يُعاني من ضائقة مالية في بلده، كما كان متورِّطًا في تنافس شديد مع شركة والاس لصناعة الأدوية في الولايات المتحدة لإنتاج دواء فعَّال مهدئ للأعصاب. كانت شركة والاس قد نجحت سابقًا في صنع حبوب «ميلتاون» التي كانت فعالة إلى حد مقبول في تهدئة التشنجات، وكان على شتيرنباخ إيجاد تركيبة تكون لها فاعلية مُماثلة أو أفضل مع بعض الاختلاف كي لا تكون مطابِقةً لتركيبة حبوب شركة والاس ولا تتعارَض مع براءة اختراعها.
عندما كان شتيرنباخ طالبًا في جامعة كراكوف، كان قد أجرى بحوثًا على فئة من المركبات تُسمَّى البينزوديازيبينات، وكان يُفكِّر في استخدامها في تركيبة الأصباغ الاصطناعية، كما كان يظنُّ أنها قد تتفاعَل مع الجهاز العصبي المركزي. ومن ثَمَّ عاد إلى مراجعة ملاحظاته التي سجَّلها أثناء الدراسة، وعلى مدى سنتين قام باختبار أربعين تركيبة اتَّضح أنها لم تكن تلبِّي المواصَفات المطلوبة للأدوية؛ ونتيجةً لذلك طُلِب منه وقف هذه البحوث التي لا جدوى منها، والانتقال إلى العمل على تطوير المضادات الحيوية عِوَضًا عن ذلك.
تركيبة RO 5-0690 يُمكِن أن تُغيِّر حياة الناس
ولدى حقن فئران المختبر بكميات مُتفاوِتة من هذا المركب الجديد، لاحَظَ أحد الطلاب المتدرِّبين أن ذيول الفئران قد استرخَت تمامًا، فاستنتج أن المادة لها تأثير مهدِّئ، وعندما اختُبِر المسحوق على الفئران بشكل منهجي منتظم، لم تَعُد تركض بسرعة لتتسابَق من أجل الحصول على مكافأة، ولا كانت تدخل في شبه غيبوبة، بل كانت تركض هنا وهناك سعيدة ويَقِظة دون مبالاة بالسباق الذي تحصل إثره على مكافأة، وبعد تجريب المادة لاحقًا على الحيوانات الأخرى والبشر، كانت القطط والكلاب تَسترخي، والأشخاص الذين يعانون عادةً من التوتُّر العصبي يَهدءون، وذلك دون ملاحظة أي آثار جانبية واضحة.
وفي عام ١٩٦٠ وُوفِقَ على العلاج الجديد الذي أُطلِق عليه اسم «ليبريوم»، وبعد ثلاث سنوات طوَّر شتيرنباخ صيغة مبسطة ولكن بقوةٍ مضاعَفة سمَّاها «فاليوم»، ولقيت شعبيةً مذهلة وإقبالًا منقطع النظير، وبين عام ١٩٦٩ وعام ١٩٨٢ كان الفاليوم أكثر الأدوية المخدِّرة تدوينًا في الوصفات الطبية في الولايات المتحدة، وفي ذروة رواجه في عام ١٩٧٨ بِيعَ منه ٢٫٣ مليار حبة، وبذلك بات الفاليوم أول دواء مخدِّر يُروَّج بعائدات مبيعات سنوية تفوق مليار دولار أمريكي.
مجتمع تحت تأثير المهدئات
أفول نجم العلم
في بداية السبعينيات، وبفضل مُنتَجات مثل فيتامين سي ومادة اﻟدي دي تي والفاليوم، كان قطاع صناعة الأدوية الكيميائية أهم قطاعات الصناعة السويسرية، ولكن سلوك المجتمع عمومًا بدأ يشهد تحولًا عميقًا تجاه التقدم العلمي والتكنولوجيات العالية التطوُّر مثل الطاقة النووية والمواد الكيماوية؛ لأن الآثار السلبية التي يتركها النشاط البشري على البيئة بدأت تظهر بقدر أكبر من الوضوح، وبدأت نواقيس الخطر تقرع إثرَ تسرُّبٍ عَرَضي لمادة الديوكسين السامة في مصنع إكساما الذي تملكه إحدى الشركات التابعة لروش في منطقة سيفيزو بالقرب من مدينة ميلانو، وتسرُّبٍ آخَر للمبيدات والزئبق في مصنع تابع لشركة ساندوز في شفايتسر هاليه بالقرب من بازل.
ولكن حتى قبل هذه الأحداث، كان المَعْنِيُّون بقطاع الصناعة يُدركون أن هناك تحديات جديدة مُرتقبة جعلتهم يُعيدون تنظيم صفوفهم في محاولةٍ منهم لتخفيض مدى المخاطر. وفي عام ١٩٧٠ أحدثت شركة جايجي وشركة سيبا مفاجأةً كبرى لدى الرأي العام عندما أعلنتا عن اندماجهما معًا، واعترفَت الشركتان بأن قِطاع الصناعة يُواجه تحديات فِعلية في مجال البحوث التي تَجري في مجالات التخصُّص الجديدة في الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية وعلم المناعة، وسرعان ما اتَّضح أن عملية الاندماج المذكورة كانت خطوةً صائبة؛ إذ إن التنوع الجغرافي والقطاعي الواسع الذي يَحظى به قطاع صناعة الأدوية الكيميائية في سويسرا قد خفَّفَ من وطأة الركود الكبير الأوَّل الذي عرفَتْه فترة ما بعد الحرب نتيجةَ أزمة النفط بين عامَيْ ١٩٧٤ و١٩٧٥. ففي حين ألحق الركود أضرارًا جسيمةً بمُستخدمي ومورِّدي الأصباغ والمواد الكيميائية الأولية ومواد البلاستيك ومُشتقاتها، كانت شركات الأدوية وشركات المواد الكيميائية الزراعية قادرةً على تخطِّي هذه المرحلة الحَرِجة بشكل مقبول.
حبوب الأدوية لم تَعُد كافية
إنَّ توافُر النقد بكميات هائلة، والقلق بشأن إمكانية مواصلة الاكتشافات واستدامتها كانا عاملان قد حفَّزا شركات إنتاج الأدوية السويسرية على الانطلاق باتجاهِ مرحلةٍ جديدة لتنويع منتجاتها. وتحت قيادة أدولف جان، العبقري في مجال التمويل وذي الأفكار التوسُّعية، بدأت شركة روش باستثمار الأرباح الهائلة التي تجنيها من بيع الليبريوم والفاليوم في مجالات جديدة من الأعمال. وفي عام ١٩٦٣ استحوذت روش على شركة جيفودان المتخصِّصة في صناعة النكهات والعطور، وفي عام ١٩٦٨ بدأت شركة روش في صناعة المُعدَّات اللازمة للتحليل والتشخيص، ولو كان قسم مُعَدَّات التشخيص شركةً مستقلة بذاتها لباتَتِ اليومَ أكبر شركة سويسرية للتكنولوجيا الطبية. كانت شركة ساندوز تتميَّز بقدر أكبر من روح المغامرة، فوسَّعت نشاطها ليَشمل قطاع الأغذية بالاستحواذ على شركة فاندر في عام ١٩٦٧، ثم استحوذت لاحقًا على شركة رولاند كروسبريد وشركة لاكيرول في عام ١٩٧٨، كما اشترت سلسلة نوادي جون فالنتاين لِلِّياقة البدنية في عام ١٩٧٧، بعد ذلك بدأت في عام ١٩٨٥ بصناعة المواد الكيميائية اللازمة للبناء من خلال الاستحواذ على شركة ماستر بيلدرز في الولايات المتحدة واليابان، وكذلك على مجموعة ماينادير في سويسرا.
اتخذت شركة ساندوز أيضًا تدابيرَ حاسمة بخصوص أعمالها في مجال الأدوية؛ إدراكًا منها أن هذه الصناعة قد أصبحت تعاني من التضخُّم وقلة الإنتاج. كان مارك موريه الذي التحق بشركة ساندوز في عام ١٩٦٨ غريبًا عن مدينة بازل ودخيلًا على قطاع صناعة الأدوية، وهو من مواطني الجانب الفرنسي من سويسرا، تدرَّبَ في شركة نستله ولم يكن عالِمًا، بل رجل اقتصاد، وانطلاقًا من عام ١٩٨١، بصفته رئيس مجلس الإدارة، وضَعَ موريه برنامجًا صارمًا لخفض التكاليف، وتخلَّصَ من ٩٠٠ وظيفة، واستبدل تقريبًا جميع موظفي الإدارة العليا.
