مسرحية تيمون
تعريب: عباس حافظ
عام ١٩٢١
عام ١٩٢١
الفصل الأول: في أثينا
(بهو في دار تيمون، وفي أقصى المسرح الموائد مصفوفة، يدخل الشاعر والمصوِّر والجوهري والتاجر وآخَرون من أبوابٍ متفرِّقة.)
الشاعر
:
طابَ يومك يا سيدي.
المصوِّر
:
يسرُّني أن أراك موفورَ العافية.
الشاعر
:
لقد افتقدتُكَ من أيامٍ عدة، كيف أنتَ والدنيا يا صاح؟
المصوِّر
:
إنها كلها نحت شاخت.
الشاعر
:
ذلك أمر معلوم، ولكنْ أيُّ شيء نادرٍ غريبٍ يروعك منها؟ أَلَا انظر كيف ستجد
الكرم وفتنة الجود والسخاء؛ لقد ساق سلطانُها كلَّ هذه الأنفس، فجاءت إلى هذا
المكان سِراعًا. إنني أعرف التاجرَ.
المصوِّر
:
إنني أعرف الرجلين؛ إنَّ صاحِبَه جوهري.
التاجر
:
إنه لَسيد عظيم القدر.
الجوهري
:
أجل، أنه لَثابت اللمعة مشرِق الضياء.
التاجر
:
رجل لا قرينَ له ولا مثيلَ، لا يملُّ العطاءَ ولا يسأمُ العارفة.
الجوهري
:
لقد جئتُه بلؤلؤةٍ.
التاجر
:
أَلَا فأناشدك الآلهةَ دَعْنا نراها. أَلِلسَّيِّدِ تيمون جئتَ بها يا سيدي؟
الجوهري
:
أجل، إذا هو تقبَّلَها بثمنٍ ربيحٍ، ولكنه فاعل ذلك ولا ريب.
الشاعر
(لنفسه متخيِّلًا)
:
إننا إذا تمدَّحنا القبيحَ أملًا في الجزاء ونوال العطاء، فقد أضفنا جمالَ
الشعر إذا نحن تغنينا بجمال الجميل.
التاجر
(إلى اللؤلؤة وهو ينظر إليها)
:
إنها لَتركيب بديع.
الجوهري
:
وإنها لسيرية، أَلَا تنظر هاك المائية تجري في خلالها؟
المصوِّر
(يميل نحو الشاعر)
:
أَسارِحُ المخيلة أنتَ يا صاح في بيوتٍ تريد أن تَزجِيها للسيد
العظيم؟
الشاعر
:
تلك أبيات زلفت من خاطري هاربةً؛ إن الشعرَ فينا نحن الشعراء أشبهُ شيءٍ
بالصمغة لا يسيل لعابها عن شجرتها إلا من حيث تُغذَّى وتُسقَى. إن الستار
المختفية في حجرة الصوان لا تورى ولا تظهر إلا إذا حككتَ الحجر وقدحتَ
الزناد. وأنت يا صاح ماذا لديك؟
المصوِّر
:
صورة يا سيدي. وحتى يخرج ديوانك أيها الصديق.
الشاعر
:
على إثر النَّوال وأعقاب العطاء والإهداء. دَعْني أرى الصورةَ التي جئتَ
بها.
المصوِّر
:
إنها لَصورة جميلة.
الشاعر
:
إنها لَكذلك؛ لقد خرجَتْ من يدَيْكَ جميلةً بديعةً.
المصوِّر
:
بل وسطًا بينهما.
الشاعر
:
بل لَتستحقُّ الإعجاب. يا للصورة الجميلة! إن هذا الجمال يتكلَّم عن نفسه، ما
هذا السحر العظيم في تلك العين! ما ذاك الخيال الرائع الذي يتحرَّك على تلك
الشفة! إن في صحة هذه الإشارات والحركات ألفَ لسانٍ وبيانٍ.
المصوِّر
:
هذه تقليد جميل للحياة. (يدخل نوَّابٌ كثيرون
فيجتازون المسرحَ إلى الناحية الأخرى) أَلَا انظر ما أكبر حاشية
هذا الرجل وبطانته!
الشاعر
:
هؤلاء شيوخ أثينا يا صاح.
المصور
:
انظر، ها جمْعٌ آخَر غيرهم.
الشاعر
:
أرأيتَ هذا الطوفان! هذا الفيض العظيم من الزوَّار والقاصدين، إنني في هذه
القصيدة التي أرسلْتُها عفوَ الخاطر قد صوَّرْتُ رجلًا يلتَفُّ حولَه الناسُ مُعتِنقين
ويمتدحونه حافين مالقين، وهو ينثر عليهم الأعطيةَ ويبدر لهم البُدرة ويجتذب
القلوب العديدة، من المتملِّق الزجاجيِّ الوجه إلى الفيلسوف المتسخِّط الغاضب
الذي يكره نفسه أشدَّ من حبِّه لشيء في العالم. بل إن هذا الرجل نفسه لَيركع
على ركبتَيْه أمام تيمون ويعود في سلام راضيًا عن إطراقته لكلمة
وقحته.
المصوِّر
:
لقد رأيتُهما كثيرًا يتحدَّثان.
الشاعر
:
لقد تخيَّلتُ الثراءَ مصعدًا ذروة جبل شاهق؛ حيث تترامى عند سفحه صحراءُ شاسعةٌ
غُصَّتْ بالناس وامتلأت بعديد القوم، وكلهم عين طلعة لذلك الرجل الذي يعتلي
سنامَ ذلك الجبل، حتى إذا غضبَتْ إلهة الثراء على عشيقها وأولَتْه وجهًا منها
مكفهرًا، لم يلبث أولئك الذين جَرَوْا وراءه يريدون قمةَ الجبل أن تركوه يهبط
من تلك الذروة، وتزلق قدمه هاويًا إلى الحضيض، دون أن تطاوع النفس أحدهم أن
يرافقه في منحدره وسقوطه هذا مثل السيد تيمون، وإنه لَأمر واقع إن لم يكن
اليومَ فغدًا.
المصوِّر
:
هذا تصوير عادي يا سيدي لا روعة فيه، وإني لَقدير على أن أصوِّرَ لكَ ألفَ صورة
أدَلَّ على تقلُّباتِ الدهر وصروف الثراء من كلماتك وقوافيك وقصيدك، على أنك قد
أصبتَ أيها الشاعر في أن تفتح عين تيمون ليُبصِرَ المنحدرَ أمامه قبل أن يهوى
إليه (يُسمَع نشيدٌ من الداخل. يدخل تيمون فيحَيِّي كلَّ إنسان يراه بأجمل تحية، ويسير
في إثره رسولٌ من قِبَل فانتدياس وخَدَمٌ كثيرون).
تيمون
(للرسول)
:
أقلتَ أنه في غيابة السجن.
الرسول
:
أجل يا سيدي العظيم، لثلاثين ألفًا دينًا مركبة وعجز عن النزول عنه، فلزمه
الدائنون وحموا السبيلَ عليه، وهو يستنشدك كتابًا منكَ إلى الذين قضوا بسجنه،
فإذا لم يجد كتابَكَ كانَتْ أسطرُكَ عزاءَه، ورسالتُكَ سلواه.
تيمون
:
يا له من رجل شريف كريم! لستُ من أولئك الذين يطرحون عنهم أصدقاءهم إذا
نزلَتْ بهم حاجةٌ إليهم، إنني أعرفه رجلًا سيدًا خليقًا بالعون والغياث، وإنني
لَباذِلٌ عوني وغوثي، سأدفع أنا الدَّيْنَ وأفكُّ إسارَه.
الرسول
:
إنك يا مولاي ستلزمه عنقه لكَ إلى الأبد.
تيمون
:
أَلَا أَقْرِئْه مني السلام، وسأرسل الدَّيْنَ يطلق سراحه، فإذا انطلق من السجن
فَلْيحضر إليَّ؛ إذ ليس حسبًا أن نقيم عثارَ الضعيف، بل أن نرفقه بعد ذلك ونأخذ
بيده سلامًا لك.
الرسول
:
السعادة لك أيها السيد العظيم (ينحني
وينصرف، ينبري رجلٌ شيخٌ من وسط الجمع).
الشيخ
:
أي تيمون العظيم، ألْقِ إليَّ سمْعَكَ.
تيمون
:
حُبًّا وكرامةً أيها الشيخ الكريم.
الشيخ
:
إن في حاشيتكَ فتًى يُدعَى لوسيلياس.
تيمون
:
أجل، فماذا أنتَ محدِّثي عنه؟
الشيخ
:
أي تيمون، سيد النبل والكرم، أَلَا أدعه يمثل بين يديك؟
تيمون
:
أَحاضِرٌ هو ندوتي هذه؟ تقدَّمْ أيها الفتى.
لوسيلياس
(يتقدَّم من وسط الخدم)
:
ها أنا ذا في خدمة السيد العظيم.
الشيخ
:
إن هذا الفتى يا سيد تيمون، خادمك هذا وصنيعتك يلبس بردةَ الليل فيغشي
داري تحت جنح الظلام. إنني رجل منذ ناشئتي الأولى، موفق ثراء حليف نعمة،
وأنا أحرَصُ الناس على أن أجد لثروتي وريثًا أكرم من رجلٍ خادِمٍ يطعم من موائد
الناس.
تيمون
:
وماذا بعد؟ أَلَا أكْمِلِ القولَ.
