مسرحية الاستعمار
تمثيلية ذات أربعة فصول
تعريب: الأستاذ عباس حافظ
الفصل الأول
(الساعة التاسعة والنصف مساءَ يومٍ من أيام شهر يوليو — ١٥ — وفي قاعة من قاعات
الطعام مضاءة بالشموع مغطَّاة الجدران بالورق الأزرق السماوي، وهو كذلك لون البساط
المفروش والأستار المسدلة. والنوافذ الفرنسية الرحيبة القائمة بين عامودين تفتح على
… تراس واسعة تلوح من ورائها أشباحُ الشجر في الظلامِ وهياكلُ المنازل البعيدة البادية
الأنوار.
وفي أحد الجوانب مدخلٌ مزيَّنٌ بالأستار، وقد رُفِعت عنه قليلًا، وفي الناحية
المقابلة لهذا المدخل باب يؤدِّي إلى الصالة، وعلى مائدة مستديرة صُفَّتْ فوقَها الأواني
الفضية والأزهار والفواكه وقداح الشراب، جلس ستة أشخاص عقب الفراغ من تناول العشاء؛
أما استيفن مور فقد جلس معطيًا ظهره ناحيةَ المدخل المرفوع السِّتْر، وهو رب الدار، رجل
في الأربعين، حسن الملامح، ذو ابتسامة ساحرة، وفي عينَيْه تبدو أماراتُ الرجل
«الأيدياليست» الخيالي الباحث عن الكمال؛ وعن يمينه جلس السير جون جوليان ضابط
قديم، نحيل معارف الوجه، قد وخَطَ الشيبُ رأسَه وشاربَه؛ وعن يمين هذا الشيخ جلس أخوه
قسيس
أستور، وهو من رعاة الكنائس، مديد القامة، أسمر الملامح، يلوح عليه التشدُّد والغيرة
المتناهية على الدين؛ وعن يمين القسيس جلسَتْ كاترين مُقبِلة على المائدة، مرتفعة بها
ملقية ذقنها في يدَيْها، محملقة البصر في وجه زوجها استيفن مور … وعن يمينها جلس إدوار
مونديب، رجل شاحب اللون في الخامسة والأربعين، شديد الصلع، بديع الجبين، وعلى شفتَيْه
ابتسامةٌ تنفرج أبدًا عن أسنانه؛ وبينه وبين استيفن مور جلسَتْ هيلين جوليان، وهي
امرأة في ريعان الشباب، حسناء سوداء الشعر، منشغلة عن المجلس بأفكارها، ساهمة سابحة
في التفكير، والكل يتحادثون في مناقشةٍ حادَّةٍ عند ارتفاع الستار.)
القسيس
:
أنا مخالفك يا عزيزي استيفن في هذا الرأي على خط مستقيم، مخالفك كلَّ
المخالفة، ولا يمكن مطلقًا أن أُقِرَّكَ عليه.
مور
:
هذا هو رأيي الذي لا أحيد عنه.
منديب
:
تذكَّرْ يا استيفن أنَّ حربًا كهذه وقعَتْ من قبلُ، فهل أفادَتْ يومئذٍ أراؤكَ
الخيالية، وتصوراتك المشبعة بروح الشهامة والمروءة؛ لقد تغامَزَ القوم عليك
وأنت يومئذٍ نائب حدث لم يشتهر، فما بالك وأنت اليوم وكيل وزارة! إنك لا
تستطيع أن …
مور
(مقاطعًا)
:
أجاري وحي ضميري! إذا كان هذا ما تعنيه يا منديب، فهو كلام غريب منك لا
أقبله.
منديب
:
إن المبادئ العالية يا صديقي قد تكون أحيانًا في غير محلها …
القسيس
:
إن الحكومة هنا أمام شعب همجي لا يعرف شرعًا ولا يحترم أيَّ قانون؛ شعب من
العبث في اعتقادي أن تعامِلَه بالعطف والإحسان.
مور
:
لقد خلقه الله مثلنا يا سيدي القسيس.
منديب
:
إني أشك في ذلك.
القسيس
:
لقد ظهر أناسٌ لا عهدَ لهم ولا ملةَ ولا دينَ؛ فمن حقنا أن نعاقبهم.
مور
:
أفإذا ضربتُ أنا شخصًا ضعيفًا ورفع يده فضربني، أفيحق لي بعد هذا أن
أعاقبه؟
السير جون
:
ولكنَّا لم نكن نحن البادئين بالعدوان …
مور
:
كيف ذلك يا سيدي؟ أَلَمْ نبعث إليهم نحن بالتجار والمبشِّرين؟
القسيس
:
نحن إنما ذهبنا لتمدُّنهم … فمن العجيب تبرير القتل وسفك الدم منهم نظير
ذلك … وهل نسيت يا مستر مور قتل جليف ومور لينصن؟
السير جون
:
نعم … وذلك المسكين جوم وزوجته.
مور
:
لقد ذهب أولئك إلى بلاد غريبة متطوعين مغامرين، ضد شعور أهلها … فما ذنب
الشعب نفسه فيما يقع للمغامرين والمجازفين!
السير جون
:
لا يمكن أن نقف وقفة المتفرج، بينما دماء أهلنا تُسفَك، وأرواحهم تُخطَف من
بين جنوبهم … هؤلاء دمنا ولحمنا.
القسيس
:
أريد أن أسألك سؤالًا واحدًا يا استيفن؛ هل حكمنا نعمة على هذه الشعوب أم
نقمة؟
مور
:
قد يكون نعمة في بعض الأحيان، ولكن لا أعتقد مطلقًا أن حكمنا يمكن أن
يفيد شعبًا كهذا؛ شعبًا يختلف عنَّا في كل شيءٍ كاختلاف الليل والنهار،
والظلمات والنور، في اللون والدين والآداب والتقاليد … إننا بحكمنا هذه
الأمم نفسد طبائعَها وفطرتَها السليمةَ.
القسيس
:
هذا كلام لا أفهمه!
منديب
:
بل هذه فلسفة لا طائلَ تحتها، ولو اتُّبِعَتْ لَكانت شرًّا على الإنسانية
ووبالًا؛ ليس في هذا العالم كواكب ثابتة في أماكنها، بل كل شيء في العالم
يتحرك، ولا يمكن للشعوب أن يترك بعضها بعضًا.
مور
:
بل يمكن أن ندع الشعوب الكبيرة للشعوب الصغيرة بسلامٍ، لا نمسها
بسوء.
منديب
:
لو صحَّ ما تقول لما كانت هناك شعوب كبيرة على الإطلاق؛ نحن نعرف يا عزيزي
استيفن غرامك القديم بنصرة الشعوب الضعيفة، ولكن كان يجب أن يزيل المنصب
الذي أنت فيه الآن ذلك الغرامَ من فؤادك.
السير جون
:
أنا خدمت بلادي خمسين سنة للآن، وأعتقد أنها غير مخطئة.
مور
:
وأنا أرجو الله أن يهيِّئَ لي أن أخدمها مثل هذه المدة، ولكني أعتقد أنها
مخطئة.
منديب
:
ليس كلُّ ما يُعرَف يُقال يا عزيزي مور.
مور
:
ولكني قائِلَهُ الليلةَ بلا أدنى تردُّدٍ.
منديب
:
أفي مجلس النواب؟
مور
(يهزُّ رأسَه بالإيجاب)
:
نعم.
كاترين
:
رباه … ولكن … يا عزيزي استيفن …
منديب
:
لا ينبغي أن تدعيه يفعل يا مسز مزر، فإن هذا لَهو الجنون المطبق.
مور
(ينهض من مجلسه)
:
يمكنك أن تقول هذا للناس … واجعله موضوعَ الافتتاحية في جريدتك غدًا إذا
شئتَ.
منديب
:
نعم جنون وأي جون! … لا يحق لرجل في مركزك أن يصرح هذا التصريح في الساعة
الخطيرة.
مور
:
هذا شعوري الذي لا أخفيه … أنا ضد هذه الحرب … ضد الاستعمارِ الذي ستنتهي
به … والضمِّ إلى أملاك التاج الذي ستؤدِّي آجلًا إليه.
منديب
:
يا صديقي العزيز لا تكن خياليًّا متهوِّرًا إلى هذا الحد … ستقع الحرب حتمًا
في أربع وعشرين ساعة، وحينئذٍ لن تستطيع أنت ولا عشرة من أمثالك أن تُوقِفوا
رحاها الدائرة.
هيلين
(منزعجة)
:
يا الله! … أتقول في أربعٍ وعشرين ساعةً يا مستر منديب؟
منديب
:
هذه هي الحقيقة يا مسز هيوبرت.
السير جون
:
هذا الأمر لا شكَّ فيه يا هيلين.
منديب
(مخاطبًا مور)
:
أحقًّا تنوي الوقوفَ في وجه التيار الجارف؟
مور
(يهزُّ رأسَه بالإيجاب)
:
نعم.
منديب
:
عال جدًّا.
مور
:
لستُ أقصد بذلك الإعلانَ عن نفسي.
منديب
:
ولكنك ستظفر به على كلِّ حالٍ.
مور
:
يجب أن يجاهِرَ المرءُ بالحقيقة، ولو أدَّى الأمرُ أحيانًا إلى هذه
النتيجة.
السير جون
:
ولكن ليست هذه حقيقة.
منديب
:
كلما كانت الحقيقة هائلةً، كان الثأرُ من المجاهِر بها هائلًا بالقذف
والتشهير.
القسيس
(يحاول إقناع مور بالحسنى)
:
أصغِ إليَّ يا عزيزي استيفن، لنفرِضْ أنك على حقٍّ فيما تقول من حيث الدواعي
والأسباب، وإن كنتُ مخالفًا لك في ذلك، فلا تزال هناك نقطة جديرة بالاعتبار؛
ذلك أن ضمير الفرد يجب أن يتلاشى أمام شعور المجموع، وقد أجمعَتِ الأمة كلها
على الحرب واعتبرتها شرفًا لها.
السير جون
:
أحسنتَ يا عزيزي جيمس، وأصبتَ بما قلتَ كلَّ الحقيقة.
مور
:
إن الأمم يا سيدي تصبح أجهلَ ما تكون بما يشرفها وما لا يشرفها.
القسيس
:
لا أوافقك على هذا الرأي.
مور
:
طبعًا؛ لأنها كلمة قاسية، والحق أبدًا قاسٍ لا يلين.
كاترين
(مخاطبة عمها القسيس، مانعته من الكلام)
:
يكفي يا عماه … يكفي (مور ينظر إليها كأنه
متألِّم).
السير جون
:
إذن أنت ناوٍ أن تضع نفسك على رأس المتهوسين في هذه البلاد، فتحطم بذلك
مستقبلك، وتجلب العارَ على أسرتك، وتخجلني أمام الناس. إنك زوج
ابنتي!
مور
:
أَلَا يجوز للرجل منَّا أن يتمسَّكَ باعتقاده إذا خالَفَ فيه شعورَ الناس واعتقادَهم
… وأنت يا سير جون، أَلَمْ تتعرَّض أحيانًا للوقوف في هذا الموقف؟
السير جون
:
كلا … لم أقف في حياتي موقفًا كهذا ضد بلادي وأمتي ووطني … أَلَا فاذكر يا
مور أن الخطبة التي تنوي إلقاءَها الليلةَ في المجلس ستُنشَر في جميع جرائد
الدول الأخرى، وسيجدون فيها فرصةً علينا والتعريض بنا …
مور
(مقاطعًا)
:
إذن أنت تسلِّم بأن في ذلك تعريضًا؟
السير جون
(يتقهقر)
:
كلا يا سيدي، لا أسلِّم بذلك.
القسيس
:
لقد تفاقمَتِ الحالة في تلك البلاد المتوحشة … وأصبح من واجبنا أن نضع حدًّا
لها بلا تردُّدٍ … ألسْتِ معنا في هذا الرأي يا عزيزتي كاترين؟
مور
:
الوطن وطني على كل حال، وأنا لا أفعل إلا ما أراه في مصلحته.
منديب
:
ونحن باسم هذه الوطنية نناشدك ألَّا تخطُبَ الليلة.
مور
(غاضبًا)
:
كلا كلا (تنهض كاترين وينهض كذلك
القسيس).
السير جون
:
هذا سلوك يتنافى مع الوطنية.
مور
:
أنا لن أناصِرَ الظلمَ والاستعبادَ.
كاترين
:
ما هذا الذي تقول يا عزيزي استيفن؟ إن أبي لا يناصِر الظلمَ، وليس فينا أحدٌ
يناصره (وهنا يدخل هيبوبرت جوليان ابن السير جون
وزوج هيلين، وهو شاب طويل القوام من الضباط).
هيلين
:
هيبوبرت (تنهض وتذهب إليه فيقفان عند الباب
يتحدثان).
السير جون
:
الآن نبِّئْنا يا مور ماذا تريد بهذا الذي تقول، فقد صبرنا عليك
طويلًا.
مور
:
لقد آنَ لنا نحن الدول العظمى يا سير جون أن نغيِّرَ أساليبنا تجاه الأمم
الضعيفة، وَلْيكن لنا في الكلاب أنفسها أسوةً، فهل ترى من كلبٍ كبيرٍ يؤذي كلبًا
صغيرًا؟
منديب
:
هذا قياس لا يصح على الأمم!
مور
:
ليس في العالم سبب يمنع الدول من أن تكون في الشهامة والمروءة كالكلاب
على الأقل.
منديب
:
هل تريد يا سيدي أن تكون الطريدَ الفظَّ من المجتمع، أيرضيك أن تصبح مبادئك
وأفكارك غير ناجحة.
مور
:
إن هذا المبدأ الذي أدين به لن يذهب سدًى.
منديب
:
بل هو غير ناجح ككلِّ المبادئ الجديدة … سواء منها المخطئ والمصيب. إن
الحماسة الوطنية لم تبلغ من نفوس الجماهير مبلغها اليوم، حرارة وسعيرًا
ولهبًا؛ فالحذر من غضب الجماهير يا استيفن، الحذر من غضب الجماهير.
مور
:
أتريدون مني مخالَفةً لغضب الجماهير أن أنزل عن مبدئي وأكفر بعقيدتي … ليست
النقطة المهمة يا عزيزي منديب هل أنا مصيب في رأيي أم مخطئ، وإنما المهم
هو هل يجوز لي أن أفرَّ من مبادئ إرضاءً للشعب، أم يجب أن أصرَّ عليها إرضاءً
للضمير.
القسيس
(متذمِّرًا)
:
لقد آنَ لي أن أنصرف. (لكاثرين) طاب
ليلك يا عزيزتي. آه، هيبوبرت … أستودعك الله يا بني … طريقنا واحد يا مستر
منديب، فهل تريد أن نوصلك في سيارتي.
منديب
:
شكرًا لك … طاب ليلك يا مستر مور، أرجو أن تمنعيه يا سيدتي؛ فإن ما يريد
هو الدمار والعار (يخرج القسيس ومنديب. تضع
كاترين يدها في يد هيلين وتخرجان من الحجرة، ويظل هيوبرت واقفًا عند
الباب).
السير جون
:
كنت أعرف من قبلُ تطرُّفَكَ في آرائك يا استيفن، ولكني لم أكن أتصوَّر لحظةً أن
زوج ابنتي من دعاة السلام بأي ثمنٍ كان.
مور
:
لستُ من دعاة السلام يا سير جون، ولكني أفضِّلُ فقط ألَّا أحارِبَ سوى نظيري،
ومَن يعادلني قوةً وبأسًا.
سير جون
:
أرجو الله أن يعيدك إلى صوابك قبل أن ترتكب هذه الحماقة الخطرة بإلقاء
الخطبة التي قلتَ عنها. إني ذاهب إلى وزارة الحربية، طاب ليلك يا
هيوبرت.
هيوبرت
:
طاب ليلك يا أبي (يخرج السير جون، ويظل هيوبرت
في مكانه مضطربًا متألمًا).
هيوبرت
:
لقد صدرت لنا الأوامر.
مور
:
ماذا؟ … صدرت لكم الأوامر! … ومتى تسافرون؟
هيوبرت
:
حالًا حالًا.
مور
:
واهًا لهيلين المسكينة!
هيوبرت
:
لم يمضِ عام على زواجنا … بخت سيئ! (يضع مور يده
على ذراع هيوبرت مواسيًا ويستمر هيوبرت) ولكن ما الحيلة! … يجب أن ننسى عواطفنا الشخصية أمام نداء الوطن … أصغِ إليَّ
يا استيفن … لا تُلْقِ هذه الخطبةَ، فكِّرْ في كاترين، فكِّرْ في أنَّ أبي سيكون أكثرَ
الوقت في ديوان الحربية، وأنا في ميدان القتال. لقد سافر قبلي إليه رالف
وجورج شقيقاي. فكِّرْ في ذلك كله يا استيفن، وترَوَّ في الأمر قبل الإقدام عليه؛
فإنك لا تستطيع أن تتمالك نفسك إذا تهيجتَ.
مور
:
يجب أن أخطب يا هيوبرت … يجب أن أتكلم.
هيوبرت
:
كلا، كلا … لا تخطب الليلةَ ولا تتكلم؛ فإن الحرب بادئة بعد ساعات ولا ريب.
(مور يعطيه ظهره) استيفن، استيفن،
إذا كنتَ لا تحفل بمستقبلك، فكِّر في كاترين على الأقل، لا تَسْحَقْ فؤادَها
بيدك.
مور
:
وأنتَ؟ … أمتخلٍّ أنت الآخَر عن واجبك من أجل زوجتك؟
هيوبرت
:
أنت ماضٍ في طريق خطرة، وليس الأمر هيِّنًا كما تظن؛ فإننا ذاهبون إلى
الحرب، ومَن يدري … فقد تصاب هناك بهزائم ساحقة؛ فهلَّا تروَّيْتَ! … هلَّا انتظرتَ
حتى ترى ماذا يكون شعورُ الأمة هنا بعد موقعة أو موقعتين في تلك القفار
النائية! … إن تلك البلاد موحشة، وقد انتهى إلينا أن أهلها مسلَّحون بأحدث
طراز من الأسلحة، وأنهم يُحسِنون الكرَّ والفرَّ … أي ستيفن … هلَّا عدلتَ عن رأيك …
هلَّا انتهيت عن عزمك!
مور
:
يجب على المرء أن يضحِّي بشيء في بعض الأحيان، حتى ولو كان في مثل مركزي
(وهنا تدخل كاترين).
هيوبرت
:
ولكن ليس في خطتك من أمل … ولا نجاح مطلقًا لفكرتك (يتولى مور قابلة النافذة، ويتجه هيوبرت نحو أخته
مُشِيرًا بحركةٍ صوبَ مور كأنما يريد أن يترك الأمرَ لها معه، ثم
ينصرف).
كاترين
:
ستيفن، ستيفن، أحقًّا عزمتَ على إلقاء الخطبة الليلة؟
مور
:
نعم … بلا شك.
كاترين
:
ولكني أطلب إليك ألَّا تفعل.
مور
:
أنت تعرفين شعوري.
كاترين
:
ولكن الوطن فوق كل شيء يا عزيزي مور، ولا ينبغي أن تخرج عليه، وأنت لن
تستطيع أن توقف رحى الحرب، ولن ينالك من هذا كله إلا بُغْض الناس
ومقتهم.
مور
:
يجب أن يكون هناك رجل شجاع الرأي، يرفع الصوت ويجهر بالحق … ولستُ أشكُّ أن
هزيمتين أو ثلاثًا لا بد واقعة، ويومئذٍ يجنُّ جنون البلاد، وتنتابها حمَّى هائلة
… فلا تكون النتيجة إلا أن شعبًا صغيرًا يتعرَّض، وأمة فتية تُحرَم حقَّ الحياة،
ويعالجها الفناء.
كاترين
:
إذا كنتَ مؤمنًا ببلادك، فقد وجب عليك أن تعتقد أنَّ من مصلحة الإنسانية
نفسها أن يتَّسِع لها السلطانُ، وتكثر أملاكها، وتنمو استعمارًا
ونفوذًا.
مور
:
هل هذا هو مبلغ إيمانك بها؟
كاترين
:
نعم.
مور
:
إني أحترم هذا الإيمان، ولكني لا أدين به.
كاترين
:
ولكن خطبتك ستروج دعوةً يستغلها المتهوسون وأعداء البلاد، وسيجعلونك عليهم
زعيمًا. (يضحك مور ساخِرًا) … نعم،
سيفعلون، سيفعلون بلا شك، وستفقد يومئذٍ مستقبلك. نعم، لن يُتاح لك على مرِّ
الأيام أن تكون وزيرًا، بل ربما اضطررتَ إلى التخلِّي عن مقعدك في
المجلس.
