بعيدًا عن الأوراق
بعد أن أنهيتُ كتابة هذا الكتاب بصورة كاملة، وأثناء مرحلة المراجعة النهائية — قبل تسليمه للمطبعة — دارَ في خلدي سؤالٌ يقول: هل تبقَّى أحدٌ من أسرة عباس حافظ؟ وتخيَّلْتُ الإجابةَ بنعم … وسرحت في هذا الاحتمال! وحلمتُ بمقابلة الأسرة، وتخيَّلْتُ نفسي بين أرفف مكتبته، وأنني أقرأ مذكراته وخطاباته ومخطوطاته؛ لأن من المؤكَّد أنه كان يحتفظ بمكتبةٍ عامرةٍ؛ وحاولتُ أن أحقِّقَ هذا الحلمَ بكلِّ وسيلةٍ ممكنةٍ عن طريق سؤال بعض الأساتذة والمثقفين ممَّنْ لهم ولَعٌ بالأدباء وتراجِمِهم، أمثال الأستاذ أحمد حسين الطماوي والأستاذ نبيل فرج وغيرهما، دون جدوى.
وقبل أن أُصَاب بالإحباط فكَّرْتُ في الاتصال بدليلِ التليفونات المصرية، والسؤال عن أي فردٍ يكون جدُّه اسمه عباس حافظ! وبالفعل حدث هذا وظفرتُ برقمٍ اسمُ جدِّ صاحبه عباس حافظ، واتصلتُ به … ولكن الرقم لا يستجيب! فالجرس يدق حتى يتوقَّفَ دون استجابة، وكررتُ المحاولةَ كلَّ يوم لمدة أسبوعين دون جدوى، فيئست تمامًا، وقررتُ تسليمَ الكتاب بعد ثلاثة أيام، حسب موعد المطبعة. وأثناء تنظيم الأوراق وترتيبها سقطَتْ قصاصة ورق، فالتقطْتُها ووجدتها رقمَ التليفون الذي لا يرد! وقبل أن أمزِّقَها أدرتُ قرص التليفون لآخِر مرة من باب التجربة، وكانت المفاجأة بأنْ سمعْتُ صوتًا يردُّ عليَّ! وبعد مكالمةٍ قصيرة جدًّا، اكتشفتُ أنَّ هناك تشابُهًا في الأسماء، فلم يكن صاحبُ الرقم حفيدَ عباس حافظ الأديب!
وهنا جاءتني فكرةٌ أخرى، لماذا لم أسأل عن أحدٍ يكون اسم والده أو جده أنور عباس حافظ، وهو الابن الوحيد لعباس حافظ! وسرتُ حول هذا الاحتمال، وسألتُ الدليلَ وكانت الإجابةُ مخيِّبةً للآمال، فلا يوجد رقمُ تليفونٍ اسمُ والدِ أو جدِّ صاحبه أنور عباس حافظ. وقبل أن أشكر عاملة الدليل، وجدتُها تقول: هناك تليفون باسم أنور عباس حافظ! قلتُ لها: مستحيلٌ أن يكون أنور ابن عباس حافظ ما زال على قيد الحياة، ومن المؤكَّدِ أنه تشابُهٌ في الأسماء. فقالَتْ: هذا كلُّ ما لديَّ. فأخذتُ منها الرقم وشكرتُها، وأدرتُ قرصَ التليفون على هذا الرقم، وأنا واثق كلَّ الثقة بأنه رقمٌ لا علاقةَ له بالموضوع؛ وبعد لحظاتٍ قصيرة من سماع الجرس في الطرف الآخَر، سمعتُ صوتَ فتاة تحدِّثني، فقلتُ لها: هل هذا رقم أنور عباس حافظ. قالت: نعم. قلت: هل هو محامٍ. قالت: نعم. قلتُ: هل والده عباس حافظ الأديب. قالت: نعم. فلم أتمالَكْ نفسي من الفرحة!
وبدأتُ أسألها بعضَ الأسئلة البسيطة عن عباس حافظ، فقالت: أنا لا أعلم عنه الكثير؛ لأنه والد جدي أنور، ولكن ماما تستطيع إفادتك، وستتحدث معك الآن. وبالفعل تحدَّثْتُ مع والدتها السيدة نبيلة أنور عباس حافظ حديثًا قصيرًا ومقتضبًا، حيث أظهرَتْ سعادتها بأن كتابًا سيصدر عن جدها، يحمل شيئًا عن حياته وأدبه؛ لأنها شغوفةٌ لمعرفة هذا الجد الأديب بصورة أكثر مما تسمع عنه، وحاولتُ أن أعرف منها معلوماتٍ أكثر ممَّا دوَّنتُه في هذا الكتاب، فلم تستطِعْ إفادتي وأشعرَتْني بأنني أعرف عن عباس حافظ أكثر ممَّا تعرفه عنه عائلتُه! ولكنها أعطتني أملًا جديدًا، عندما قالَتْ إنَّ عمتها السيدة سناء، هي أكثر درايةً بوالدها، وتستطيع إفادتي، وإنها ستدبِّرُ لقاءً يجمعني بها.
