الدراسة التطبيقية
(١) حقائق في حياة عباس حافظ
وإذا نظرنا إلى ورق ملف عباس حافظ علي حافظ، فسنجده يخبرنا بأنه وُلِد يوم ٢٤ / ١٢ / ١٨٩٣ بشارع الخليج المرخم بالموسكي، وحصل على الابتدائية عام ١٩٠٨، وعلى الثانوية عام ١٩١٣. وبعد ثلاثة أعوام التحق بوظيفة سكرتير مالي بوزارة الحربية لمدة شهرين على سبيل التجربة، فأبلى بلاءً حسنًا في أعمال الترجمة، فاستحق التثبيت في وظيفته، بناءً على الإشادة الرسمية من قبل رئيسه في العمل، الذي أوضح فيها أن عباس حافظ لديه استعداد كبير للقيام بأعمال الترجمة، وأن كفاءته يندر وجودها في أقرانه، بالإضافة إلى ما اتصف به من دماثة الأخلاق وإطاعة الأوامر، التي يعجب بها كل من يعمل معه.
وما بين عامَيْ ١٩١٧ و١٩٢٢ نجده يتنقل بين العديد من الوظائف داخل وزارة الحربية، فتارةً نجده سكرتيرًا ماليًّا بمصر، وتارةً أخرى نجده كاتم أسرار الحربية بالسودان. وفي الملف وثيقة مؤرَّخة في ديسمبر ١٩٢٣، عبارة عن إشادة من أحمد رفعت — قائمقام أركان حرب الطوبجية — إلى الجنرال الإنجليزي في مصر، يشيد فيها بمساعدة عباس حافظ له في ترجمة كتابين من كتب تعليمات الطوبجية، ولولا هذه المساعدة ما كانت الترجمة تمت بصورتها الحالية. ويختتم أحمد رفعت إشادته هذه بقوله: «وقد حررت هذه الشهادة لما شاهدته من حضرته من اجتهاده واستعداده الفائق لترجمة القوانين العسكرية.»
ورغم هذه الإشادة التي تدل على أن عباس حافظ ساعد في الترجمة، إلا أن الحقيقة — التي ستظهر فيما بعد — ستثبت أن عباس حافظ هو المترجم الحقيقي لهذين الكتابين وغيرهما من الكتب! وربما تكررت هذه المأساة في حياة عباس حافظ الوظيفية، مما جعله يشعر باليأس وفقدان الأمل في نيل التقدير المستحق له. فقد لاحظنا — في ملفه — تقارير سرية كتب بياناتها الأساسية عباس حافظ بنفسه، ووجدناه يكتب في خانة النياشين والميداليات والمشابك، تعليقات يائسة تدل على إحباط نفسي كبير! فمثلًا في تقرير عام ١٩٢٤، علق على هذه الخانة قائلًا: «لا أملك منها شيئًا.» وفي العام التالي قال: «أين أنا منها؟» وفي العام الثالث، قال: «لا تصلح لي ولا أصلح لها.» وفي العام الرابع، قال: «لستُ منها ولا قلامة ظفر!»
وبناءً على ذلك، وجدنا عباس حافظ يرسل خطابًا إلى الجنرال الإنجليزي في مصر — وهو أعلى رئيس له في العمل — يقرُّ فيه بملل العيش في مصر، والضجر الذي انتابه بسبب ضآلة الراتب الذي لا يكفل له ولأولاده أدنى مراتب العيش الكريم، كما أنه فقد ابنًا له في عمر الطفولة، مما جعله يصرف بعض أوقاته في الكتابة الأدبية والصحفية؛ ولهذه الأسباب طلب من الجنرال الموافقة على مبادلة عمله الوظيفي في مصر، بعمل زميل له في الخرطوم.
وتمت المبادلة بالفعل، ولكن ضغوط الحياة لازمت عباس حافظ، مما اضطره للتغيب عن عمله عدة أيام بدون إذن، مما استوجب وقوع العقاب الإداري عليه؛ فكتب عباس في ديسمبر ١٩٢٤ مظلمة إلى اللواء محمد رفقي باشا، أبان فيها أمورًا مهمة، واعترف فيها بأنه المترجم الحقيقي ﻟ «مجموعة القوانين الحديثة وكتب التعليم كقانون البياد الحديث والقانون المالي وقوانين الطوبجية وغيرها مما لا حاجة إلى ذكره!» ويرفض في نهاية مظلمته ذكر الأسباب الحقيقية لتغيبه، ويلتمس مقابلة الوزير شخصيًّا لإخباره بهذه الأسباب.