مور
:
كلاب تنبح، ثم لا تلبث من العياء أن تسكت …
كارتين
:
كلا، كلا، أنا أعرفك يا عزيزي، فأنت إذا أخذتَ في شيء مضيتَ فيه إلى
النهاية، ولكن ما نفع ذلك وما فائدته؟
مور
:
إني أخشى حكْمَ التاريخِ … أخشى أن يقول غدًا … إن بلادي قد اقترفَتْ هذا
الجرم، فلم يرتفع من زعمائها صوتُ اعتراضٍ واحتجاجٍ.
كاترين
:
ولكنْ هناك كثيرون سينتصرون لهذه الفكرة ويمجِّدون هذا العملَ.
مور
:
شعراء خيَّاليون … لا أكثر ولا أقل.
كاترين
(تغيِّر موقفها وتحاول التأثيرَ عليه من طريق آخَر)
:
زوجي العزيز … أَلَا تتذكَّر أولَ عهدنا بالزواج، وكيف ذهبنا نتوغَّل في الطبيعة
ونصعد إلى الروابي الناضرة! … هل تذكر تهالكنا على العشب الأخضر … وقد دفنتَ
وجهك خلاله … ورحت تقول … ما أشبه ذلك بتقبيل امرأة محبوبة! … وذلك العشب من
أرض هذا الوطن! … فهلَّا تحب الوطن العزيز والأرض الغالية.
مور
:
أحبها … وهل لديك في ذلك شكٌّ؟
كاترين
:
إذا كنتَ تحبها، فلماذا لا تجيب سؤالي؟
مور
:
لأني أحبها …
كاترين
:
أواه يا ستيفن! … تصوَّرْ ألمي غدًا وعذابي … سيذهب هيوبرت إلى الميدان …
وستحوي الساحة أخوَيَّ الصغيرين … لا تتصور حالة أبي في غيابهم … وهيلين في
غياب زوجها … أتوسَّلُ إليك ألَّا تُلقِي هذه الخطبة …
مور
:
كارتين … لا تسأليني هذا … إنه مطلب عسير، وأمر لا طاقةَ لي بتنفيذه …
أتريدين مني أن أكون وغدًا جبانًا؟!
كاترين
(وهي منفعلة متصاعدة الأنفاس)
:
ولكنك ستكون كذلك إذا أنت خطبتَ.
(مور يرتعد من وقع هذه الكلمة، وتقف هي تنظر
إليه خائفة؛ لأنها أهانتَه، وهنا يدخل الخادم هنري لرفع ما على المائدة،
فتخفض كاترين صوتها وتقول بصوتٍ خافتٍ لزوجها …)
كارتين
:
أناشدك ألَّا تفعل (مور يعرض عنها ولا يجيب،
فتنصرف مغضبة).
مور
(للخادم)
:
دع هذا الآن (ينسحب الخادم بينما يظل مور
مطلًّا إلى المائدة، ثم يرفع يده إلى عنقه كأنما يحس اختناقًا، ويريد أن
يخفِّفَ من ضغط الياقة عليه، ثم يملأ لنفسه قدحًا من الماء ويشربه مرة
واحدة، وفي هذه اللحظة يسمع صوتَ موسيقى في الشارع من جماعة الموسيقيين
المتسولين، وقد أخذ أحدهم يعزف على المندلينا، وآخَر على الكمنجة؛ فيتقدم
مور نحو النافذة ويرفع عنها السِّتْر، وبعد لحظة يعود إلى المائدة، فيتناول
أوراق الخطبة وهو في أشد حالات الألم والتردُّد).
مور
(لنفسه)
:
وغد، جبان. (يهم بتمزيق الأوراق، ولكنه يغيِّر
فكره ويأخذ في تقليبها واحدة بعد أخرى، وهو يتمتم ويغمغم بقراءتها، فيبدأ
أولًا بصوت منخفض، ثم يرتفع شيئًا فشيئًا حتى يحتدم كأنه يُلقِي خطابًا
سياسيًّا أمام جمهور من السامعين) أيها السادة … لقد كان من
دواعي فخارنا الوطني أن نسمِّيَ بلادنا نصيرةَ الحرية وعدوةَ الظلم وخصيمة
الاستبداد … أفذهب اليوم هذا الفخار … وانمحى ذلك الاسم العظيم، وتلاشى ذلك
المجد الباهر؟ أَلَا يجمل بنا أن نضحي بقليلٍ من كمالياتنا في سبيل الحرص على
ذلك المجد والاحتفاظ بذلك الفخار! خليق بنا أيها السادة ألَّا نضع أمامَ عين
التاريخ مشهدًا آخَر من مشاهد استباحتنا الحقوق واعتدائنا على الحريات،
وإهدارنا دم الفضيلة … إننا اليوم موشكون أن نُملِي إرادتنا على شعبٍ حرٍّ … شعبٍ
يحب بلاده كما نحب بلادنا … ويعتزُّ باستقلاله كما نعتزُّ باستقلالنا … أيها
السادة … لستُ أحتمل الصبر على هذه السياسة التي تصِمُ جباهنا، بل أرى من
واجبي أن أُجاهِرَكم بالحقِّ المرِّ … وهو أننا إذا كنَّا نرعى بلادنا … فأخلق بنا
أن نكون لحرمة بلاد غيرنا راعين … إنني أحب بلادي، ومن أجل هذا الحب
أُصارِحكم وأُكاشِفكم بما في نفسي، إنني قد أسلم معكم بأن ذلك الشعب ميَّال إلى
الشغب … نزَّاع إلى القتال، ولكن الذي لا أشكُّ فيه أنه أضعف منَّا قوةً … وهيهات لمثله
الغلبة على أمثالنا … وإذن … فإنه مهما كانت الظروف الحاضرة تبرِّر الدخولَ في
حربٍ مع أولئك الضعفاء … فإن عملًا كهذا سيقضي على سمعتنا أمام أمم العالم
وشعوب الأرض … لأن قلب الإنسانية اليوم يخفق بالعطف على الضعفاء … وشعور
البشرية في جانب الأمم المغلوبة على أمرها، التي يبغي الأقوياء انتهاكَ
حرماتها … وإنْ زعمنا أننا إنما نفعل ذلك باسم العدالة وباسم المدنية، فإن
العدالة من عملنا هذا بريئةٌ، وغدًا تحكم المدنيةُ علينا أسوأَ الحكم (بينما هو ماضٍ في خطبته، يرى شبح صبية صغيرة تجري في
التراس خارج الحجرة صوب الموسيقى، ولكنها تقف على صوته عند النافذة
المفتوحة مصغية إلى خطبته، وهي صبية سوداء الشعر في العاشرة من عمرها، في
ثوب أزرق من ثياب البيت، وقد أمسكَتْ بطرف ثوبها في يدها، وكانت الموسيقى
قد انتهَتْ حينئذٍ من عزفها. وبينما
كان مور يخطب متحمسًا مسترسلًا في احتداده، يمسك في يده قدحًا فارغًا من
الأقداح المصفوفة على المائدة، فيتحطم القدح في يده وتتناثر شظاياه، وعلى
هذا الصوت تهرع الصبية داخلة إلى الحجرة).
مور
:
أوليف.
أوليف
:
مع مَن كنتَ تتكلم يا أبي؟
مور
(محملقًا ببصره في وجهها)
:
مع الرياح بُنَيَّتي.
أوليف
:
ولكن لا رياحَ الليلة يا أبتاه!
مور
:
ما الذي جاء بك إذن؟
أوليف
(تتراءى متردِّدةً حائرةً)
:
الموسيقى … وهل كسرَتِ الريح القدحَ … أم هو الذي انكسَرَ من يدك؟
مور
:
هيا يا بُنَيَّتي اصعدي إلى فراشك قبل أن تلمحك المربية. هيا أسرعي، أسرعي …
أوليف
:
كلا يا أبتي لا أريد. (ثم تتكلم
بحرارة) إنني أشعر أن الليلة ليسَتْ ككلِّ الليالي …
مور
:
أصبتِ يا بُنَيَّتي … إنها لَكذلك …
أوليف
(تمسك بيدي أبيها وتجره إليها لتهمس له)
:
يجب أن أعود إلى سبيلي في السرِّ يا أبي … (يهم
مور بالكلام، فتمنعه ابنته واضعةً أصبعها على فمها) صه … لا
ترفع الصوت! (تجري أوليف فجأةً وتختفي وراء أحد
أستار النافذة المطلة على التراس، وهنا يدخل شابٌّ حاملًا ورقةً مطويةً في
يده.)
مور
:
هالو … ستيل (وفي هذه اللحظة تعود الموسيقى
إلى العزف مرةً ثانيةً).
ستيل
:
رسالة من السير جون، جاء بها ساعٍ مخصوص من وزارة الحربية.
مور
(يقرأ الرسالة)
:
ابتدأَتِ الحربُ (يقف مطيلًا النظر إلى الورقة
بينما يظل استيل ناظرًا إليه بقلقٍ … وهو شاب نحيل شاحب اللون، ذو عينين
تدلان ببريقهما على أنه رجل مخلصٌ وَفِيٌّ … يفرح لفرح الناس ويحزن
لحزنهم).
ستيل
:
الحمد لله على أن الحرب قد وقعَتْ يا سيدي … إنني مسرور بذلك كل السرور؛ إذ
أي مصيبة كانت تقع لو أنك ألقيتَ تلك الخطبة.
مور: أأنت أيضًا؟
ستيل
(يضطرب)
:
أقصد … أنه … ما دامَتِ الحربُ قد ابتدأَتْ فعلًا … ﻓ…
مور
(يمزِّق الرسالة ويطرحها على المائدة)
:
دَعْ عنك ما تريد أن تقول، فإنه لا يقال لمثلي.
ستيل
:
هل تحتاجني لشيء آخَر يا سيدي؟
مور
(يتناول من جيبه بعض الأوراق فيضعها على المكتب)
:
أجِبْ على هذه الرسائل (يذهب ستيل إلى المكتب
ويبدأ يكتب، بينما يعاود مور النزاع الهائل الذي بينه وبين نفسه، ثم
يتقدَّمُ مور إلى المائدة، فيتناول أوراقَ الخطبة فيخفيها في كمه ويعود إلى
النافذة حيث يقف متردِّدًا).
مور
(وهو يتحرَّك قليلًا إلى التراس)
:
يا لها من ليلة هادئة جميلة!
ستيل
:
هذا الخطاب للمستشفى الخيري، فهل أقول لهم إنك سترأس الحفلة؟
مور
:
كلا (ستيل ينهمك في الكتابة، ولكنه لا يلبث أن
يرفع بصره حتى يجد نفسه وحيدًا في الغرفة، وينهض إلى النافذة ويتلفَّت
يمينًا وشمالًا ثم يعود إلى المكتب، وفيما هو يهمُّ بالجلوس ثانيًا إذ
تعتريه فكرة فينزع لها ويعود إلى النافذة، وفي الحال يسرع إلى قبعته
فيتناولها ويجري نحو التراس، وفيما هو يختفي تظهر كاترين قادمة من ناحية
الصالة، وبعد أن تتطلع إلى المكتب، تتقدم إلى المدخل وتقف منصتةً … ثم
تعود إلى الغرفة وهي في أشد حالات القلق … وفي هذه اللحظة تتسلَّل أوليف
بكل هدوء من خلف الستار، فتحيط خصر أمها بذراعَيْها).
كاترين
:
ما هذا؟ ها بنيتي! … لقد أخفتني … ما الذي جاء بك هنا يا شقية؟
أوليف
:
كنت مع أبي.
كاترين
:
وأين هو؟
أوليف
:
ذهب.
كاترين
:
متى؟
أوليف
:
منذ لحظة، وقد ذهب مستر ستيل يجري وراءه كالأرنب (في هذه اللحظة تكفُّ الموسيقى عن
العزف).
أوليف
:
لم ندفع لهم شيئًا يا أماه.
كاترين
:
هيا اذهبي إلى سريرك … لستُ أدري كيف جئتِ إلى هنا في مثل هذه
الساعة!
أوليف
:
لا، لا أذهب حتى تدفعي لهم شيئًا لكي يعزفوا مرةً أخرى.
كاترين
:
خذي هذا لهم وَلْيعزفوا دورًا واحدًا فقط (تعطي
أوليف قرشًا، فتأخذه وتجري به إلى النافذة، وتنادي على الموسيقيين وتلقيه
لهم).
أوليف
:
هيا اعزفوا لنا دورًا آخَر من فضلكم (تعود
أوليف من النافذة، فترى أمها سابحةً في أفكارها، فتلتصق بها عطفًا
وحنانًا).
أوليف
:
أماه … أتشعرين بألم؟
كاترين
:
نعم … ألم شديد يا بنيتي.
أوليف
:
أواه (يبدأ الموسيقيون في عزف دور من أدوار
الرقص).
أوليف
:
هذا دور رقص … يجب أن أرقص (تخلع نعليها
بقذفهما من رجليها، وبينما هي مسترسلة في الرقص يدخل هيوبرت من ناحية
الصالة، ويقف لحظةً يتأملها، وتروح كاترين ناظرة إليه).
هيوبرت
:
أين ستيفن؟ … هل ذهب؟
كاترين
:
نعم … كفى رقصًا يا أوليف.
أوليف
:
هل أعجبك رقصي يا خالي؟
هيوبرت
:
كل الإعجاب، بديع للغاية!
كاترين
:
كفى يا بنية (في هذه اللحظة يقف الموسيقيون عن
العزف فجأةً وهم في وسط الدور، ويُسمَع صياحٌ وهتافٌ من
بعيد).
أوليف
:
أصغِ يا خالي … أليس هذا الصياح غريبًا؟ (يصغي
هيوبرت وكاترين مرهفَيِ السمع، وتطيل أوليف النظر إليهما، ثم يذهب هيوبرت
إلى النافذة، بينما تقترب الأصوات شيئًا فشيئًا حتى تُسمَع بعض الشيء، وإذا
الصائحون باعة صحف ينادون أخبار الحرب … اجتياز الحدود، القتال
العنيف.)
كاترين
(وهي في أشد الاضطراب)
:
نعم، إنه لَغريب! (تسمع الأصوات واضحة من ناحيتين
مختلفتين) أغلق النافذة حتى لا نسمع هذه الأصوات المنكرة
(يتقدَّم هيوبرت إلى النافذة، وفيما هو يغلقها
تظهر المربية قادمة من الصالة، وهي امرأة عجوز حنون، فترمق أوليف
بنظرها، وفي الحال تنتبه للأصوات العالية في الخارج).
المربية
:
يا لله! … هل ابتدأت الحرب؟ (يعود هيوبرت إلى
النافذة فتسأله المربية) هل تسافر فرقتكم يا مستر
هيوبرت؟
هيوبرت
:
نعم يا أم.
المربية
:
أواه، أواه! ولدي، ولدي!
كاترين
(مشيرة إلى ناحية أوليف وقد وقفت هذه محملقة
البصر)
:
حسبك يا أم، حسبك …
هيوبرت
:
اطمئني يا أم … فسأرعاه في سفرنا.
المربية
:
هو خاطب، وأنت لم يمضِ على زواجك غير عام … ثم تباغتكما الحرب بهذه
السرعة! يا لله! … وأنتما صغيران متهوران، سريعا التأثُّر، هلَّا حرصتَ على نفسك
في القتال يا بني وحرصت عليه!
هيوبرت
:
لا تخافي يا أم ولا تحزني، فما نحن بمتهوِّرَيْن (تطيل المربية النظرَ إلى وجهه، ثم ترفع أصبعها مشيرةً إلى أوليف لتذهب
معها).
أوليف
(ملاحظة أن الموقف غريب، فتستسلم وتنصرف مع
مربيتها)
:
طاب ليلك يا خالاه، هل تدرين يا مربيتي لماذا جئتُ إلى هنا؟ (تهمس في أذن مربيتها بحماسة) هذا سر.
(وفيما هي تخرج معها منصرفتين من ناحية
الصالة يُسمَع صوت أوليف تقول) حدِّثيني عن الحرب وما فيها يا
مربيتي قبل أن أنام.
هيوبرت
(وهو يغالب تأثُّره الشديد)
:
سنسافر يوم الجمعة يا أختاه، فارعي هيلين المسكينة في غيابي، وأكرمي
مثواهها وأنا عنها بعيد …
كاترين
:
أواه! … وددتُ لو أُبِيح للنساء الاشتراكُ في الحرب مقاتلاتٍ.
هيوبرت
:
إني أشعر بآلامك وعذابك الموجع يا أختاه، بينما يسلك استيفن ذلك المسلك
العجيب، ولكني أحسبه عادلًا عن خطته ما دامَتِ الحرب قد ابتدأت (تهز كاترين رأسها غير مصدقة … ثم تتقدَّم نحوه فجأةً
وتُلقِي ذراعَيْها حول عنقه معانِقةً محتضنةً، كأنها قد وجدَتْ في هذه العناقة
أكبر عزائها، وهنا يُفتَح باب الصالة، فإذا صوت السير جون يُسمَع من الخارج
وهو يقول).
سير جون
:
حسن جدًّا، سأبحث عنها بنفسي.
كاترين
:
أبي! (يدخل السير جون.)
سير جون
:
هل تناوَلَ ستيفن رسالتي … لقد أرسلتُها إليه بمجرد وصولي إلى
الوزارة.
كارتين
:
أظن ذلك. (تبصر الورقة الممزَّقة الملقَاة على
المائدة) نعم، لقد وصلَتْ إليه.
سير جون
:
إن الشوارع تضجُّ بأخبار الحرب … الحمد لله لأني استطعتُ أن أمنع هذا
المجنون من إلقاء خطبته قبل فوات الأوان.
كاترين
:
وهل تمكنتَ من منعه حقًّا؟
سير جون
:
كيف لا؟ … لا أظنه أحمق إلى هذا الحد!
كاترين
:
أخشى أن يكون كذلك. (تذهب إلى النافذة)
سنعرف ما جرى بعد قليل (ينظر سير جون إليها
طويلًا، ثم يتقدَّم إلى هيوبرت).
سير جون
:
شجاعة يا بني، إن الوطن فوق الجميع (يشدَّان على
يدي بعضهما).
(كاترين تتراجع عن النافذة
ويظهر مستر ستيل من التراس وهو يلهث من شدة
الجري.)
ستيل
:
أَلَمْ يَعُدِ المستر مور بعدُ؟
كاترين
:
كلا … أتراه قد خطَبَ؟
ستيل
:
نعم …
سير جون
:
يا للداهية! … وبعد أن أُعلِنَتِ الحرب! (يقف سير
جون متألمًا، ثم يدور على عقبَيْه وينصرف مسرعًا … وبإشارة من كاترين
ينصرف هيوبرت في إثره.)
كاترين
:
والآن قصَّ عليَّ ما جرى يا مستر ستيل.
ستيل
(وهو لا يزال لاهثًا مضطربًا)
:
لقد كنتُ هنا معه … فلم يلبث أن تغفلني وفرَّ هاربًا، وأكبر ظني أنه ذهب
رأسًا إلى المجلس؛ فجريتُ في إثره، ولكني لم أكد أصل إلى أروقة البرلمان حتى
كان قد وقف وراح يُلقِي خطبته … لقد ساد الصمتُ كأنَّ الأعضاء توقَّعوا منه أمرًا،
بل لقد جلسوا كأنَّ على رءوسهم الطير، وأنشأ هو من الكلمة الأولى يهزُّ مشاعِرَهم
هزًّا، حتى خُيِّلَ إليَّ أنه قد أثَّرَ في فريقٍ منهم … ولكن تحت ذلك الصمت الرهيب
كان يلوح لي أن هناك تيارًا خفيًّا يندفع حولهم دفعًا، وعند ذلك … نعم عند
ذلك انبرى شيرات … نعم شيرات هو الذي بدأ على ما أذكر، فإذا الغضب يتملك
الجميع، وإذا الهياج يعمُّ المجلس، ولكنه بهدوئه وجلال سكينته قد استطاع أن
يهدِّئ من ثورة غضبهم … يا له من موقف جلل! لم أشهد له في الحياة مثيلًا! وفي
تلك اللحظة سرى التهامُس بين الأعضاء كخرير النهر الجائن … بأن القتال قد
ابتدأ … حتى خفْتُ أن يهموا به فيمزِّقوه تمزيقًا، وتقدَّمَ منه أحدهم فراح يشدُّه من
ذيل سترته ليُجلِسه، ولكنه دفعه عنه … ومضى في خطبته لا يلوي على أحدٍ حتى
انتهى من كلامه … وانطلق منصرفًا من المجلس لا يلتفت ولا يعبأ … فخفت
الأصوات وسار الصمت. جرى ذلك كله في دقائق له الله يا سيدتي! في الحق لقد
كان موقفه بديعًا، بديعًا … لا مثيل له! وكانت كلماته كالحمم المارقة في
الفضاء، من فوهة البركان الفائر المحتدم (هنا
يظهر مور على التراس خلف ستيل).