وقد قال عنه شخص عَمِلَ معه ولاحَظَ أساليبه: «لقد حطَّمَ موريه الأفكارَ والقناعات القديمة البالية، وأثبت أن من المُمكن خفض تكاليف شركةٍ ما وزيادة فعاليتها في الآن نفسه. في تلك الأيام كانت صناعة المواد الصيدلية تمر بمرحلة من الخمول والتراجع، وكانت فترة غداء العمل تدوم من الظهيرة حتى الثالثة والنصف بعد الظهر، وكانت مقرونةً باستهلاك النبيذ وتدخين السيجار بكثرة، فقام موريه بوقف هذه العادة دون مقدمات، وتقبَّلَ إمكانية تراجُع شعبيته بسبب هذا الإجراء وجعله منبوذًا من طرف الطبقة الراقية في مدينة بازل.» غير أن برنامجه الجذري لخفض التكاليف الذي أحدث حالةً من الاستياء الشديد في تلك الفترة مهَّدَ الطريق أمام ازدهار الشركة لاحقًا.
ومع ذلك، لم يكن خفض التكاليف هو ما قاد موجةَ التغيير التالية في قطاع صناعة الأدوية السويسري، بل التكنولوجيا الناشئة السريعة التطور.
إنجاز بارز في علم التكنولوجيا الحيوية
كان أول اختراع مُبهِر في مجال التكنولوجيا الحيوية هو استخراج مادة البنسلين من الفطريات، الذي بدأ في عام ١٩٤٣، كما كانت الفيتامينات والأحماض الأمينية والأنزيمات تُنتَج أيضًا في نفس المجال منذ بداية الخمسينيات. وفي عام ١٩٥٣ كان فك شفرةِ بِنية الجزيء الوراثي، الحمض النووي، على أيدي فرانسيس كريك البريطاني وجيمس واطسون الأمريكي، علامةً فارقة في طريق بزوغ عهد جديد في مجال علم الأحياء، إلا أن المساهمة الحاسمة التي أدخلها صيدلي موهوب من بيرن يُدْعَى رودولف سيجنر في هذا الاكتشاف بقيت أقل شهرة.
في عام ١٩٣٨ — أيْ قبل ١٥ سنة من اكتشاف اللولب المزدوج للحمض النووي — قام سيجنر بقياس ووصْف بِنية الحمض النووي، وطوَّرَ عملية لاستخراج هذه المادة بشكل نقي جِدًّا، وكان ذلك معروفًا في الأوساط العلمية ﺑ «هِبَة بيرن». وفي رحلة إلى لندن في عام ١٩٥٠ أهدى سيجنر ١٥ جرامًا من هذه «الهبة» إلى موريس ويلكنز، الذي فاز في عام ١٩٦٢ بالاشتراك مع كريك وواطسون بجائزة نوبل للطب بفضل توصُّلهم إلى فك شفرةِ بِنية الحمض النووي. وبفضل الطريقة التي ابتكرها سيجنر لاستخراج الحمض النووي العالي النقاء، تمكَّنَ ويلكنز مع زميلته روزاليند فرانكلين من إنتاج لوحات الأشعة السينية التي من دونها لما استطاع كريك وواطسون التوصُّل إلى اكتشاف نموذج اللولب المزدوج للحمض النووي، وقد مكَّنَ تحديد بنية الحمض النووي خلال الستينيات من فك الشفرة الوراثية التي أدَّت إلى ظهور تكنولوجيا الجينات في السبعينيات.
السؤال الأوَّل: هل يُمكن أن تدخل التكنولوجيا الحيوية عالم الأعمال التجارية؟
كانت هذه التطورات الجوهرية في علم الأحياء الحديث قد أدَّت إلى نقاش فكري عظيم داخل الجامعات، التي تنامت فيها ثقافة بحثية جديدة. انتقل علماء البيولوجيا الجزيئية إلى الأبحاث في مجالات أخرى مختلفة، من بينها علم المناعة. في البداية أخفقَتْ شركات الأدوية في إدراك الإمكانيات الاقتصادية لهذه الفرص الجديدة بالرغم من وعيها بأهميتها العلمية، ومع ذلك كان سخاء شركة روش المعروف في تمويل البحوث الأساسية في الموعد، عندما ساهمت في عام ١٩٧١ في تمويل المعهد الجديد لعلم المناعة في مدينة بازل، الذي كان يرأسه نيلز كاي جيرن الحائز على جائزة نوبل مع ثلاثة باحثين آخَرين حائزين على جائزة نوبل أيضًا، كان أحدهم جورج كوهلر الذي اكتشف طريقة لإنتاج الأجسام المضادة الوحيدة النسيلة في منتصَف السبعينيات. لم تقدِّر شركة روش القيمةَ التجارية لهذه التكنولوجيا حقَّ قدرها، فلم تُسجَّل أي براءة اختراع لها من طرف الباحثين المَعْنيِّين لدى الشركة، ولا من طرف القيِّمين على المجال الصناعي، فبقيت مجالات التطبيق بالرغم مما لها من أهمية علاجية وتشخيصية مفتوحةً وعرضةً للاستغلال في بحوث أخرى. وحقيقةُ أن العديد من الاكتشافات التي توصَّلَ إليها الباحثون في معهد بازل لم تؤدِّ إلى مُنتَجات تجارية، هي حقيقةٌ يمكن تفهُّمها نظرًا لما كانت عليه ثقافة البحث العلمي في ذلك الوقت؛ إذ كان الباحثون الصناعيون في مجال الكيمياء «القديم» بالكاد يتحدَّثون مع علماء الأحياء «الجدد» القادمين من بيئة أكاديمية، كما كان على قطاع صناعة الأدوية في بازل العمل أوَّلًا على تغيير كاملٍ للعقلية السائدة قبل التمكُّن من استغلال الإمكانيات الاقتصادية للتكنولوجيا الحيوية.
جيل جديد من الشركات القائمة على البحوث
كان هناك استثناءٌ مذهل لهذه القاعدة، وهو اكتشاف خصائصَ غيرِ عاديةٍ لمركَّب من سلسلة الأحماض الأمينية الهضمية، وهو «سيكلوسبورين أ» من طرف مجموعة من الباحثين في شركة ساندوز. بدأ ذلك في عام ١٩٧٠ عندما جمع هانس بيتر فراي عيِّنات من التربة خلال عطلته في شمال النرويج، وبعد عودته سلَّمَ العينات لزملائه لاختبارها، كانت شركة ساندوز قد اعتمدت مؤخرًا عمليات مسح وفحص شامل للمواد الطبيعية بوصفها جزءًا من برنامجها لاكتشاف الأدوية، ولعلَّ معظم الإنجازات الأكثر أهمية في المجال الطبي حتى تلك المرحلة قد نتجت عن تقليد المكونات الطبيعية وتحويلها إلى مواد اصطناعية، فمادتا الكينين والأسبيرين مستمدتان من قشور جذوع الأشجار، ولكن منذ أن اكتشف أليكسندر فليمينج أن عفن البنيسيليوم يُفرز عاملًا قويًّا مضادًّا للجراثيم بدأ السباق إلى تعلم أسرار الطبيعة لاكتشاف أكثر مركباتها العلاجية فعالية.
خضعت عيِّنات التربة التي أتى بها فراي من النرويج إلى ما يقارب ٥٠ اختبارًا في مختبرات مختلفة تابعة لشركة ساندوز، وقد أسهم كلٌّ من هارتمان ستيهلين وجون فرانسوا بوريل بشكل حاسم في الكشف عن عنصر نَشِط في تلك العينات، وهو «سيكلوسبورين أ» الذي يحدُّ من عمل النظام المناعي. في ذلك الوقت كان الحد من عمل النظام المناعي موضوعًا متداولًا باهتمام كبير، وفي شهر ديسمبر من عام ١٩٦٧ لفَت الدكتور كريستيان برنارد انتباه العالم بتنفيذ أول عملية زرع قلب اصطناعي في مدينة كيب تاون، إلا أن المريض تُوفِّي بعد ١٨ يومًا فقط من تاريخ إجراء العملية بسبب الْتهاب رئوي نتيجة العقاقير المستخدَمة لقمع الدفاع الطبيعي لجهاز المناعة ضد الالتهابات. وبسبب هذه التحديات أوشكت إدارة شركة ساندوز على التخلِّي جديًّا عن الاكتشافات التي يتوصَّل إليها الباحثون في مختبراتها. وفي عام ١٩٧٣ قضت الإدارة بأن المخاطر العالية والاستثمارات الهائلة التي يتطلبها تطوير دواء «سيكلوسبورين أ» تفوق الإمكانيات التجارية لعمليات زرع الأعضاء، ولم يُبرَّأ التقدم المُحرَز في مجال الاختبار السريري إلا عندما أثبتَتِ الاختبارات السريرية الأخرى التي أُجْرِيَت على «سيكلوسبورين أ» نجاعته في إمكانية علاج التهاب المفاصِل الروماتويدي.