والوثائق المحفوظة في ملف عباس حافظ تصمت نهائيًّا تجاه هذه المظلمة، وربما تم حفظها أو بالأصح قبرها، حتى لا تكشف أسرارًا ربما تسيء إلى شخصيات كبيرة في الوزارة. والدليل على ذلك أن عباس حافظ اعترف — ولأول مرة — أنه المترجم الحقيقي لمجموعة من الكتب التي لم تُنسب ترجمتها إليه! وهذا الاعتراف — رغم خطورته — لا يمثل كل شيء؛ فهناك أمور أخرى أخطر من ذلك، يود عباس حافظ إخبارها شخصيًّا إلى الوزير، تتعلق بأسباب تغيبه عن العمل، ولو كانت هذه الأسباب عادية أو طبيعية لَكان ذكرها للواء محمد رفقي باشا. ومن هنا نستشعر بأن أسباب تغيُّبِ عباس حافظ عن العمل، أسبابٌ تتعلَّق بأمور خطيرة وتمس شخصيات لها اعتبارها في الوزارة! ولولا خطورتها وأهميتها ما كان يتجرأ بمطالبة مقابلة الوزير شخصيًّا!
وهكذا يستشعر القارئ روح الشجاعة لدى عباس حافظ، ولكن للشجاعة ثمنًا لا بد أن يُدفَع! ففي فبراير ١٩٢٥ كان الدور على عباس حافظ كي يترقى في وظيفته إلى الدرجة الأعلى، وبسبب شجاعته وجرأته كافأه رجال الوزارة بحرمانه من الترقية، فكتب إلى الوزير مظلمة جديدة، يستغيث فيها بكلمات تُدمي القلوب وتزلزل المشاعر، ومما جاء فيها قوله: «… أنا شاب كفؤ في عملي بشهادة نفسي أولًا وبشهادة رؤسائي وبشهادة موظفي الوزارة على بكرة أبيهم. وقد كنت مثال النشاط في العمل والدأب على إظهار الكفاءة على أمل الترقي … يا الله! أهكذا يأبى النحس إلا أن يلازمني. يا للداهية! أهكذا سأموت حيًّا. أهكذا سأدفن في هذه الوزارة، أهكذا سأبقى حتى يشيب الغراب … فيا ضيعة الشباب! ويا خيبة الآمال! ويا خسارة الفكر والعقل والهمة والكفاءة والنشاط …»
وذُيِّلت هذه المظلمة بحاشية من المسئول، أفادت بعدم قبولها أو النظر فيها؛ لأن الترقيات لا تتم إلا بناء على التقارير السرية السنوية. ومن العجب العجاب أن التقرير السري السنوي لعباس حافظ، جاء فيه تحت بند استعداده لوظيفته الآتي: «استعداده العلمي والأدبي يؤهله لأرقى من وظيفته بكثيرٍ!» كما جاء في تقرير عام ١٩٢٨ تحت بند درجة اجتهاده: «مستخدم دءوب على العمل، غيور فيه، ذو كفاية له، عليم بعمله كل العلم، تعينه في ذلك كثير معرفته الاستثنائية للغة الإنجليزية.» وجاء تحت بند مقدرته على القيام بواجبات وظيفته: «على أتم المقدرة، ومما رأيته من عباس أفندي حافظ أقول إنه ينبغي أن يسير شوطًا بعيدًا في هذا السبيل.» وأخيرًا جاء تحت بند استعداده الاستثنائي: «أعدُّه مترجمًا استثنائيًّا، وهو في وسعه أن يترجم الوثائق بسرعة وبأسلوب لا يدع مجالًا للشك في معانيها الأصلية!»
وعلى الرغم من كفاءة عباس حافظ — كما أثبتت تقاريره السرية — إلا أنه لم يرقَ إلى الدرجة الأعلى، إلا بعد مرور ثلاثة عشر عامًا! وهذه الترقية جاءت عندما قرر الجنرال نقله إلى مصلحة التجارة والصناعة. والغريب أن رئيس عباس حافظ في العمل، كتب خطابًا إلى الجنرال بخصوص هذا النقل، قال فيه: «ستخسر الوزارة مستخدمًا حسنًا للغاية إذا نقل عباس أفندي من هنا؛ فإن خدماته نحتاج إليها بصفة خاصة في هذه الإدارة؛ لأنه قائم بالترجمة الفنية.»
وربما نستنتج من هذا القول، أن المسئولين في الوزارة لا يميلون إلى نقل عباس حافظ إلى أية جهة أخرى، حتى يستغلوه في الترجمة نيابة عن الآخرين! أو ربما خوفًا من خروجه عن سيطرتهم، فيُشهر بهم في مكانه الجديد! وهذا يفسر لنا لماذا يصرُّ المسئولون على الإشادة به، وفي الوقت نفسه يصرون على عدم ترقيته! لأن الترقية ربما ستمنحه منصبًا أعلى، يحصنه من الانصياع لرغباتهم في الترجمة نيابة عنهم أو عن غيرهم!