كاترين
:
طاب ليلك يا مستر ستيل.
ستيل
(مجفلًا)
:
آه … طاب ليلك يا سيدتي (ينصرف ستيل من ناحية
باب الصالة … تلتقط كاترين حذاء ابنتها أوليف وتقف ملقيةً فردتَيْه على
صدرها … بينما يتقدَّم مور نحوها في رفقٍ).
كاترين
:
لقد أرَحْتَ ضميرك إذن … ما كنتُ أظن أنك ستؤلمني إلى هذا الحد! (مور لا يجيب، كأنه لا يزال متأثِّرًا بالموقف الذي
وقفه منذ دقائق في المجلس، فتدنو هي منه قليلًا
قليلًا) أي ستيفن، أنا مع وطني قلبًا وروحًا، أَلَا تكون أنت كذلك أيضًا؟ (يسودهما الصمت وهما واقفان وجهًا لوجه، وفي أثناء
ذلك يدخل الخادم هنري من الصالة.)
الخادم
:
لقد وصلَتْ هذه الخطاباتُ الآن يا سيدي من مجلس العموم.
كاترين
(تتناول الخطابات منه)
:
سنُخلِي لك الغرفة بعد لحظةٍ لتنظِّفَها، فاذهب الآن (ينصرف الخادم).
مور
:
فضِّي هذه الخطابات بنفسك (تفضُّ كاترين الخطاباتِ
واحدًا بعد الآخَر، وكلما قرأَتْ خطابًا تركَتْه يسقط من يدها فوق
المائدة).
مور
:
والآن ماذا تحوي؟
كاترين
:
ما كان منتظرًا، وهو تخلِّي ثلاثة من خير أصدقائك عن صداقتك، وقطع علاقاتهم
بك … لقد ابتدأَتِ الكارثة.
مور
:
الحذر من غضب الجماهير … أليس كذلك؟ (يضحك
ضحكة هائلة) يجب أن أكتب في الحال إلى الرئيس (تأتي كاترين بحركةٍ نفسانيةٍ لتتقدَّم إليه، ولكنها
تتمالَكُ نفسها فيما تفعل، وإنما تذهب إلى المكتب بكل هدوء فتجلس وتمسك
بالقلم).
كاترين
:
دعني أسرد ما تريد أن تبعث به إليه (تنتظر حتى
يملي عليها) نعم؟
مور
(مُملِيًا)
:
تحريرًا في ١٥ يونيو. عزيزي سير تشارلس، بعد إلقاء خطبتي الليلة وهي التي
صارحتُ فيها المجلسَ باعتقادي الذي لن أحيد عنه آخِر الدهر. (وهنا تلفتت كاترين إليه وترفع بصرها إلى وجهه، ولكنه
لا يحفل بنظراتها … ولا يتردَّد فيما هو عازم عليه، فلا يسعها إلا أن
تستسلم وتنكبُّ على الكتابة) ليس أمامي إلا شيء واحد لا ثاني
له، ولا مفر منه؛ وهو أن أضع استقالتي من وكالة الوزارة بين يدَيْكَ … وقد
أكون مخطئًا في وجهة نظري إلى هذه المسألة، غير مصيب في اعتقادي من نحوها
وشعوري، ولكني آبَى أن أفرَّ من اعتقادي، ولا أرضى آخِرَ الحياة أن أخون مبادئي
… إن حرية الفكر قبل كل شيء، وقد آمنتُ بأن الضعفاء في هذا العالم ينبغي أن
يُنتصَر لهم ضد القوي؛ ولذلك سأظلُّ لهم نصيرًا حتى الرمق الأخير.
(ستار)
الفصل الثاني
(بعد حوادث الفصل الأول ببضعة أيام، والوقت ضحًى، ونوافذ قاعة الطعام مفتحة ينفث
منها ضياء الشمس، وعلى المائدة جملة من الجرائد ملقاة في غير نظامٍ، وقد جلسَتْ هيلين
هناك محملقة البصر واجمة، وفي الخارج يمرُّ غلام من باعة الجرائد ينادي على جرائده …
فتنهض على صياحه من مكانها وتذهب إلى التراس، بينما يدخل زوجها هيوبرت من باب الصالة،
فيتقدَّم رأسًا إلى التراس ويمشي بهيلين إلى الحجرة.)
هيلين
:
أهذا صحيح؟ هل صحيح ما ينادون به؟
هيوبرت
:
نعم، إن الحوادث جاءَتْ أسوأ مما كنَّا نظن؛ فإن العدو تمكَّنَ من جنودنا في
المضيق، ولم تستطع مدافعنا أن تنال منه شيئًا … مقدمة سيئة للغاية، وابتداء
شنيع.
هيلين
:
أواه يا هيوبرت!
هيوبرت
:
لا جزع، لا جزع، يا أعزَّ الناس عليَّ! (تعطيه
وجهها فيقبِّلها، ثم تلتفت بسرعةٍ إلى النافذة والمدخل، وفي تلك اللحظة
يُفتَح بابُ الصالة ويتقدَّم الخادم هنري أمام ريفورد
وخطيبته.)
هنري
:
تفضَّلَا بالانتظار هنا لحظةً حتى أُخبِرَ مسز مور. (يلحظ هيوبرت) معذرةً يا سيدي.
هيوبرت
:
لا بأس. (ينصرف الخادم. مخاطبًا ريفورد بلا أدنى تكلُّفٍ) آه …
ريفورد … لقد جئتَ إذن بها معك! بديع جدًّا، إن أختي سترعاها في غيابنا، فلا
ينزعج بالك. هل حزمتَ الحقائبَ؟ سيكون السفر الساعة الثالثة تمامًا.
ريفورد
(وهو جندي في ثوبه العسكري الأصفر الكاكي، يلوح عليه أنه
رجل ظريف، ولكن الحالة الحاضرة قد تركَتْ على وجهه أثرًا من وجومٍ
وتألُّمٍ)
:
كل شيء قد هُيِّئَ يا سيدي كما قلتَ (هيلين تكون قد
ابتعدت عن النافذة وجاءت تتطلَّع إلى ريفورد وإلى الفتاة الواقفة بجانبه،
وهي في استحياء واضطراب).
هيلين
(برفقٍ)
:
خذ بالك منه يا ريفورد.
هيوبرت
:
سيأخذ كلٌّ منَّا باله من صاحبه، أليس كذلك يا ريفورد؟
هيلين
:
كم مضى على خطوبتكما؟
الفتاة
(وهي شابة مليحة حيية)
:
ستة أشهر (تجهش بالبكاء).
هيلين
:
أواه! … ولكنه لن يلبث أن يعود سالمًا.
ريفورد
:
لن تذهب هذه الدموع بغير ثمن، سأعرف كيف أنتقم من الوحوش لأجلها. (بصوت منخفض للفتاة) دَعِي البكاءَ الآن، دَعِي
البكاء.
هيلين
(للفتاة)
:
لا تبكي يا عزيزتي … لا تبكي (تقف هيلين
مضطربةً تحاول منع نفسها من الاستسلام للبكاء، ثم تخرج إلى التراس
وهيوبرت في إثرها، ويظلُّ ريفورد وحده مع الفتاة، وهما واقفان وقفة المضطرب
المخجل، بينما هي تغالِبُ عَبَرَاتها).
ريفورد
:
لا تستسلمي للبكاء هكذا يا نانسي، وإلا عدتُ بكِ إلى المنزل؛ لا يجمل بك
الضعف ما دمنا قد جئنا، وإني لَأخشى أن يتغلَّبَ عليَّ اليأسُ من ضعفك هذا وجزعك.
أَلَا ترين كيف هربت السيدة؟ … لا بكاءَ إذن، لا بكاء (تتمالك الفتاة نفسها، وفي هذه اللحظة يُفتَح الباب وتظهر كاترين ومعها
أوليف، فتنظر هذه إلى ريفورد بخوفٍ واستغرابٍ، وتأتي معهما المربية وهي
ممسكة بمنديلها كأنما كانت تبكي، وإنْ كانت هادئةً مالكةً
شعورها).
كاترين
:
لقد أخبرني أخي، ويسرني أنكِ جئتِ بها.
ريفورد
:
شكرًا يا سيدتي، إنها متأثِّرة لسفري كما ترين.
كاترين
:
نعم، نعم، ولكن جميل بك أن تتشجَّعي يا بنيتي، في سبيل الوطن ما نحمل، أليس
كذلك؟
الفتاة
:
هذا ما يقوله لي ريفورد دائمًا، وهو مسافر لا مفرَّ من سفره، فلا فائدة إذن
من إزعاجه، وأنا لا أنفك أقول له إنني سأعتصم بالصبر في غيابه حتى لا
ينزعج.
المربية
(وهي لا تكفُّ عن النظر إلى ولدها ريفورد)
:
أصبت يا بني، أصبت.
الفتاة
:
لقد أراد ريفورد أن يطمئن عليَّ بوجودي في رعايتك يا سيدتي، ولكني أراه
متحمِّسًا للقتال أشدَّ الحماسة حتى لَأخشى عليه منه.
كاترين
:
لكلٍّ منَّا عزيزٌ مسافِرٌ، فهل أنتِ ناوية أن تودِّعيه على الميناء؟ … يجب أن
نودِّعهم بملء الحماسة؛ ففي ذلك تشجيعهم وإنعاش أرواحهم … هذا واجبنا يا بنيتي.
أوليف
:
مَن يدري … فلَربما سينال مدالية أو وِسَامًا.
كاترين
(تنتهرها)
:
أوليف!
المربية
:
ذلك أجمل به من البقاء هنا مع المتخلِّفين المجردين من الوطنية الذين
ينادون بإيقاف الحرب.
كاترين
(بسرعةٍ لتغيير الموضوع)
:
أظنُّ أنَّ لديَّ عنوانك. (وتمدُّ يدَها إلى
ريفورد) اطمئن يا بني، فسنرعاها في غيبتك.
أوليف
(هامسًا لأمها بصوت مسموع)
:
هل أهدي إليه شكولاتتي يا أماه؟
كاترين
:
إذا شئتِ يا بنية. (لريفورد) حذارِ أخي
ولنفسك، وسنرعى نحن فتاتك خلال سفركَ.
ريفورد
:
سأفعل يا سيدتي … شكرًا لكِ (ينظر متأثِّرًا على
خطيبته، كأنَّ هذه المقابلة لم تذهب كثيرًا بالتأثير كما كان يؤمل، وأما
الفتاة فتحيِّي مودِّعةً، وهو يؤدِّي السلام العسكري).
أوليف
(وقد تناولَتْ من الدولاب باكو شكولاتة فتضعه في يده)
:
شكولاتة لذيذة ومغذية.
ريفورد
:
شكرًا لك يا آنسة (يتبادلان الوداعَ بتأثُّرٍ
وينصرفان ومعهما المربية).
كارتين
:
واهًا للمساكين!
أوليف
:
أماه ما معنى قول مربيتي: المتخلفين المجردين من الوطنية المنادين بإيقاف
الحرب؟
كاترين
(وهي تتناول إحدى الجرائد)
:
تعبير فاسد يا عزيزتي … كفى ثرثرةً.
أوليف
:
ولكن لي سؤال واحد ثم أسكت.
كاترين
:
وما هو؟
أوليف
:
هل أبي من هؤلاء؟
كاترين
:
أوليف … ماذا تعرفين من أمر هذه الحرب؟
أوليف
:
هم لا يريدون أن يطيعونا الطاعةَ الواجبةَ، ونحن نريد أن نعاقبهم على
عصيانهم ونأخذ منهم بلادهم، ونحن آخذوها بلا شك، أليس كذلك؟
كاترين
:
هو كذلك، ولكن بابا لا يودُّ منَّا أن نفعل؛ لأنه يراه ظُلْمًا، ولا يكفُّ عن
المجاهرة بهذا الرأي، ولهذا غضب الناس عليه وتألَّموا من كلامه.
أوليف
:
ولماذا يراه ظلمًا؟ أظنُّ لأننا أصغر منهم … أليس كذلك يا أماه؟
كاترين
:
كلا.
أوليف
:
يا للعجب! لقد كنَّا دائمًا هكذا في التاريخ؛ ولهذا السبب كنَّا دائمًا نحارب
وننتصر. إنني أحب التاريخ … وأنت يا أماه، أمع بلادنا أم معهم؟
كاترين
:
مع بلادنا يا عزيزتي.
أوليف
:
إذن يجب أن أكون معكم يا أماه، ولكن من الأسف أننا لسنا في صفِّ أبي.
(كاترين ترتعش) فهل سيؤذونه لأنه
ليس في صفنا؟
كاترين
:
أخشى أن يفعلوا يا أوليف.
أوليف
:
إذن يجب أن نعطف عليه يا أماه أكثر من قبلُ.
كاترين
:
نعم … إذا استطعنا …
أوليف
:
ولكني أستطيع … وسأفعل بلا شك (يعود هيوبرت
وهيلين من التراس، وعندما ترى هيلين كاترين والطفلة تنصرف، ويذهب
هيوبرت إلى النافذة).
أوليف
(وقد لمحته، تهمس لأمها)
:
وهل خالي يسافر اليوم إلى ميدان القتال؟ (تهزُّ
أمُّها رأسَها بالإيجاب) ولكن جدِّي لا يسافر … أليس كذلك؟
كاترين
:
لا يسافر جدك يا عزيزتي.
أوليف
:
هذا من حسن حظ خالي، أليس كذلك؟ (يدخل هيوبرت
وقد جعله وجود الطفلة يتمالك جأشه.)
هيوبرت
:
الآن يا أختاه … حان الوداع … (إلى
أوليف) ماذا تريدين أن أحضر لك معي يا طفلتي العزيزة؟
أوليف
:
وهل في الحرب دكاكين؟ لقد كنتُ أظنها خَطِرة؟
هيوبرت
:
كلا … ليس فيها من خطر.
أوليف
:
يا للعجب!
كاترين
:
والآن يا عزيزتي، عانقي خالك عناقة طيبة. (تحاول
كاترين خلال عناقهما أن تسترجع شجاعتها) سنكون أنا وأبونا معك
بالروح يا شقيقاه (لا يجترئان على العناق وينصرف
هيوبرت مُسرِعًا من فرط التأثُّر، فيلقى ستيل على الباب، ولكنه لا يلتفت إليه،
فيتردَّد ستيل ويهمُّ بأن يعود من حيث أتى).
كاترين
:
تعال يا مستر ستيل، تقدَّمْ.
ستيل
:
كنتُ أتوقَّع أن أجد وفدَ الناخبين من الدائرة قد حضر يا مسز مور؛ لأن الساعة
بلغَتْ تمامَ الثانية عشرة.
أوليف
(وكانت قد تناولَتْ بعضَ الجرائد فكوَّرَتْها في يدها)
:
ألقف يا مستر ستيل (وهي ترمي كرة الجرائد
فيلتقطها ستيل صامتًا).
كاترين
:
هيا اطلعي فوق يا عزيزتي، اذهبي …
أوليف
:
أَلَا أَقَرُّ هنا في النافذة يا أماه حتى أشاهِدَ الجنود وهم يمرون؟
كاترين
:
كلا … قفي في التراس لحظة … وبعدها يجب أن تصعدي إلى غرفتك (تخرج أوليف مكرهة إلى التراس).
ستيل
:
أخبار سيئة، وبالأخص خبر الهزيمة المؤلمة في المضيق، هل رأيت هذا المقال
(يقرأ من الجريدة) لن نتبع سخف هذا
المنحرف الأحمق الذي خرج على بلاده في هذه اللحظة الأخيرة … لقد استحقَّ نائب
طولين احتقارَ الوطنيين الصادقين … (يتناول جريدة
أخرى) إن في هذه البلاد فريقًا من السياسيين لا يتورَّعون في
هذه الساعة الرهيبة من محاولة الإعلان عن أنفسهم، فمن واجبنا في مثل هذه
الأزمات القوية أن نكمِّمَ أفواهَهم كما نكمِّمُ الكلابَ المسعورة المصابة بالكَلَب …
أَلَا ترين يا سيدتي أن خصومه قد تألَّبوا اليومَ عليه أشدَّ تألُّبٍ؟
كارتين
:
لستُ أخاف من هؤلاء السياسيين كخوفي من أولئك الذين يأبون أبدًا إلا
الخروج على بلادهم واستهجان سياستها؛ إذ كل خشيتي أن يجعلوه بطلًا وينصبونه
عليهم زعيمًا … هل تعلم ماذا ينوي أن يفعل بعد هذا؟
ستيل
:
يجب علينا يا سيدتي أن ننتبه عن اعتزامه التجوال في البلاد ليخطب الناس
في وقت الحرب … نعم … هذا هو ما ينبغي أن نفعله، وإلا كانت النتيجةُ سيئةً
للغاية.
كاترين
(مصغية)
:
أظنُّ الناخبين قد حضروا … فاذهب وابحث عنه يا مستر ستيل … أظنه الآن في
غرفته بالمجلس (يخرج ستيل وتقف كاترين متحفزة
مستعِدَّة لاستقبال الوافدين. يعود ستيل بعد لحظة ويفتح الباب لدخول
الوفد، ثم ينصرف … وإذا الوفد مؤلَّف من أربعة أشخاص، وهم يدخلون بتردُّدٍ
وتهيُّبٍ كأنهم متوقِّعون أن الزيارة خطيرةُ النتائج، وفي مقدمتهم جيمس هوم،
وهو رجل طويل نحيل أشيب غزير الشعر، بين الحسبي والجريء في أخلاقه …
فحينًا تره متناهِيَ الخشونة وحينًا متناهِيَ الأدب … وهو يلوح عليه كأنه
رجلٌ مرتدٍ بذلةً من القماش الخشن «الشيفوت» لا احتفال في تفصيلها، وربطةً
من الحرير الأحمر تمسكها حلقة من المعدن. وفي أذياله يتقدَّمُ «مارك ويبس»
رجل متوسط العمر، مستدير الوجه، شاحب، ناحل الشعر والشارب، ومن لوازمه فرك
يدَيْه معًا باستمرارٍ كأنه يبيع شيئاَ لزبون معتبر، وهو ممتلئ البدن
قليلًا، يلبس ثيابًا غامقة ويحمل سلسلةً طويلةً من الذهب. ومن وراءه يسير
«شارلس سلدر» محام في الخمسين من عمره، بيضاوي الرأس أصلعه، وقد وضع
منظارًا على أنفه «بانسنيز»، ووجهه وإن كان يدل على الطيبة والحنان فلا
يزال يتم أيضًا على اليقظة والدهاء، وكلما تكلَّمَ خُيِّلَ لسامعه أنَّ في فمه
شيئًا يلوكه كالبرقوقة، أو كأنَّ الزغطة أبدًا ملازمته. وآخِرهم «وليم بانج»،
رجل نشيط في حركاته، مربع الكتفين، عصامي من أهل الريف، بين الخمسين
والستين، أشيب الشارب، محمر الوجه، تلمع عيناه لامعانًا
شديدًا).
كاترين
:
كيف أنت يا مستر هوم؟
هوم
(يسرف في الانحناء على يدها كأنه يريد أن يُظهِر مبلغ
استقلاله وتحرُّره من نفوذ السيدات)
:
مسز مور! … لم نكن نتوقَّع … حصل لنا الشرف.
ديس
:
كيف أنتِ يا سيدتي؟
كارتين
:
وأنتَ يا مستر ديس؟
ديس
:
شكرًا لك يا سيدتي … في أحسن حال.
شلدر
:
كيف أنتِ يا مسز مور؟
كاترين
:
بخير يا مستر شلدر، شكرًا.
باننج
:
مناسبة غير حسنة يا مسز مور!
كاترين
:
هي كذلك في الواقع يا مستر باننج، تفضَّلوا بالجلوس (ولما تجد أنهم لا يريدون جلوسًا حتى تجلس هي، تتقدَّم
إلى المائدة فتجلس، فيأخذون مجالِسَهم تدريجًا، وكل واحد فيهم متردِّد لا
يريد أن يكون هو البادئ بفتح باب الحديث … فتجد كاترين نفسها مُلزَمة بأن
تجتذبهم إليه).
كاترين
:
سيحضر زوجي بعد لحظة؛ لأنه ذهب إلى المجلس على أن يعود حالًا.
شلدر
(وهو بحكم تعليمه ومركزه أرقى من الآخرين)
:
حقًّا إنه لَموقف عجيب هذا الذي رضيه المستر مور لنفسه، موقف يحار المرء في
وصفه.
كاترين
:
لقد قرأتُ تفاصيلَ اجتماعكم للمرة الثانية في مركز دائرتكم
الانتخابية.