في عام ١٩٧٦ قام بوريل وستيهلين بأول عرض عام لهذا الدواء في لقاءات علمية، وكانت إحدى المحاضرات التي ألقاها بوريل في الجمعية البريطانية لعلم المناعة في أيار ١٩٧٦ قد أثارت اهتمامًا فوريًّا لدى جرَّاحي زراعة الأعضاء في جامعة كامبريدج وفي مجموعة بريطانية أخرى في لندن. كانت الاختبارات السريرية ناجحة وتمت الموافقة على دواء «سيكلوسبورين أ» الذي أصبح معروفًا تحت العلامة التجارية «سانديميون» من طرف إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة في عام ١٩٨٣.
وبعد أن كانت عملية زرع الأعضاء مستحيلة طبيًّا، أصبحت الآن أمرًا شائعًا، إذ تُجرَى عشرات الآلاف من العمليات المُنقِذة للحياة سنويًّا في جميع أنحاء العالم، وارتفعت مبيعات دواء سانديميون مع ارتفاع عدد عمليات زرع الأعضاء، حتى بلغت ذروتها محقِّقةً مبلغ ٢ مليار فرنك سويسري في عام ٢٠٠٠ قبل بدء نهاية فترة حماية براءات الاختراع في الأسواق الرئيسية، والآن يُقاس معدل نجاح عمليات زرع الأعضاء بعشرات السنين.
غير أن شركة بيوجين كانت الاستثناء لا القاعدة. كان السويسريُّون عمومًا يُحجِمون عن تبني التطورات التي تشهدها التكنولوجيا الحديثة، سواء أكان في جامعاتهم أم في أفضل شركاتهم، مفضِّلين الاحتفاظ بمجدهم الغابر في الكيمياء الكلاسيكية، وقد علَّق فايسمان قائلًا: «لقد حاولتُ في أواخر السبعينيات أن أجذب اهتمام شركات الأدوية السويسرية نحو تكنولوجيا الهندسة الوراثية التي بدأت في الظهور، إلا أن هذه الشركات لم تهتم بذلك بتاتًا، وعندما أُسِّست شركة بيوجين، كان الدعم المالي الوحيد الذي وجدْناه في سويسرا قد قدَّمه لنا يورج جايجي (من عائلة جايجي)، وأعتقد أن مساهمتَه كانت من ماله الخاص.»
أين أخطأت شركة روش؟
عرفت شركة روش فترةً من الرضا بعد اكتشاف الفاليوم وفيتامين سي، وكان الباحثون في الشركة قد اكتسبوا عقلية الثقة العمياء بأنفسهم، وأصبحوا متعجرفين لا ينصبُّ اهتمامهم إلا على اكتشافاتٍ بحجم جائزة نوبل، ولم يَعُد هناك شيءٌ ذو قيمة تجارية يخرج من مُختبَراتِهم، والأسوأ من ذلك أن براءات الاختراع عن الفاليوم التي تُدِرُّ على الشركة عائداتٍ كبيرةً كانت قد شارفت على الانتهاء، وما لا يُمكن تصديقه هو أنه في عام ١٩٧٨ وجدتِ الشركةُ نفسها على حافة الإفلاس، والأسوأ من ذلك هو أن إنقاذها كان على وشك أن يحدث على أيدي مسئولٍ تنفيذي في شركة للتأمين، وملحِّنِ موسيقى كلاسيكية، ومهندسٍ مالي ذكي.
في ذلك الوقت، كان بول ساخر ملحِّنًا وقائد أوركسترا وشخصية بارزة في عالم الفن على الصعيد الدولي، وكان يترأس عائلة هوفمان لاروش التي تدير الشركة، وكان فريتز جيربر — رئيس مجلس الإدارة والمدير التنفيذي لشركة زيورخ للتأمين — قد أصبح معروفًا على نطاق واسع لتحفيزه هذه الشركة المتكاسِلة وبث النشاط فيها من جديد، كما كان أيضًا عقيدًا في الجيش السويسري. لم يكن أيٌّ من ساخر أو جيربر مختصًّا في مجال الأدوية أو الكيمياء أو البحوث العلمية، ولكن ساخر كان متحمِّسًا وشديد الاندفاع، فاتفق مع جيربر على اللقاء في فندق باورولاك على ضفاف بحيرة زيورخ، وصَلَ جيربر مباشَرةً من مناورة عسكرية مرتديًا زيه الرسمي العسكري ووافَقَ على القيام بالمهمة.
كان جيربر مديرًا من الطراز السويسري الذي يتَّسم بالبساطة والكلمة الصريحة، وكان يَكره التسلسل الهرمي، وصرَّح مرةً قائلًا: «إن تقييم المستقبل صعب بما فيه الكفاية.» وأضاف: «وهذا يعني أن علينا الاستماع إلى كل شخص لديه شيء من المساهَمة بغضِّ النظر عن مُستواه، وهذا أمر واضح لا جدالَ فيه، أمَّا إذا تحدَّثنا عن القيادة فلا بد أن يكون هناك قائد واحد.»
الأرباح أوَّلًا، أمَّا الجوائز فيُمكِن أن تأتي لاحقًا
لم يكن جيربر مبهورًا بباحثي شركة روش الحائزين على جائزة نوبل، وفور قدومه أجبرهم على البحث بجدٍّ عن مُنتَج يمكن تسويقه، ونجح بذلك في الحصول على مضادٍّ حيوي يُؤخَذ بجرعة واحدة تكفي ليوم كامل مُقارَنةً بالمضادات الحيوية الأخرى التي تُؤخَذ بجرعات كل ثماني ساعات. كان ذلك شديد الأهمية بالنسبة إلى موظَّفي المستشفيات ومرضى الالتهابات، وسرعان ما أصبح الدواء الأكثر مبيعًا في شركة روش مما وفَّر للشركة الوقتَ الضروري لوضع استراتيجية جديدة وتأمين الميزانية اللازمة لتمويلها.
عندما قرأ جيربر ذات مرة مقابلةً صحفية مع شارل فايسمان الذي كان رئيس قسم علم المناعة في جامعة زيورخ وشريكًا مؤسِّسًا لشركة بيوجين، شعر أن شيئًا غير اعتيادي كان يتبلور في مجال التكنولوجيا الحيوية، وفي الأسبوع التالي اتصل بفايسمان ودعاه إلى الغداء، وبانتهاء الغداء كان جيربر قد اقترح على فايسمان تولِّي إدارة قسم البحوث التابع لشركة روش بهدف جعل الشركة في طليعة عالم التكنولوجيا الحيوية. وبالرغم من اهتمام فايسمان بالعرض فإنه لم يستطع الموافقة عليه، فبحكم كونه شريكًا مؤسِّسًا لشركة بيوجين لم يكن في إمكانه العمل موظفًا لحساب شركة منافِسة، ولتفادي ذلك عرَضَ عليه جيربر منصبًا في مجلس إدارة شركة روش، وكانت تلك بداية تعاون وصداقة دامت مدى الحياة.
شراء أفضل ما جادت به التكنولوجيات الجديدة
بعد أن استعادت شركة روش قُوَاها، شرع جيربر في القيام بعمليات استحواذ استثنائية. والآن لدى تذكر هذا الأمر نرى أنه استطاع تحقيق ذلك بأسعار مغرية، وقد علَّق فايسمان على ذلك لاحقًا بقوله: «على الرغم من أن جيربر كان محاميًا يعمل في مجال التأمين، فإنه عندما انضمَّ إلى شركة روش أظهَرَ اهتمامًا كبيرًا بالتقنيات الجديدة، وأنقَذَ الشركة — بلا شك — بشراء شركة جيننتيك وبراءات اختراع تفاعل البوليميراز المتسلسل، بالرغم من اعتراض أغلبية أعضاء مجلس الإدارة.»