الشيخ
:
إن لي فتاة وحيدة ستنزل إليها ثروتي، والفتاة صبيحة المُحَيَّا، ذات مسحة من
الجمال، وقد ربَّيْتُها فأحسنتُ بمالي تربيتَها، وفتاك هذا يستميلها إلى حبِّه، ولهذا
جئتُ أضرع إليك أيها السيد العظيم أن تعدني عليه وتمنعه غشيانَ داري
ورؤيةَ فتاتي، بعد أن خابَ فيه قولي ولم تثمر النصيحة.
تيمون
:
ولكنَّ الفتى لدينا وفِيٌّ أمين.
الشيخ
:
أجل، ولكن لا ينبغي أن تسلب أمانتُه ووفاؤه فتاتي.
تيمون
:
أتحبُّ ابنتُكَ الفتى؟
الشيخ
:
إنها طفلةٌ غِرٌّ سهلة القياد، ونحن الشيوخ نعلم أن الشباب خفيفُ الحلم طائشُ
اللُّبِّ.
تيمون
:
أيها الفتى، أتحب الفتاة؟
لوسيلياس
:
أجل يا مولاي، وقد بادلَتْني حبًّا بحبٍّ.
الشيخ
:
إذا تزوجت فتاتي ولم تستوفر في الزواج رغبتي، فأنني مشهد الآلهة أنني
مختار وريثي من عرض المتسولين المتكفِّفين، وحارمها من الوراثة إلى
الأبد.
تيمون
:
نبِّئْني أيها الشيخ كَمْ يجب للفتى الذي ترتَضِيه زوجًا لفتاتكَ.
الشيخ
:
ثمانية عشر ألف درهم عاجلة، ونماؤها آجلة.
تيمون
:
إن الفتى قضى دهرًا في خدمتي، وعهدُ الوفاء يقضي عليَّ بأن أخف له يدًا،
أَلَا هَبْه أيها الشيخ فتاتَكَ، وأنا واهِبُه من المال ما أنت لفتاتك واهِب.
الشيخ
:
أسترهنك شرفك أيها السيد العظيم، والفتاة منذ الساعة ملك يمينه.
تيمون
:
هاك يدي في يدك، وشرفي رهينُ موعدي.
لوسيلياس
:
أشكر مولاي شكرَ الوضيع الحقير للسيد العظيم الخطير، ولن أحيا يومًا غير
مدين لك (يخرج هو والشيخ، يتقدَّمُ إذ ذاك الشاعرُ).
الشاعر
:
أصلحَتِ الآلهةُ سيدي العظيم، أَلَا يتنزَّلُ سيدي لقبولِ خريدة خاطري؟
تيمون
:
أشكرك سأسمع لك في الحال، فكُنْ غير بعيد. (يتقدَّمُ
نحوَ المصوِّر) وأنتَ يا صاح ما هذا الذي في يدك.
المصوِّر
:
قطعة من التصوير استنشدك قبولها.
تيمون
:
مرحبًا بالتصوير، فهو أقرب الأشياء إلى جمال الطبيعة، إنني أحِبُّ عملَكَ، وستجِدَنَّ
دليلَ هذا الحب، كُنْ غيرَ بعيدٍ حتى أستمِعَ لكَ.
المصوِّر
:
حفظتكَ الآلهة.
تيمون
:
سلامًا أيها السيد، يدك أصافِحها، يجب أن نجلس معًا إلى الخوان. (إلى الجوهري) وأنت يا سيدي، إن لؤلؤتك لم
تصب من المديح قدر ما تستحق.
الجوهري
:
كيف يا مولاي، إذ ما تستحق؟
تيمون
:
بل طائفة من المدائح لا تُعَدُّ.
الجوهري
:
إنك يا مولاي تزيِّن اللؤلؤةَ إذا لبسْتَها، وهي لا تزينكَ.
تيمون
:
أجدتَ السخريةَ.
التاجر
:
كلا يا مولاي، إنه يقول حقًّا لا سخريةً، والناس جميعًا يقولون عنكَ ما
قال.
تيمون
:
مَن يكون ذا القادم؟ آه، أتريدون أن تسمعوا الآن ما أنتم له كارهون؟
(يدخل الفيلسوف ابيمنتاس.)
الجوهري
:
إننا سنتحمَّلُ جميعَ شتائمه يا مولاي.
التاجر
:
لن يدع أحدًا يفلت من سبابه.
تيمون
:
طاب مصبحك أيها الفيلسوف الكريم.
الفيلسوف
:
دَعْ طيبَ المصبح لكَ، فلن أكون كريمًا حتى تروح أنت لتيمون كلبًا، وحتى يكون
من هؤلاء الأوغاد قوم أوفياء.
تيمون
:
كيف تقول عنهم أوغادًا وأنت لا تعرفهم؟!
الفيلسوف
:
أَلَيْسُوا من أثينا وأثينا منهم!
تيمون
:
بلى.
الفيلسوف
:
إذن ما أنا بنادِمٍ عمَّا قلتُ.
الجوهري
:
أتعرفني يا ابيمنتاس؟
الفيلسوف
:
أنت تعرف أنني أعرفك، أَلَمْ أسمِّكَ منذ لحظةٍ باسمك، وأنعتك بوصْفِكَ؟!
تيمون
:
إنك لَرجل مزهو فخور.
الفيلسوف
:
ما أنا فخور لشيءٍ فخاري بأنني لستُ كتيمون (يمشي
يريد الانصراف).
تيمون
:
وإلى أين أنت ذاهب الآن؟
الفيلسوف
(يقف)
:
لأدقَّ عنقَ أثينيٍّ.
تيمون
:
تلك فعلة ستموت من أجلها!
الفيلسوف
:
ليكن إذا كان فعْلُ الشيء التافه جريمةً في القانون تستحِقُّ الموت.
تيمون
:
ماذا تقول في هذه الصورة أتروق في عينك؟
الفيلسوف
:
أجل، لنقائها وطهرها.
تيمون
:
أَلَمْ يُجد عملًا مَن صوَّرها؟
الفيلسوف
:
لقد أحسَنَ تصويرًا قبله مَن صوَّرَه، وإنْ كان هو قطعة قَذِرة من الصور.
المصور
:
إنك لَكلب.
الفيلسوف
:
لقد كان أبوك من جيلي، فمَن يكون إذا أنا كنتُ كلبًا؟
تيمون
:
أيها الفيلسوف، أَلَا تجلس إلى طعامي؟
الفيلسوف
:
كلا، إنني لا آكل لحومَ الآدميين.
تيمون
:
إنك إذا أكلْتَها أغضبْتَ النساءَ وأسخطتهن.
الفيلسوف
:
إنهن يأكلن الرجالَ، أَلَا ترى بطونهن كيف ترتفع إذا هن حملن؟ آه! كيف أنت
أيها الشاعر؟
الشاعر
:
وكيف أنت أيها الفيلسوف؟
الفيلسوف
:
إنك لَكاذب.
الشاعر
:
كيف؟ أَلَسْتَ فيلسوفًا؟
الفيلسوف
:
بل إنني هو.
الشاعر
:
إذن فلَمْ أكذبْ.
الفيلسوف
:
أَلَسْتَ شاعرًا؟
الشاعر
:
بل إنني هو.
الفيلسوف
:
إذن فأنت كاذب إليَّ؛ انظر إلى أخيرة قصائدك، أَلَمْ تتخيَّلْ فيها تيمون رجلًا
عظيمًا؟
الشاعر
:
إنني لَمْ أتخيَّلْه، بل هو كذلك حقًّا.
الفيلسوف
:
إذن فهو عظيم القدر مثلك، إنَّ مَن يحب الناس لَهُوَ والمتملِّق سواءٌ.
الآلهة لي لو أنني كنتُ سيدًا عظيمًا.
تيمون
:
فماذا كنتَ فاعلًا لو أنك كُنْتَه؟
الفيلسوف
:
كما أفعل الآن؛ أكره السيدَ العظيمَ من كل قلبي.
تيمون
:
كيف؟ تكره نفسك؟
الفيلسوف
:
أجل.
تيمون
:
وعلامَ الكُرْه؟
الفيلسوف
:
على أنني لم أكن أستحِقُّ أنْ أكون سيدًا عظيمًا. (إلى التاجر) وأنتَ أَلَسْتَ تاجرًا؟
التاجر
:
بلى يا ابيمنتاس.
الفيلسوف
:
إذن فَلْتلعنك التجارة إن لم تلعنْكَ الآلهة.
التاجر
:
إذا لعنتني التجارة لعنتني الآلهة.
الفيلسوف
:
إن التجارة هي إلهُكَ؛ إذن فَلْيلعَنْكَ إلهُكَ (قرع
الطبول والأناشيد من الخارج، يدخل خادم).
تيمون
:
ما تلك أيها الرجل.
الخادم
:
هذا القائد السيباريس يا مولاي، جاء وفي رفقته فرسانٌ مدججون.
تيمون
(إلى حاشيته)
:
أَلَا تقبَّلوهم وأَحْسِنوا اللقيا، وأمضوا إليَّ بهم مُكرمين. (يخرج بعضُ رجال الحاشية … إلى الباقين من
الزوار) يجب أن تجلسوا إلى مائدتنا جميعًا، لا تذهبوا حتى
أشكركم؛ فإذا فرغنا من الطعام فأتوني بنفائسكم أجمعين. إنني فَرِحٌ مغتبط
برؤياكم. (يدخل السيباريس وحاشيته) أهلًا
بك مرحبًا معززًا.