وتبتسم الحياة أيامًا قليلة لعباس حافظ، في ظل وزارة الوفد، التي أكرمته لكفاءته من جهة، ولمبدئه السياسي الوفدي من جهة أخرى، حيث أصدر وزير الداخلية مصطفى النحاس باشا قرارًا بترقيته بصفة استثنائية عام ١٩٣٠. ولكن ما لبث أن تغير الحال، حيث جاءت وزارة إسماعيل صدقي باشا، وكشرت عن أنيابها له، فنقلته إلى أسوان وهو في أشد الحاجة لوجوده في القاهرة لمعالجة زوجته المريضة بالقلب، بل وبدأ رجال الوزارة يرصدون مقالاته الصحفية، ويتعقبون نشاطه الأدبي لإيجاد ذريعة للإيقاع به، وللأسف نجحوا في ذلك!
ففي يوم ٩ / ٩ / ١٩٣٠ نشرت جريدة صوت مصر مقالة لعباس حافظ بعنوان حمدي سيف النصر. فقام وكيل عموم الأمن العام برفع مذكرة إلى الوزير، أبان فيها أن المقالة تمدح حمدي سيف النصر، وتطعن في كرامة وسمعة اللواء عبد العظيم علي باشا، فضلًا عما في المقالة من أمور سياسية تعرض لها الكاتب، مما يتنافى مع واجب وظيفته؛ فقرر رئيس الوزراء إسماعيل صدقي فصل عباس حافظ من وظيفته، مستندًا في هذا الفصل على مادة قانونية «تحظر على جميع موظفي الحكومة إبداء ملحوظات شخصية بواسطة الجرائد».
القاهرة في ٢٥ / ٥ / ١٩٤٢
حضرة صاحب المقام الرفيع وزير
الداخلية
- (١)
يبلغ مجموع مدة خدمتي الحكومية المحسوبة في المعاش نحو ٢٨ سنة قضيت منها في الدرجة الثامنة ١٤ سنة وفي السابعة ٣ سنوات وفي السادسة ٥ سنوات وفي الخامسة ٦ سنوات. وأُعِدْتُ إلى الخدمة في شهر مارس الماضي ثم رُقِّيتُ في دوري إلى الدرجة الرابعة من أول أبريل، وكان ينبغي الاحتفاظ بأقدميتي في الدرجة الخامسة فيجعل تاريخ ترقيتي الأخيرة من أبريل سنة ١٩٤٠. ولكني فقدت سنتين مع هذه الترقية العادية التي جاءت بعد فصلي وإحالتي إلى المعاش بلا ذنب جنيته غير عقيدتي السياسية، وإن كانت فضيلة تقرها أبسط مظاهر الحريات وحقوق الإنسان.
- (٢)
ومع ترقيتي الأخيرة لم يتجاوز راتبي ثلاثين جنيهًا ونصف جنيه، أي دون أقل مربوط الدرجة بنحو خمسة جنيهات. ويبلغ صافي المرتب حوالي ٢٢ جنيهًا، بعد الاستقطاعات المقررة واستبعاد نحو ٦ جنيهات نظير الاستبدال النقدي لجزء من المعاش في الأربع سنوات التي قضيتها مبعدًا عن وظيفتي بسبب الحزبية الطاغية.
- (٣)
وقد كنت من القلائل الذين حُورِبوا أكثر من مرة في رزقي ورزق أولادي بسبب عقيدتي الوطنية؛ ففُصِلت من وظيفتي في سنة ١٩٣٠ وشردت تشريدًا في العهد الصدقي، وقُدِّمت إلى القضاء عدة مرات وقاسيت المحن مختلفات، ثم فُصِلت في أعقاب الحكومة الوفدية في فبراير ١٩٣٨. وبلغ مجموع المدة التي قضيتها طريدًا من وظيفتي في هاتين المرتين نحو عشر سنوات، وهي فترة لا يستهان بها في أدوار عمر الإنسان، ودليل على شناعة الحزبية التي نكبتني في مادة حياتي وأصابت أسرتي وأولادي الأبرياء بأشد البلاء.