شركة جيننتيك: أرباح طائلة
واصلت شركة جيننتيك نجاحها في تطوير الأنسولين البشري والإنترفيرونات وهرمونات النمو البشري ومنشِّط البلاسمينوجين النسيجي ولاحقًا مادة أفاستين. ووعيًا من شركة روش بأهمية الإبقاء على طريقة عمل شركة جيننتيك التي استحوذَت عليها مؤخَّرًا، قرَّر المديرون في بازل عمدًا أن يتركوا لها قَدْرًا من الحرية في العمل واعتبارها والتعامل معها بصفتها استثمارًا ماليًّا، وقد ثَبَت أن هذا الاستثمار قد ولَّدَ للشركة عائدات هائلة لم يكن يتخيَّلها أحد، وفي حيِّز زمني قصير استقطبت شركة روش عددًا كبيرًا من ألمع المواهب، كما استحوذت على عدد لا يُحصَى من المُنتَجات الواعدة، واليومَ تأتي معظم إيرادات شركة روش في مجال تجارة الأدوية بفضل الأدوية التي أنتجتْها شركة جيننتيك.
براءة اختراع للجاذبية
عندما أدرك قطاعُ صناعة آلات التشخيصِ أهميةَ التكنولوجيا الجديدة، بدأت شركة روش تفرض ضرائب على مستخدمي هذه التكنولوجيا، تمامًا كما كان يجري في القرون الوسطى عندما كانت تُفرَض ضرائب على عابري مضيق جوتارد، وهذا ما أدَّى في النهاية إلى استحواذ شركة روش على شركة بوهرينجر مانهايم في عام ١٩٩٧ بمبلغ ١١ مليار دولار أمريكي. كانت الموافقة على بيع الشركة المذكورة تُعْزَى خاصةً إلى إدراكها لأهمية هذه التكنولوجيا، وكان فريتز شتيهلر — مدير قسم التشخيص في شركة بوهرينجر — قد علَّق ساخرًا ومستغربًا هذا الأمر بقوله: «إن تسجيل براءة اختراع لتفاعل البوليميراز المتسلسل في بيولوجيا الجزيئات هو كتسجيل براءة اختراع للجاذبية في علم الفيزياء.» وهذه القصة تسلِّط الضوء على أهمية اكتساب المِلكية الفكرية، ليس بخصوص العملية برمتها أو بخصوص مُنتَج بمفرده، بل على جزء حيوي وعالي الفعالية يُمكنه أن يساعد أو يعيق إنجاز عمليات تطوير أخرى ومُنتَجات لا حصرَ لها.
وقد استحوذت شركة روش مؤخَّرًا على بقية شركة جيننتيك — أيْ ٤٠ في المائة — بمبلغ ٤٧ مليار دولار أمريكي، وهو ما يُعادل ٣٣ ضعفَ قِيمة الاستثمار الأصلي فيها عام ١٩٩٠، ولتمويل هذه العملية زادت الشركة كثيرًا من ديونها الطويلة الأجل، وشطبت ٤٥ مليار فرنك سويسري من قيمة الأسهم؛ أيْ ما يعادل فعليًّا كلَّ الأرباح المتراكمة منذ تأسيسها في عام ١٨٩٦.
هل التدخُّل التام في أمور العمل مثل عدم التدخُّل فيه بتاتًا؟
كان العديد من مراقبي قطاع الصناعة يتساءلون عمَّا إذا كانت شركة جيننتيك ستحقِّق نفس المستوى من الابتكارات بعد أن أصبحت فرعًا تابعًا لشركة روش كذاك المستوى الذي كانت تحقِّقه وهي شركة مستقلة بذاتها. كان ويليام روتر — مؤسِّس شركة شيرون وعضو الأكاديمية الوطنية المرموقة للعلوم (وهو أيضًا مُكتشِف مرض التهاب الكبد من نوع ج) — قد حذَّرَ قائلًا: «هناك ثلاثة أمور لا تتوافَق ولا تتماشى عادةً معًا، وهي: العلوم المبتكرة واللجان، والتحكُّم المؤسساتي، وخفض التكاليف.» والوقت وحده كفيلٌ بإعطاء البرهان على ذلك.
كان روتر أيضًا عضوًا سابقًا في مجلس إدارة شركة نوفارتِس، وكان يدرك أن عهد جيربر في شركة روش كان مميَّزًا ولكنه لم يَلْقَ ما يستحقُّ من الاعتراف والتقدير، وفي هذا الخصوص علَّق قائلًا: «كان جيربر عملاقَ قطاع الصناعة، ومن المدهش أن قلةً قليلة فقط من الناس يُقدِّرون هذا الواقع حتى في سويسرا.»
قُدِّرت قيمة شركة روش ﺑ ٦٫٣ مليارات فرنك سويسري عندما بدأ جيربر وفايسمان العملَ فيها في عام ١٩٧٨، وعندما تقاعد جيربر من منصبه كمدير كانت قيمة الشركة تبلغ ١١٠ مليارات فرنك سويسري، كما أن قيمة استثمارات المساهمين الذين بقوا في الشركة قد تزايدت بمقدار ١٧ ضعفًا.
التخطيط للخلافة: نقطة ضعف سويسرا
كان العيب الوحيد في مسيرة جيربر المهنية البارزة هو عدم قدرته على إيجاد أشخاص أكفاء لخلافته، بقيت قيمة شركة روش تقريبًا على حالها كما كانت في عام ١٩٩٨ عندما حلَّ فرانس هومر محلَّ جيربر رئيسًا تنفيذيًّا، وكان خليفة جيربر في مؤسسة زيورخ للتأمين — رولف هوبي — قد مُنِيَ بالفشل عندما أفرطت الشركة في التوسع عن طريق عمليات استحواذ غير صائبة.
وقد طُلِبَ مرةً من جيربر أن يكتب كتيبًا عن حُسْن الإدارة، إلا أنه اعتذر قائلًا: «في الواقع لا أعرف كيف أشرح للآخَرين كيفية القيام بما قمتُ به.»
من المعروف أن العمل والفن يتعارَضان؛ لأن أحدهما يعتمد على الشرح والآخر على الشعور، وعلى ما يبدو كان جيربر فنانًا أكثر منه عالمًا.
كانت شركة سيبا جايجي قد انتهجت نهجًا مختلفًا عن شركة روش بتجنُّب عمليات الاستحواذ ومحاولة إعادة تركيز بحوثها الداخلية على التكنولوجيا الحيوية، وفي عام ١٩٨٣ وظَّفت الشركة أليكس ماتر — وهو طبيب من مدينة بازل — للعمل بشكل خاص على علاج الأورام. كان ماتر — ابن الكيميائي العامل لدى شركة ساندوز — قد عمل في شركة روش وشركة الأدوية شيرينج بلاو في الولايات المتحدة قبل عودته إلى مدينة بازل، قام ماتر بانتقاء مجموعة واسعة من المواد تمتد من العلاجات الهرمونية حتى فئةٍ من المركَّبات تُسَمَّى ثنائي الفوسفونات.
صفقة القرن
كانت عملية اندماج شركة سيبا وجايجي مع شركة ساندوز لتكوين شركة نوفارتِس في عام ١٩٩٦ قد فاجأت الجميع (وهي أكبر عملية اندماج حصلت في تاريخ التجارة العالَمية، وجزء من موجاتِ دمجٍ عديدةٍ عرفها قطاع صناعة الأدوية في العالم لتقوية الشركات وتعزيزها)، وكان على المذيع الذي قام بالإعلان عن الخبر في راديو سويسرا التأكيد على أن إعلانه ليس مجرد دعابة. وكان الأمر الذي يدعو إلى الدهشة أيضًا هو اختيار المدير التنفيذي للمجموعة الجديدة دانييل فاسيلا، الذي تعلَّمَ مهنة الطب عن طريق التدريب، وكان على رأس قسم صناعة الأدوية في شركة ساندوز بالرغم من أن تجربته في مجال الصيدلة لم تكن تتعدَّى عقدًا من الزمن.