باننج
:
هي مسألة مؤلمة يا مسز مور … مؤلمة للغاية … ولا فائدةَ من إخفاء الحقيقة،
إن تلك الخطبة كانت بلا شكٍّ جنونًا، وإزالة آثارها تحتاج إلى جهد كبيرٍ …
فلماذا تركْتِه يخطب؟ نعم، لماذا تركْتِه؟ أنا متأكِّد يا سيدتي أنكِ غير موافقة
على رأيه. (يتطلَّع إليها، ولكنها لا تجيب بأكثر من
ضمِّ شفتيها) أنا أقول لكِ يا سيدتي ما خطر لي عندما علمتُ بالخبر
… بل هو في الواقع ما خطر لجميع أهل الدائرة؛ إن الباعث الذي دفعه إلى هذا
العمل هو أنه كان يعلم أن جنودنا كانوا قد اجتازوا الحدودَ وابتدءوا القتال
فعلًا.
كاترين
:
وهل هذا يغيِّر من خطورة الأمر في شيء؟
هوم
:
كيف لا يا سيدتي؟ إن عملًا كهذا هو انتهازٌ لفرصة سيئة، واستغلال لخطب
قومي … هذه هي الحقيقة … أستميحك يا سيدتي المعذرة … عن صراحتي …
باننج
:
قبل أن تقع الحرب يا مسز مور، يجب لكلِّ إنسانٍ أن يقول ما يشاء …١ الوطنية، وقد كانت خطبته شديدة اللهجة، إلى أبعد حدٍّ.
كاترين
:
لقد كان عازمًا على إلقائها قبل وقوع الحرب، فلما ألقاها جاءَتِ الأخبار
بالمصادفة … مُعلِنةً وقوعَها.
باننج
:
ربما كان هذا صحيحًا … إنَّ كل ما نريد الآن هو أن نستوثق من أنه لن يعود
إلى مثل هذا المسلك مرة أخرى (هنا يدخل مور
قادمًا من المدخل، فينهض الجميع).
مور
:
طاب صباحكم أيها السادة (يتقدَّمُ رأسًا إلى
المائدة، ولكنه لا يُظهِر الرغبةَ في مصافحتهم باليد).
باننج
:
والآن يا مستر مور، لقد ارتكبتَ غلطةً فظيعةً يا سيدي … أقول لك ذلك في وجهك
مصارِحًا.
مور
:
كما يقول كل إنسان يا مستر باننج … تفضَّلوا بالجلوس (يعاودون مجالسهم تدريجًا، ويتخذ مور مجلس زوجته …
فتظلُّ هي وحدها واقفةً متكئةً على مسند النافذة الفرنسية، تراقِب
وجوهَهم).
باننج
:
هل قرأتَ التلغرافات في هذا الصباح … إنني أصارِحُكَ يا مستر مور بأن هزيمةً
أخرى كهذه وأنت الملوم؛ لأن أولئك الضحايا لحمنا ودمنا …
مور
:
وأنا أيضًا … ألستُ من دمٍ ولحمٍ … عندما تكلَّمْتُ في تلك الليلة كان هناك
(مشيرًا إلى صدره) إحساسٌ يجيش وشعورٌ
يفيض فيضًا.
باننج
:
ولكن المسلك الذي اتخذته كان فجائيًّا غير مُنتظَر … إذ لم يكن هذا هو
اعتقادك في مايو الماضي على الأقل …
مور
:
يجب في سرعة الإنصاف أن تقولوا إنني كنتُ يومئذٍ ضدَّ سياستنا الخارجية … لقد
مضَتْ عليَّ ثلاثة أسابيع وأنا مع القس في نزاعٍ هائل، حتى تغلَّبْتُ أخيرًا على
جميع الاعتبارات في سبيل واجبي الوطني … واعتزمتُ إلقاء تلك الخطبة …
والإنسان لا يصل إلى قرارٍ كهذا بينه وبين ضميره عفوًا أو في وقتٍ قصيرٍ يا
مستر باننج.
شلدر
:
هي مسألة ضمير إذن؟
مور
:
نعم يا مستر شلدر، وإنْ كانت السياسةُ في أكثر الأحيان لا تعرف
ضميرًا.
شلدر
:
إن أفكارنا لم ترتفع بعدُ إلى مستوى أفكارك يا مستر مور (مور يضحك … تدنو كاترين من زوجها، ولكنها تتراجع
ثانيةً إلى مكانها كأنما سرَّها هذا التلطُّف من زوجها للزائرين. يفرك ديس يدَيْه).
باننج
:
هناك شيء واحد قد نسيتَه يا سيدي … وهو أننا انتخبناك هنا في البرلمان
لتمثِّلَنا، وأنت لا تجد في الدائرة كلها رجلًا واحدًا تسوِّل له النفس أنْ يكلِّفَك
عنه إلقاءَ تلك الخطبة …
مور
:
أنا متأسِّف … ولكني لا أستطيع أن أحيد عن اعتقادي يا مستر باننج.
شلدر
:
المسألة ليست مسألة اعتقاد … وتمسُّك به … ولكنها مصلحة البلاد، ومصلحة
الوطن.
باننج
:
الأمر خطر يا مستر مور؛ لأن شعور الناس ضدك قد بلغ حدًّا هائلًا، وقد وصلت
إلينا رسائلُ لا تُحصَى … وبعضها من قوم أخيار، ورجال أفاضل، ومن بينهم مَن
كانوا إلى أمسِ فقط صفوةَ أصدقائك وأصحابك المخلصين.
شلدر
:
لم يَفُتِ الأوان يا مستر مور، ويكفي أن يقال لهؤلاء الغاضبين المتهيجين أنك
لن تفعل مثل هذا بعد اليوم … ليهدأ شعورهم … وتسكن ثائرتهم.
مور
:
ما هذا الذي أسمع؟ … أكتم فمي؟
باننج
:
تقريبًا، إنْ أردتَ الصراحةَ.
مور
:
أتريدون مني أن أضحِّي بمبادئي واعتقادي … من أجل صفتي النيابية، لو فعلتُ
ذلك لَحق لخصومي أن يسموني رجلًا حقيرًا سافلًا (يمسك بالجرائد الملقاة على المائدة، ثم يلقيها عليها ثانيةً باحتقارٍ
وعنفٍ. تُبدِي كاترين حركةً فجائيةً
مُؤلِمةً، ولكنها لا تلبث أن تعاوِدَ هدوءَها وتلزم مكانها).
باننج
:
ولكنَّا لا نسألك أن تسحب كلامك، وكل ما نريده منك أن تكون بصيرًا في
المستقبل.
مرو
:
أمؤامرة على إسكاتي؟ … يقال إني اضطررتُ إلى السكوت لأن الجرائد الزمنية
ونباح الكلاب أخافَنِي …
باننج
:
ومَن الذي يستطيع أن يقول هذا عنك؟
شلدر
:
يا عزيزي مور، هلَّا نزلتَ عن هذه الأفكار العالية على مستوى أمثالنا، إن
مثلك في سموِّ المبدأ وعلوِّ الفكر، لا يسمح له أن يعبأ لحظة واحدة بما قد يقال
عنه …
مور
:
وهذا ما أشعر به، وعندي الشجاعة الكافية للثبات عليه، وإذا كان الرجل
السياسي في هذه البلاد لا يستطيع أن يكون حرًّا في أفكاره، صريحًا أمام
الناس في مبادئه؛ فالسلام إذن على البلاد … والعداء على الوطن.
باننج
:
نحن لا نعيب عليك سلوكك، ولكن دماء أهلنا تُسفَك في تلك البلاد، وهذا ما لا
نستطيع السكوت عليه … وأمام هذه الاعتبارات لا يمكن أن نقبل من نائبنا الذي
يمثِّلنا أن يستمرَّ على التفوُّهِ بكلامٍ طائشٍ وإلقاءِ بياناتٍ مستهجنة من
الجميع.
مور
:
أنا مدرك شعوركم يا مستر باننج؛ ولهذا لا يسعني إلا أن أقدِّمَ إليكم
استقالتي من النيابة عنكم؛ لأنني لا أقبل أن أتشبَّثَ بالكرسي النيابي، بينما
يأبى الذين انتخبوني عنهم أن أكون لهم مثلًا.
باننج
:
كلا، كلا … لا تفعل … ليس هذا ما نقصد … لقد قلتَ ما كان في نفسك وانتهى
الأمر، وقد لبثتَ نائبًا عنَّا تسع سنين متوالية، فلا نريد أن تغادِر
مكانك.
شلدر
:
نحن نريد أن نحتفظ بك يا عزيز مور … ولا نطلب إليك إلا أن تنزل قليلًا عن
تشبُّثِكَ، وتَعِدَنا بإلزام الصمت … هيا يا عزيزي تعهَّدْ لنا بذلك … فليس في تعهُّدِكَ
من بأسٍ.
مور
:
إن رجلًا مثلي لا يعطي وعودًا رخيصة هيهات … لا يمكن أن أَعِدَ (يسود الجميع صمت طويل، والكل ينظرون
إليه).
شلدر
:
إن للحكومة أعذارًا وجيهة تبرِّر سياستها.
مور
:
لا تعدم الحكومة في أي وقت أعذارًا وجيهةً لتبرِّرَ سلوكها حيال
الضعفاء.
شلدر
:
يا عزيزي مور … من أين لكَ أن تجد شفيعًا لما فعل أولئك الهمج، الذين لا
يُحسِنون غير سرقة الأنعام والماشية.
مور
:
إن الذين يسرقون الأنعام لأهون واللهِ جُرْمًا ممَّنْ يسرقون الشعوبَ حريتَها
واستقلالَها.
شلدر
:
إننا نطلب إليك ألَّا تجوب البلاد قائلًا هذا على الملأ.
مور
:
ولكن هذا من واجبي … وأنا حتمًا منفِّذه (ينظرون
إليه مبهوتين).
شلدر
:
ليس في بلاد دائرتنا على الأقل، وعفوًا إذا قلتُ إننا نمنعك!
ديس
:
في الحقيقة يا سيدي … في الحقيقة …
شلدر
:
إن عصر الشهداء قد مضى وانقضى يا سيدي.
مور
:
أحقًّا؟ … إذن أنا مجدِّده.
باننج
:
لا نزال نرجو أن نتغلَّبَ بالحجة عليك؛ لأنه يعزُّ علينا أن نتخلَّى عنك يا مستر
مور بعد ثلاث انتخابات متوالية، أَلَا انظر للمسألة من وجهتنا الإنسانية؛ كيف
ترضى لنفسك أن تقول السوء عن بلادك؟ في الوقت الذي تُسفَك فيه دماءُ أبنائها
وتنكب هذه الهزيمة الفاجعة التي تواترت أنباؤها … ثم لا تنسى أيضًا زوجتك،
فإن أخاها سافَرَ مع فرقته في أصيل هذا النهار بالذات، فهلَّا اقتنعتَ! هلَّا أفنيت
عنها الحزن والغم! (يهرب مور من هذا الموقف إلى
النافذة، ويتبادل القوم النظرات.)
مور
(يلتفت إليهم)
:
إن محاولة تكميم فمي على هذه الصورة عملٌ شنيعٌ، عملٌ شنيعٌ جدًّا.
باننج
:
إننا إنما نريد أن نُنجِيك من التجربة.
مور
:
لقد احتفظتُ بمقعدي في المجلس تسع سنين متوالية، على الشر والخير … وفي
السراء والضراء، وكنتم لي أبدًا أنصارًا وأعوانًا … إنَّ فؤادي كله في عملي
أيها السادة، ولستُ أبغي خسوفًا سياسيًّا لنجمي وأنا ما زلتُ في
الأربعين.
شلدر
:
وهذا ما لا نريده لك … بل هو ذا الذي يحدونا إلى التشبُّثِ بك.
باننج
:
إن الصداقة تضطرنا إلى أن نكون صرحاءَ في وصفِ الشعور العام المحتوم ضدك،
فَلْتلزم الصمتَ حتى تهدأ الثائرة … أنت رجل عظيم فلا تخذلنا فيما نأمل، ولا
تأبى علينا ما نريد … لقد كنَّا ننتظر منك وأنت الرجل العظيم في هذا الحادث
الخطير.
مور
:
وهذا ما أنا فاعله.
هوم
:
وما هو هذا الرأي؟ هل تسمح لي بهذا السؤال …
مور
(يلتفت إليه محتدًّا)
:
إن دولة عظيمة كدولتنا يجب أن تكون العاملة لخير البشرية، فهل يمكن أن
تكون هذه الاعتداءات الطفيفة التي ارتكبَتْها تلك الأمة الصغيرة … عذرًا لنا
لاستلاب حريتها؟
باننج
:
استلاب حريتها! … هذا كلام لا أصل له.
مور
:
حسبك يا مستر باننج … لا تغالِطْ … لقد ذهبنا إلى تلك البلاد لنحتَلَّها كما
فعلنا مع سواها من ممالك وأقطار، وتصريح رئيس الوزارة الليلة الماضية جلِيٌّ
واضِح لا يحتاج إلى تفسير … فقد قال إذا كنَّا مضطرين على بذل هذه الدماء
وإنفاق هذه الأموال، فيجب علينا أن نعمل عملًا حاسمًا حتى لا نضطر إلى
تكرير التضحية في المستقبل … ومعنى ذلك أننا عاملون على ابتلاع تلك البلاد
دفعة واحدة.
شلدر
:
هَبْ أن الأمر كذلك، فماذا فيه من بأس، إن هذا شأن الشعوب المتمدنة … بل ما
هي المدنية في حكم المنطق والحياة إنْ لم تكن ابتلاع الإنسانية الراقية
للإنسانية الدنيا، لسنا نحن في ذلك ظالمين.
مور
:
أنا وأنت في هذا لن نتَّفِقَ ولو تناقَشنا إلى الصباح … وليست النقطة في هل
أنا أم أنت المُحِقُّ المصيب … ولكن هي ماذا يجب أن يفعل الرجل الذي يدين
بعقيدة من كلِّ قلبه، ويخلص إليها بكل قواه … فإن كان عندك في هذا رأيٌ فهاته
(يَسُودُ السكوتُ لحظة).
باننج
:
لقد كنتُ أفكِّر في أولئك المساكين الذين ذهبوا ضحيةَ الحرب في ذلك
المضيق.
مور
:
وأنا مستطيع أن أتصوَّرَهم مثلك تمامًا يا مستر باننج، ولكن هل تستطيع
يا عزيز أن تخبرني ماذا يكون شعورك لو أنَّ في بلادنا الآن مئاتٍ من الأجانب، وقد
جاءوا خصيصى يبغون العدوان عليها … نعم، على بلادنا نفسها، بلادنا المعتَزَّة
برقِيِّها، المتباهية بحضارتها … أَتهتَمُّ فقط بأولئك المساكين القتلى في المضيق،
ولو كانوا هم المعتدين على بلادنا، واعتدوا على حرمة أرضنا … لما بقي منكم
رجل واحد لا يصيح اقتلوهم. اقتلوهم بل لَاشتركتَ أنت في القتل، ولَاشتركتُ فيه
أنا نفسي مع المشتركين (تؤثِّر هذه الكلمات
الشديدة في نفوس القوم أكثر من أي حجة أخرى، فيلتزمون
الصمت).
مور
(مسترسلًا)
:
هل هناك فرق بين الحالتين؟ … صدِّقوني لستُ عديمًا من الإحساس حتى لا أريد أن
يُمحَى عارُ هذه الهزيمة التي لحقتنا، ولكن على الرغم من إخلاصي لكم، بل على
الرغم من آمالي الكبار التي أتطلَّعُ إليها، وهي لا أُخفِي عنكم كثيرة وستزداد
ولا ريب على الأيام (يخفض من حديثه)
وعلى الرغم من تألُّمِ زوجتي وعذابها الشديد، أراني مُلزَمًا بأن أرفع الصوت
عاليًا ضدَّ هذه الحرب وبواعثها غير المشرفة.
باننج
(يتكلم بتأثُّر وبصوتٍ منخفضٍ مستشيرًا أصحابَه بعينَيْه أثناء
كلامه)
:
ليس هناك رجلٌ يا مستر مور أنا له أشدُّ احترامًا من احترامي لك، ولكني لستُ
أدري ماذا عسى القوم قائلين حين نعود إليهم … وإنْ كنتُ أنا شخصيًّا لا
أستطيع أن أشترِكَ مع الذين يريدون إكراهَكَ على التخلِّي عن مبدئك
وعقيدتك.
شلدر
:
ليس فينا مَن ينكر عليه ذلك.
ديس
:
حقيقة، حقيقة.
شلدر
:
من فكري أن يُترَك كلُّ إنسانٍ حرًّا في التمسُّكِ برأيه مهما كان.
مور
:
أشكرك يا مستر شلدر.
باننج
:
هذا حسن … ولكن الذي أخشاه أننا سنجد صعوبةً شديدةً (وينظر إلى هوم فجأةً، وكان هذا قد رفع يدَه إلى أذنه
كالمستمع، وقد تعالَتْ من بعيد — في خفوتٍ — أصواتُ الموسيقى، فينتبه الجميع
إليها ويقفون منصتين).
هوم
(فجأةً)
:
موسيقى الحرب! (هنا يظهر شبحُ أوليف وهي تعدو
صوبَ النافذة في التراس، وتلتفت كاترين كأنها تهمُّ
بمتابعتها.)
شلدر
:
موسيقى المايلندرز (ينهض. تسرع كاترين إلى التراس، ويذهب الجميع واحدًا بعد
واحدٍ إلى النافذة حتى يبقى مور وحده، فيمضي إلى النافذة الفرنسية، بينما
تأخذ الموسيقى في الوضوح وهي تقترب. يغادر مور مكانه عند النافذة وهو في نزاع نفساني
شديد يبين أثره في وجهه المتقلص وحركاته المضطربة … يروح ويغدو في
الغرفة موازنًا بين خطواته والنغمة، تأخذ الموسيقى في الخفوت وهي تبتعد حتى تصبح فقط
نقر طبول، ولا يعود يسمع غير صوت مواقع أقدام الجنود على الأرض، فيقف
مور عند المائدة ويغطي عينَيْه بيدَيْه. يعود الوافدون واحدًا وراء الآخَر مخترقين التراس
وداخلين من النوافذ الفرنسية وقد تغيَّرَتْ سحنهم وهيئاتهم، وتسير كاترين
في إثرهم حتى النافذة فقط).
هوم
(بصوت غريب اللهجة كأنَّه يهدِّد)
:
كلام لا ينفع، هلم فعِدْنا يا مستر مور إنك ستلازم السكوت …
شلدر
(في إثره)
:
نعم، نعم … يجب أن تتعهَّدَ لنا بذلك.
ديس
(في إثره)
:
أي نعم، يجب … يجب …
باننج
:
لن ندعك حتى نأخذ منك هذا التعهُّدَ.
مور
(دون أن يرفع رأسه)
:
أنا … أنا … (تُسمَع دقات الطبول مع فرقة
سائرة).
باننج
:
أتسمع هذا يا رجل … ثم تتردَّد … بينما دم أبناء وطنك يُسفَك في غير أراضيه؟
(يُسمَع ضجيجُ الجماهير في
الخارج).
مور
:
إنني أمام هذا الإلحاح لا يسعني أن … أن … (تقطع
عليه الكلامَ أصواتُ الضجيج والصياح في الشارع، والجماهير تهتف قائلةً:
لتحيا الجنود البريطانية، اسحقوهم أيها الشجعان … اقتلوهم أيها الأبطال
… اذبحوا أبناءهم … خذوا أرضهم … لا تتركوا فيهم حيًّا، ضرِّجُوا الأرضَ
بدمائهم … ثم يتلو هذا الهتاف تصفيقٌ وصياحٌ وتهليلٌ يشقُّ عنانَ السماء).
مور
(يرفع رأسه من بعد إطراقِه)
:
أذلكم نداءُ الوطن! كلا … وربِّ السماوات كلا.
كاترين
:
رباه! لقد رجع إلى تشبُّثِه.
شلدر
:
إذا كان الأمر كذلك فنحن ننصرف.
باننج
:
أتعني حقًّا ما تقول يا مستر مور؟ إذن أنت تريد أن تخسرَنا نحن أيضًا
(ينحني مور مودِّعًا).
هوم
:
يا للعجب من أمرك! (ينظر بغضب إلى مور، ثم إلى
كاترين ثم إلى مور) أهكذا تريد أن تخرج على بلادك؟ إذن
فَلْننتظر غدًا هي صانعة بك (يخرجون واحدًا بعد
الآخر في صمتٍ، إلا باننج ينظر إلى الوراء وهو خارج من الصالة، وعند ذلك
يتهالك مور من العياء والإجهاد على مقعده أمام المائدة وكومة الجرائد
المبعثرة، بينما تظلُّ كاترين عند النافذة جامدة في مكانها لا تبرحه …
وحينئذٍ تتقدَّمُ أوليف).