- (٤)
ولم يكن عملي في الحكومة عاديًّا منذ دخلت خدمتها، فإن الأربعة عشر عامًا التي قضيتها في وزارة الدفاع بالدرجة الثامنة — وهي الدرجة الدنيا في السلم الحكومي — كانت فترة إنتاج غزير لا يمكن أن ينتجه مستخدم في هذه الدرجة الصغيرة، فقد اشتغلت فيها بترجمة القوانين وتعريب كتب التعليم والفنون العسكرية، وهو عمل كان يؤديه وكيل إدارة قبل أن أتولاه، ولا تزال الكتب الفنية التي نقلتها إلى العربية في ذلك العهد مراجع في الجيش إلى الآن. وقد نُقِلت منها في سنة ١٩٢٨ إلى مصلحة التجارة والصناعة قبل تحويلها إلى وزارة بعد ترقيتي إلى درجة «ب» — المعادلة للسابعة الآن — فقمت بتحرير مجلة التجارة، وترجمت رسالة خبير الأرز، ورسالة خبير القطن، وأديت فيها عملًا فنيًّا لا يتفق مع درجتي الصغيرة في ذلك الحين. وفي سنة ١٩٣٠ نُقِلت إلى وزارة الداخلية في إدارة المطبوعات حيث قمت بعمل يتصل بالصحافة، ولم أكن يومئذٍ تجاوزت الدرجة السادسة، ولكن فُصِلت لعقيدتي السياسية في تلك السنة، وعانيت الشظف وصنوف البلاء خمسة أعوام متوالية حتى أعدت إلى الخدمة في سنة ١٩٣٥، ولكني لم أكد أستقر وأنقه من صدمة الفصل خمسة أعوام أو تزيد حتى فصلت مرة أخرى فجأة وبلا سابق تمهيد أو أقل نذير. وفي السنتين الأخيرتين كان معاشي قد وصل إلى نحو خمسة جنيهات وهي لا تكفي لمستخدم صغير، فضلًا عن رجل متزوج ووالد بنات وبنين.
- (٥)
ثمانية وعشرون عامًا في خدمة الحكومة، والعمل الممتاز والتفاني في المصلحة العامة، وإيثار خير الوطن على المنفعة الشخصية، ولم تتجاوز ماهيتي بعد كل ذلك، ورغم الأهوال والنكبات التي امتحنت بها، ثلاثين جنيهًا مع مكانتي الملحوظة في النهضة الثقافية، ومساهمتي من ثلاثين سنة في تغذية الأدب والحرية الفكرية في البلاد. وهي معاملة من الدولة قاسية بلا شك، ولا ترضاها حكومة الشعب لكاتب مفكر ووطني مخلص خاض أشد المحن وصنوف البلاء.
- (٦)
لهذا رأيت أن ألجأ إلى رفعة الرئيس الجليل ملتمسًا تسوية حالتي من بداية خدمتي إلى الآن لوضعي في الدرجة الثالثة بأقصى مربوطها حتى لا تقتل روح التضحية إذا هي لم تجد حسن التقدير.
وكتب النحاس باشا حاشية أسفل الشكوى، قال فيها: «حضرة الأستاذ الكبير معروف بصدق بلائه في الأدب وله مكانة عظيمة في عالم القلم، وهو من المعروفين بالوطنية الصادقة، فتُكتب مذكرة للعرض بإجابة طلبه.» وبالفعل ينصف النحاس الباشا عباس حافظ ويصدر قرارًا بترقيته إلى الدرجة الثالثة.
ويهنأ عباس حافظ عامين متتاليين من الاضطهاد والقمع، ولكنه لم يهنأ من متطلبات الحياة، فقد مرت السنون وكبرت بناته، وجاءت مرحلة زواجهن وما يصاحبها من مستلزمات مالية؛ فنجد الكاتب الكبير والوطني المخلص يتقدم بطلب تلو الآخر لاستبدال معاشه، من أجل زواج بناته، ووصل الأمر به إلى أن المتبقي من راتبه بعد هذا الاستبدال، لا يصلح للعيش بصورة كريمة. ولكن ماذا يفعل الأب أمام قسوة الحياة؟! لم يكن أمامه إلا أن يطلب بصفة استثنائية من وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، استبدال خمسة جنيهات من معاشه لاستكمال مستلزمات زواج ابنته، ووافق الوزير على طلبه في أبريل ١٩٤٤.
وعندما أتمَّ عباس رسالته تجاه ابنته، وبدأ يفكِّر في كيفية العيش بالقدر الضئيل المتبقي من راتبه، حدث تغيير وزاري، فتلقى عباس قرارًا من رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا في أكتوبر ١٩٤٤، يقضي بفصله من عمله لأسباب سياسية! وتزداد الهموم على عباس حافظ وتتراكم الديون عليه، فينبش بأظافره أرض الحياة ويصمد أمام ضربات القدر، ويدفع الثمن الباهظ نتيجة مواقفه السياسية طوال ست سنوات، تعاقبت خلالها وزارات كثيرة، منها: وزارة النقراشي باشا، ووزارة إسماعيل صدقي باشا، ووزارة إبراهيم عبد الهادي باشا، ووزارة حسين سري باشا، ووزارة النحاس باشا؛ ووزارة النحاس باشا الأخيرة استمرت في الحكم أسبوعين فقط، وربما لو طال عمرها لكانت أعادت عباس حافظ إلى عمله. ولكن شاءت الأقدار أن تأتي وزارة علي ماهر باشا إلى الحكم في عام ١٩٥٠، وهي الوزارة التي فصلت عباس حافظ، وهي أيضًا الوزارة التي أصدرت قرارًا بإعادة المفصولين السياسيين، وبالتالي عودة عباس حافظ إلى وظيفته.