كان فاسيلا، الذي أصبح في غضون عقد من الزمن نجمًا لامعًا في قطاع صناعة الأدوية العالمي، قد عانى في مرحلة طفولته من مرض السل ومرض التهاب السحايا، وفي سن العاشرة شهد وفاة شقيقته بسبب مرض السرطان، ولعل هذه التجارب هي التي دفعته إلى تعلُّم مهنة الطب ليُصبح مديرًا لزملائه من الأطباء في جامعة بيرن عندما كان في العشرينيات من عمره، إلا أنه كان أيضًا مهتمًّا بالأعمال التجارية، وترك مزاوَلة المهنة ليلتحق بشركة ساندوز في عام ١٩٨٨.
كان فاسيلا متزوِّجًا من قريبة مارك موريه الذي كان آنذاك رئيس مجلس إدارة شركة ساندوز، والذي ربما قد رأى في فاسيلا رجلًا له خيارات تتوافَق مع خياراته. وفي عام ١٩٤٤ كان فاسيلا قد أصبح مديرًا لقسم الأدوية الناجح في شركة ساندوز مما خوَّله للفوز بالمنصب الأعلى في شركة نوفارتِس، وخلال أَشهُرٍ فقط بدأ عملية إعادة هيكلة جذرية في الشركة الجديدة بالتخلِّي عن العديد من أعمالها الضخمة.
حُوِّل قسم المواد الكيميائية الصناعية في شركة نوفارتِس إلى قسم كيماويات للأغراض التخصُّصية في شركة سيبا؛ ومِن ثَمَّ اشترتها في عام ٢٠٠٩ المجموعةُ العملاقة الألمانية بي إيه إس إف، وفي عام ٢٠٠٠ تخلَّت نوفارتِس أيضًا عن قسم الكيمياويات الزراعية التابع لها، ودُمِج مع القسم المماثل له في شركة إسترا زينيكا لتكوين شركة سنيجينتا التي ازدهرت لتُصبحَ ثاني أكبر مجموعة لصناعة الكيماويات الزراعية في العالَم بعد شركة مونسانتو، ورائدة في مجال التقنية الحيوية لحماية النباتات. وقُبَيْل إنجاز عملية الاندماج الضخمة حوَّلت شركة ساندوز نشاطَها في إنتاج المواد الكيميائية الصناعية على نطاقٍ واسع إلى شركة مستقلَّة، وطرحتها في أسواق البورصة لتنشئ بذلك شركة كلاريان التي تبلغ قيمتها ٦٫٦ مليارات فرنك سويسري.
التخفيض في التكاليف المخيفة للبحوث
كان الدافع وراء إنشاء شركة نوفارتِس هو أن المنافسة في قطاع صناعة الأدوية قد أصبحت شائعة على صعيد عالَمي، وهذا ما أدى إلى زيادة حادَّة في المخاطر التي يُخلِّفها الإنفاق على البحوث، فتطويرُ دواءٍ جديد يُمكن أن يستغرق من ١٠ إلى ١٥ سنة بتكلفة يمكن أن تصل إلى مليار فرنك سويسري أو أكثر، دون أي ضمان لتحقيق الأرباح من وراء ذلك، فمن كل عشرة منتَجات طبية تتخطَّى كافةَ صعوبات الحصول على شهادات المصادقة، هناك اثنان فقط يمكن أن يحقِّقا الربح فعليًّا. كان المستثمرون مدركين لهذا الواقع، بدليل أنه في صباح الإعلان عن عملية الاندماج يوم ٧ مارس من عام ١٩٩٦ ارتفعت أسعار أسهم الشركتين في ساعات قليلة بنسبة ٢٥ في المائة، كما أن التدابير الصارمة التي اتُّخِذت لترشيد العمل وخفض التكاليف إثرَ عملية الاندماج قد أدَّتْ إلى تسريح أعداد كبيرة من العمال، وفي السنوات القليلة التالية، بينما كانت الشركتان توظِّفان ١٣٠ ألف عامل في جميع أنحاء العالم، خسر منهم ١٠ آلاف شخص وظائفهم من بينهم ٣٥٠٠ عامل في منطقة بازل.
غير أن أولئك الذين ظلوا يعملون لدى شركة نوفارتِس كانت مسيرتهم مشرِّفة، فبفضل أدوية مثل سانديميون وجليفيك، أصبحت الشركة في صدارة قطاع تجارة الأدوية على مستوى العالم، كما أن فاسيلا — الذي أضاف في عام ١٩٩٩ رئاسة مجلس الإدارة إلى مهامه كرئيس تنفيذي للشركة — كان لاعبًا أساسيًّا بارزًا في هذا المجال، فأنفق مالًا كثيرًا على أعمال البحث والتطوير، وأشرف بنجاح على ازدهار دواء جليفيك، حتى إنه كتب عنه كتابًا في عام ٢٠٠٣ يُسمَّى «الرصاصة السحرية»، وفي العام التالي سُمِّي فاسيلا في مجلة التايمز من بين «المائة شخص الأكثر نفوذًا في العالم»، كما أن قرَّاء مجلة فايننشال تايمز قد صوَّتوا له بصفته مديرَ الأعمال الأكثر نفوذًا في العالَم في السنوات اﻟ ٢٥ الماضية، وحاز على العديد من الجوائز الأخرى. أضِفْ إلى ذلك أنه حوَّل مجمَّع نوفارتِس في بازل إلى «متحف لأعظم المهندسين المعماريين».
كان أحد الآثار الجانبية لعملية الاندماج — إلى جانب حركة النشاط التي شهدها قطاع الصيدلة في مدينة بازل — هو الاستفادة من إنشاء العديد من الشركات الصغيرة الجديدة التي بدأت مسيرتها بآمال متواضِعة، ثم ازدهرت لتُصبح الآن شركاتٍ معروفةً في الوسط الصناعي إن لم تكُن مشهورة لدى عامة الناس، أو شركاتٍ تحتلُّ مكانةً مرموقة في المجال العلمي أو شركات تقدِّم خدمات تخصصية مساندة.
وأحد الأمثلة على ذلك هي شركة جينداتا التي أُنشِئت في عام ١٩٩٧، والتي تشغِّل ١٠٠ عالِمٍ من ذوي المؤهِّلات العالية في ستة مواقع في أوروبا والولايات المتَّحدة واليابان، وتؤدي أعمالًا رائدةً في مجال التكنولوجيا الحيوية بتطوير نُظُم برمجيات لإدارة مجموعات كبيرة جِدًّا ومعقَّدة من البيانات البحثية، إلا أن أكثر هذه الشركات الناشئة بروزًا هي شركة الزوجين مارتين وجون بول كلوزال، اللذين عملا في مختبرات شركة روش طوال ١٢ عامًا في بازل، قبل إنشاء شركتهما «أكتيليون» في عام ١٩٩٧. وبعد أربع سنوات عجاف، حقَّقت الشركة قفزة نوعية في عام ٢٠٠١ عندما حصل دواء تراكلير — وهو دواء يُؤخَذ عن طريق الفم لمعالجة ارتفاع ضغط الدم الرئوي — على مصادقة وقبول السلطات المختصة في الولايات المتحدة، ثم بعد عام في الاتحاد الأوروبي. كان الزوجان كلوزال قد تركا العمل في شركة روش عندما لم يحْظَ اثنان من المُستحضِرات التي طوَّراها بالاهتمام والملاحقة الكافيَيْن، وتشغِّل شركة أكتيليون اليومَ ٢٣٠٠ شخص في ٢٥ بلدًا، كما حقَّقت عائدات وصلت إلى ١٫٩٣ مليار فرنك سويسري في عام ٢٠١٠. إن قصة هذه الشركة هي واحدة من قصص النجاح الكبرى في العالم في صناعة التكنولوجية الحيوية السريعة النمو.
كما يجب عدم إغفال شركة صناعة أدوية أخرى كانت في السابق سويسرية وأصبحَتِ اليومَ ألمانية، وهي شركة سيرونو التي كانت ثالث أكبر شركة لصناعة الأدوية في سويسرا قبل أن تستحوذ عليها شركة ميرك الألمانية، والتي تُعَدُّ قصتها غريبةً بعض الشيء.