الفيلسوف
:
يا للناس من القردة! ما أقل حب هؤلاء الأوغاد وإخلاصهم في وسط حفاوتهم
هذه وآدابهم.
القائد
:
إنني لَمشوق إليك مفتقِد طلعتك.
تيمون
:
أَلَا مرحبًا بك، هلموا بنا إلى الحجرات الأخرى نعدَّ من المناعم ألوانًا
(يخرجون جميعًا إلا الفيلسوف … يدخل من
الناحية الأخرى سمبرونياس ولوسياس).
سمبرونياس
:
في أيِّ وقتٍ نحن الآن أيها الفيلسوف؟
الفيلسوف
:
الوقت الذي يجب أن يكون فيه المرءُ وفيًّا أمينًا.
سمبرونياس
:
إنه لم يَحِنْ بعدُ.
الفيلسوف
:
إنَّ ذلك لَأشدُّ لعنةً عليك إذا أنت أغفلْتَه.
لوسياس
:
أمشترك أنت في مائدة تيمون؟
الفيلسوف
:
أجل، لأرى اللحم الشواء يملأ بطونَ الأوغاد، ولأشهد معتقة الشراب تضرم رءوس
الحمقى.
لوسياس
:
إذن سلامًا لكَ، سلامًا لك.
الفيلسوف
:
إنك لَأحمق إذ تُقرِئُني السلامَ مرتين.
سمبرونياس
:
ولماذا يا ابيمنتاس؟
الفيلسوف
:
لأنه كان ينبغي أن يحفظَ منها واحدةً؛ فإنني لا أريد أن أردَّ عليه
مثلها.
سمبرونياس
:
لتشنِقْ نفسك.
الفيلسوف
:
كلا، لن أفعل شيئًا أنت آمِري به، الآمِر بذلك صاحبك هذا.
لوسياس
:
أذهب أيها الكلب العقور، وإلا رفستُكَ من هنا.
الفيلسوف
:
أجل، سأغدو كلبًا، ولكن في ظهري رفسة الحمار (يخرج).
سمبرونياس
:
إنه لَعدو الإنسانية المسخط عليها، هلمَّ بنا لنرى تيمون لكي نحسو من خمرته
وننعم بمباهج موائده؛ إنه لَآية الكرم وحسن المثوى.
لوسياس
:
إنه لَيصب الكرم صبًّا، إن بلونتس إله الذهب ليس إلا خادمه وغلامه، فلا
تُهدَى إليه طريفةٌ حتى يردَّها سبعةَ أضعافها، ولا تُزجَى إليها عارفة حتى يكسب
صاحبها عشراتِ أمثالها أو فوق زيادة المستزيد.
سمبرونياس
:
ها هو ذا قادم بجمعه العظيم (يدخل تيمون
والسيباويس والوجهاء والشيوخ والخَدَم يعدُّون المائدةَ كلها، ويُصلِحون من
شأنها؛ ينحني تيمون لسمبرونياس ولوسياس ويردَّان التحيةَ؛ يدخل بعدَ الجميعِ
منسلًّا كالكلبِ الفيلسوفُ غاضبًا كعادته؛ تبدأ الموسيقى بالصدح والمنشدون
بالألحان ثم بعد الموسيقى، يتقدَّم فانتدياس أمامَ
تيمون).
فانتدياس
:
أي تيمون الكريم، لقد شاءَتِ الآلهة أن تذكر عُمْرَ أبي المتطاول في الحياة
فاختارَتْه إلى جوارها، ومضى آمِنًا قريرَ العين إلى ضجعته الساكنة الأبدية،
وخلفني أضمُّ يدي على ثراءٍ طائلٍ، ولهذا جئتُ وأنا مدين لفضلِكَ أردُّ إليك المالَ
الذي أعطيت مضاعفًا لك بالشكر.
تيمون
:
كلا أيها الشريف الأمين، إنك تُخطِئ فهْمَ حبِّي؛ لقد خرجت عن ذلك المال إلى
الأبد طائعًا راضيًا، وليس في العالَمِ رجلٌ يستطيع بحقٍّ أن يقول أعطي، إذا هو
أخَذَ واسترَدَّ.
فانتدياس
:
لكَ الآلهةُ من رجلٍ كريمِ النفس (يقف الجميع
ينظرون إلى تيمون نظراتِ الاحترام والكلفة والتأدُّب).
تيمون
:
كلا يا سادة، لقد كانَتِ الكلفة والتأدُّب والحشمة صنائِعَ الرياء؛ إنني
لَتؤلِمُني التحيةُ الجوفاء، والكلمات الفخمة المتأدِّبة؛ لأنه حيث تكون الصداقة
الصادقة لا تعيش الكلفة الكاذبة؛ أرجوكم يا سادة أن تتَّخِذوا مجالسكم إلى
الموائد. هلمَّ يا صديقي العزيز (يمسك
سمبرونياس) وأنتَ أيها الصديق الوفِيُّ هلمَّ إلى مكانك منها، إنني
لَأرحِّبُ بكم إلى نعمتي أكثر من الترحيب بنعمتي إليَّ (يجلسون).
سمبرونياس
:
سيدي، لقد تبيَّنَ لنا ذلك وأدركناه من قبلُ.
الفيلسوف
:
أدركتم ذلك! ها ها، لقد شنقْتُم الصداقةَ شنقًا.
تيمون
:
آه! ها أنت ذا أيها الفيلسوف، مرحبًا بك.
الفيلسوف
:
كلا، لا ترحب بي؛ لقد جئت لكي تقذف بي خارج أبوابك.
تيمون
:
ضلة لك! إنك لَرجلٌ سيِّئُ الأدب! معذرةً أيها السادة، إن هذا الرجل لا يُرَى إلا
ثائرًا غاضبًا، أَلَا دعوه وَلْتُبسَط له مائدة وحده؛ لأنه لا يريد أُنسًا ولا هو
يصلح له.
الفيلسوف
:
بل دعني على مشهدٍ من مائدتك. أي تيمون، إنني جئتُ لأشهد وأرقب، ها أنا قد
حذَّرْتُكَ.
تيمون
:
إنني لا أحفل بوعيدك، إنك رجل من أهل وطني، ولهذا أرحِّب بِكَ. أَلَا دَعْ شوائي
يسكِّن من حِدَّةِ لسانِكَ.
الفيلسوف
:
إنني أهزأ بلحمك وأسخر من شوائك؛ لأنني لا أريد أن أتملَّقَكَ. أيتها الآلهة،
كم من رجال يأكلون تيمون وتيمون لا يراهم! إنني لَيحزنني أن أرى هؤلاء الجمع
يغمسون من دمه ثم هو يرحِّب بهم ويشجِّعهم على التهامه، إنني لَأعجب كيف يجرأ
الإنسان على الثقة بالناس والركون إليهم! إن ذلك وذلك الرجل الذي يجلس الآن
بجانبه ويشارِكه في رغيفه ويعاطيه كأسَه، لَأخفُّ الناسِ إلى قتله إذا تنكَّرَ يومًا
له.
تيمون
(إلى سمبرونياس)
:
سيدي، إلى الكأس. هنيئًا مريئًا ودَعِ الكئوسَ تطوف دورًا.
لوسياس
:
دَعْها تفيض من هنا يا سيدي.
الفيلسوف
:
تفيض من هنا! يا لك من رجل شهم! إنه حريص في الشراب على مده وجزره! أي
تيمون، إن هذه الكئوس التي يشربونها في صحتك ستمرضك. هاكم الشراب الضعيف
الذي لا يجسر على أن يكون شريرًا مفسدًا، هاكم الماء القراح الأمين الوفي،
لم يسقط أحدًا ولم يلوِّث أحدًا، إلا أن الموائد والمآدب لَتنسى الأكلين
الآلهة. فَلْنطعم الآن، فَلْنطعم (يأكل
ويشرب).
تيمون
:
أيها القائد، أَلَا يزال فؤادك في الميدان صائلًا حائمًا؟
القائد
:
بل إن فؤادي لا يزال رهنَ إشارتك يا مولاي.
تيمون
:
أظنُّكَ تُؤثِر أن تكون في مائدةٍ من الأعداء على أن تكون في مجلسٍ من الصحاب
الخلطاء.
القائد
:
ما أشهى إليَّ من لحمان الأعداء.
الفيلسوف
:
ليت هؤلاء المتملِّقين جميعًا كانوا أعداء لك حتى تقتلهم وتولم لي على
لحومهم.
سمبرونياس
:
أَلَا يقدر لنا يومًا يا مولاي أن نمتحِنَ قلوبنا حتى نُظهِرَ لكَ مبلغَ إخلاصنا؛
إننا إذا حظينا بهذه السانحة كنَّا أسعدَ السعداء.
تيمون
:
بلا ريب أيها الأصدقاء، إن الآلهة قد قدرت من قبلُ أن أستمدَّ كلَّ شيء منكم.