وبعد استلام عباس وظيفته، قرَّرَ أن يضع حدًّا لتلاعب رجال الوزارات به، وذلك بأن يُحيل نفسه بنفسه إلى المعاش في أغسطس ١٩٥٠، دون انتظار الموعد الرسمي لذلك في ديسمبر ١٩٥٣، كما قال أيضًا في مذكرته ﺑ «التوصية لدى القصر بالإنعام علي بالبيكوية من الدرجة الأولى. وليس من شك في أن هذا هو أكبر صنيع تسدونه إلى رجل وطني وفيٍّ أينما خدم الدولة والشعب.»
(٢) عباس حافظ أديبًا
كان الأدب المتنفس الوحيد لعباس حافظ، أمام الاضطهاد الوظيفي الذي لازمه طوال حياته، وهذا يفسر غزارة إنتاجه الأدبي — نوعًا ما — خصوصًا في مجال الترجمة. وملفه الوظيفي لا يحمل سوى عناوين قليلة لما قام به من ترجمات بحكم وظيفته رغم أهميتها في إظهار حقيقة نسبتها إلى مترجمها الحقيقي، كما بيَّنا. ولعل تنكيل الوزارات المختلفة بعباس حافظ، وفصله من عمله لسنوات كثيرة، أفسح المجال لقريحته الأدبية، لتنتج إنتاجًا وفيرًا يدر عليه بعض المال، كي يستطيع التواصل في الحياة، وبذلك تتحقق مقولة «رُب ضارة نافعة». وإن كان مجال الترجمة الأدبية، هو المجال الأبرز في إنتاج عباس حافظ الأدبي، إلا أن له مجالات أدبية أخرى، تتنوع بين التأليف والنقد وكتابة المقالات الصحفية.
(٢-١) إنتاجه الأدبي
تشير الأسطر القليلة التي كُتبت عن عباس حافظ أن إنتاجه الأدبي تمثل في تأليف وترجمة عشرة كتب، وثماني عشرة مسرحية، بالإضافة إلى مقالاته في جريدة البلاغ. وللأسف لم تذكر هذه الأسطر عناوين هذه الكتب أو المسرحيات، واكتفت بذكر أمثلة منها، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة! لذلك اجتهدت في إحصاء أغلب العناوين التي تغطي مجالات عباس حافظ الأدبية، تبعًا لما بين يدي من معلومات. وإذا بدأنا بالكتب فسنجدها تتوزع بين التأليف والترجمة في أكثر من مجال.
أما المسرحيات — المترجمة أو المؤلفة — التي تعتبر مجهولة؛ لأنها لم تُنشر ولم نستطع الحصول عليها، ولكننا حصلنا على إعلاناتها ومقالاتها عندما مُثلت — وسنفصل الحديث عنها فيما بعد — فهي: «العذراء المفتونة» لهنري باتاي ١٩١٦، و«قسوة الشرائع» ١٩١٧، و«الشمس المشرقة» ١٩١٨، و«قابيل» ١٩٢١، و«زعيم الشعب» لبول بورجيه ١٩٢١، و«نبي الوطنية» لبون لوازون ١٩٢٥.
هذا بالإضافة إلى الكتب التي ذكرها الزركلي ولم نطلع عليها، وهي: «العقل الباطن وعلاقته بالأمراض النفسية» لسادلر، «سلمى»، «الفردوس المسموم»، «دموع وضحكات».
وإذا تطرقنا إلى مقالاته الصحفية، فسنحتاج إلى دراسة أخرى لتتبعها! حيث كان عباس حافظ — في أغلب فترات فصله الوظيفي — مقيمًا في دور هذه الصحف، بل وكان عنوان إقامته الدائم في هذه الفترات، هو عنوان إحدى الصحف أو المجلات! وهذا من واقع وثائق ملفه الوظيفي. فعلى سبيل المثال: كان عنوانه عام ١٩٢٤ هو عنوان «جريدة الحال» لصاحبها خليل بك عاصم، وفي العام التالي كان عنوانه «مجلة اللطائف المصورة»، وفي عام ١٩٣٤ كان عنوانه «جريدة كوكب الشرق»، حيث كان محررها الأول. هذا بالإضافة إلى مقالاته في صحف المنبر، صوت مصر، البلاغ، المصري … إلخ.