أوليف
:
أي شكل جنودنا بديع جدًّا يا أماه، ولكن الناس الذين يسيرون وراءهم في
ثياب قَذِرة، وإنْ كان قليل منهم نظيفي الملابس! (تدرك
الصَّبِيَّةُ من شكل أمها ووجهها أن أمرًا غير مألوف قد وقع … فتنظر إلى
أبيها ثم تتسلَّلُ إليه خطوة حتى تقف بجانبه ملاصِقةً له) إني …
لقد سافَرَ خالي هيوبرت … وخالتي هيلين لا تكفُّ عن البكاء … ثم انظر إلى أمي …
إنها تبكي هي الأخرى (يرفع مور رأسه
وينظر).
أوليف
:
أبي أبي … أَلَا تكون معنا؟ … أَلَا تكون في صفنا؟ … أتوسَّلُ إليكَ يا أبي أن تفعل
(تضع خدها لصق خده وتتمسَّح به، ولما تجد أنه لم
يمسح خده بخدها كما تفعل معه، تغادره مبتعدة وهي تنقل نظرها بينه وبين
أمها من فرط الدهشة).
مور
(بعد حركة مقاومة ومجاهدة عنيفة)
:
بلادي … وطني … إيماني … عقيدتي … مبادئي … كلا … كلا … لن أعصي صوتَ
الضمير ولو أمسيتُ غدًا في الهالكين.
(ستار)
الفصل الثالث
(زقاق مرصوف بالحجارة، ولكن لا رصيفَ فيه خلف تياترو صغير من تياتروات الضواحي، وقد
لُصِق على جداره الشاهق الأملس الذي لا نوافِذَ فيه ولا فتحات، بقايا ممزَّقة من إعلانات
قديمة عن الحفلات، ويافطة تحوي هذه الكلمة: للإيجار … وإعلانات عديدة ممزَّقة، وفيها
إعلان واحد لا يزال بحاله وقد كُتِب فيه … أوقفوا الحرب … خطبة في اجتماع أول أكتوبر
للمستر مور، وخطاب لآخَرين. والزقاق قَذِر تناثَرَتْ على أرضه القاذوراتُ والأوراقُ المهمَلةُ
والقصاصاتُ المتطايرةُ، وهناك سُلَّم ذو ثلاث درجات من الحجر تؤدِّي إلى الباب الخلفي
للتياترو أو باب المسرح؛ والليلة حالكة السواد فلا ضياءَ فيها إلا بصيص ينبعث من
وابور نور بعيد في الشارع، ويُسمَع لغطٌ وهمهمةٌ وصدَى هتافٍ وصياح في مكان سحيق … وإذا
بغلام من السوقة يجري مارًّا صوبَ التياترو في طريقه، وتتلوه فتاتان من بنات العامة
وهما تجريان نحو مصدر الضجيج البعيد، ثم لا يلبث الزقاق أن يقفر من المارة كما كان؛
وهنا ينفتح باب المسرح ويطلُّ البوَّابُ برأسه على الزقاق، فينظر يمنةً ويسرةً ليستوثق
من
الطريق، ثم ينسحب ليظهر ثانيةً في الحال متقدِّمًا ثلاثةَ أشخاصٍ في ثيابٍ سوداء.)
بوَّاب المسرح
:
الطريق آمنة، فيمكنكم أيها السادة أن تذهبوا الآن. سيروا على الشمال، ثم
اعطفوا على اليمين عند أول ناحيةٍ تقابلكم.
الثلاثة
(وهم ينفضون ثيابَهم ويُصلِحون من رباطات أعناقهم)
:
شكرًا لك، شكرًا …
الأول
:
ولكن أين مور؟ أليس خارجًا؟ (يخرج في إثرهم
رابع.)
رابع
:
سيخرج مور على الأثر (للبوَّاب) متشكِّر
(يُسرِعون متفرِّقين ويعود البوَّابُ، وإذ ذاك يمرُّ
غلامٌ آخَر مُسرِعًا، وينفتح الباب ثانيةً فيخرج مور ومعه
ستيل).
ستيل
:
تعال يا سيدي، تعال.
مور
:
أشعر بألمٍ موجع يا ستيل.
ستيل
(يتأبَّط ذراعَه ويكاد يجرُّه على درجات السُّلَّم جرًّا)
:
لقد نجوتَ يا سيدي بمعونةِ أصحاب التياترو، فأنت مَدِين لهم بالحياة. (يتردَّد مور) هيا بنا، هيا بنا وإلا حُجِزنا في
التياترو ساعة أخرى، وقد وعدت مسز مور أنك راجِع في منتصف الساعة الحادية
عشر، وأخشى أن تقلق لغيابك الطويل، ولا سيما أنها لم تَرَك منذ شهر.
مور
:
هيا إذن بنا ورفقًا بذراعي لا تخلعه (يهبطان
الدَّرَج ويسيران مُسرِعين على اليسار، وفي هذه اللحظة يأتي غلامٌ جاريًا
فيلمح مور، فيقف بغتةً ويلفُّ حولَ نفسه مبهوتًا، ثم يصيح بأعلى
صوته: هذا هو نعم هذا، هذا هو بعينه. وينطلق عائدًا من حيث أتى).
ستيل
:
أَسرِعْ يا سيدي، أَسرِعْ.
مور
(ضاحكًا ضحكة مُرَّة)
:
هذا كثير جدًّا.
ستيل
(يجذبه إلى الوراء نحو باب التياترو)
:
الأفضل أن تدخل ثانيةً، هيا هيا (يأتي جَمْعٌ من
الرجال والغلمان والفتيات وهم مُسرِعون يجرون من ناحية اليسار، جَمْعٌ من
الغوغاء في حالة هياج بين عمَّال ومتشرِّدين وبحَّارة والفتيات من العوام
والطبقات الدنيا، وكأنَّ الجَمْعَ خلال صيدٍ أو وحوش سئمَتْ رائحةَ الدم، فيجتمعون
حول السُّلَّمِ مُظهِرين في مبدأ الأمر ذلك التردُّدَ الوقتيَّ والدهشة التي تسبق
الجري والانقضاض على الطريدة، ويكون مور في هذه اللحظة واقفًا على
الدرجة الأخيرة، فيلتفت ويحدق البصر فيهم).
فتاة
(على الحافة)
:
أيهما هو، العجوز أم الشاب؟ (يدور مور بظهره
ليصعد الدرجتين الباقيتين.)
شاب طويل
(منفوش الشعر تحت قبعته العريضة الحافة)
:
أيها الخائن المارِق (يلتفت مور نحوَه ثانيةً
على صياح الهتاف والسخرية الذي تلا كلمةَ الشاب. تزداد الجلبةُ ويشتدُّ اللغط
والصياح والصفير، ولكنه ينقطع فجأةً كأنما قد أدرَكَ الجميع أنهم قد أفسدوا
على أنفسهم لذتهم).
فتاة أخرى
:
لا تُخِيفوا المسكين (تضحك فتاةٌ أخرى بجانبها
ضحكةً عاليةً بجلجلة).
ستيل
(وهو يشد مور من ذراعه)
:
تعال يا سيدي، تعال معي.
مور
(ينزع ذراعه منه ويتلَفَّت إلى الجمهور قائلًا)
:
ماذا تريدون؟!
أحد المتجمهرين
:
نريد خطبة.
مور
:
أحقًّا، هذا كرم جديد.
صوت آخَر
:
انظروا إلى قلبه الخافق، فإنه بادٍ على وجهه.
بحَّار ضخم الجثة
(في المقدمة)
:
سكوتًا، ودعونا نسمع كلامَه، اتركوا له الفرصةَ.
الشاب الطويل
:
أتريد منَّا أن نسمع كلامَ الخائن المارِق؟ (وهنا
يُخرِج أحدُ الفتيان زمارةً فينفخ فيها ويتعالى الضحك من الجميع، ثم يسود
الصمتُ فجأةً.)
مور
:
لستُ أريد أن تطيلوا كلامًا، سأُلقِي عليكم رأيي بحجرٍ واحدٍ.
أحد الباعة
:
مثل هذا؟ (ويُلقِي عليه جوزة فتصيبه في
كتفه.)
مور
:
عودوا إلى بيوتكم وفكِّروا، أفلو غزا الأجانبُ بلادَكم وهاجَمَ الغرباءُ ديارَكم،
أَلَا تحاربون مستبسلين مستميتين كما يفعل أولئك الهَمَج اليوم في
بلادهم.
الشاب الطويل
:
كلاب غادرة! لماذا لا يطلعون لإخواننا في الخلاء؟ ولماذا يختفون في
المضيق؟ وحوش سفَّاكة خائنة المضيق.
مور
:
إنهم يحاربون على طريقتهم التي أتقونها (ينبري
أحد العساكر في أقصى اللمة فيُحدِث جلبة وسخرية) أخونا هذا الذي
يرتدي الثوب العسكري هو الذي يسخر من كلامي ويحوشكم بي، ولكني لم أقل في
حياتي كلمةً مؤلِمةً في حقِّ جنودنا، إنما أنا أوجِّه انتقادي إلى الحكومة التي
أرسلَتْ تلك التجريدة، وإلى الجرائد التي حرضتها على هذا العمل، وإليكم أنتم
جميعًا على أنكم رضيتم أن يجرُّوكم من أنوفكم إلى أمرٍ ما كنتم لترضوه لو
تركتم أحرارًا لا يؤثِّرون فيكم ولا يخدعونكم (ينبري الشاب الطويل بإحداث ضوضاء وهتاف ضد الخطيب).
مور
:
إنني أقول لكم أن ليس فيكم رجل واحد يرضى أن يهاجِمَ شخصًا أضعف منه أو أقل
قوةً وبأسًا (أصوات في وسط
الجمع).
أحدهم
:
كلام معتدل في الظاهر.
آخَر
:
إنه يريد التأثير عليكم.
الشاب الطويل
:
كلام فارغ، كلام فارغ.
أحد البحَّارة
(وهو يتقدَّم إلى الأمام فجأةً)
:
اسمع يا حضرة، لا تستمِرَّ في هذا الكلام أمام أناسٍ هم زملاء في الحرب
وأبناء وأخوة، وإلا عرَّضْتَ حياتك للخطر؛ أحسن شيء تذهب إلى بيتك.
صوت
:
واجعل زوجتَك تضع لك قطنًا في أذنَيْكَ (ضحك
وتأرئي).
صوت نصير
:
عار عليكم يا قوم، مرحى يا مستر مور، هيا لنسمع (ولكنَّ الأصواتَ تتعالى فتخفته).
مور
(يصيح فيهم)
:
قِفُوا هذا الصياح، قِفُوا هذا الصياح، وأنت أيها الشاب الواقف هناك (للشاب الطويل).
الشاب الطويل
:
صه يا خائن.
آخَر
:
صه يا مارق.
ثالث
:
إنه يستحقُّ الإعدامَ هذا الخائن الذي ينتصر لأعداء وطنه وخصوم
بلاده.
مور
:
إن أولئك القبائل إنما تدافِعُ عن وطنها.
صوتان
:
اسمعوا اسمعوا، دعونا نسمع (ولكن الجمهور
يُسكِتُهما).
الشاب الطويل
:
كلام فارغ وثرثرة لا طائلَ منها.
مور
(بانفعال فجائيٍّ)
:
نعم يدافعون عن وطنهم لا أن يتجمهروا للعدوان على أناسٍ غير
مسلَّحين.
ستيل
(وهو يجذبه من ذراعه)
:
أُناشِدك الله يا سيدي … هلم معي.
صوت
:
اخرس أيها الجبان وإلا تُقتَل …
مور
(مستعيدًا هدوءه)
:
آه! أُقتَل! مرحى لكم! مرحى لكم! هيا أروني كيف تكون الشجاعة أمام العُزَّل
الآمنين.
ستيل
(يجذبه)
:
كفى يا سيدي كفى، هلم معي.
مور
(ينزع ذراعه منه)
:
إيه يا قوم! ها أنا ذا فهلموا (هجوم وتدافع،
ولكنه ينقطع لسقوط الصفوف الأمامية، ووقَعَ الأشخاصُ الذين في المقدمة على
السُّلَّم. يتراجع المتجمهِرون. لحظة صمت رهيبة، بينما مور يرهقههم وهو
فوق الدرجة العليا دون أن يتحرَّكَ أو يبدو عليه الرعب).
صوت
:
أَلَا ترون أنه يُحسِن الكلامَ، إنه رجل فصيح اللسان، ولكن يا خسارة! (تتساقط فوق مور قشور البرتقال والبطاطس والجوز وتصدم
وجهه، ولكنه لا يعير ذلك اهتمامًا.)
صوت خشن
:
هكذا وإلا فلا، حمسوه قليلًا وشجِّعوه (ضحك ولكن
تنقلب الضحكات إلى عبوس يعلو الوجوه لرؤية مور وهو واقف هادئ يبتسم عن
سخرية واحتقار).
الشاب الطويل
:
أيها الخائن، ما بالك واقفًا هكذا كالخنزير الذكر.
ثالث
:
دعونا نؤدِّبه على هذه الوقاحة (تصفيق وتصفير
وهتاف، ويتشجَّع هذا المتكلم بذلك، فينزع حزامه ويضرب به قدمي مور. وإذ
ذاك يتقدَّم ستيل إلى الأمام ليحمي سيده، ولكن مور ينشر ذراعَيْه ويقف
محملقًا ببصره في الجمع وهو هادئ، بينما يأخذهم الغضب من هذا الصمت الذي
يشهدونه وهذا السكون الذي يرونه).
الجميع
:
إمَّا أن تتكلَّم وإمَّا أن تنزل، هيا أسرع وإلا قتلناك … أنت فاهم أم لا؟
(يظلُّ مور جامدًا في مكانه لا
يتحرك.)
شاب
(في خلال صمت ينمُّ على التردُّد والارتباك)
:
سأجعله يتكلَّم انظروا (يتقدَّم للأمام فيبصق وتقع
البصقة على يد مور، فينثرها عن كفه كأنها لذعة لاذع ألمَتْه، ولكنه يظلُّ في
مكانه كما كان تام الهدوء؛ فلا تلبث الضحكات أن تنقلب رعشة استياء
وتأفُّف من هذا العمل، ولكن هذا الاستياء لا يلبث أن ينقلب إلى غضب إذ
يرون على وجه مور بسمةَ السخرية).
الشاب الطويل
:
تحرك أيها الحيوان، وإلا فالويل لك.
آخَر
:
ألقوه حجرًا (تصيب مور طوبتان، فيتراجع حتى يكاد
يسقط، ولكنه في خطف البصر يستقيم على ساقيه).
صوت فتاة
:
العار يا قوم العار.
صوت نصير
:
يا لك من شجاعِ الثبات يا صاح! الثبات.
صوت آخَر
:
أعطوه طوبة أخرى.
صوت فتاة
:
كلا لا تفعلوا، لا تفعلوا، دعوه وحده، اتركوه بسلام، هلموا بنا فإن هذا شيء
مؤلم (ينظر الجميع إليه وهم صامتون، وإذ ذاك
ينبري البحَّار الضخم من غمارهم حتى يتصَدَّرَهم).
البحَّار
(يتلفت إليهم آمِرًا)
:
هيا انصرفوا، فقد طال وقوفكم (يشتت الزحام
يمينًا وشمالًا حتى يقفر الزقاق، وإذ ذاك يبدو عسركيان من عساكر البوليس، فينظران
إلى الحارة ويشاهدان آخِر الجموع المنصرفة، ويرفعان بصرهما إلى الزجاج
المكسور، ويُخرِج أحدهم دفترًا صغيرًا من جيبه فيكتب
فيه).
مور
(وكأنما قد ثاب إلى نفسه من ذهولٍ طويلٍ، فيمسح يده
بمنديله وينفض سترتَه)
:
لن يزيدني هذا وأشنع من هذا إلا تمسُّكًا وثباتًا، وإنَّ سلطانَ الضمير فوق كلِّ
سلطانٍ في الأرض، ستيل هلم بنا (ينزلَا من السلم
منصرفين).
(ينزل ستار)
المنظر الثاني
(جناح من حجرة نوم كاترين، وهو الجناح الذي يحوي النافذةَ، وهو مدهون باللون
الأبيض اللاكيه، وهناك أربعة شموع مضاءة تسقط أنوارها على مائدة الثياب
الكنصول، وهي من خشب السرو. كاترين جالسة تمشط شعرها، وفي اليسار باب مفتوح على
سعته ولا يحوي هذا الجناح من الغرفة غير مقعد من خشب السرو مُسنَد إلى الحائط
بجانب النافذة، حيث يبدو الليل وتظهر السماء، وقد شاع فيها غمام يتدحرج ويمرق
ذاهبًا من خلا الشجر، فلا يبدو غير أشباح الأغصان المتفرِّقة تحت سماء مقمرة.
وفيما يرتفع الستار تُرَى كاترين وهي منصتة مرهفة السمع والمشط مرفوع في يدها، ثم
تروح تعاود تمشيط شعرها، ثم تقف عنه لحظة لتأخذ رزمة من الرسائل من درج المائدة
فتقرأ، ومن خلال الباب القائم خلفها وقد انفتح في تلك اللحظة يُسمَع صوتُ الصغيرة
أوليف.)
أوليف
(تنادي)
:
ماما … ماما أنا صاحية (تظل كاترين
مسترسلة في قراءتها، بينما تأتي أوليف من خلفها متسلِّلةً وفي ثياب
النوم).
أوليف
(بجانب ذراع أمها وهي تنظر إلى الساعة التي
أمامها)
:
الساعة الحادية عشرة إلا ربعًا.
كاترين
(مستاءة)
:
أوليف، أوليف.
أوليف
:
لقد جئتُ فقط لأعرفكم الساعة لا يمكنني أن أنام إذا قلقت، وكلما نعالج
النوم يستعصي، وأظنكِ جربتِ ذلك يا أماه … ألم يأتِ خبرٌ بعدُ عن انتصارنا عليهم
(تهز كاترين رأسها نافية) آه،
لقد دعوتُ الله في صلاتي أن تأتينا أخبارٌ سارةٌ (تقف حول أمها) ألَمْ يأتِ بعدُ أبي.
كاترين
:
لم يصل إلى الآن.
أوليف
:
هل تنتظرينه؟ (تدفن وجهها في شعر
أمها) إن شعرك يا أماه بديع، بل هو جميل جدًّا وفوق العادة
في هذه الليلة (تضطرب كاترين وتدع المشط
يسقط من يدها وتنظر إلى ابنتها مجفِلةً).
أوليف
:
كم مضى على بابا وهو غائب عنَّا يا أماه؟
كاترين
:
شهر ونصف.
أوليف
:
يا للعجب! كأنه عندي مائة سنة، أليس هو في نظرك هكذا يا أماه؟ وهل كان
يخطب كل هذه المدة؟
كاترين
:
نعم.
أوليف
:
وفي هذه الليلة أيضًا؟
كاترين
:
نعم.
أوليف
:
في الليلة التي كان عندنا فيها ذلك الرجل الأصلع الذي لا شعرةَ واحدة
في رأسه. هل تتذكرينه يا أماه؟ الرجل الذي كلما ابتسَمَ بدَتْ أسنانه
الناصعة، في تلك الليلة يا أماه سمعتُ أبي وهو يخطب للرياح ويكلِّم الهواء،
حتى لقد تحطَّمَ أحدُ الأقداح في يده! الظاهر يا أماه أن خطبته بديعة جدًّا،
أليسَتْ كذلك؟
كاترين
:
جدًّا.
أوليف
:
ولكن العجيب أنه كان يخطب للرياح ويكلِّم الهواء، في ليلةٍ لا رياحَ فيها
ولا هواءَ يا أماه!
كاترين
:
كلام في الهواء هو تعبير له معنًى آخَر يا بُنَيَّتي.
أوليف
:
وهل يُكثِر أبي في هذه الأيام من هذا الكلام يا أماه؟
كاترين
:
غالبًا.
أوليف
:
ولكن ما معنى كلام في الهواء إذن؟
كاترين
:
معناه كلام لا يجد سامعين، وقول لا يجد مصدقين.
أوليف
:
وماذا يفعل أبي إذن؟
كاترين
:
يذهب جمع قليل من الناس يسمع خُطَبه، فلا يلبث الجمهور أن يقتحم المكان
عليهم فيشتِّت الاجتماع، أو ينتظرونه في الخارج حتى ينصرف، وعندئذٍ يقذفونه
بالحجارة أو قشور الخضراوات أو نحوها، ويسيرون خلفَه مستهزئين
صائحين.
أوليف
:
مسكين بابا، وهل الذين يرمونه بالحجارة أناسٌ من صفِّنا يا أماه؟
كاترين
:
نعم، ولكنهم غير متعلِّمين.
أوليف
:
ولكن لماذا إذن يستمر بابا على الخطب، لو كنتُ أنا منه لَمَا
فعلتُ.
كاترين
:
لأنه يعتقد أن هذا هو واجبه.
أوليف
:
هل واجبه نحو الإنسان أم نحو الله فقط؟
كاترين
:
نحوهما معًا يا بنيتي.