لقد حدَّثْتُ نفسي عن فضلكم وصِدْق حبِّكم بأكثر مما تتحدَّثون به عن أنفسكم. لِمَ
نحتاج إلى اتخاذ الأصدقاء إذا لم نحتَجْ يومًا إلى معونتهم؟ إنهم ليروحون
أتفه المخلوقات إذا نحن لم نبتَلِهم في اليوم القائم الأسود. إنهم لَيصبحون
أشبهَ شيءٍ بأعواد الموسيقى معلَّقة في أغطيتها تحفظ أنغامها الفردة الحلوة
لنفسها في أجوافها، لَطالما تمنَّيْتُ أن أكون فقيرًا حتى أكون أقربَ مني الآن
إليكم. لقد خُلِقنا لنتعاون ومن أحق من صديق بعد ثراء أخيه ماله وثراءه. لي
الآلهة، ما أبهجني إذ أرى كلَّ هذا الجمع صديقًا لي ووليًّا، إلا أنَّ عينَيَّ لا
تستطيعان أن تمسكَا ماء الدموع. فَلْنشرب، إلى الكأس فَلْنشرب.
الفيلسوف
:
تيمون، إنك الآن تبكي لكي يشربوا!
لوسياس
:
أَلَا ثِقْ يا مولاي أنك قد أثَّرْتَ في أفئدتنا كثيرًا.
الفيلسوف
:
كثيرًا! (تُسمَع دقاتُ الطبول من
الخارج.)
تيمون
:
ما تلك الطبول؟ (يدخل خادم.)
تيمون
:
ما وراءك؟
الخادم
:
مولاي، تلك سيدات يسألْنَ دخولًا.
تيمون
:
وما رغبتُهُنَّ؟
الخادم
:
إنَّ معهن سيدةً هي رئيستُهُنَّ، وهي تريد أن تدخل لتُعلِنَ رغبتَهُنَّ (يدخلن).
السيدة الأولى
:
أَلَا حيَّتِ الآلهةُ تيمون العظيمَ، وجميعَ أهل مجلسك وأصحاب أنسك وسمرك. إن
الحواس الخمس قد نادَتْ بك سيدها وسلطانها، وقد نعمت في مآدبك الأذن، وساغ
المذاق، ولان الملمس، وتأرَّجَ الشميم، وبقيت العين تريد أن يتمَّ نصيبُها، وقد
جئنا لنجلوَ العينَ ونفرح الناظر.
تيمون
:
مرحبًا بكنَّ جميعًا، وَلْتؤهل بكن أغاريد الموسيقى.
لوسياس
:
أَلَا ترى يا مولاي مبلغ حبِّكَ في نفوس الجميع؟ (تصدح الموسيقى، النساء يرقصن.)
الفيلسوف
:
اللعنة عليكن، نعيم باطل، لي الآلهة من رقصهن، إن نعيمَ هذه الحياة وزهوها
لَهُوَ الجنونُ بعينه، إنني لَأخشى هؤلاء الراقصات الآن على عينه أن يَطَأْنَ يومًا
رأسَه بأقدامهن. لقد كان ذلك حقًّا واقعًا، إنَّ الناس يغلقون أبوابَهم في وجه
الشمس الزائلة الغاربة.
تيمون
(بعد انتهاء الرقص)
:
لقد زادَتْ مأدبتنا بكنَّ أيتها السيدات الجميلات حُسْنًا وجمالًا، وإنني لَكُنَّ
لَشاكِرٌ.
السيدة الأولى
:
مولاي، لقد شهدت الآن برقصنا هذا أحسن ما فينا.
الفيلسوف
:
أجل؛ لأن أسوأ ما فيكن القذارة والدنس، ولا يستحق أن يُشهد.
تيمون
:
أيتها السيدات، إنَّ ثمَّةَ مأدبةً تنتظركن، أَلَا أذهَبْنَ.
السيدات
:
ينحنين. شكرًا يا مولاي (يخرجن).
تيمون
:
فلافياس.
فلافياس
:
مولاي.
تيمون
:
عليَّ بالصندوقة الصغيرة.
فلافياس
:
طوعًا يا مولاي. (في ناحيةٍ) أحليًّا
وجواهرَ ولآلئَ لا يزال يريدُ إهداءً. إنني لا أستطيع أن أعارِضَه وهو في لجةِ
أُنْسِه، لا أستطيع أن أقطع عليه بالنبأ الأليم فرحته، ولكني منبِّئُه به في فرصةٍ
أخرى، سأكشِفُ له عن سوءِ ما بلغَتْ إليه حالُه؛ فقد ذهَبَ مالُه وتبدَّدَ ثراؤه. أواه!
ليت للناس أعينًا في أقفيتهم حتى ينظروا أبدًا وراءهم (يخرج).
سمبرونياس
:
أين رجالنا؟
أحد الخدم
:
هنا يا مولاي على الأهبة.
لوسياس
:
علينا بخَيْلنا (يدخل فلافياس يحمل
الصندوقة).
تيمون
:
مهلًا صحابتي مهلًا، لي كلمة واحدة أريد أن أقولَها لكم (إلى سمبرونياس) أَلَا انظر يا سيدي الكريم،
إنني أتوسَّلُ إليكَ أن تتقبَّل هذه اللؤلؤة. أَلَا تقبلها يا سيدي وتنزل إلى
لبسها؟ كريم منك ذلك.
لوسياس
:
لقد غمرَتْني من قبلُ أعطيتك.
الجميع
:
وقد غمرتنا جميعًا.
فلافياس
(يقترب منه)
:
مولاي، أضرع إليكَ أن تستمِعَ لي كلمة واحدة؛ إنها ذات أمر هامٍّ يتعلَّق
بك.
تيمون
:
سأستمع لكَ في فرصة أخرى، أَلَا هات ما لديكَ جميعًا من نفائس وطرائف حتى
نستطيع أن نُكرِمَ أضيافنا حقَّ الإكرام.
فلافياس
:
مولاي، أن الأمير لوسيلاس إظهارًا لحبِّه ومودَّتِه قد أهدَى إليك أربعةً من
الصافنات الجياد.
تيمون
:
إنني مُستقبِلُها بأحسن القبول، دَعِ الهديةَ تحل محل الكرم.
فلافياس
:
إن الأمير يرجو مرافقتك غداةَ الغد إلى الصيد، وقد أرسَلَ إليك يا مولاي
أربعةً من كلاب القنص.
تيمون
:
إنني لَقانص معه، دَعِ الكلابَ تحسُّ الشوى وَلْتردَّ الهديةَ بأعظم منها.
فلافياس
(في ناحيةٍ)
:
إلامَ هذا سيؤدِّي بنا؟ إنه يأمرنا أن ننثرَ كبرى الأعطية والمنح من خزائن قد
نضبت وصناديق خلت ونفدت. إن وعودَه بالعطاء تطير من فمه مجتازةً حدودَ ما في
خزائنه، حتى لقد أضحَتْ كلُّ كلمةٍ منها دَيْنًا عليه يستعجله الوفاء. وا كبداه! إن
فؤادي لينفطر دمًا أسًى على مولاي (يخرج).
تيمون
:
أيها السادة، ما بالكم محجمين؟ إنكم لا تعرفون مبلغَ فضلكم (إلى لوسياس) أَلَا تتقبَّل تافهةً من
حبنا؟
لوسياس
:
بل أتقبَّلُها بأجمل الشكر، إنك لَروح الكرم والجود.
تيمون
:
آه، لقد تذكَّرْتُ! إنك قلتَ منذ أيامٍ قلائلَ كلماتِ مديحٍ وثناءٍ في جوادٍ كنتُ
معتليًا صهوتَه. إن الجوادَ لكَ منذ اللحظة ما دام قد راقَ في عينِكَ.
لوسياس
:
سماحة يا مولاي، ما أردتُ بمديحي ذلك النية.
تيمون
:
خذ عني هذا يا سيدي، إنني لا أعرف رجلًا يمتدح شيئًا إلا وكان يحبه، وأنتم
يا سادة سأقول لكم ما يجول بخاطري؛ إنني سأزوركم في دوركم فردًا
فردًا.
الجميع
:
لكَ منَّا أكبر الترحيب.
تيمون
:
أيها القائد، إنك جندي، وقلَّمَا يكون الجندي غنيًّا، ولهذا يجب أن يُقدَّم لك
الغنى مسوقًا موهوبًا؛ لأنك تمضي حياتك بين أشلاء القتلى، وكل ما تملك من
أرض ليس إلا ميدان قتال وساحة سعير، أَلَا خُذْ ما طاب لك.
القائد
:
أجل يا مولاي، أرض مجزرة. شكرًا يا مولاي (يتناول).
سمبرونياس
:
نحن جميعًا نعيش على رابطة وثيقة من الحب.
تيمون
:
وأنا منكم كذلك.
لوسياس
:
معزَّزًا مكرَّمًا، لا حدَّ لمعزتك.
تيمون
:
أضيئوا نورًا، أضيئوا نورًا، إنني طوع أمركم أيها الأصدقاء الأعزاء
(ينحني الجميع بالتحية ويخرجون، يبقى تيمون مع
الفيلسوف).
تيمون
:
أيها الفيلسوف، لو لم تكن متسخِّطًا غاضبًا لَكنتُ مُحسِنًا إليك مُكرِمًا.
الفيلسوف
:
كلا، لا أريد شيئًا من إحسانك وكرمك؛ لأنك إذا رشوتَني أنا كذلك ورفدتني
لم يَبْقَ من أحدٍ يشتمك ويلعنك ويفتح عينَيْك، وإذا لم تترك لك شاتمًا لاعنًا
محذِّرًا، رحتَ أشدَّ عَدْوًا إلى الطيش والجرم منك ملعونًا مشتومًا. تيمون، تيمون،
إنك أكثرتَ عطاءً وأطلْتَ بذلًا، وأخوف ما أخاف عليك أنك باذل نفسك بعد ذلك
عاجلًا في حبك مكتوب. تيمون، تيمون، ما جدوى كلِّ هذه الولائم ونفع كلِّ هذه
المناعم الباطلة.