(٢-٢) نشاطه المسرحي
أحصينا فيما سبق — تبعًا لما بين أدينا — مسرحيات عباس حافظ المترجمة، ولاحظنا أن المنشور منها لا يتعدى الثلاث! رغم أنه ترجم أربع عشرة مسرحية، وهو العدد المتاح لنا، والذي يشير إلى وجود عدد آخر لم نستطع الحصول عليه. وإذا كانت المسرحيات المترجمة متاحة الآن، سواء كانت منشورة أو مخطوطة، إلا أن غير المتاح هو المسرحيات المترجمة والمؤلفة المجهولة! ولحُسن الحظ أن أخبار هذه المسرحيات — عندما مُثلت — ما زالت محفوظة بين أوراق الدوريات المختلفة، والتي تمتد من عام ١٩١٦ إلى عام ١٩٣٠! ومن الواجب علينا، طالما أخرجنا حياة عباس حافظ من بين أوراق ملفه، أن نخرج أيضًا معلومات مسرحياته المجهولة من بين أوراق الدوريات!
- (١)
أن منيرة المهدية لا تمثل أية مسرحية لا يكون الغناء أساسها التمثيلي، وأن يكون بطلها شخصية نسائية، حتى تضمن منيرة دور البطولة التمثيلية والغنائية فيها. والمعروف أن مسرحية «شقاء الشاعر» بطلها شاعر، وخالية من الغناء!
- (٢)
الإعلان المنشور يفيد بأن الفرقة ستمثل أولًا المسرحية الأساسية «السارق»، ثم بعد ذلك تمثل الفرقة — في العرض ذاته — مسرحية «شقاء الشاعر»! وعلى ذلك نقول: هل يُعقل تمثيل مسرحيتين كبيرتين في ليلة عرض واحدة؟! هذا بالإضافة إلى الفصل المضحك وغناء منيرة المهدية عدة قصائد!
- (٣)
يفيد الإعلان المنشور أن ممثلين فقط سيقومان بتمثيل مسرحية «شقاء الشاعر»، علمًا بأن شخصيات المسرحية — كما هو ثابت من النص المنشور في هذا الكتاب — أكثر من عشر شخصيات!
وعلى الرغم من شكنا في تمثيل هذه المسرحية، رغم ما نشر عنها عام ١٩١٦، إلا أننا وجدنا دليلًا قاطعًا على تمثيلها، ولكن للأسف بدون تاريخ واضح! وهذا الدليل عبارة عن إعلان صغير كان يوزع على المارة وفي المقاهي والشوارع وعلى أبواب المسارح، يفيد بأن جمعية رقي الآداب والتمثيل ستمثل مسرحية «شاترتون» تأليف الفريد دوفيني ومن تعريب عباس حافظ. وإذا علمنا أن هذه الجمعية تمثل نشاطها التمثيلي في عام ١٩١٦، سيكون هذا العام هو الاحتمال الأكبر لتمثيل مسرحية «شاترتون».
ومسرحية «شاترتون أو شقاء الشاعر»، تدور أحداثها حول شاعر شاب يدعي شاترتون، انعزل عن الأصدقاء والناس لأنهم لم يقدروا موهبته الشعرية، فعاش يائسًا بائسًا في غرفة بمنزل جون بل، بعد أن أخفى عنه اسمه وعمله. وبمرور الأيام تنشأ علاقة عاطفية طاهرة بين شاترتون وبين كيتي بل زوجة صاحب البيت. وهذه العلاقة لاحظها الأستاذ، وهو رجل متدين وأحد سكان المنزل، وكان دائمًا يحذر شاترتون من الاستمرار في هذه العلاقة، باعتباره من الشعراء مرهفي الحس. وبمرور الوقت، وأمام الحاجة إلى المال، قام شاترتون بتأليف عدة قصائد، قام بنشرها في الصحف، على اعتبار أنها من نظم شاعر قديم. فقامت ضجة نقدية كبيرة حول ظهور هذه القصائد، وقام النقاد باكتشاف الحقيقة، فانهالوا بالتجريح على شاترتون، رغم أنهم مدحوا هذه القصائد، عندما اعتقدوا أنها من نظم الشاعر القديم. وفي يوم يأتي بعض الأصدقاء إلى المنزل لزيارة جون بل، فيتعرف أحدهم على شاترتون، ويقص على الموجودين قصته. هنا لم يجد شاترتون ملاذًا غير حب كيتي بل وعطف الأستاذ، ولكنه كان يعلم أن حبه لكيتي هو حب من طرف واحد، وعندما شعر بأنها تبادله الحب، انتحر كي يحافظ على أسرتها، وكي ينهي حياته البائسة. ولكن كيتي بل حزنت عليه حزنًا شديدًا حتى ماتت!