مُنتَج حقيقي جدير بشركة متخصِّصة
في أواخر القرن التاسع عشر، أسَّس سيزار سيرونو — وهو طبيب وأستاذ جامعي — شركة «معهد سيرونو لصناعة الأدوية» في مدينة تورينو، وفي عام ١٩٠٦ نقل المكتب الرئيسي للشركة إلى روما حيث كان يَبيع علاجات ومُقويات مستخرجة من المواد الطبيعية، وفي تلك الأثناء التحق بيترو بيرتاريلي بالمؤسَّسة وعمل فيها وترقَّى حتى شغل منصب الرئيس التنفيذي، وتحت إدارته خلال الخمسينيات بدأت شركة سيرونو باستخراج هرمونات الخصوبة من بَول النساء، وابتداءً من عام ١٩٦٢ استُخدِمت هذه الهرمونات لتحفيز عملية الإباضة لدى النساء بغرض الإخصاب الطبيعي، ولاحقًا الإخصاب الاصطناعي؛ إذ إن بَول النساء يحتوي على أكبر عدد من الهرمونات بعد انقطاع الطمث؛ نظرًا لأن شيخوخة المبيضَيْن تمنع تشكيل الهرمونات فيستجيب الجسم لهذا التغيير بالإفراط في إنتاج هرمونات الخصوبة التي تخرج في البَول ولكن بكميات مُنخفِضة تستوجب القيام بعمل لوجستي كبير لتجميعها؛ أيْ ما يستلزم جمع ملايين الليترات من بَول النساء المُسنَّات كلَّ عام، وكانت أديرة الراهبات أفضل مكان لذلك؛ ومن ثَمَّ كانت الراهبات المصدرَ الرئيسي لهذه المادة الخام غير الاعتيادية. وفي السبعينيات حصل فابيو — ابن بيرتاريلي — على مِلكية الشركة في روما بعد أن تخلَّى الفاتيكان عن حصته فيها، وفي عام ١٩٧٧ نقل بيرتاريلي الابن مقرَّ الشركة الرئيسي إلى جنيف، وفي الثمانينيات وجد بديلًا لبَول الراهبات من خلال تطبيق تكنولوجيا الجينات في تصنيع هرمونات الخصوبة.
وفي عام ١٩٩٦ تولَّى إرنيستو ابن فابيو — وهو من الجيل الثالث لعائلة بيرتاريلي — منصب المدير التنفيذي للشركة ووضَعها على الطريق الصحيح لتحقيق المزيد من النمو إلى أن بِيعَت لشركة ميرك في عام ٢٠٠٧، وهذه صفقة جعلت من إرنيستو بيرتاريلي أحدَ أغنى أغنياء العالم.
بقيَ المقر الرئيسي لقسم صناعة الأدوية التابع للمجموعة، الذي سُمِّي ميرك-سيرونو في جنيف؛ حيث أصبح نواةَ مجموعةِ شركات أدوية متخصِّصة بالبحوث تقوم مقرَّاتها على ضفاف بحيرة جنيف، كما أنها تستفيد أيضًا من قُرْبها من المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في مدينة لوزان. وتُعَدُّ شركة ميرك-سيرونو مثالًا جيدًا لشركة دولية (في هذه الحالة ذات جذور ألمانية وإيطالية) تستفيد من مزايا تفوُّق سويسرا بصفتها بلدًا يزدهر فيه قطاعُ الصيدلة بما في ذلك من حمايةٍ لبراءات الاختراع، وجوٍّ يُشجِّع على الابتكار، وبرنامجِ رعايةٍ صحية متحرِّر نسبيًّا، كما تُمارَس فيه سياساتٌ تشجِّع على الالتزام بإجراء البحوث على المدى الطويل إلى جانب ضمانِ أسعارٍ جيدة للمنتَجات الطبية تُمكِّن من تغطية تكاليف بحوثها وإنتاجها. وقد أنفقَت شركة ميرك-سيرونو أكثرَ من مليار يورو سنويًّا على البحوث في مجال علم الأورام والأمراض العصبية والالتهابات التي تُضِرُّ بالجهاز المناعي.
قطاع المستحضرات الدوائية لا يزال ميدانًا للعمالقة
احتاج قطاع صناعة الأدوية والمواد الكيماوية إلى قرنَيْن من الزمن لكي ينمو من نشاطٍ ثانوي متفرِّع عن صناعة الغزل والنسيج، إلى مجموعة من الشركات التي وضعَتِ المعاييرَ القياسية لواحدةٍ من أهم الصناعات في العالم، وفي عام ٢٠٠٩ كانت الشركات السويسرية العشر الأولى في قطاع الكيمياء والصيدلة تُشغِّل أكثر من ٣١٠ آلاف شخص في جميع أنحاء العالم، وتُصدِّر منتَجاتٍ بلغت قيمتها ١٥٠ مليار فرنك سويسري، كما يقوم مقر اثنتين من أصل أكبر خمس شركات عالَمية، وهما نوفارتِس وروش في سويسرا، أمَّا الشركات الثلاث الأخرى فهي شركة فايزر في الولايات المتحدة، وسانوفي أفنتيس في فرنسا، وجلاكسو سميثكلاين في المملكة المتحدة، وبحسب دراسةٍ قامت بها مؤسسة جيه بي مورجان، فإن ثلاثة من الأدوية التسعة التي كان من المُحتمَل أن تكون الأكثر نجاحًا بحلول عام ٢٠١٤ هي من إنتاج شركة روش، وواحد منها من شركة نوفارتِس، وعلاوة على ذلك فإن شركتَيْ نوفارتِس وروش تتصدَّران قائمة الشركات التي حقَّقت أعلى نِسَبِ مبيعاتٍ للأدوية التي طُرِحت في الأسواق منذ عام ٢٠٠٥، ويأتي ذلك في وقتٍ أصبحت فيه عمليةُ البحث والتطوير في مجال الأدوية أعلى تكلفةً وأكثر تعقيدًا، كما أنها تخضع لإجراءاتِ تنظيمٍ أكثر صرامة؛ ونظرًا لذلك يُمكِن الاستنتاج أن شركتَيْ روش ونوفارتِس قادرتان على تحويل الاكتشافات الجديدة إلى منتَجاتٍ قابلة للتسويق في وقتٍ وجيز مقارَنةً بغيرهما من الشركات.
ولعلَّ واحدة من مزايا تفوُّق سويسرا في هذه الصناعة تكمن في التقارب القائم بين الشركات الناشئة والشركات الكبيرة المتعدِّدة الجنسيات والجامعات الرائدة، إضافةً إلى مجموعة من مؤسَّسات البحوث الطبية في علم الأحياء التي تخلق مناخًا مناسبًا وتقدِّم إمكاناتٍ كبيرةً لتأسيس المزيد من الشركات، غير أن عملاقَيْ هذه الصناعة — أيْ نوفارتِس وروش — يبقيان القوةَ الدافعة لهذا القطاع ويحتفظان بزمام قيادته.
الصناعة تجتاح العالَم
تُشغِّل شركة نوفارتِس — التي بالمناسبة تسيطر تقريبًا على ثلث رأس مال شركة روش — حوالي ١٢٤ ألف شخص في ١٤٠ بلدًا، كما أن مبيعاتها بلغت ٥٩ مليار فرنك سويسري في عام ٢٠١١. ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين كانت الشركة تعمل باستمرار بصفتها صلةَ وصلٍ بين المجال العلمي والاحتياجات الطبية الأكثر إلحاحًا في أجزاء مختلفة من العالم، كما أن الشركة قد انتقلت قبل غيرها إلى إنتاج الأدوية غير المحدودة الملكية، وبفضل استحواذها على شركة مختبَرات هيكسال وإيون في عام ٢٠٠٥، فإن قسم صناعة الأدوية المكافئة التابع لنوفارتِس — الذي بات يحمل اسم الشركة السابق «ساندوز» — يحتلُّ المركز الثاني في سوق صناعة الأدوية المكافئة بعد مجموعة تيفا الإسرائيلية. وبالاستحواذ على شركة ألكون (أكبر منتج في العالم في مجال طب العيون) الذي أُعلِنَ عنه في عام ٢٠١٠، واصلت شركة نوفارتِس اتِّباع استراتيجيتها القائمة على التنويع في المنتجات، ولكل فرنك من دخل المبيعات تُوظِّف الشركة ١٧ سنتيمًا في مجال البحث والتطوير الذي نُظِّم ليعمل بشكلِ شبكةٍ عالَمية. وفي عام ٢٠٠٢ نقلت شركة نوفارتِس مقرَّ أبحاثها إلى كامبردج في ولاية ماساتشوسيتس، ومنذ عام ٢٠٠٩ باشرت المجموعة في شانغهاي بناء أكبر مركز للبحث والتطوير في مجال الأدوية في الصين، كما أنشأت الشركة مؤسسة نوفارتِس للأمراض الاستوائية في سنغافورة مع التركيز على أبحاث مرض حمى الضنك ومرض السل المقاوِم للأدوية.