أوليف
(تلمح الرسائل)
:
آه، أهذه خطابات يا أماه؟
كاترين
:
نعم.
أوليف
(تتناول خطابًا منها وتقرأ منه)
:
يا مهجتي الغالية …(تنظر إلى
أمها) هل يناديك هكذا دائمًا يا أماه؟ نداء بديع، أليس
كذلك؟ (تعاوِدُ القراءةَ) سأكون لديك
حوالي منتصف الحادية عشرة من مساء الغد، لكي أجد لي بقُرْبِك بعض الراحة
وقليلًا من العزاء، بل إن نيران الجحيم ستكفُّ قليلًا من السعير. ولكن يا
أماه ما معنى هذه الكلمات لأنني لا أفهمها؟
كاترين
(تتناول الخطاب منها وتجمع الخطابات الأخرى فتضعها
في الدرج كما كانت)
:
كفى يا أوليف كفى.
أوليف
:
ولكن بالله ما معناها يا أماه؟
كاترين
:
بابا يعني أنه ليس سعيدًا في هذه الأيام.
أوليف
:
وأنت يا أماه، ألستِ مثله؟!
كاترين
:
وأنا أيضًا.
أوليف
:
وأنا أيضًا، هل أفتح النافذة؟
كاترين
:
كلا، لئلا يدخل الضباب.
أوليف
:
ضباب غريب؛ لأنه يتدحرج في السماء، أليس كذلك؟
كاترين
:
كفاية يا أوليف، كفاية.
أوليف
(تريد تطويل الحديث)
:
ماما متى سيعود خالي هيوبرت؟
كاترين
:
لا ندري يا عزيزتي.
أوليف
:
أظن أن خالتي هيلين ستمكث عندنا حتى يعود، أليس كذلك؟
كاترين
:
هو كذلك يا بنيتي (تمسك بها من
ذرعها) والآن أَلَا يكفي هذا؟ (تحاول حملها بالإكراه لتذهب.)
أوليف
(وهما يمران من الباب)
:
لا تستطيعي حملي يا أماه! (يضحكان. لحظة
صمت) لا أريد النوم حتى أرى أبي عند حضوره (تعود كاترين وقد همَّتْ بأن تدع الباب مفتوحًا
قليلًا، ولكنهما تسمعَا دقًّا على الباب الآخَر، وإذا هو يُفتَح قليلًا
وإذا بالمربية تنادي).
المربية
:
هل تسمحين لي بلحظة يا سيدتي؟ (تدخل
المربية.)
كاترين
(تغلق باب غرفة أوليف وتتقدَّم نحو المربية)
:
ماذا تريدين يا عزيزتي المربية.
المربية
(بصوت منخفض متلعثم)
:
لقد كنتُ أريد من الصباح … نعم، ولكن لم أشأ أن يكون ذلك نهارًا … لقد كنتُ
أريد يا سيدتي أن أُعلِمَكِ بأنني سأترك الخدمة.
كاترين
(مبهوتة)
:
وأنت أيضًا؟ (تنظر على غرفة أوليف كأنما
تريد أن تقول لها: وماذا تفعل البنت؟ فتبكي المربية وتختنق
بالعَبَرَات.)
المربية
:
أودُّ أن أغادِرَ البيتَ حالًا.
كاترين
:
وتتركين أوليف؟ وما ذنب الطفلة؟
المربية
:
لقد جاءني خطاب آخَر من ولدي … إنني كما ترين يا سيدتي كاترين لا يمكن
أن أتحمَّلَ الإقامة في البيت، ما دام سيدي زوجك راجعًا الآن إليه بعد تجوُّله
في البلاد خطيبًا ينتصر لأولئك الهَمَجِ المتوحشين.
كاترين
:
ولكن يا عزيزتي.
المربية
:
إن شعوري لا يشبه شعور الخدم الآخَرين في البيت، فلستُ خائفةً من الجمهور،
ولا من اعتداء الضوضاء، ولا من تحطيم النوافذ، ولا أنا عابئة بالصياح في
الشارع … كلا يا سيدتي، ولكني موجعة القلب، حزينة لأنني أفكِّر دائمًا في
ولدي، وأتصوَّرُه وهو نائم ملتحف السماء مفترش الغبراء، يشرب من الماء القَذِر
الذي يسقيه المواشي والأنعام، وفي كل يوم يشهد حوله صديقًا يسقط، وزميلًا
يموت، ومَن يدري فقد يحين دوره هو الآخَر في يومٍ من الأيام … أواه يا
سيدتي! لستُ أدري كيف تتحمَّلين أنت كل هذه الآلام؟ والأخبار السيئة تَرِدُ
علينا يومًا بعد يوم، ثم لا يكفُّ سيدي عن الطعن في وطنية البلاد.
كاترين
:
ولكن كيف تتركينا أنتِ من دون الناس يا عزيزتي.
المربية
(تغالب الدموع)
:
إنني أشعر بأن وجودي هنا ذنب لا يُغتفَر، وبالأخص لأن سيدي مور عائد
الليلة، والإنجيل يا سيدتي يقول إن الإنسان لا يمكن أن يخدم الله
والشيطان.
كاترين
:
أَلَا تعرفين كَمْ يكلِّفه هذا العمل الذي يقوم به، ومبلغ الألم الذي
يعانيه؟
المربية
:
أعرف أنه يكلِّفه خسارة مركزه وضياع سمعته، ولا عجبَ، فإن ذلك وأسوأ منه
هو جزاء الذين يخرجون على بلادهم.
كاترين
:
ولكنه في ذلك إنما يلبِّي نداءَ ضميره.
المربية
:
ويجب على الآخَرين أيضًا أن يلبُّوا نداءَ ضمائرهم. كلا يا سيدتي كاترين،
كلا لم يكن يصحُّ لكِ أن تدعيه يفعل ذلك وأنتِ لكِ ثلاثة أخوة في ميدان
القتال، وأبوك تكاد تذهب نفسُه من الغمِّ حسراتٍ، بل بالله ماذا أنتِ صانعة لو
أن أحدًا من إخوتك الثلاثة — لا قدَّرَ الله — أُصِيبَ بسوءٍ في تلك البلاد
المتوحشة، ماذا تكون الحال لو حدث لعزيزنا هيوبرت الذي ربَّيْته من الصِّغَر
وأرضعته …
كاترين
:
كفى يا عزيزتي كفى.
المربية
:
لقد قرأتُ في الجرائد قولَهم إنه يشجِّع أولئك المتوحشين على بني قومه …
ويجعل الأجانبَ يتخذون عنَّا أحاديث السوء، وكلُّ دمٍ يُسفَك في تلك البلاد يقع
جُرْم سفكِه على هذا البيت ورءوس أهله.
كاترين
(مشيحة عنها)
:
كفى كفى لا أطيق سماعًا. (تطرق العجوز
برأسها متألمةً، وتمشي إلى باب غرفة أوليف، فتفتحه برفقٍ وتقف لحظةً
تنظر وهي تقول) واهًا لك يا نعجتي الغالية! (ثم تدخل بكلِّ لطفٍ وتغلق الباب. تعود كاترين إلى مرآتها فتُصلِح من شعرها
وترفق من شفتَيْها وتمسح عينَيْها، وإذ ذاك ينفتح الباب الدهليز ويُسمَع
صوتُ هيلين وهي تنادي.)
هيلين
:
كاترين هل أنت صاحية؟
كاترين
:
نعم (تدخل هيلين وهي في ثياب النوم
متلفعة، وقد بدَتْ أماراتُ الحزن والغمِّ على وجهها وهي في فزعٍ ورعبٍ
تجري نحو كاترين فتهبط في أحضانها).
كاترين
:
يا لله! ماذا جرى يا عزيزتي؟
هيلين
:
حلم مخيف، حلم مرعب (تبكي من شدة
الفزع).
كاترين
:
صه يا عزيزتي لئلا تستيقظ أوليف.
هيلين
(وهي شاردة البصر)
:
أخذتني سِنةٌ من النوم فرأيتُ فيما يرى النائم سهلًا فسيحًا يترامى على
آخِر حدود البصر كأنه يلتقي والسماء أشبه بهذا الضباب الذي نرى، ثم أبصرتُ
أشباحًا سوداء هناك متفرقة، وإذا شبح منها قد أخذ ينحو رويدًا حتى بَدَا
كأنه جسم بلا رأس، وإذا بندقيته طريحة بجانبه، ثم إذا شبح آخَر قد تمثَّلَ
رجلًا جالسًا على الأرض يضمد ساقه الجريحة، فحدقتُ البصرَ وفي الحال خُيِّلَ
إليَّ أنه ريفورد تابع زوجي … وما هي إلا لحظة أخرى حتى رأيتُ هيوبرت نفسه،
وشهدت وجهه قاتمًا ناحلًا، وقد أُصِيب بجرحٍ بليغٍ هنا. (تشير على صدرها) وإذا الدم يسيل منه
غزيرًا وهو يحاول أيقافَ نزيفه بفمه كأنه يشربه … (تقف عن الكلام لتأخذ أنفاسها من فرط
التأثُّر) وعند ذلك سمعتُ ريفورد يضحك ضحكةً جنونيةً ويقول إن
الرَّخَم لا يأكل جثثَ الأحياء، وإذا بصوت آخَر ينبعث من مكانٍ لم أتبيَّنْه وهو
يصيح: رباه! … ها أنا ذا أموت! … وراح ريفورد من السخط يسبه وينتهره، ولكني
سمعتُ هيوبرت يمنعه قائلًا: لا تنهره، دَعْ المسكين في حاله. وأخذ الصوت يَئِنُّ
لحظةً ثم يتعالى في لحظةٍ صريخًا، وإذا بريفورد يجرُّ نفسه على الأرض
زاحفًا، وقد ارتدَّ وجهه مرعبًا كالأبالسة وكأنه يهم بالقتل.
كاترين
:
يا له من منظر مخيف! يا له من منظر مرعب!
هيلين
:
وظلَّ ذلك الجريحُ المحتضر يصرخ، ورأيت ريفورد قد تناوَلَ بندقيته وعندئذٍ
استوى هيوبرت على قدمَيْه وراح يمشي متعثرًا واهنًا في إثره، ولكن قبل أن
يصل إليه كان ريفورد قد أطلَقَ النار على ذلك الجريح المستصرخ، وسمعت صوتَ
هيوبرت وهو يصيح بصاحبه … يا لك من وحشٍ! ورأيته يسقط صريعًا في مكانه.
ولما أبصَرَه ريفورد كذلك أخذ يئِنُّ وينتحب، ولكن هيوبرت ظلَّ في صرعته
جامدًا لا يعير حراكًا … ثم استحال كلُّ شيء إلى ظلام … ولكن لم ألبث أن
رأيتُ شبحًا أسود كأنما هو شبح امرأة يزحف ويدلف رويدًا رويدًا نحو
الرجل الذي بلا رأس أولًا، ثم إلى ريفورد … ثم إلى هيوبرت، وإذ ذاك لمَسَه
ووثب هاربًا وهو يصيح صياحًا مرعبًا يجمد له الدم في العروق (تشير إلى الغمام) انظري هناك … ها هي
الأشباح … الأشباح المرعبة.
كاترين
(تعانِقها لتنفي عنها الخوف)
:
نعم يا عزيزتي نعم، لا بد أنك كنتِ تنظرين إلى الغمام.
هيلين
(بهدوء مخيف)
:
لقد مات.
كاترين
:
ما هو إلا حلم.
هيلين
:
ألَمْ تسمعي ذلك الصياح؟ (تُصغِي) هذا
ستيفن، مغفرة يا كاترين لقد أزعجتُكِ ولكني كنتُ في رعب لا يُوصَف فجئتك
فازعةً (تخرج هيلين، وأما كاترين فكان رعب
هيلين قد تعدَّى إليها فتلتَفِتُ وهي مُرعَبة إلى النافذة، وتتقدَّم فتفتحها
بسرعةٍ وتطلُّ منها، بينما يدخل مور. مور يتقدَّم إليها بلهفةٍ مُسرِعًا
نحوها).
كاترين
(وقد تغلَّبَتْ على انفعالها)
:
آه.
مور
:
دعيني أنظر إليكِ. (يأخذها من يدها إلى
الشموع ويطيل النظرَ إليها) ماذا فعلتِ بشعركِ الليلةَ؟
كاترين
:
لا شيء.
مور
:
ولكنه في هذه الليلة أبدع ممَّا رأيْتُه من قبلُ وأجمل (يتناوله بلهفٍ ونهمٍ، فيدفن وجهه خلال
فروعه).
كاترين
(تجذب جدائلها منه)
:
والآن؟
مور
:
ها أنا ذا أخيرًا.
كاترين
(مشيرة إلى غرفة أوليف)
:
صه.
مور
:
وكيف هي؟
كاترين
:
بخير.
مور
:
وأنتِ … (تهزُّ كتفَيْها) يا عجبًا
أَبَعْدَ شهر ونصف؟
كاترين
:
ولماذا جئتَ؟
مور
:
لماذا؟
كاترين
:
ستعاود ما كنتَ فيه بعد غدٍ، فهل يستأهِل هذا مشقةَ الحضور؟
مور
:
كاترين!
كاترين
:
إن مجيئك على هذه الصورة يزيد من ألمي.
مور
(يحدِّق فيها البصر)
:
ماذا جرى لكِ يا كاترين؟
كاترين
:
إنَّ ستة أسابيع وقتٌ طويلٌ على مَن يجلس وحيدًا ليقرأ أخبارَ خطبك
واجتماعاتك.
مور
:
دَعِي الحديثَ عن هذا الليلة (يمسك
بها) هذا ما يشعر به المسافر جوَّاب الصحراء إذا ورد الماء
أو بلغ الواحة …
كاترين
(تلحظ فجأةً جرحًا في جبينه)
:
ما هذا بالله؟ … هذا جرح في جبينك!
مور
:
لا شيء، لا شيء.
كاترين
:
أواه! دعني أطهِّره.
مور
:
كلا يا عزيزتي، هو هيِّن لا يستأهل.
كاترين
(متولية عنه)
:
لقد كانت هيلين هنا منذ لحظةٍ لتقصَّ عليَّ حلمًا رأَتْ فيه هيوبرت
ميتًا.
مور
:
يا لها من مسكينة!
كاترين
:
هكذا أصبحنا نقضي الأيام؛ أحلام مؤلمة، وأنباء سيئة، وانتظار طويل،
واختفاء عن الأبصار، ومخافة من سخرية، وفرار من احتقار … هذا هو كل ما
عندنا من إحساسات الحياة.
مور
:
اختفاء عن الأبصار … أبسببي أنا؟ (تطرق
كاترين برأسها إيجابًا ويُبدِي مور حركةَ ألمٍ شديدٍ) آه! لقد
فهمتُ ولكني من رسائلك لم أكن أظنُّ أنك لا تزالين في جزعٍ … يا لله! … أنتِ
تلوحين الليلةَ بهيةَ الجمال (يلحظ فجأةً أنها
تبكي فيُسرِع إليها) أتبكين؟ … على الله لستُ أريد أن أزيدك
بمجيئي عذابًا … أعود إذن من حيث أتيتُ. (تسحب
نفسها منه وتبتعد عنه قليلًا، أمَّا هو فبعد أن يطيل النظرَ إليها يذهب
فيجلس على مائدة التواليت، ويروح يقلِّب في كفه الأمشاط وأدوات الزينة
مرتبِكًا يبحث عن كلماتٍ يقولها، ويعالج الكلام وهو مستعصٍ
عليه) وداعًا للأمل، يجب أن لا يأمل المرء في شيء، وقد
كنتُ أمني نفسي بعدَ المشاق التي تحمَّلْتُها، والصعاب التي جزتها، أن أجيء
الليلةَ إلى هنا فألقي الربيع وأجد معسول الأمل، وأظفر منك بالواحة
الناضرة والعين الجارية، وأنت الحياةُ، والعالم كله لا شيء. (بينما هو يتكلَّم هكذا تتسلَّل هي إليه مقتربةً، وإذا
هي فجأةً تجثو على قدمَيْها بجانبه، وتدفن كفه في خلال شعرها، فيلتفت
ليحتضنها) كاترين!
كاترين
:
نعم، ولكن غدًا يبتدئ الألم من جديدٍ، وآه وأواه يا ستيفن! إلى متى تمزِّق
فؤادي تمزيقًا؟! (يتراجع وهي في
ذراعَيْه) لا أستطيع، لا أطيق احتمالًا.
مور
:
زوجاه! … زوجاه!
كاترين
:
دَعْ هذا الأمرَ جانبًا، اتركه من أجلي. (تلصِق
بدنَها به أكثر من الأول) حسْبُكَ أني لك … وأنني عندك العالم
وما حوى …
مور
:
ربِّ لا تخذلني.
كاترين
:
سنكون معًا … وسأكون لك إذن … إذن أنت …
مور
(مبهوتًا مريعًا)
:
شروط إذن … ومساومة! … كاترين … ماذا أسمع؟
كاترين
:
ستيفن … ستفين … أتوسَّل إليكَ.
مور
(غاضبًا)
:
أنتِ … أنتِ كاترين … تساومين!
كاترين
(مختنقة)
:
ستيفن … ستيفن! (ينزع نفسه من بين ذراعَيْها
واقفًا وهو يحملق البصر إليها، ويمسح العرق المنفصد من جبينه، وتظلُّ
هي بضعة ثواني جاثيةً تنظر إليه مبهوتة، وإذ ذاك تطرق برأسها ثم
تنهض مستويةً على قدمَيْها هي الأخرى، وتقف بعيدةً عنه متزمِّلة بوشاحها
تزمُّه على بدنها … وعندئذٍ يلتفت إليها مور وهو في أشد الألم
والاضطراب.)
مور
:
مساومة … واشتراط! إذن أنا بائِعٌ نفسي للحب بيعًا، ومفتدٍ ضميري بهذا
الثمن افتداء، ولكن هيهات هيهات! ما أنا بائع، ولا ضميري سلعة ليس في
العالم من الذهب لمثله ثمن … وقد عزَّ على المشترين (من غير أن يلتفِتَ إليها ينطلق هائمًا على وجهه،
بينما تسقط هي على ركبتَيْها جامدةً لا تعير حراكًا).
(ستار)
الفصل الرابع
(الوقت في الشفق بين الغروب والمساء. في اليوم التالي، وفي قاعة الطعام في بيت
مور والنوافذ منغلقة، ولكن الأستار مرفوعة وقد جلس ستيل إلى المكتب يكتب ومور يملي
عليه.)
ستيل
(يقرأ ما يكتب)
:
ولا شك في أننا سنلاقِي صعابًا كثيرة، ولكن إذا منعَتْنا الإدارةُ في اللحظة
الأخيرة من إقامة الاجتماع في المدينة، أقمناه في العراء … فأعِدُّوا تذاكرَ
الدعوة لأنني على يقينٍ أن هناك جمهورًا سيحضر لسماعنا.
مور
:
نعم، هذا يقيني.
ستيل
:
هل أكتب المخلص … في ذيل الخطاب؟
مور
:
لا بأس.
ستيل
(ينشف الجواب ويضعه في الظرف)
:
أظنك علمتَ يا سيدي أن جميع الخَدَم في البيت قد غادروا خدْمَتَه إلا
هنري.
مور
:
مسكين هنري.
ستيل
:
السبب يرجع أولًا إلى الخوف؛ فقد حطم المتجمِهرون زجاجَ النوافذ مرتين،
وثانيًا إلى …
مور
:
إلى الوطنية … حقًّا ما أبدعها من وطنية! لأنهم غدًا سيحطمون هم ألواحَ
الزجاج، غير أن هذا يذكِّرني بأنك غدًا ستقوم بالإجازة.
ستيل
:
أواه! كلا، لستُ أنوي ذلك.
مور
:
بل يجب يا صديقي، لقد كنتَ أمسِ مريضًا، ولا بد من أن تستريح، يُحزِنني أنني
شبكتك معي في هذه المهمة الثقيلة.
ستيل
:
كان لا بد من وجود إنسانٍ يؤدِّي هذا العملَ معك وأنت مُتعَب مجهود.
مور
:
كلا، لا يزال عندي بقيةٌ من بأسٍ، ومُدخرٌ من جَلَدٍ.
ستيل
:
ولكنْ هلَّا انثنَيْتَ يا سيدي عنه؛ إنَّ التيار ضدك شديدٌ، والأمل في النجاح
ضعيف، فلا يستحقُّ كل هذا التعب.
مور
:
الجهاد إلى الغاية على الرغم من الشعور بأنك في النهاية تروح المغلوب
المنهزم. هل في الدنيا فضيلةٌ أجَلُّ من هذه حتى تقول إنها لا تستحِقُّ
التعب؟
ستيل
:
إذن أنا يا سيدي لستُ قائمًا بالإجازة.