ومسرحية «الشمس المشرقة»، تدور أحداثها حول شاب ضحى بحياته فداءً لزعيم أمته. ذلك الزعيم الذي اتُّهم بقتل امرأة كانت تسعى للحصول منه على معلومات مهمة، وكانت تخدعه باسم الحب. وهذا الزعيم هام في حب هذه المرأة، ولكنه عندما اكتشف خيانتها للوطن قام بقتلها، مفضلًا حب الوطن على حبه الشخصي، فتم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة. وأثناء المحاكمة تقدم شاب مخلص لوطنه ولزعيمه ووقف أمام القضاة مدعيًا أنه القاتل الحقيقي، وبذلك أنقذ زعيمه. وذهب الشاب ضحية الواجب، فأشرقت الشمس على الوطن من جديد.
ومسرحية «قابيل» تدور أحداثها حول زواج مصطفى بك ابن عثمان باشا، من الفتاة إحسان ابنة عز الدين باشا. ولكن هذا الزواج لم يدم طويلًا حيث طلق مصطفى زوجته بعد أن أنجبت له ابنًا هو مختار بك. وبعد الطلاق قام مصطفى بالزواج من أخرى ورُزق منها بولد هو جلال بك وبابنة هي سنية. وبمرور الوقت نشأت عداوة بين الأخوين، وصلت إلى حد الشروع في القتل، عندما اعتدى مختار على أخيه جلال فأصابه إصابة قاتلة، وبدأت النيابة التحقيق دون أن تعثر على الجاني. ولكن الأب اكتشف أن الجاني هو ابنه مختار، فصمم على تقديمه للعدالة، ولكن المحقق يأتي في هذه اللحظة ويقول إن المجني عليه أعطى أوصافًا مختلفة عن أوصاف مختار، كي يبعد الشبهة عنه لأن الأمل في إنقاذه من إصابته ضئيل. وعندما يسمع الجاني هذا، يقرر الانتحار تكفيرًا عن جريمته. وفي اللحظة التي ينتحر فيها الشقيق الجاني، يتم شفاء الشقيق المجني عليه.
فمسرحية «نبي الوطنية» تدور أحداثها حول النائب الوطني بودوان، الذي رفض منذ زمن منصب الوزير، من أجل الدفاع عن مبادئ حزبه، وفضل أن يكون حرًّا طليقًا من قيود الوزارة. وتنتشر في البلدة فضيحة رشوة كبيرة يُتهم فيها بعض كبار القوم، فيقبل بودوان منصب الوزير من أجل تطهير البلدة، ويبدأ عمله بقضية الرشوة، فيتضح له أن ابنه من أكبر المتورطين فيها. ويحاول بعض المسئولين الضغط عليه كي لا يفضح ابنه، الذي أصبح نائبًا في البرلمان، وإشفاقًا على أمه وعلى نفسه باعتباره أبًا قبل كل شيء. ولكن بودوان ينسى عاطفة الأبوة، وينسى تضرعات زوجته ويعلن على الملأ أن المجرم في حق وطنه هو ابنه وفلذة كبده، وكان في استطاعته أن يكتم السر، ولكن الإيمان بالوطن عنده كان المقام الأول، وكل ما في العالم من اعتبارات يجب أن يُطرح ويُمتهن!
(٢-٣) عباس حافظ ناقدًا مسرحيًّا
لم يكن مجال الترجمة المجال الوحيد في نشاط عباس حافظ المسرحي، بل هناك نشاط آخر هو النقد المسرحي الذي مارسه — ربما — قبل الترجمة المسرحية. وأولى محاولاته النقدية بدأت في مارس ١٩١٦، عندما نشر مجموعة من المقالات النقدية بجريدة المنبر، تحت عنوان «الروح العامة في آداب المسرح المصري». في هذه المقالات ظهر عباس حافظ بمظهر الناقد المتمرس، لا الناقد المبتدئ، بل وظهر بمظهر الرائد في مجال نقد لغة المسرح ونصوصها، وبالأخص لغة ترجمة المسرحيات الممثلة.
وفي مارس ١٩١٦ أيضًا، كتب عباس حافظ في جريدة المنبر مجموعة مقالات نقدية، تحت عنوان «قلب المرأة للكاتب الكبير عباس حافظ»، هاجم فيها كتابات محمد لطفي جمعة، وبالأخص مسرحيته قلب المرأة. ويُعاب على أسلوب عباس حافظ النقدي في هذه المقالات، تدني مستوى مفرداته وأوصافه المشينة، التي وصلت إلى حد وصف لطفي جمعة بأنه «من الحشرات الأدبية التي تمتص أفكار المنتجين»!