أمَّا شركة روش التي تُشغِّل ٨٠ ألف موظف، وتبلغ مبيعاتها ٥٠ مليار فرنك سويسري، فإنها تحقِّق معدَّلات نمو فوق المتوسطة خاصةً في قطاع صناعة الأدوية، ويعود ذلك بالخصوص إلى أدوية معالجة مرض السرطان، مثل دواء أفاستين ولقاح تاميفلو المضاد للأنفلونزا الذي كان مطلوبًا عالميًّا في عام ٢٠٠٩ إثرَ المخاوف من احتمال انتشار مرض أنفلونزا الخنازير.
مساران كلاهما صائب
ازدهرت صناعة الأدوية السويسرية على مدى فترةٍ طويلةٍ من الزمن في مواجَهة المنافسة العالَمية. ولقد تمكَّنت شركتا روش ونوفارتِس من التعامل والتأقلُم مع الظروف المتغيِّرة في هذا القطاع أفضل من سواها من الشركات، وبالرغم من اتِّباع كلٍّ منهما مسارًا مختلفًا تمامًا عن مسار الأخرى، فإن كلتيهما كانتا على صواب؛ فشركة روش ركَّزت نشاطها على التطوير والابتكار، وأصبحت بالفعل أكبر شركة للتكنولوجيا الحيوية في العالم، كما أنها تحاول الجمع بين أساليب التشخيص والعلاج لتحسين الأداء في مجال الخدمات الطبية، أمَّا شركة نوفارتِس فقد اتَّبعَتِ استراتيجيةً أكثر تنويعًا تشابه إلى حدٍّ ما استراتيجيةَ شركة جونسون وجونسون، وتشمل مجموعةً متنوِّعة من مجالات النشاط مثل صناعة الأدوية المكافئة ومعالجة العيون، وكلتا هاتين الاستراتيجيتين كانتا مربحتين.
غير أن مجموعة جديدة من التحديات بدأت ترى النور الآن، بعضها تسبَّبت فيه الشركتان إلى حدٍّ ما، فقد ارتفع معدَّل عمر الإنسان المتوقَّع إلى الضِّعْفَين مُقارَنةً بما كان عليه الحال منذ جيلين أو ثلاثة أجيال، ويعود ذلك بحدٍّ كبير إلى التقدم الاستثنائي الذي حقَّقه الطب. وبالرغم من استمرار الجدل حول موضوع فترة الحياة المتوقَّعة للإنسان، فمن المُفترَض عمومًا أن هذه التطورات الطبية لا يمكنها إطالة فترة حياة الإنسان، بل هي تعمل فقط على تمكين المزيد من الأشخاص من البقاء على قيد الحياة، وهذا ما يُشكِّل بحدِّ ذاته تحديات كبيرة، فهل يرغب الإنسان فعلًا في العيش حتى عمر ٩٥ سنة؟ ومَن سيدفع النفقات والتكاليف التي تَنجم عن ذلك؟ وبالرغم من ذلك فهناك الآن بعض الأدلة على أن معدَّل العمر المتوقَّع في تزايُد.
النفاذ إلى ما بعد الحدود
إنَّ نطاق الابتكار — مثله مثل عُمْر الإنسان — ليس لا نهائيًّا ولا هو غير محدود، فنموُّ مبيعات الأدوية يشهد تضاؤلًا مستمرًّا، وعلى سبيل المقارنة، من المُتوقَّع أن ينخفض النمو بنسبة ٥ في المائة سنويًّا؛ أيْ أقل من نصف معدَّل النمو المُسجَّل خلال التسعينيات، وأقل من ربع المعدَّل السنوي المتوسِّط منذ الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك يبقى اكتشاف دواء جديد مؤهَّل لأن يحوز على رَواجٍ كبير هو الإنجاز الوحيد الأكثر أهميةً بالنسبة إلى العلماء والشركات التي يعملون لديها على حدٍّ سواء. غير أن التوصُّل إلى مثل هذا الإنجاز أصبح أكثر تكلفةً وأشد صعوبة؛ فعدد الأدوية التي تُصادِق عليها إدارةُ الغذاء والدواء في الولايات المتحدة يشهد انخفاضًا متسارعًا بشكل مستمر، كما أن متوسِّط تكلفة عملية المصادقة على دواء ناجح باتَتْ تعادل ١٫٣ مليار دولار أمريكي، والمدة الفاصلة بين تاريخ اكتشاف الدواء وتاريخ السماح ببداية تقليده قد تراجعت من سنوات إلى أشهر، وليس من المُستغرَب أن ينجح أقلُّ من دواء واحد فقط من أصل عشرة أدوية في تغطية مصاريف تطويره، وإضافةً إلى ذلك، فإن تكاليف الإعلان عن الأدوية — حيثما يكون مسموحًا به — قد تفاقمت بشكل كبير؛ ففي الولايات المتحدة تفوَّقت شركة فايزر على شركة بروكتر آند جامبل كالشركة الأكثر إنفاقًا على إعلاناتها التلفزيونية التي وصلت تكلفتها ١٫١ تريليون دولار أمريكي في عام ٢٠٠٩، كما أن إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة تُضيِّق الخناق على عمليات التمديد غير الشرعي لبراءات الاختراع، وفي الوقت نفسه تحاوِل ثَنْي الشركات عن تقليد أدوية منافسيها (المنتجات المُقلَّدة)؛ بهدف الحد من القدرة على تحقيق الأرباح التي يُمكن أن تنجم عن تفوُّق فريق المبيعات في شركةٍ ما على سواه. لقد مدح دافيد كيسلر، الذي كان في السابق على رأس إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة، شركتَيْ نوفارتِس وروش بقوله: «إن شركات صناعة الأدوية السويسرية تَعتمِد الجدية في تعامُلها مع مجالَي العلم والابتكار، كما أنها قد حرصت دومًا على طلب المصادقة على أدويةٍ تضمن تحقيقَ فوائدَ علاجيةٍ جوهرية، ونبذت أساليبَ الغش والتحايل.»
أمراض التقدم في السن
يسود حاليًّا جَدَل متزايد حول ما يشكِّل «الفوائد»، فكلَّما تقدَّم الإنسان في السن أصبح أكثر عرضةً لمجموعة من الأمراض التي قد لا تُهدِّد حياته مباشَرةً، ولكنها تساهم في جعلها أكثر تعاسةً بشكل مُتزايد، وأغلبية الأبحاث الجارية حاليًّا تهدف إلى التخفيف من أعراض الأمراض المرتبطة بتقدُّم السن؛ مثل: التهاب المفاصل، والسِّمنة المفرطة، والاكتئاب، والخَرَف، وتضاؤل القدرة الجنسية.