تيمون
:
إنك إذا عدتَ إلى لعناتك وسخرياتك مرةً أخرى، أقسمتُ على ألَّا أحفل بك، أَلَا
سلامًا لك، وتعال مرةً أخرى بنغمةٍ أخفَّ حدةً من تلك (يخرج تيمون مغضبًا).
الفيلسوف
:
تيمون، تيمون، إنك لا تريد أن تسمع لي الآن وما أنت بسامعٍ غدًا. عجبًا
أيها الناس، تروخون للنصيحة، صمًّا مُغلِقي الآذان، وأنتم للمَلَقِ والمديح أشدُّ
المخلوقات أسماعًا وآذانًا؛ ألا ويحكم، ويحكم (يخرج مهرولًا. يدخل الخادم فلافياس من ناحيةِ الحجرات وفي يده
كثيرٌ من الوثائق).
فلافياس
:
ويلتا على تيمون ويلتا، إنه لا يحفل بشيء ولا يأبه، ولا يقف عن بذخه ولا
يتمهَّل، إنه لا يكترث بما هو فيه، ولا ينظر حوله ليرى الغمةَ التي تريد أن
تحوطه؛ فماذا أفعل؟ وما العمل؟ إنه لا يريد أن يستمع إليَّ، يجب أن أكشف له
عن خافية أمره، إن كثيرين من الدائنين الآن وقوفٌ بباب القصر يطلبون وفاءَ
ديونهم (يدخل تيمون مغضبًا).
تيمون
:
فلافياس، ادْنُ مني، اقترِبْ، ماذا حدث للدنيا حتى أصبحْتُ أُهاجَم من جهاتي
الأربع بصيحات ديون ممطولة؟ ماذا صار إليه أمرُ الكون حتى علقَتْ هذه الديون
المحنوتة المواعيد بشرفي. إنني لَفي أشدِّ العجب من ذلك! لمَ لمْ تبسط حالي
بين يدَيَّ من قبلُ حتى أوازِنَ بين ما في خزائني وما في طبائعي وسجيتي؟
فلافياس
:
وا أسفاه يا مولاي! إنك لم تكن تسمع لي يومًا أو تحفل بمقالي، لَطالما لمحتُ
لك في ساعات فراغك فما أعَرْتَني سمعًا.
تيمون
:
كفاك، كفاك، أمعاذير هذه تتشفع بها من ذنبك؟
فلافياس
:
وا حزناه يا مولاي! كثيرًا ما أحضرتُ إليك حسابَ منصرفك وبسطته بين يدَيْك،
وكثيرًا ما طرحتَه وألقيتَه بعيدًا وقلتَ إنك استودعْتَ مالك في ذمتي وأمانتي
ووفائي، وكنتَ تأمرني أن أجزي الهدية التافهة بالعطاء العظيم، فكنتُ أبكي وأطرق
الرأس حزنًا ويأسًا، ولَطالما خرجتُ عن سنن الأدب فهمستُ لك في أذنك أنْ أقبض
قليلًا يدك، فما أصبتُ منك إلا زجرًا، وما نلتُ منك إلا رفضًا. سيدي المحبوب
الكريم، لقد علمت بالكارثة في الساعة الأخيرة؛ إذ لا يكفي القليلُ الذي بقي
لديك نصف ما في عنقك من دين.
تيمون
:
إذن، فبِعْ كلَّ أرضي.
فلافياس
:
وا أسفاه يا سيدي! لقد أصبحتَ رهينةً؛ بعضها قد حلَّ أجله، وبعضها قد سقط حقُّه،
وما بقى منها لا يكفي لسدِّ فم ديونك.
تيمون
:
عجبًا! لقد كانت أرضي تمتد إقليمًا إقليمًا إلى تخومٍ بعيدةٍ.
فلافياس
:
هونًا يا سيدي العظيم، إن الدنيا كلها ليسَتْ إلا كلمة في الفم ولفظة على
الشفتين، ولو كانت الدنيا جميعًا لكَ لَخرجَتْ كلها من فمك في كلمة
واحدة.
تيمون
:
حقًّا أصبْتَ.
فلافياس
:
لو كنتَ في شكٍّ يا مولاي من دقة حسابي أو أمانة يدي وقلمي وجدول ضربي،
فأحضرني أمام جمعٍ من أدقِّ المحاسبين المراجعين وأخبرني لديهم، تجدني لديك
الصادق الأمين؛ أَلَا إنني لَأُشهِد الآلهة على صدْقِ ما أقول الآن. عندما كانت
حجرات هذا القصر مخنوقة الهواء بأنفاس الطاعمين الواغلين، وكانت الأقبية
تسيل أنهارًا من معتقة الصهباء، وعندما كان القصر يستعر كله ضياءً وشعاعًا
ولألأةً، ويضج بالأغاريد ومشجية الغناء؛ كنتُ أنطلِقُ منسلًّا إلى فتاتٍ أزدرده
وماءِ عينٍ أرسله، وبكاء ساخن أذرفه.
تيمون
:
حسبك الآن لا تزد، حسبي ما سمعتُ.
فلافياس
:
الآلهة أشهد، لقد كنتُ أقول واهًا للسيد العظيم، كم من خَدَم ورق وسَفَلَة
وأوغاد اكتظوا الليلةَ من طعامه، وانتفخت أوداجهم من شرابه؛ مَن ذا الذي يقول
إنه ليس لتيمون صديقًا وحبيبًا، أي قلب وأي رأس وأي سيف وأي ثراء في الناس
لم يكن هبته ومنحته. ويلنا! ويلنا! فإذا ذهبَتِ الأداةُ التي كانَتْ تبتاع كل
ذلك المديح، اختنق الصوت الذي كان يلفظه؛ أَلَا إنه إذ تُمطِر الغمامة وتولف
السحابة، يهرب الذباب وتفرُّ الهوامُّ مُدبِرةً.
تيمون
:
حسبك وعظًا، ما أنا بنادمٍ عن عطاء أعطيت. ماذا؟ أبكاء، أبكاء؟ لِمَ يسيح
منك الدمع؟ أليس لك ضميرٌ يوحي إليك أن تيمون لن يعدم أصحابًا؟ أَلَا أمسِكْ
عليك فؤادك لا تذبَّ حشاشته، فلو أنني بلوت الآن القلوب به بالاقتراض لَكانت
لي ثروات الناس جميعًا أبذلها بسخاءٍ، وأتصرف فيها كما أشاء.
فلافياس
:
ليتَ ثقتَكَ هذه تروح محققة مؤكدة يا مولاي.
تيمون
:
أَلَا تدري أنَّ ما بي الآن من حاجةٍ ليس إلا نعمةً أنا بها فَرِح فخور؛ لأنها
الفرصة السانحة لابتلاء أصدقائي وامتحان خلطائي، أَلَا إنك ستعلم كيف أخطأتَ
تقدير ثرائي؛ إنني أنِ افتقدتُ اليومَ مالًا، فقد غنيت أصحابًا وأحبابًا. أيها
الخَدَمُ، أقبلوا إليَّ (يدخل فلاميناس وسرفيلياس
وآخرون).
تيمون
:
إنني مُرسِلكم جميعًا متفرِّقين إلى قومٍ مختلفين، أَلَا اذهبوا إلى صفوة أصحابي
وأَقْرِئُوهم مني سلامًا، ونبِّئوهم أنني اليوم فَرِح فخور؛ إذ سنحَتِ السانحةُ
لاختبار حبهم واستقراضهم شيئًا من أموالهم؛ دعوا الدين خمسين ألفًا.
فلاميناس
:
لتكن مشيئتك يا مولاي.
فلافياس
(في ناحية)
:
وا أسفاه! أمل خائب.
تيمون
(إلى خادم آخَر)
:
وأنت إلى نوَّاب أثينا الذين يعلمون أنني خدمتُ شعبهم، وأجزلتُ العونَ لوطنهم،
فقُلْ لهم يرسلوا في الحال ستمائة ألف.
فلافياس
:
خبل يا سيدي؛ لقد نُبِّئت أنهم سيطرقون رءوسهم رافضين، ولن تظفر منهم إلا برَدٍّ
مغبونٍ.
تيمون
:
أحقًّا تقول! ما أنا بمصدِّق محالًا!
فلافياس
:
بل إنهم لمُجِيبوك بلسانٍ واحدٍ ورأي مجتمع أنهم لا يملكون مالًا فقراء
خزائن، آسفون معتذرون، وما نحن منهم ظافرون بدرهم واحد.
تيمون
:
جازتهم الآلهة! أيها الرجل، ليبتسم ثغرك وَلْتتهلَّلْ أساريرك. (إلى خادم آخَر) أَلَا اذهب أنت إلى فانتدياس.