مور
:
هذا جحيمي أنا وحدي، فما لك أنت حتى تنشوي فيها وتحترق! صدِّقْني إن أكبر ما
يريح بالي أن أشعر أنني المعذَّب وحدي، لا أجلب العذابَ لأحدٍ سواي.
ستيل
:
ولكن لا أستطيع أن أتركك يا سيدي.
مور
:
يا بني العزيز، لقد كنتَ لي خيرَ معوانٍ؛ فقد أمكننا أن نتغلَّبَ إلى الآن بشيءٍ
يشبه المعجزة، ولكن بعد اليوم لا أستطيع أن أتحمَّلَ المسئوليةَ عنك. هيَّا سلِّمْني
المكاتباتِ الخاصةَ باجتماعِ الغد (يُخرِج ستيل بعضَ
الخطابات من جيبه، ولكنه لا يسلِّمها إليه).
مور
:
هاتها يا بني هاتها. (يمدُّ إليه يدَه، ولما وجَدَ أن
ستيل لا يريد أن يسلِّمَها إليه يقول ببعضِ الحدة) هات الرسائل يا
ستيل (يقفان متأثِّران وكلٌّ ينظر طويلًا إلى الآخَر،
وبعد ذلك يدور ستيل على عقبه وينصرف مُطرِقَ الرأس في أشد الحزن، بينما
يظلُّ مور واقفًا يتأمَّله وهو ذاهب وعلى شفتَيْه ابتسامةٌ حزينة، ثم يضع
الأوراق في محفظته، وبينما هو يغلق درج المكتب يدخل الخادم هنري
صامتًا).
الخادم
:
مستر منديب يا سيدي (يدخل منديب وينصرف
الخادم، ويلتفت مور نحوَ زائره، ولكنه لا يمدُّ إليه يدَه
مصافِحًا).
منديب
(يتناول يد مور)
:
لقد جئتُ لزيارةٍ قصيرةٍ يا صديقي، وحديثٍ موجز؛ إذ أخبرَتْني مسز مور أنك ستعود
اليوم، فهل سمعتَ الأخبارَ الأخيرة؟
مور
:
ماذا فيها؟
منديب
:
لقد انتصرَتْ جنودنا.
مور
:
حمدًا لله.
منديب
:
يا عجبًا! أيسرُّكَ هذا النبأ؟ إذن أنت مثلنا لحمًا ودمًا.
مور
:
نعم.
منديب
:
لِمَ لا تخلع إذن عنكَ ثوبَ الشهيد يا رجل؟ إنك بعملك هذا إنما تريد أن تحارب
الطبيعة البشرية!
مور
:
أأنت الذي يدافع عن الطبيعة؟
منديب
:
إنك تقاوم أقوى الغرائز الإنسانية في العالم وأهمها وأشدها تمكُّنًا، فماذا
تنتظر من وراء هذه المقاومة؟ هل تريد من رجل الشارع أن يكون خياليًّا
فيلسوفًا، وأن تكون وطنيته وحبه لبلاده شهورًا وفلسفة ومنطقًا؟ نعم، ماذا
كنتَ منتظرًا؟ أن الإنسانية ساذجة والأمم ليسَتْ إلا مجموعة من الفِطَر والطبائع
البريئة الساذجة؟
مور
:
بل هي مجموع من الأوحال والطين والرذيلة والشر … وما هذا الصياح الكاذب
باسم الوطنية؟ ذلك إحساس أعمى في الأمم القوية، ولكنه في الأمم المغلوبة على
أمرها عنوانُ الفضيلة والخير؛ فهل تحبُّ أحدًا من هؤلاء الذين يتصايحون في
بلادنا غاضبين للوطنية، والوطن يشعر هنا (مشيرًا
إلى صدره) بشيء؟
منديب
:
أنت تظن أنه في وسع الناس أن يتغلَّبوا على نزعات غرائزهم الوحشية، ولكنهم
لا يستطيعون يا سيدي، بل كلُّ ما يعرفون من هذه الحرب وأشباهها أن هناك شيئًا
مشوَّهًا للصورة الذهنية التي لوطنهم وبلادهم في خيالهم، فتثور في نفوسهم حاستَيِ
القوة والبطش، فينطلقون عميًا متهوِّرين مهاجمين.
مور
:
لقد كانت هذه البلاد تُسمَّى وطنَ حرية الفكر … وكانت في اعتقاد الإنسانية
عامة البلاد التي يستطيع المرء فيها أن يحتفِظَ بحرية ضميره واستقلال رأيه،
فما الذي دهاها؟
منديب
:
إن للطبيعة البشرية حدودًا يا ستيفن.
مور
:
ولهذا لا تزال تنصح لي بأن أَدَعَ مبدئي وألتمِسَ من عقديتي السياسيةَ فرارًا،
أليس كذلك؟
منديب
:
بل نصيحتي لك أن تغادر البلاد في الحال غير متردِّد، إن التيار سيندفع فلا
يبقي لحظةً عليك بمجرد انتشار أخبار النصر الأخيرة؛ هلمَّ يا صديقي لا تمكث
هنا.
مور
:
شكرًا لك، دَعْني أولًا أُخرِج كاترين وأوليف.
منديب
:
بل يجب أن تغادِرَ الديارَ معهما، وإذا كنتَ قد خسرتَ المبدأ أو العقيدة، فلا
معنى لأنْ تخسرَ الحياةَ أيضًا.
مور
:
ولكن عزائي أنني لم أجبن ولم ألتمس فرارًا وأنا أحوج ما أكون اليومَ إلى
العزاء.
منديب
(مرتبِكًا متحيِّرًا)
:
خطأ مؤلِم يا ستيفن، بل حمق وتهوُّر، والآن أنا منصرِفٌ إلى المجلس … أمِنْ
هنا؟
مور
:
من هنا السُّلَّم، ثم تجد البابَ الخارجيَّ. وداعًا … (يخرج لتوصيله. تدخل كاترين ووراءها المربيةُ وهي لابسة ومستعِدَّة
للخروج، وقد وضعَتِ القبعةَ على رأسها وتحمل حقيبةً صغيرةً في يدها، تذهب
كاترين إلى البيروه فتأخذ شيكًا وتسلِّمها إياه، وفي هذه اللحظة يدخل مور
من التراس.)
مور
(للمربية)
:
أحسنتِ بالخروج معنا يا مربية.
المربية
:
وأنتَ قد أسأَتْ إلى ولدي المسكين صنعًا؛ أين قلبك؟
مور
:
هنا، في أقوى ضرباته، وأصح خفقاته. في الانتصار لأولئك الكفرة أعداء الله
والوطن، أَلَا قومك ووطنك أولى بالانتصار لهم؛ لزوجتك التي وُلِدَتْ في وقت
الحرب، وأبيها الجندي الذي شهد الوقائعَ ولا يزال البطل المجاهِد، أو لجَدِّها
الذي استُشهِدَ في الميدان، وهي اليوم ترى نوافذ بيتنا محطمًا، وتجد الغلمان
في الشوارع يتهامسون عليها سخريةً واحتقارًا (يقف
مور صامتًا أمامَ هذه الهجمة، ناظِرًا إلى زوجته).
كاترين
:
ما هذا يا عزيزتي؟ ما هذا؟
المربية
:
إن عملكَ هذا يا سيدي مُنافٍ للطبيعة؛ أتحنو على أولئك المتوحشين، ولا تحنو
على شريكة حياتك. انظر إليها، هل رأيتَها يومًا تلوح حزينةً مغمومةً كهذا؛
فالحذار يا سيدي لنفسك قبل أن يفوت الأوان، وإنْ فلا يُجدِي الحذر.
مور
:
كفى، كفى، من فضلك (تقف المربية لحظة وهي
متردِّدة، ثم تنظر إلى كاترين مليًّا، وبعد ذلك تنصرف).
كاترين
(لزوجها في سكوتٍ وبكل هدوءٍ)
:
لقد جاءت الأخبارُ بانتصارِ جنودنا (يخرج غير
مُلتفِتٍ إليها. كاترين وهي منصتة لصدى الصياح والجلبة البعيدة
المنبعثة من الشارع، ثم تجري إلى النافذة في اللحظة التي يدخل فيها
الخادِمُ مُعلِنًا).
الخادم
:
السير جون جوليان يا سيدتي (يدخل السير جون
حاملًا جريدةً في يده).
كاترين
:
وأخيرًا … يأتي النصر.
جون
:
حمدًا لله عليه (يعطيها
الجريدة).
كاترين
:
أواه يا أبي (تمزِّق غلافَ الجريدة وتفضُّها وتقرأ
بلهفٍ) يا للفرح! (الهمهمة البعيدة
في الشارع تستمرُّ وتتعالى شيئًا فشيئًا، وإما السير جون فبعد اللحظة
الفَرِحة التي مضَتْ بمناسبة خبرِ الانتصار، لا يلبث أن يطرق برأسه إلى الأرض
حزينًا واجمًا. كاترين تلحظ وجومه
الفجائي فترتعب) أبي.
جون
:
وهناك أخبار أخرى.
كاترين
(ترتجف)
:
آه! عن أخوتي؟ … ويلاه! هل هيوبرت … (يطرق السير
جون برأسه إيجابًا).
كاترين
(وهي راعشة)
:
وهل قُتِل؟ (يطرق الشيخ برأسه مرة أخرى، وهي تختنق
بالعَبَرات) الحُلْم، الحُلْم! (تخفي
وجهَها) مسكينة يا هيلين! (يقفان لحظةً
صامتين، وإذ ذاك يرفع السير جون رأسَه، فيمدُّ إليها يدَه ويمسُّ خدَّها المبلَّلَ
بالدموع.)
السير جون
(بصوت مختنق من التأثُّر)
:
الموت نقاد.
كاترين
:
يموت هيوبرت … ويلاه!
جون
:
بينما الشيوخ الفانون مثلي يعيشون، فيا لصروف القدر!
كاترين
:
أبي العزيز.
جون
:
ولكنَّا سنتغلَّب الآن على أولئك المجرمين وسنحطمهم تحطيمًا. هل عاد
ستيفن؟
كاترين
:
البارحة.
السير جون
:
وهل فرغ من خُطَبِه القَذِرة أخيرًا. (تهزُّ
رأسَها) ألَمْ ينتهِ بعدُ؟ (وحينئذٍ يلحظ
أنَّ كاترين لا تزال ترتجِفُ من فرط التأثُّر، فيُمسِك بيدها مواسيًا)
يا بنيتي، لا تستسلمي للأسى؛ فالقتلُ واليُتْمُ وفَقْدُ الأعزاء اليومَ في كلِّ
بيتٍ.
كاترين
:
يجب أن أذهب إلى هيلين، وَلْتُعلِنْ أنت الخبرَ له؛ لأنني لا أستطيع.
جون
:
ليكن ذلك يا بنيتي (تخرج تاركةً أباها لحزنه
الأليم المُربِك، فلا تكاد تنصرف حتى يدخل مور).
مور
:
نعم يا سير جون، هل طلبتَني؟
جون
:
لأنعي لك هيوبرت؛ فقد قُتِل.
مور
(مصعوقًا)
:
هيوبرت!
السير جون
:
نعم، بأيدي الذين تنتصر لهم، وقد طلبَتْ إليَّ كاترين أن أُعلِنَك بالخبر؛ إذ
ذهبَتْ هي إلى هيلين. وقد علمتُ أنك لم تَعُدْ إلا أمسِ فقط مِن … لم أجِدْ في اللغة
وصفًا يكفي للتعبير عن رأيي في هذا الذي عُدْتَ منه، ولستُ أدري حقيقةَ الأحوال
بينك وبين كاترين، ولكني أقول لك هذا يا ستيفن: إنك قد عذَّبْتَها خلال هذين
الشهرين عذابًا لم تُعذَّبْه امرأةٌ من قبلها، ولم تطِقْ مثلَه زوجةٌ في العالَم.
(يُبدِي مور حركةً تدل على شدة تألُّمه، ويستمرُّ السيرُ جون في كلامه) وعندما
اخترتَ هذه اللحظة معها …
مور
(يُقاطِعه محتَجًّا)
:
أتقول اخترت؟
السير جون
:
عندما اخترتَ هذه اللحظة التي تتعارض مع شعورها كنتَ تعلم نتيجتَها … ومَن
يدري؛ فقد تقع هذه النتيجة أيضًا مع أحد ولدَيَّ الباقيَيْن.
مور
:
ليتني أكون اليومَ في مكانه، إنني لَأودُّ ذلك من صميم القلب.
السير جون
:
نعم، إنني أشعر بألمك ويأسك، وأرى بعضَ حزنك وشقائك، وهل أشقى من رجل يفرط في
بلاده، ويتهجَّم على وطنه؟ بل لو خُيِّرْتُ بين أن يُبعَث هيوبرت حيًّا ليسلك مسلكك،
وبين أن يظلَّ في الموت، وأنا المحزون عليه آخِر الدهر، لَأبيتُ أن يُرَدَّ إلى
الحياة، ووالله لَأفضِّلَنَّ أن أفقِدَ ولدَيَّ الآخَرين، ولا أرى منهما واحدًا مثلك
…
لقد مات هيوبرت في سبيل الوطن، فقضى على كلِّ حال سعيد.
مور
:
نعم، نعم.
سير جون
:
ومع ذلك تأبَى أنتَ إلا الاستمرار على ما أنتَ فيه؛ فأي شيطان هذا الذي دبَّ
إلى نفسك يا ستيفن؟! وأي كِبْر هذا الذي سرى إليكَ؟!
مور
:
هل تتصوَّر أنني أعُدُّ نفسي أفضلَ من أحقر عسكري يقاتِل هناك مع المقاتلين؟ كلا
ويمين الله.
سير جون
:
أنا من أمرك في عجب، لا ينتهي إلا إلى عجب؛ لقد كنتُ أفهم أنك المخلص
المتفاني في زوجتك.
مور
:
يا سير جون، أَلَا ترى أن الوطن فوق الزوج والولد؟
سير جون
:
بلى، هذا ما أعتقد.
مور
:
وذلك هو اعتقادي أيضًا.
سير جون
(مبهوتًا مرتبكًا)
:
في كلِّ ما يعمل وطني، وكل ما يغادر أو يترك؛ لستُ أسمح لنفسي أن أكون
قاضيه إذ أجلِسُ بمجلس الحُكْم عليه. إن احترامي للوطن (بكل حماسة العذاب الذي شهده من أجل بلاده، يصيح
قائلًا) وطني وطني أعزز به من وطن!
مور
:
وأنا من أجله لا أبخل بشيء حتى ولا الحياة.
سير جون
(مبهوتًا)
:
أي ستيفن، لم أكن أظنك في يومٍ ما متهوِّرًا، بل كنتُ أعتقِدُ فيك على الدوام
الحكمةَ والإخلاصَ وسدادَ الرأي، ولكنَّ هذا الذي أنت فيه محض جنونٍ، وخيال
متخيل.
مور
:
نعم، تخيل ما هو واقع، وتصور ما قد يقع.
سير جون
:
أي ستيفن، لماذا لا تقنع بما يعتقد أعظمُ شعب في العالم، وأكبر رجال في
الأرض؛ إنه الخير المحض، والإحسان العميم؛ فقد عرفت هؤلاء الرجالَ وخبرتَهم،
وشهدت مبلغ تضحيتهم وجهادهم في سبيل رفعة الوطن.
مور
:
ولكنك لا تعلم يا سير جون في أيِّ جحيم من الأرض كنتُ خلال هذين الشهرين
الأخيرين، وكيف رحتُ أرى الناسَ في الطريق مُشِيحين عني بوجوههم، وأصدقائي
الأعزاء يمرُّون بي ولا يحيِّيون. بل تصوَّرْ كيف أمسيتُ أخشى البريدَ وما يقذفني
به، والصحف وما أُطالِعُ، وذهابي إلى الفراش مع الليل وفي أذني أصداءُ صيحاتِ
السخرية، وهتاف الاستهزاء، وعلى أن اسمي أصبَحَ لا يُذكَر إلا في معرض الرواية
والتحقير.
سير جون
:
لكنَّ لك أصدقاءك الجُدُد، والبركة لك في مثلهم؛ فقد سمعتُ أنَّ لديكَ منهم
كثيرين.
مور
:
أيعوِّض هذا عن البصقات التي تُلقَى عليَّ كما ألقيَتْ الليلةَ الماضية. إن مخاض
الحرب واللهِ لَأهون يا سير جون (تزداد جلبة
الجماهير في الشارع شيئًا فشيئًا، فيُلقِي سير جون رأسَه نحو
مصدرها).
سير جون
:
أحسبُكَ قد علمتَ بخبرِ انتصار جنودنا، فهل بلغ من شعورك الخافي للطبيعة
البشرية أن تروح لهذا النبأ أسفًا متألمًا. (مور
يهزُّ رأسَه نافيًا) إذن لا يزال هناك بقيةٌ من الأمل فيك، فهلَّا
وقفتَ اليومَ عند هذا الحد قبل أن تندم! أُناشِدُكَ يا ستيفن لا تحطِّم حياتَكَ
الزوجية بيدِكَ؛ لقد كان هيوبرت أعزَّ إخوتها عليها وأكرم، وأنت اليوم بعملك
هذا إنما تنتصر لقَتَلَتِه. تصوَّرْ ماذا يكون شعورها من هذه الناحية! وَلْتعدل عن
هذا الجنون الفلسفي، أو هذا المثل الأعلى كما يروقك أن تسمِّيه، وَلْتسافِرْ
بكاترين من البلاد إلى جوٍّ بعيدٍ ردحًا من الزمن، حتى يهدأ الشعور القائم
اليومَ ضدَّكَ، الحانق على مسلكِكَ. هلمَّ، هلمَّ إليها، خذها من هذا البيت وَلْتسافر
إلى بلد بعيد. هيا يا ولدي، فلا خير فيما أنتَ باغيه، ولا نفع فيما أنت
طالبه.
مور
:
يا سير جون، إن الذين يقاتِلون هناك ويرتضون الموتَ، إنما يفعلون ذلك بقوةِ
الإيمان الذي في قلوبهم، وأنا … أنا الذي أؤمن بأن عقيدتي أثمن وأجدى على
البشرية، أأَفِرُّ رعبًا، وأتراجع جبانًا؟ كلا، ويمين الله، ما أنا به، ولا الرعب
من شأني، ومنذ بدأتُ هذا الجهادَ ومئات من الناس يلتَفُّون حولي ويشدُّون أزري
ويسيرون في إثري؛ هل أتخلَّى عنهم وألوذ بأذيال الفرار منهم؟ وأنت الجندي
القديم والقائد البطل، أَلَمْ تحارب يومًا وأنت مستيئس؟ أَلَمْ تَقُدِ الجندَ إلى
المعركة بلا أملٍ؟ أفكنتَ يومئذٍ تُسائِلُ نفسك أي خيرٍ فيما كنت فاعلًا؟ وهل
ستخرج منه حيًّا ناجيًا؟ هذا مثلي اليوم يا سيدي، هذا هو حالي؛ إن الأمل
اليائس الذي في نفسي هو ألَّا أتخلَّى عن هؤلاء الذين تبعوني، هو ألَّا أدع هذا
المبدأ العظيم، هذه الشعلة المقدَّسة تنطفئ وتخمد آخِر الدهر؛ لا في هذه البلاد
وحدها، ولكن في العالم كله؛ ولا في هذا الزمن وحده، ولكن حتى تفنى الأرض
ومَن عليها.
السير جون
(بعد سكوت رهيب، وهو يحملق البصر مبهوتًا)
:
أنا متجوز معك في اعتقادك بصحةِ ما تقول، ولكن دَعْني أقول لك إنَّ هناك شعلةً
مقدَّسةً واحدةً أنت اليوم تارِكها تخمد وتنطفئ، وهذه الشعلة هي حبُّ زوجتك لك،
وَلْننظر هل في وسع أصحابك الجُدُدِ، هؤلاء المتهوسين والمخرفين من أمثالك، أن
يعوِّضوا عليك خسارةَ حبِّها، وذهابَ مستقبلك، وضياعَ مركزك، وفقْدَ كرامتك عند الذين
اعتادوا أن يحبُّوك ويحترموك. إنْ كان ذلك، فالبركة إذن لك فيهم، أمَّا إذا ألقيتَ
نفسك غدًا محرومًا من المحبة، وحيدًا من الخلَّان في هذه الأرض الواسعة، وإذا
انتهى بك هذا المسلك على مرِّ الأيام إلى الخراب والدمار والعار، وهو ما لا شكَّ
عندي فيه ولا ريب، فما أنا عليك بآسف، ولا أنا عليك بمُشفِق. والآنَ طاب ليلك
(يمشي إلى الباب فيفتحه وينصرف غير ملتفِت
إليه، ويبقى مور وحده، وهو في أتمِّ الهدوء والسكينة، بينما تأخذ الحركة
والهرج والمرج في الخارج تنمو رويدًا حتى ينتبه إليها، فيسير إلى
النافذة لينظر منها، ثم يعود فيدقُّ الجرس وينظر، ولكنه لا يرى أحدًا قد
جاء، فيُشعِل الأنوارَ ويدقُّ ثانيةً؛ تدخل كاترين وهي لابسة قبعة سوداء
وثيابًا من لونها في ثياب الخروج، وتتكلم ببرودٍ دون أن تتطلَّعَ إليه أو
ترفع رأسها).