تمَّ اللقاءُ بيني وبين السيدة سناء عباس حافظ — أرملة المرحوم اللواء أحمد محمد السباعي، الشقيق الأصغر للمرحوم الأديب يوسف السباعي — يوم الاثنين ٢٦ / ٢ / ٢٠٠٧، بحضور ابنها الأستاذ يوسف السباعي، صاحب شركات دراسات الجدوى في مجال تصدير الغاز؛ وكان لقاءً وديًّا مفعمًا بالذكريات الجميلة، وما خرجتُ به من هذا اللقاء، يُعتبَر توضيحًا لبعض الأمور، وإضافةَ معلوماتٍ جديدةٍ عن عباس حافظ، بالإضافة إلى بعض الصور النادرة، لم أشَأْ أن أضعَها في موضعها المناسب في الصفحات السابقة التي تحدَّثْتُ فيها عن حياته، خشيةَ اختلاط المعلومات الشفهية بالمعلومات الوثائقية المستخرَجة من الملفات الرسمية؛ لذلك فضَّلْتُ وضْعَها تحت عنوانٍ مستقلٍّ، وهو «بعيدًا عن الأوراق». وإليك أيها القارئ ما خرجتُ به من هذا اللقاء.
ينحدر عباس حافظ من أصول تركية ترجع إلى الأمير كتخدا صاحب جامع الكيخيا بميدان الأوبرا — ولفظ كيخيا تحويرٌ لاسم كتخدا — وكان والد عباس يعمل في المعية الخديوية أيامَ حكم الخديوي توفيق، وتزوَّجَ من إحدى وصيفات القصر الخديوي، وهي السيدة «يارد نور»، التي أنجبَتْ عباسًا وشقيقه حسين وشقيقته زينب هانم سلطانة. وقد أنجَبَ عباس حافظ ولدَيْن وأربع بنات: علي وأنور، وفريدة ومنيرة ونبيلة وسناء. ومات علي طفلًا عام ١٩٢٤، وماتَتْ نبيلة في عمر السابعة عشرة عام ١٩٤٠ تقريبًا، ورثاها والدها بقصيدةٍ أدمَتْ قلبَ كلِّ مَن قرأها.
وعلى الرغم من أن الوثائق الرسمية تفيد بأن عباس حافظ حصل على شهادة الثانوية، إلا أنه كاد أن يتمَّ تعليمه العالي في مدرسة الحقوق العليا، حيث وصَلَ في تعليمه إلى السنة الثالثة، ولكنه ترَكَ الدراسةَ والتحَقَ بالوظائف الحكومية. كذلك تؤكِّدُ ابنته بأن والدها عباس حافظ حصَلَ على رتبةِ البيكوية رسميًّا من القصر، وإلى وقتٍ قريبٍ كانت تحتفِظُ بالبراءة الرسمية لهذه البيكوية.
وتروي السيدة سناء ذكرياتها عن يوم وفاة والدها، قائلةً: بعد سنواتٍ قليلةٍ من قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، أصبَحَ لكلِّ مصلحة حكومية مُشرِفٌ من الضباط، يتحكَّم فيها كما يشاء، وفي هذا الوقت كان عباس حافظ رئيس تحرير وكالة رويتر للأنباء، وكان مقرُّها بعمارة الإيموبيليا بباب اللوق، وبين ليلةٍ وضحاها فُوجِئ عباس حافظ بتعيين أحد الضباط مُشرِفًا على الوكالة، وبعد أيام قليلة احتَلَّ هذا المُشرِف مكتبَ رئيس التحرير عباس حافظ! وبعد فترةٍ وجيزةٍ تمَّ تخفيض راتب عباس إلى النصف! ناهيك عن المضايقات والضغوط النفسية التي مُورِست على هذا الأديب! وفي أحد الأيام عادَ عباسٌ من عمله في الوكالة إلى منزله، مهمومًا مغمومًا حاملًا بعضَ كتبه ومتعلقاته الشخصية، وبعد تناوُلِ الغذاء، نام في غرفته دقائق معدودة، كانت هي دقائق حياته المتبقية، حيث أسلَمَ الروحَ لبارئها!