(إلى فلافياس وهو يبكي) ويحك! لا
تحزن ولا تبتئس؛ إنك لَرجل صدق ووفاء، ولا لوم عليك اليوم ولا تثريب. (إلى الخادم) أَلَا اذهب إليه، إنه قد وارى
أباه تحت أطباق الثرى، وقد أضحى بموته غنيًّا، وقد كان فقيرًا فأغنيتُ،
وسجينًا فأطلقتُ، نبِّئْه أنَّ حاجةً مسَّتْ صديقه، فَلْيذكرني بالثلاثين ألفًا التي
أخَذَها. (يخرج الخادم)، (إلى فلافياس) فإذا
وصلَتْ هذه إلى يدك، فادْفَعْ من الديون ما عجل الوفاء به، وإياك أن تظن يومًا أن
ثروة تيمون في صحابة قد غرقت في اليم فماتت ورقدت إلى الأبد (يخرج).
فلافياس
(يشهق بالبكاء)
:
ليتني خائب الظن، الآلهة في عونك أيها السيد العظيم، الآلهة في
عونك.
(ستار)
الفصل الثاني
المنظر الأول
(في دهليزٍ من دار الندوة «السناتو» نوَّاب وسادة واقفون جماعات جماعات، يدخل الخادم فلامنياس فيقترب من جماعةٍ منهم.)
فلامنياس
:
هل السيد لوسيلاس فيكم؟
لوسيلاس
:
ها أنا ذا. (لنفسه) آه، هذا أحد
خدم السيد تيمون، والآلهةِ إنه لَمُرسِلٌ إليَّ هدية جديدة، حقًّا لقد صدقَتْ
رؤياي التي رأيتُها ليلةَ الأمس؛ فقد رأيتُ فيما يرى النائم إبريقًا من
الفضة وآنية من الذهب. (إلى الخادم)
أي فلافياس مرحبًا بك، كيف حال سيدك الكريم؟
فلامنياس
:
إنه موفور الصحة يا مولاي.
لوسيلاس
:
يسرني السرور كله أن يكون مكتمِل العافية، ولكن ما هذا الذي تُخفِيه تحت
معطفك.
فلامنياس
:
لا شيء يا مولاي، غير صندوقة فارغة جئتُ بها من قِبَل سيدي تيمون ألتمس
إليك أن تملأ فراغها ذهبًا؛ فقد وقعَتْ لسيدي حاجةٌ عاجلةٌ إلى خمسين ألفًا،
فبعث بي إليك يا مولاي يسألك بذلها، وهو واثق أنك لا تضِنُّ عليه بهذه
المساعدة.
لوسيلاس
:
لا، لا، لا، لا. أقال هو أنه واثق من ذلك؟ وا أسفاه! إنه لَرجل نبيل وله
دار كريمة ومغنى زاهر، وكم من مرةٍ طعمتُ من مائدته وجلستُ إلى ولائمه،
ولكني لم أكن أذهب إلى تلك المآدب إلا لأنصح له أن يترفَّقَ بنفسه ويشفق
على ثروته، وكنتُ أمضي إلى الجلوس إلى عشائه لأُعِيدَ النصيحة وأكرِّر العظة،
ولكنه لم يكن لينتصح أو يقبل بسمعه، لكلِّ إنسان ذنبه، وحُسْن النية في
تيمون ذنبه (يدخل خادم يحمل كئوس
شراب).
لوسيلاس
:
فلامنياس، إنني أعهدك رجلًا عاقلًا؛ أَلَا وفِّ نفسَك حقَّها، تناوَلْ
كأسًا.
فلامنياس
:
كلا، وشكرًا يا مولاي.
لوسيلاس
(يتناول كأسًا)
:
أَلَا وفِّ نفسك حقَّها واغتنم فُرَصَ اللذات اغتنامًا. (إلى الخادم الذي جاء بالشراب) اذهبْ أنت
عنَّا. (يخرج) أَلَا اقترِبْ قليلًا يا
عزيزي فلامنياس، إن سيدك رجل كريم معطاء سخيٌّ، وأنت رجل عاقل تدرك حقَّ
الإدراك أننا في زمنٍ يصحُّ فيه الإقراض، ولا سيما على صداقة عادية بلا
ضمان، هاك هذه الدراهم لك أيها الفتى العاقل، وتغافَلْ عني قليلًا وقُلْ إنك
لم تَرَني ولم تقع عينُكَ عليَّ. سلامًا لك (يمشي
مبتعدًا).
فلامنياس
:
أيُعقَل أن تتنكر الدنيا في أيامٍ، ويتغيَّرُ العالَمُ في لحظاتٍ، وتتبدَّل الناس
غير الناس؛ أَلَا اذهبي أيتها الدريهمات الحقيرة، وطيري إلى مَن يتعبَّدُكِ
ويدين بك (يرمي بالنقود وراء
لوسيلاس).
لوسيلاس
:
آه، إنك لَأحمق وخادِم أبله تليق بسيدك (ينصرف عنه).
فلامنياس
:
أَلَا طيري أيتها الدريهمات فكوني لعنته ونقمته، يا آفة الصداقة ولستِ
منها. أكان للصداقة هذا القلب الضعيف القلب المتنكر حتى يتبدَّلَ في
ليلتين؟ إن هذا الوغد الذي أكل من طعام سيدي لا يزال لحم مولاي في جوفه،
فلم تردين أيتها الآلهة ذلك اللحم غذاء صالحًا ودمًا، وقد ارتدَّ لصديقه
سمًّا زغافًا قاتلًا (يخرج، يتقدَّم لوسياس مع جماعةٍ كان واقفًا
معها).
لوسياس
:
ماذا تقول ومَن تعني؟ السيد تيمون؟ إنه أكرمُ صديقٍ عليَّ، وسيدٌ من أشراف
الناس.
أحد الناس
:
إننا نعرفه، وإنْ كنَّا غرباءَ لديه، ولكنَّا قد سمعنا عنه بعض إشاعات
السوء؛ لقد قيل إن أيام تيمون الجميلة قد ولَّتْ، وإن ثروته قد أفلتَتْ من
بين يدَيْه.
لوسياس
:
لقد كذب القائلون، لا تصدِّق عنه ما سمعتَ؛ فلن يحتاج تيمون يومًا إلى
المال.
رجل آخَر
:
ولكنْ أَلَم تعلم يا سيدي أن خَدَمه قد ذهبوا إلى قومٍ من أصحابه يسألون
لتيمون قروضًا، ولكنهم انصرفوا منكورين مخيَّبين.
لوسياس
:
ماذا تقول؟ هل رفض الرجاء؟
الرجل
:
نعم، أؤكِّد لك ذلك.
لوسياس
:
يا له من حادث معيب! أُشهِد الآلهةَ أنني لَأشعر بالخجل وتعلوني وصمةُ
العار! أَرُفِض الرجاءُ لذلك الرجل الكريم؟ يا لنكران الجميل! إنني لَأعترف
لكم يا سادة أنني تلقَّيْتُ من تيمون الشيءَ الكثيرَ من العوارف والأعطية
الصغيرة؛ ذهبًا وآنيةً ولآلِئَ ونفائسَ كثيرةً، ولكنها لا تُعَدُّ شيئًا مذكورًا
بجانب ما أصاب لوسيلاس وغيره منه، ولو أن تيمون أغفَلَهم وذكرني وبعث
إليَّ بخادمه، لما ضننتُ بشيءٍ من مالي عليه (يدخل سرفيلياس خادم تيمون).
سرفيلياس
(لنفسه وهو متقدم)
:
يا لحسن الصدفة! ها هو السيد لوسياس الذي جئتُ أبحث عنه. (إليه) مولاي.
لوسياس
:
آه! سرفيلياس، مرحبًا بك وسلامًا عليك. أَلَا اذكرني بخيرٍ عند سيدك
الكريم الفاضل السخيِّ، وصديقي المخلص الوفِيِّ.
سرفيلياس
:
مولاي، إنه قد أرسَلَ …
لوسياس
:
ها، ماذا أرسل؟ إنني لَمدين أبدًا له، إنه ما يفتأ يرسل الهدايا يومًا
بعد يوم، كيف أستطيع له شكرًا! قُلْ ماذا أرسَلَ إليَّ الآن.
سرفيلياس
:
لقد أرسَلَ مولاي اليوم حاجتَه مشروحةً لكن مبسوطة لسمعك، أنه قد تعثَّرَ في
ضيقٍ لا يُخرِجه منه ألا أن تتفضَّل بإقراضه شيئًا من المال.
لوسياس
(ضاحكًا)
:
إنني أعرف السيد تيمون، يريد أن يمازحني بدعابةٍ حلوةٍ، إنه لا ينتظر
ولا ريبَ مني أن أقرضه خمسمائة ألف.
سرفيلياس
:
ولكنه في الوقت الحاضر يا مولاي يحتاج لأقل من هذا قدرًا، ولو لم تكن
الحاجة ماسة ما ألحقت يا مولاي في السؤال.
لوسياس
:
أَجادًّا أنت فيما تقول؟
سرفيلياس
:
والآلهةِ لَحقًّا قلتُ يا مولاي.