كاترين
:
هل دققْتَ الجرس؟
مور
:
للخَدَمِ حتى يُغلِقوا هذه الحجرةَ.
كاترين
:
لقد خرج الخَدَمُ جميعًا؛ لأنهم خائفون أن ينشب في البيت حريقٌ.
مور
:
وهو كذلك.
كاترين
:
ولأنهم لا يعتقدون باعتقادك حتى يؤمنهم الخوف. (يتراجع مور مجفلًا من الصدمة والألم) وأنا ذاهبة مع ابنتي
إلى بيت أبي.
مور
(محاوِلًا أن يفهم معنى كلماتها تمامًا)
:
ليكن ذلك أفضل من الإقامة في فندق، أليس كذلك؟ (تطرق برأسها علامة الإيجاب) والآن، أَلَا تدعيني يا كاترين
أشرح لك مبلغَ ألمي لك ورثائي. إن هيوبرت …
كاترين
(مقاطِعة)
:
حسبك لا تتكلم، لقد كان ينبغي لي أن أكون أصرح من هذا في كلمتي لك … إنني
ذاهبة ولن أعود.
مور
:
ولن تعودي! حتى ولو شبتِ النارُ في البيت؟
كاترين
:
هو فراق بيني وبينك آخِرَ الدهر.
مور
:
كاترين.
كاترين
:
لقد أنذرتُكَ من مبدأ الأمر، ولكنك أمعنْتَ وتماديْتَ.
مور
(متأثِّرًا أشدَّ الأثر وهو في أفجع الألم)
:
هل تدركين ما معنى هذا الذي تريدين؟ أَبَعْدَ خمسة عشر عامًا، جنبًا إلى جنبٍ،
ولقاء حبٍّ بحبٍّ؟
كاترين
:
وهل كان ذلك حبًّا؟ … كيف يمكن أن تكون أحببْتَ امرأةً أقلَّ منك بطولةً، ودونك
رفعةً وخُلُقًا؟ …
مور
:
هذا جنون يا كاترين، جنون شنيع.
كاترين
:
لقد كنتُ ليلةَ أمسِ مستعِدَّةً، ولكنك أنت الذي أصررتَ وأبيتَ، ولن تلين إذن بعد
هذا ولن تتسامح. ستيفن … ستيفن … إنك أرفَعُ مكانًا وأعلى درجةً وشأنًا، ولستُ
أطيق أن أعيش، بل لم أرضَ أن أعيش مع رجلٍ لستُ مساويةً له ولا أنا مكافئته؛
فهذا هو الإحساس الذي انتابني فجأةً منذ ألقيتَ تلك الخطبة، وقد قلتُ لكَ في
تلك الليلة كيف تروح النتيجة سيئة.
مور
(يحاول أن يطوِّقَها بذراعَيْه)
:
كاترين، لا تكوني قاسيةً إلى هذا الحدِّ الشنيعِ.
كاترين
:
كلا، كلا، دَعْنا نتصارح. الحق أن الذين يتباينون شعورًا لا يتحابون؛ دَعْني
أذهب.
مور
:
يمين الله كيف أستطيع التغلُّبَ على هذا الخلاف القائم بين عقائدنا والبون
الشاسع بين إيماننا ومبدئنا.
كاترين
:
الليلة البارحة فهتَ بكلمةٍ مرةٍ، ولكنها لا تعدو الحق؛ وهي المساومة … أصبتَ
يا ستيفن، لقد أردتُ في الحقِّ أن أشتري … أردتُ أن أقتل فيك عقيدتَكَ وإيمانك،
فأريتني أنت قيمةَ عملي، وبصَّرتني بخافية فعلتي؛ فلن أرضى آخِر الدهر أن أكون
المساوِمةَ على العقائد، المشترية للضمير.
مور
:
يعلم الله ما كان قصدي أن …
كاترين
:
إذا لم أكن لك بالقلب والروح، فهيهات أن أرضى أن أكون لك خليلةً؛ إنه
لَأشنعُ امتهانٍ لمعنى الزواج، وأكبر إساءة لقداسته. (مور يشعر من هول هذه الكلمة كأنَّ لطمةً أصابَتْ وجهَه، فيتراجع مذعورًا
مُجفِلًا وينشر ذراعَيْه في موقف المدافع أمام هجمةٍ عنيفةٍ قاتلةٍ)
هي قسوة مني، لستُ أُنكِرُ، ولكنها تدلُّ على مبلغ علوِّ مكانتك بالنسبة لي، فلا يصح
لي إذن أن أُنزِلك من مستواك الرفيع إلى وَهْدة مستواي.
مور
:
أناشدك الله يا كاترين، دَعِي الكبرياء وفكِّرِي … إنني أحارِبُ في سبيل إيماني
وعقيدتي، فهل في وسع المرء أن يفعل شيئًا غير هذا؟ هل في إمكانه أن يفرَّ من
إيمانه؟ … أواه يا كاترين! فكِّري في الأمر وتدبَّرِي.
كاترين
:
إنني لا أعمل هنا شيئًا، وهذا الفراغ يُخِيفني، بينما يقاتل أخواي هناك
ليُقتَلَا، وأنا لهذا مزمِعة الذهاب إلى الحرب لتمريض الجرحى، وستذهب هيلين معي
إليها. إنَّ لي أيضًا إيمانًا، وهذا الإيمان هو حبي لوطني، وهذا الحب الذي
أشترك فيه مع الملايين، وإنْ كان حبًّا مسكينًا ضعيفًا خاطئًا، لستُ أطيق
الإقامةَ معكَ في هذا البيت، وقد قضيتُ الليلةَ البارحة فوق المتكَّأ مفكِّرةً
متدبِّرةً متروِّيةً … فلم يبقَ عندي من شكٍّ، ولم يَعُدْ في النفس من تردُّدٍ.
مور
:
وأوليف؟
كاترين
:
سأتركها في بيت أبي مع مربِّيتِها، إذا لم تمنعني من أخذها، فإن ذلك في
وسعك.
مور
(بهدوء)
:
ولكني لا أفعل شيئًا كهذا، وأنتِ تعرفين ذلك عني حقَّ المعرفة؛ فأنتِ حرَّةٌ في
الذهاب، وحرَّةٌ في أخذها.
كاترين
(بصوت خافت)
:
شكرًا … (ولكنها لا تلبث أن تلتفِتَ فجأةً نحوه
بقوةٍ تريد أن تجتذِبَ نظرةً إليها، وبلا كلامٍ ولا أنينٍ ولا صوت، تضع كلَّ
قوتها في تلك النظرة الطويلة) ستيفن، ستيفن، هلَّا عدلتَ! ستيفن
هلَّا رجعتَ! هلَّا عدتَ إليَّ! (مظاهرات الفرح بالنصر
تتعالى ضوضاؤها في الخارج، فيسمعان أصواتَ الصفير والزمامير والقرب، وكل
أصوات الفرح والسرور المختلفة.)
مور
:
أأعود لأعزف في أمواج هذا البحر الزاخر، حاشا لمثلي أن يفعل، وإنْ حاطَتْ به
الكوارث في كل مكان (كاترين تلتفت بسرعةٍ نحو
الباب، وتتقدَّم إليه بخطواتٍ فسيحةٍ، ولكنها عند الباب تقف ثم تعود إلى
نظرتها الأولى، وقد بَدَا وجهها رهيبًا من شدة النزاع المحتدم في نفسها،
بين العواطف والاعتبارات المتضارِبة).
مور
:
إذن … أنتِ ذاهبة؟
كاترين
(بصوت مختنق)
:
نعم (تحني رأسها وتفتح الباب وتخرج، ويتقدَّم مور
إلى الأمام خطوات، كأنما يهمُّ بأن يتبعها، ولكن أوليف تظهر في تلك
اللحظة عند مدخل الباب وهي مرتدية ثوبًا أبيض قصيرًا، وقبعةً بيضاءَ
أيضًا مستديرةً).
أوليف
:
ألستَ آتيًا معنا يا بابا؟ … (يهزُّ رأسَه
نافيًا) ولماذا لا تأتي معنا؟
مور
:
لا بأس أيها العصفور الطائر، وَلْيحرسك الله.
أوليف
:
ستضطر السيارة إلى السير ببطءٍ شديدٍ؛ لأن الشوارع مزدحمةٌ بالناس، فهل أنت
باقٍ لتمنعهم من إحراق البيت … (يهزُّ مور رأسَه
إيجابًا) أَلَا أبقى معكَ قليلًا أنا كذلك يا أبي؟ (يهزُّ رأسَه نافيًا) ولماذا؟
مور
(يضع يدَه على رأسها مُلاطِفًا)
:
اذهبي يا عزيزتي، اذهبي.
أوليف
:
أواه يا أبي! … أَلَا تعانقني قبل أن أذهب؟ (مور
يقبِّلها في رأسها وخدَّيْها أحرَّ القبلات) أواه يا أبي! ما أحلى
القبلات من فمك!
مور
:
اذهبي أيتها الصغيرة في حراسة الله وأمانه. (تذهب ولكنها تلتفِتُ إليه وهي ذاهبة ثم تختفي عن البصر. يتبعها مور إلى
الباب، ولكنه يقف عنده، وعندئذٍ كأنما قد أفاقَ من ذهولٍ شديدٍ، وأدرَكَ حقيقةَ
الموقف الرهيب، فيجري إلى النافذة، ويطلُّ بكلِّ رأسه لكي يشهد البابَ
الخارجي للبيت وهما منصرفتان عنه. صوت أزيز طيارة، ولا يلبث بوقها أن
يدوي باستمرارٍ، والسيارة تشقُّ طريقَها في وسط الجموع المتجمهرة، فيعود عن
النافذة) وحيد من الأهل، مهجور غير مستأنس (وهنا يرتفع صوتٌ من الخارج من خلال الضجيج والعجيج
هنالك).
الصوت
:
إنه هو … هو … الخائن … المارق … الخائن … المارق. (تبدأ المقذوفات من البندق وقشر البرتقال وأشباهها
مما لا يؤذي؛ تصطدم بزجاج النافذة؛ تتزايد الأصوات) يسقط
الخائن … ليسقط المارق (ومن خلال النافذة تُرَى
أعلامٌ تخفق وفوانيس صينية من الورق الملوَّن مضاءة، وهي مرفوعة على قصب من
الغاب وزانات. تنمو الجلبة بسرعة، بينما يقف مور غير مكترث لها عند
النافذة يتبع السيارة ببصره، وعندئذٍ تصيب طوبة مقذوفة من الشارع لوحًا
من الزجاج فتخترقه، يتلوها ضحك شديد وهمهمة وصفير … طوبة أخرى مثلها؛
ينظر مور لحظةً نظرةَ احتقارٍ شديد نحو الشارع، فيسقط ضوء المصابيح
الورقية على وجهه، وعندئذٍ كأنما قد نسي هذا الصياح الضاج في الشارع وذهل
عنه كل الذهول، فيعود إلى وسط الحجرة ويجيل فيها ببصره، ثم لا يلبث أن
يترك رأسه يطرق رويدًا على صدره، وهنا تشتد الجلبة في الخارج أكثر من
قبلُ، وتدخل طوبة ثالثة من النافذة فيرفع مور رأسه ثانية، ويشبك يدَيْه
معًا، ويلقي بصره أمامه غير ملتفتٍ؛ وهنا يدخل الخادم هنري فيُسرِع نحو
النوافذ).
مور
:
آه! هنري، لقد ظننتُكَ غادرْتَ الدار مع المغادرين.
هنري
:
لقد رجعتُ يا سيدي.
مور
:
أكرم بك من رجل!
هنري
:
إنهم يحاولون اقتحام مدخل البيت يا سيدي، وهو عمل مخالِف للقانون؛ لأنه
تَعَدٍّ على حرمة المنازل، وانتهاكٌ للأملاك الخاصة. (في هذه اللحظة يندفع تيارُ المتجمهرين إلى الحجرة، فيُسرِع هنري إليهم
ويهمُّ بالمقاومة، ولكنهم يتغلَّبون عليه، فيدفعونه إلى الخارج، فلا يعود
يظهر إلا المتجمهرين، فخليط شنيع من الغوغاء؛ نساء ورجال وطَلَبَة وكَتَبَة
عموميون وعمَّال في الحوانيت، ومنهم بعض الكشافة كذلك، وقد تبادَلَ كثير
منهم القبعات، وبينهم مَن يلبسون وجوه المساخر، وآخرون يضعون أنوفًا
مستعارة، وبعضهم يحمل صفافير، وغيرهم يحمل مصابيح ملوَّنةً، وهم يلوحون
بها في التراس خارج النوافذ، وقد ارتفعت الجلبة حتى لم يَعُدْ أحدٌ يتبيَّن
شيئًا. وفي المظاهرة زعماء بالطبع ورؤساء، وهؤلاء فريق من الطلبة، وعلى
رأسهم شاب رياضي مفتول العضل، حاسر الرأس، طويل البدن، يتحرك القوم
بإمرته، وينزلون على طاعته، وعندما يبدأ الصياح قليلًا وتسكت الجلبة
يصيح هذا الشاب بالجمع مناديًا: إليه أيها الشجعان، هلموا
إليه. فيندفع زملاؤه الطَّلَبَة نحو مور وهو الواقف
في الصمت المسالم لا يقاوم، وفي الحال يحملونه بعنف فوق الأكتاف
ويطوفون به الحجرة، حتى إذا داروا به مرتين بين الصفير والغناء والصياح
والضوضاء، ينادي رئيس الطَّلَبَة: أنزلوه. فيسارعون إلى إطاعة الأمر بإنزاله على المائدة،
وقد نقلوها إلى قرب
النافذة، ووقفوا حوله ينظرون إليه.)
زعيم الطلبة
:
نريد خطبة … نريد خطبة. (تسكت الصيحات، ويلتفت
مور حوله) والآن يا جناب الخطيب، تفضَّلْ فكلنا آذان.
مور
(بصوت متهدج)
:
ليكن ذلك، إنكم هنا الآن بقانون القوة، لا بقوة القانون، وبقانونكم ذلك،
ها أنا أمامكم، ولكم أن تصنعوا بي ما تشاءون.
صوت
:
وهل في هذا كلام … سنفعل، نعم سنفعل.
مور
:
لم أكن أشك في ذلك مطلقًا، ولكن لي أولًا كلمة معكم.
صوت
:
قُلْها ولا تُطِلْ (أحدهم يقلِّد نهيق
الحمير).
مور
:
أيها الغوغاء، أنكم مُصِرُّون لا تفقهون ممَّا حولكم شيئًا، ولا تميزون بين ما
يضركم وبين ما ينفعكم، ولا تعرفون صديقكم من عدوكم … ويوم تتألبُ جموعكم،
تمشي الأبالسة في صدوركم، ويقود الشيطانُ شراذمَكم المعصوبة الأبصار.
الزعيم
:
حبذا يا حضرة الخطيب الزعيم إنْ كنتَ عاقلًا.
أصوات
:
أنزلوه … أنزلوا الخائن. ليسقط المارق، ليسقط المارق.
مور
(وهو يصيح حتى ليغطي بصوته الرهيب على أصواتهم)
:
أيها السُّذَّج، ما أنا بخائف شركم، ولا أنا في وجل من اعتدائكم. لقد اقتحمتم
عليَّ داري انتهاكًا لحرمتها وعدوانًا، وأكرهتموني على الكلام إكراهًا
واقتصارًا، فهَلَّا أبصرتم الحقَّ مرةً … وهَلَّا رفعْتُم العصائبَ عن أبصاركم لحظةً.
(وهنا يتحمس) أيها الذين تعتدون على
الضعفاء وتمنعون حريةَ الكلام، وتصادرون حرية الفكر، أيها الجهلاء الذين
تجرَّدوا من نعمة العقل، والأشرار الذين عُدِموا طهارةَ الروح، إذا لم يكن عليكم
هذا هو السفالة البشرية، فما معنى السفالة البشرية إذن في الدنيا وما
تصريفها! وإذا كان لم يكن تصرُّفكم هذا جبنًا فقد خلَتِ الدنيا إذن من الجبن
والجبناء. (تنقلب الجلبة على صوته، ولكنه يصيح
بأعلى صوته، فيغطي عليها ثانيةً) إنكم لَتتكلمون عن الوطنية …
ولكنَّ الوطنية الصادقة بريئة منكم؛ لأن وطنيتكم هي وطنية الاستعمار والأَسْر
والغزو والقهر؛ وطنية الشر والضر.
الزعيم
(وهو يمنع هجوم المتجمهرين)
:
مكانكم … مكانكم. (مخاطبًا مور) حذارِ
يا حضرة الخطيب من التهجُّم بهذا الكلام الشنيع على بلادك، لقد حذَّرْتُكَ
فاحترِسْ.
(الجمهور صياح وزمجرة.)
مور
:
إن بلادي ليسَتْ هي بلادكم … ووطني ليس هو وطنكم، بلادي أنا ووطني هي تلك
المملكة العظيمة التي تأبى إرهاقَ الضعفاء، وترتضي أسر الأحرار والطلقاء
(يرفع صوته فوق صياحهم) في وسعكم أن
تحطموا رأسي كما تحطمون زجاج النوافذ، ولكن هيهات! لن تحطموا بهذا إيماني
وعقيدتي، ولن تستطيعوا أن تنالوا منها شيئًا، ولو كنتم على رجل واحد ألوفًا
مؤلفة (تثِبُ فتاةٌ متهيِّجة من غمار الجمع، وهي
منفوشة الشعر مهدولته، وتهزُّ قبضة يدها في وجهه).
الفتاة
:
أيها الخائن، أيها المتوحش الذي تنتصر لأولئك الهَمَج الذين قتلوا حبيبي.
(يبتسم مور لها من فوق المائدة، فتُسرِع هي إلى
انتزاع سكينٍ من قايش كشاف بجانبها) ابتسم أيها النذل (تثور حماسة الجماهير، فيدفعون مور من ورائه وتتقدَّم
الفتاة فتغيب السكين في صدره، فيترنَّح من الضربة ويلوي).
مور
:
اليوم أموت، وغدًا تحيا الفكرة (يسقط عديمَ
الحراك بين الصياح والهتاف والتصفير … إلخ).
زعيم المظاهرة
(ينادي بأعلى صوته)
:
سكوتًا … وقفوا مكانكم.
صوت
:
رباه … لقد مات!
الزعيم
:
افسحوا … افسحوا حتى يتنفس (يتراجع الجمهور
ويتقدَّم بعض الشبان، فيرفعون ذراعَيْه ورأسَه، ولكنها تسقط كالرصاص من ثقلها،
فيُكِبُّون عليه ليفحصوه).
الزعيم
:
لقد انتهى (وهنا يبدأ ثانيًا الهرج والمرج
والتدافُع والتزاحُم من النوافذ، ويتقدَّم أحدهم فيطفئ الأنوارَ، فتشتد
الجلبة والضوضاء، ولا يلبث الجَمْع أن ينفضَّ وهم منصرفون، وتظلُّ جثةُ مور
طريحةً في مكانها على ضياء مصباح واحد من المصابيح
الملونة).
الزعيم
:
مسكين … لقد كان شجاعًا … حريصًا على مبدئه إلى آخِر رمق (يلتقِطُ من الأرض علمًا صغيرًا كان متروكًا هناك،
فيرفعه على صدر الشهيد، ثم ينصرف مندفعًا مسرعًا. تظلُّ جثةُ مور لحظةً على بصيص ذلك
الضياء، بينما
يتعالى الصياح في الخارج).
(ينزل الستار)
المنظر الختامي
(يُرفَع الستار في الحال عن منظرٍ في الفجر وهو في أول طلوعه، فيُرَى هنالك في صدر
المسرح في وسط الأشجار الناضرة، على مطالع الضياء؛ تمثالٌ بالحجر الطبيعي على
قاعدة من الحجر … ويأخذ النور في النمو شيئًا فشيئًا حول القاعدة حتى تظهر هذه
الكلمات بالنور.)
(تمثال تذكاري لاستفين مور؛ شهيد الوطنية والمبدأ.)
(جموع من الناس وقوف في خشوعٍ، حاسري الرءوس كأنهم في صلاة طويلة، بينما يدقُّ
الأوركستر أعظمَ أنغام الحزن والحداد.)
(ستار)
(انتهت الرواية)