١٩٥٠ | ١٩٧٠ | ١٩٨٠ | ٢٠٠٠ | ٢٠١١ | |
---|---|---|---|---|---|
روش (١٨٩٦) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | ٢٨١ | ٣٨٣٣ | ٩٦٧٠ | ٢٨٦٧٢ | ٤٢٥٣١ |
عدد العمال الإجمالي | ٤٤٥٠ | ٣٠٢٥٠ | ٥٢٦٩٠ | ٦٤٧٦٠ | ٨٠١٢٩ |
عدد العمال في سويسرا | ١٣٨٠ | ٥٦٥٠ | ١٠٨٨٠ | ٨٦٦٠ | ٩٨٨٠ |
نوفارتِس (١٩٩٦) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | ١٣٦٢٨ | ٩٧٠١ | ٣٢٠٧٠ | ٣٥٨٠٥ | ٥١٨٢٨ |
عدد العمال الإجمالي | – | ٩٨٨٥٠ | ١٤٦٧٨٠ | ٦٧٦٥٠ | ١٢٣٦٨٦ |
عدد العمال في سويسرا | ١٥٠١٠ | ٢٦٥٨٠ | ٢٨٨٨٠ | ٨١٠٠ | ١٢٠٠٠ |
سينجينتا (٢٠٠٠) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | – | – | ٦٨٤٦ | ١٣٢٦٨ |
عدد العمال الإجمالي | – | – | – | ٢٣٠٠٠ | ٢٦٣٣٣ |
عدد العمال في سويسرا | – | – | – | ٢٦٣٠ | ٢٨٨٠ |
كلاريانت (١٩٩٥) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | – | – | ١٠٥٨٣ | ٧٣٧٠ |
عدد العمال الإجمالي | – | – | – | ٣١٥٥٠ | ٢٢١٤٩ |
عدد العمال في سويسرا | – | – | – | ١٤٦٠ | ١٤٢٠ |
لونزا (١٨٩٧) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | ١٦ | ٢٥٢ | ١٢١٢ | ١٧٠٣ | ٢٦٩٢ |
عدد العمال الإجمالي | – | ٣١٦٠ | ٤٣٧٠ | ٥٩٩٠ | ٩٦٤١ |
عدد العمال في سويسرا | – | – | – | – | ٣٠٩٠ |
فيرمينيش (١٨٩٥) | |||||
العائدات بالمليون فرنك سويسري | – | – | ٨٩٥ | ١٨٠١ | ٢٦٦١ |
عدد العمال الإجمالي | – | – | – | ٤١٤٠ | ٥٨١٠ |
عدد العمال في سويسرا | – | – | – | ١٢٧٠ | ١٧١٠ |
من المعروف أن العلم يَرتكِز على القدرة على التنبؤ، غير أن المُفارَقة هي وجود شرخٍ شاسع بين الاستثمار الصائب في البحوث العلمية الموجَّهة بشكلٍ جيد وبين القدرة على التنبؤ بالنتائج المادية النهائية التي يُمكِن أن تُحقِّقها، وبالعودة إلى جميع الأدلة التي تراكمَتْ على مدى فترة طويلة من الزمن، يُمكن تشبيه البحوث الصيدلية بلعبة اليانصيب؛ حيث يخسر مُعظم المستثمرين القسمَ الأكبر من المال في معظم الأوقات.
قبل ١٨٠٠ | |
١٧٥٨ | يوهان رودلف جايجي يفتح متجرًا لبيع الأدوية في بازل. |
١٧٧٨ | تأسيس أول مصنع للمواد الكيماوية في سويسرا؛ كلايس وزيجلر في فينترتور. |
١٨٠٠–١٨٩٩ | |
١٨٥٩ | أليكسندر كلافال يَشْرَع في تصنيع أصباغ تحتوي على القطران في بازل تحت اسم «صناعات بازل الكيماوية»، التي أصبحت لاحِقًا شركة سيبا. |
١٨٨٦ | تأسيس شركة كيرن وساندوز التي أصبحت لاحقًا شركة ساندوز. |
١٨٩٥ | ليون جيفودان يؤسس شركة جيفودان للعطور في فيرنييه، فيليب شويت يؤسس شركة فيرمينيش في جنيف. |
١٨٩٦ | تأسيس شركة «إف هوفمان-لاروش وشركاؤه» في بازل. |
١٩٠٠–١٩٩٩ | |
١٩١٨ | شركة سيبا وجايجي وساندوز تكوِّن مجموعة بازلر إي جي. |
١٩٣٣ | شركة ساندوز وسيبا وروش وفاندر تُكوِّن اتحادًا صناعيًّا هو إنترفارما. |
١٩٣٦ | تأسيس شركة هولتزفيرزوكرونجز التي تنتج الكحول من النفايات الخشبية المحلية في دوما على ضفاف نهر الإيمس، والتي أصبحت لاحِقًا شركة إيمس للمواد الكيماوية. |
١٩٤٠ | شركة روش تنقل مقرها الرسمي إلى ناتلي في نيو جيرسي. |
١٩٦٠ | دواء ليبريوم (وفاليوم في عام ١٩٦٣) يُعطي دفعة قوية لنمو شركة روش. |
١٩٦٧ | شركة ساندوز تَستحوذ على شركة فاندر في بيرن. |
١٩٧٠ | اندماج شركتَيْ سيبا وجايجي لتكوين شركة سيبا جايجي. |
١٩٧٦ | تسرُّب عَرَضي لمادة الديوكسين السامة من مصنع تابع لشركة روش في سيفيزو قُرْب ميلانو. |
١٩٧٧ | شركة آريس سيرونو تنقل مَقرَّها إلى جنيف لتُصبح ثالث شركة في ترتيب شركات صنع الأدوية في سويسرا قبل بيعها إلى شركة ميرك في عام ٢٠٠٧. |
١٩٨٦ | حريق هائل في مصنع شركة ساندوز في شفايتسرهاليه. |
١٩٩٠ | شركة روش تستحوذ على ٦٠ في المائة من شركة جيننتيك في سان فرانسيسكو، وتستحوذ على بقية الشركة في عام ٢٠٠٩. |
١٩٩٥ | شركة ساندوز تُؤسِّس شركة جديدة هي شركة كلاريان، وتُحوِّل إليها عمليات إنتاج المواد الكيميائية الصناعية على نطاق واسع، وتطرحها في سوق الأسهم. |
١٩٩٦ | عملية اندماج شركة سيبا جايجي مع شركة ساندوز لتكوين شركة نوفارتِس. |
١٩٩٧ | جون بول ومارتين كلوزال يؤسسان شركة أكتليون. |
منذ ٢٠٠٠ | |
٢٠٠٠ | عملية دَمْج قسمَي الكيماويات الزراعية في شركتَيْ نوفارتِس وأسترازينيكا لتكوين شركة سينجينتا. |
٢٠٠٢ | نوفارتِس تعلن عن مشروع بناء جامعتها. |
وحتى النجاحات يمكن أن تكون مصحوبةً بالنحس وسوء الطالع، فحسب شركة روش بلغت تكاليف تطوير دواء أفيستين لمعالجة مرض السرطان ٢٫٥ مليار دولار أمريكي، ولكنه يُحقِّق عائدات تناهز ٩ مليارات دولار أمريكي سنويًّا، وإذا كان علاج مرض السرطان يكلف المريض ١٠٠ ألف دولار أمريكي أو أكثر سنويًّا، ولا يُطيل عمره إلا ٦ أشهر، فإن الأسئلة المطروحة لا تتعلَّق فقط بنجاعة الدواء بل أيضًا بسعره؛ ومن ثَمَّ فإن مجموعة كبيرة من المهتمِّين بهذا الشأن تواجِه معضلة أخلاقية تتمثل باضطرار المرضى الميئوس من شفائهم إلى اللجوء إلى الاستدانة لشراء القليل من الأمل في شكل دواء يُمكن أن يُطيل عمرهم.
عالم من الاحتياجات التي لم تُلبَّ بعدُ
يرى دانيل فاسيلا — من شركة نوفارتِس — أن قطاع الرعاية الصحية يجب أن يتجزأ ليصبح قادرًا على مواجهة الديناميات الجديدة المتغيِّرة، فمن جهةٍ تحتاج الشركات إلى أن تكون قادرةً على تصنيع منتجات بحجم كبير وبهامش ربحٍ مُنخفِض مُعتمِدةً على تكنولوجيات مستعارة أو قديمة، ومن جهةٍ أخرى تحتاج عمليات الابتكار إلى التركيز على اكتشاف أدوية ناجعة تُشكِّل طفرة فعلية، كما يجب تخفيض تكلفة اكتشافها لمواجهة الواقع الجديد المرتهن بمحدودية القدرة على دفع التكاليف. أمَّا سيفيرين شفان من شركة روش فيُواصِل الاعتقاد بأن الشركات تحتاج إلى اتِّباع نموذج بحوث معيَّن يركِّز على مجالات لا تزال مجهولة — مثل علم الأورام وعلم الأعصاب — بالاقتران مع وضع استراتيجية للجمع بين عمليات التشخيص وأساليب العلاج في المناطق التي تَفتقِر إلى ذلك؛ ومن ثَمَّ خلْق نوعٍ من القدرة التنافسية.
لقد حقَّقت شركتا نوفارتِس وروش حتى الآن نجاحًا كبيرًا مُقارَنةً بالشركات المماثِلة لها، غير أن التقلُّبات في السوق واردة دون شك، ولن يبقى أحد بمنأًى عن مفاعيلها، وبانتظار تكامل هذا المشهد يبقى أن يعرف المهتمُّون ما إذا كانت هذه الشركات سوف تُكافَأ أو تُعاقَب في مواجَهة الواقع المستجد الذي تفرضه تقلُّبات السوق.