لوسياس
:
أيَّ حيوان شرير كنتُ إذ تصرَّفْتُ في المال الذي كان عندي قبل أن يجيئني
سؤاله! يا لسوء الفرصة ويا لغرابة القدر! سوأة لي كيف تصرَّفْتُ بالمال قبل
أن يشرفني بطلبه؟! أي سرفيلياس، إنني أُشهِد الآلهةَ أنني لَعاجز عن الوفاء
بما طلب، وأنا لعجزي محزون متألم؛ لقد كنتُ أهمُّ اليومَ قبل أن تصل إليَّ
أن أبعث إليه استقرضه مالًا، وهؤلاء السادة شهداني على ما أقول، ولكني
غير فاعل ذلك الآن. أَلَا أَبلِغه عني سلامًا، وقُلْ له إنني أرجو أن لا
يتغيَّر في رأيه، وإنني أعدُّ عجزي عن إجابة سؤله أكبر نكبة أصابَتْ كبدي. أي
سرفيلياس، أَلَا تسدي إليَّ هذا الجميل، فتحمل ألفاظي هذه بأعيانها إلى
مسمعَيْه.
سرفيلياس
:
إنني لَفاعل ذلك يا مولاي.
لوسياس
:
وسأجزيك عن ذلك في فرصة أخرى أحسن الجزاء. (يخرج سرفيلياس) لقد تحقَّقَ قولُكم يا سادة؛ إنَّ تيمون قد
عاد معدمًا، ومَن يُرَدْ مرةً رجاؤه، تسرع إلى الهاوية خطواته (يخرج).
السيد الأول
:
أرأيتَ يا صاحبي مبلغَ اعترافِ الناس بالجميل.
الثاني
:
نعم، لقد شهدتُ الجحود في أشنع صورة.
الأول
:
لا تعجب فذلك شأن الدنيا وروح العالم والمتملقون جميعًا سواسية، لقد
كان تيمون يرعى هذا الأمير برعايته ويدفع عنه دينه، ولم يكن يشرب ألا
وخمر تيمون الذهبية تسيل على شفتَيْه، ثم أنظره كيف يرتدُّ الإنسان حيوانًا
مشئومًا دميمًا.
الثاني
:
إنني لم أحس يومًا من شراب تيمون، ولم أنعَمْ بألوان موائده، ولم يصل
إليَّ شيء من أعطيته، ولكن يغضبني أن يتنكَّرَ هؤلاء الأوغادُ الواغلون له
ويشيحوا عنه اليومَ بأبصارهم؛ أَلَا إن الناس قد أصبحوا يتعلَّمون اليوم كيف
يستغنون عن الشفقة ويطردون الرحمة والفضيلة من خطائرهم؛ لأن اللؤم
والدناءة والدهاء والخبث والمكر قد حلَّتْ جميعًا محلَّ الضمير من
قلوبهم (ينصرف هذا الجمع، يدخل سمبرونياس قادمًا من الخارج ومعه
لوسيلياس خادم تيمون).
سمبرونياس
:
وكيف يسألني أنا حاجته قبل سواي، وكيف يخصُّني أنا بهذه المهمة الثقيلة
على النفس؛ لِمَ لمْ يمتحن لوسياس؟ ولِمَ لمْ يبلُ لوسيلاس؟ ثم ها
فنتدياس قد راح اليوم غنيًّا كبير الثراء، وقد فكَّ من قبلُ إسارَه وأطلَقَه
من محبسه؛ أن هؤلاء جميعًا مدينون له بما ملكت أيمانهم.
لوسيلياس
:
لقد حككنا يا مولاي معدن هؤلاء جميعًا، فألفيناهم بهرجًا مزينًا إذ
رفضوا جميعًا رجاءه.
سمبرونياس
:
ماذا تقول؟ أرفضوا جميعا حاجته؟ أيأباها عليه هؤلاء ثم يبعث بها
إليًّ؟ أينكره الجميع ثم يريد أن أكون أنا ملاذه ومفزعه؟ أيخيِّب رجاءه
أطباؤه، ويأبي إلا أن يكون برؤه على يدي؟ لقد أنزلني منزلة سوء وانتقص
مني أكبر منتقص، وأنا منه مغضب حانق؛ إذ كان ينبغي له أن يعرف مكاني
منه، وقد كان أخلق به أن يسألني أنا حاجته قبلهم إذ كنتُ أول مَن تلقَّى
منه العطاء وتقبَّل الهدايا، ثم لا يتذكرني إلا آخِر مَن يتذكَّر! كلا، لن أهبه
حاجته فأروح في أعين الناس ضحكة هزأة، وأبدو بينهم أحمق مأفون الرأي،
إنني لَفي سعةٍ تردُّ ثلاثةَ أضعاف ما طلب لو أنه بعث إليًّ قبلَهم جميعًا؛
ولكن الآن إليه فأضمم جوابي إلى أجوبتهم، فإنْ مَن يمتحن شرفي فلن يعرف
ذهبي (يخرج).
لوسيلياس
:
ردٌّ بديع، وجواب رائع! إنك أيها الرجل شرير في لباس جميل، ووغد في
ثياب منطق جميل، لقد كنتَ آخِر أمل سيدي ورجائه، فلم يَبْقَ له اليوم من
ملجأ إلا الآلهة (يخرج).
(ستار)
المنظر الثاني
(المنظر الذي في الفصل الأول في قصر تيمون يدخل فلافياس حزينًا.)
فلافياس
:
وا أسفاه! لو كانت الأموال ميسورة لتيمون كانتظار هؤلاء الخَدَم الذين
جاءوا يطلبون ديونَ سادتهم بأبوابه لَكان خيرًا لنا، ولكن لِمَ لمْ تقدِّموا
أيها الأوغاد وثائقكم يوم كان سادتكم يأكلون هنا ويشربون، وينعمون
بموائد تيمون؛ إنكم تخطئون بالوقوف بأبوابه متسائلين عن المال ملحفين.
أَلَا اتقوا أيها الأوغاد إنني ومولاي قد أنهينا الخاتمة؛ فهو لا مالَ لديه
لينفقه، وأنا لا حسابَ لديَّ لأرقمه (ضجيج من
الخارج. يدخل تيمون مُسرِعًا وهو في أشد حالات
الغضب).
تيمون
:
ماذا أرى؟ أأصبحَتْ أبوابُ قصري في وجهي ممنوعة الطريق؟ أتصبح داري سجني
ومحبسي؟ أيكون بيتي الذي نعمتُ فيه ولهوتُ وأولمتُ كبقية أهل الأرض يوليني
منه قلبًا كالحديد قاسيًا، ويرتدُّ في وجهي قفصًا للمجرم عاتيًا؟ أيها
الدائنون الأوغاد، اضربوا قلبي سكة ونقودًا، خذوا أموالكم من دمي قطرات
قطرات، مزِّقوني، قطِّعوني، وَلْتسقط الآلهة فوق رءوسكم. يا للأوغاد! يا
للعبيد المناكيد! إنهم كادوا يمنعونني التنفُّس.
فلافياس
:
مولاي العزيز …
تيمون
:
أَلَا افعل كما أمرتُ.
فلافياس
:
ولكن يا مولاي …
تيمون
:
إنهم سيحضرون الآن، أولئك الأصدقاء الكَذَبة المنافقون، أجل سأولم
الوليمةَ الأخيرةَ لأولئك الأشقياء.
فلافياس
:
ولكنك لا تدري يا مولاي ما أنت فاعل.
تيمون
:
لا تحفل بما أنا فاعل. أَلَا افتح مرةً أخرى طريقًا لمدِّ الأوغاد وفيض
المنافقين (يخرج هو وصاحبه، يدخل خَدَم كثيرون يحملون أواني وأطباقًا
مغطَّاة يضعونها فوق الموائد التي في صدر المكان. يدخل الأمراء
والوجهاء وكثيرون من شيوخ أثينا من أبواب متفرِّقة تصدح
الموسيقى).
سمبرونياس
:
طاب نهارك أيها الصديق.
لوسياس
:
وطبتَ يومًا أيها العزيز، إنني لَأظن أن صديقنا تيمون أنما أراد أن
يمتحنا إذ بعث إلينا خَدَمه مستعرضًا.
سمبرونياس
:
هذا أكبر ظني، وقد كنتُ أفكِّر في ذلك، ولكني أرجو ألَّا يكون قد حزن ممَّا
رأى من أصدقائه العديدين.
لوسياس
:
لا أظن ذلك، وإلا لما أقبَلَ على دعوتنا إلى وليمة جديدة.
سمبرونياس
:
هذا ما أرى؛ فلقد بعَثَ إليَّ بدعوة عاجلة، ناشدني فيها الحضور، وقد عرضَتْ لي
شئون أخرى استحقتني على رفض الدعوة، ولكنْ لَبهجةُ الدعوة كانَتْ أشدَّ إغراءً،
فرأيتُ لا غناء عن الحضور فجئتُ.
لوسياس
:
وأنا كذلك؛ لقد أردتُ أن أتحلل من دعوته، ولكني لم أجد عذرًا أنني لَآسِف
إذ أرسَلَ إليَّ في حاجةٍ إلى المال، ولم يكن لديَّ منه شيء.
سمبرونياس
:
لقد كنَّا جميعًا مثلك، فلم يدفع أحدٌ منَّا حاجته. كم الدين الذي
طلبه؟
لوسياس
:
خمسون ألفًا. وأنت؟
سمبرونياس
:
مثلها.
لوسياس
:
وأنت يا صاح؟
لوسيلاس
:
لقد أرسل إليَّ بطلبٍ، ولكن ها هو ذا قادم (يدخل تيمون في حاشية له).
تيمون
:
مرحبًا بكم جميعًا، كيف ترون أنفسكم؟
سمبرونياس
:
في خير حال، نرجو لك الصحة والنعمة.
لوسياس
:
نحن أتبع لظلك فَرِحين مُبتهِجين لنسائم الصيف.