ومن الواضح أن روح النقد المسرحي عند عباس حافظ، لم تكن مقصورة على كتاباته الصحفية، بل كانت ملتصقة بعمله الوظيفي. ففي عام ١٩٣٥ كان عباس حافظ يعمل رقيبًا على النصوص المسرحية في قلم المطبوعات بوزارة الداخلية، وكان يكتب التقارير المتنوعة الخاصة بتصريح أو بمنع النصوص المسرحية من التمثيل على خشبة المسرح. والرقابة المسرحية — كما هو معروف — كانت قاصرة على رصد الموانع الرقابية المتعلقة بالأمور الدينية والأمن العام. ولكن عباس حافظ انتهج أسلوبًا جديدًا في الرقابة المسرحية، لم يكن معهودًا من قبل، ويُعتبر رائدًا في انتهاجه.
وهذا التقرير يعتبر وثيقة مهمة بالنسبة لنظم الرقابة المسرحية، لما احتوى عليه من روح نقدية، وبنود رقابية تقدمية. فلأول مرة نجد الرقيب — بروح نقدية — يبحث عن المغزى والمضمون … إلخ، قبل أن يبحث عن الموانع الرقابية. هذا فضلًا عن بحثه في المصطلحات المسرحية، مثل العقدة والحبكة والتصوير … إلخ. وأهم ما يميز هذا الرقيب الناقد، تفهمه الواعي لدور الرقابة. فهو لا يطبق نصوص القانون بصورة عمياء — كما يفعل معظم الرقباء — بل نجده يطبق روح القانون. وتبلغ الجرأة برقيبنا الناقد أن يوجه أنظار المسئولين على رقابة الروايات، إلى أن الهدف من الرقابة ليس المحافظة على الأمن العام والمجتمع — كما هو معروف ومتبع من قبل جميع الرقباء — بقدر المحافظة على سلامة الذوق الفني عند الجمهور فيما يتلقاه من فنون مسرحية. وأمام إيمانه بهذه الحقيقة يرفض الترخيص بتمثيل المسرحية، ويصدق على هذا الرفض رئيسه في العمل!
ومن الجدير بالذكر، أن عباس حافظ لم يكتفِ بنقد المسرح التطبيقي — المُمثل — باعتباره ناقدًا صحفيًّا، أو بالنقد الرقابي باعتباره رقيبًا مسرحيًّا، بل أيضًا وجدنا له أعمالًا نقدية نظرية ذات منهج علمي في الترجمة؛ فعندما طُبِعت مسرحية «سيرانو دي برجراك» لأدمون روستان وترجمة عباس حافظ، وجدنا المترجم لم يلتزم الترجمة فحسب، بل تعدَّاها إلى وضعِ بعض الحواشي التي تدل على سعة اطِّلاعه وثقافته المتنوِّعة وعلمه الغزير؛ فعلى سبيل المثال، يأتي في ثنايا حوار المسرحية ذِكْر الرسَّامَيْن دي شامبان وجاك كالو، دون أي تعريف لهما، فيقوم المترجم عباس حافظ بكتابة هامش، عرَّفَ فيه هذين العَلَمَيْن للقارئ، مع ذِكْرٍ لأهم أعمالهما الفنية؛ كذلك وجدناه يشرح في هوامشه معنى رياح المسترال، وشخصية سكاراموش، واسم ميرميدون … إلخ.
خاتمة
هذه هي سيرة الكاتب والأديب المترجِم عباس حافظ؛ ذلك الرجل المضطهَد وظيفيًّا لانتمائه السياسي الوطني، والذي قاوَمَ أعداءه بالصبر والتحمُّل، والذي أدَّى رسالتَه في الحياة على أتمِّ وجه، والذي نذَرَ قلمه من أجل مبادئه السياسية، والذي يُعتبَر من الوطنيين المخلصين لقضايا وطنه؛ وهو أيضًا الكاتبُ التاريخي الذي كتب عن الزعماء الوطنيين أمثال سعد زغلول ومصطفى النحاس، وهو الكاتب السياسي الذي كتب عن الشيوعية، وهو الكاتب الاجتماعي الذي كتب عن نشأة الاجتماع وتطوُّره، وهو الكاتب المسرحي الذي تنوَّعَ إنتاجُه بين التأليف والترجمة والتعريب والنقد، وهو الصحفي المنتشرة كتاباتُه في أغلب الصحف والمجلات طوال نصف قرن؛ وأخيرًا، هو أحد روَّاد الترجمة في عصرنا الحديث، ممَّن ترجَمُوا الكتبَ المتنوعة منذ عام ١٩١١، وحتى وفاته عام ١٩٥٩.