تيمون
(لنفسه)
:
وأنتم من غيم الشتاء آخره. أيها السادة، إنَّ طعامنا لا يغني عنكم هذا
الوقوف طويلًا، أَلَا شنفوا آذانكم قليلًا بصدح الموسيقى وسماع النشائد
حتى تقرع الساعة للمأدبة (الموسيقى
والألحان).
سمبرونياس
(بعد انتهاء الموسيقى)
:
أرجو ألَّا تكون تألَّمْتَ يا سيدي؛ إذ رددتُ إليك رسولك صِفْر الكفِّ.
تيمون
:
أوه! لا تُلْقِ على هذا بالًا.
لوسياس
:
سيدي العزيز.
تيمون
:
أَلَا تهلل يا صديقي وابتهِجْ.
لوسياس
:
إنني لَأشعر بأشد الخجل أمامك إذ رددتُ حاجتك غير مقضية.
تيمون
:
أوه! لا تفكِّر في هذا مطلقًا، أَلَا تدانوا جميعًا.
لوسياس
:
إنها صحافٌ مغطَّاة.
سمبرونياس
:
إنني أراهنك، إنها لَأطعمة فخمة لا مثيلَ لها.
لوسيلاس
:
لا شك، أفي ريب من ذلك؟ فإن المالَ والفصل الحالي كفيلان بذلك.
سمبرونياس
:
كيف أنت أيها الصديق؟ ما وراءك من الأنباء.
لوسيلاس
:
أَلَمْ تسمعوا بنفي القائد السيبياويس؟
سمبرونياس ولوسياس
:
السيبياويس يُنفَى!
تيمون
(من بعيد)
:
أيها السادة، أَلَا تقتربون.
لوسيلاس
:
سأنبئكم بجلية الخبر بعد حينٍ، والآن هلموا ننعم بالوليمة
الفاخرة.
لوسياس
:
إن تيمون لا يزال على كرمه القديم.
تيمون
:
ليتخذ كلٌّ مجلسه، وَلْيُقبِل على مكانه إقباله على رشف رضاب خليلته. ألا
أجلسوا يا سادة، ودعوا اللحم أحب إلى نفوسكم من صاحبه ومقدِّمه، وأشركوا في
مجالسكم الأوغاد، وإذا جلس منكم إلى الطعام عشرون فَلْيكن منهم عشرون
وغدًا. والآن اكشفوا الأغطية عن أطباقكم أيها الكلاب والعقوا (تنكشف الأطباق، فإذا فيها ماء
ساخن).
سمبرونياس
(ناهضًا من مكانه محتدًّا)
:
ماذا يقصد بهذا السيد تيمون؟
الآخرون
:
إننا لا ندري ما معنى هذا.
تيمون
:
لتحرم الآلهة أعينكم أن تروا وليمةً خيرًا من هذه أيها الأصدقاء
بأفواههم، الأولياء ببطونهم وأمعائهم، هاكم دخانًا وماء حميمًا؛ فهو
أصلح طعام وشراب لكم، هذا آخِر ما بقي لتيمون في الحياة، لقد دنَّستموه
بملقكم ولوَّثتموه بأكاذيبكم وريائكم؛ فَلْيغسلها الآن عنه وَلْيرششها اليوم
في وجوهكم. (يقذف بالماء في وجوههم. ضجة من
الجميع) أيها الأوغاد الأدنياء، أيتها الحشرات الواغلة،
أيتها الوحوش في أثواب الحملان، أيتها الذئاب البسامة، عيشوا طويلًا
لتقتلكم وفاءة الإنسان ووحشية الحيوان. رويدًا، رويدًا، على رسلكم
أتذهبون؟ رفقًا حتى أدفع إليكم بالأغطية وأجزيكم أحسن الجزاء. (يقذف بالصحون في وجوههم. يتحفزون
للذهاب) ما بالكم تتحفزون وتسرعون؟ لن تكون بعد اليوم
ولائم إلا حَوَتْ أوغادًا مثلكم. أي أثينا تدمري، ويا داري تخربي،
ويا دنيا تنكري، إن تيمون قد أرتدَّ للإنسانية عدوًّا مبينًا (يخرج في حالة جنون).
(الستار)
الفصل الثالث
(خارج جدران أثينا فوق جبل عالٍ، والوقت فجر قبل مطالع الضياء.)
تيمون
(يخاطب المدينة)
:
وداعًا أيتها الأسوار التي تنهض حولي أولئك الذئاب الضارية غوري في بطن
الأرض فلا تحرسي هذا البلد الحقير، ويا أيها الخدم ارتدوا عصاة متمرِّدين،
ويا طاعة الأبناء موتي في البنين، أيتها العذارى الطاهرات ارددنَ على أعين
أبائكن قذرات دَنِسات، وأنتم أيها الخدم الأمناء أسرقوا أسيادكم، أسرقوا بسنة
القانون وأنهبوا بوحي الشرائع، وأنتِ أيتها الخادمة اذهبي إلى سرير سيدك، فإن
سيدتك قد أَوَتْ إلى مكان البغاء، ويا ابن السادس عشر اختطِفْ من الشيخ المتهدم
عصاه فَاهْوِ بها على رأسه، وأنتِ أيتها الرحمة والسلام والعدل والصدق انقلبن
إلى نقيضكن، واتركن الفوضى تجلس مجلسكن، أيها البلد اللئيم ما حملت منك إلا
عُريًا وفقرًا، وما رضيت عنك إلا الغاب دارًا ومثوًى. هنا سأجد أشد الوحوش
وحشيةً أرقَّ من أهل الإنسانية إنسانيةً، حتى إذا تقدَّمَ تيمون في الحياة أشتد
بفضه لأهل الأرض أجمعين. (ينحدر عن الجبل ويأخذه
التعب فيستريح، ثم ينهض على مشرق الضياء) أيتها الشمس الكريمة
المولد، انزعي من الأرض بردها ورطبها وعفونتها ودنسها، فسمِّمي الهواءَ ببخارها
ودخانها، وأشرقي على الناس أغنياء وفقراء، ودعي الكبير يلتهم الصغير، والقوي
يأكل الضعيف، مَن الذي يجرأ بعد الآن أن يقف متطاوِلًا مستوي العنق ويقول هذا
الرجل متملِّق كاذب، والجميع مثله كَذَبَة متملقون؛ ليس في العالَم درجة من الغنى
إلا تملَّقَتْ لها الدرجةُ التي تحتها؛ فإن رأس العالَم الشيخ الوقور لا تزال
تطرق إجلالًا لرأس الأحمق الغني، إذن فاللعنة عليك مؤدِّب الناس ومجامعهم، فإن
تيمون يحتقر نفسه ويعنفها. الخراب لكِ أيتها الإنسانية والدمار، وأنتِ يا أرض
آتني جذورًا لمأكلي وأَخْرِجي أعشابَك من جوفك لطعمي. (يحفر الأرض بفأسه) أيتها الأرض، مَن يطمع في شيءٍ غير عشبك
وزرعك، فأَذِيقيه سمَّكِ ومهلكةَ كلئكِ. ولكن اللعنة، اللعنة، ما هذا الذي أرى؟
أذهبًا أرى؟ أصفر براقًا خادعًا؟ كلا أيتها الآلهة، ما أنا بطالب ذهبًا،
أيتها السموات إنني طالِب جذورًا وعشبًا. إنَّ قليلًا من ذهبك هذا يكفي لأن
يردَّ الأسود أبيض، والقبيح مليحًا، والباطل حقًّا، والحقير خطيرًا، والشيخ
فتيًّا. (يضحك) لِمَ هذا الذهبُ؟ لِمَ هذا
النضار يا آلهة السموات؟ إنه سينزع الكهنةَ والعبادَ من حضرتك، ويطرد المصلِّين
والقانتين من معابدك. إن هذا العبد الأصفر سيقرض الأديان ويحطم العقائد،
ويجعل المبروصَ المجذومَ مُقرَّبًا، ويرفع مكانَ اللصوص فيضعهم فوق دسوت الحكم
وعروش الإمارة؛ أَلَا لعنةُ الآلهة عليك، تعال أيها العبد اللعين، يا وسيط
الناس في دناءاتهم. (تُسمَع طبول من بعيد)
أتلك طبول أسمع؟ أبهذه السرعة تقدمون على وسوسة الذهب؟ كلا، كلا، تعال
أيها الذهب فأدخل في مرقدك ولا تظهر، ولكن لنُبْقِ القليلَ منه الآن معي
(يحفظ منه شيئًا. يدخل السيبياريس وجنوده في لباس
الحرب).
القائد
:
مَن أنت أيها الشيخ الذي تلوح هناك؟ تكلَّم.
تيمون
:
وحش مثلك. أكل السلُّ لسانَكَ إذ أريتَ عيني شبحَ الإنسان مرة أخرى.
القائد
:
ومَن أنت وما اسمك؟ أتكون إنسانًا أنت ثم يصبح الإنسان في عينك إلى هذا
الحد من النعت والكره؟
تيمون
:
أنا عدوُّ الإنسانية المُبغِض لها، وددتُ لو أنك كنتَ كلبًا حتى أوليك شيئًا من
الحب.
القائد
:
إنني أعرفك الآن حقَّ المعرفة، ولكني لا أعلم ماذا ألَمَّ بثرائك حتى تراءيت
في هذه الحال الشنعاء!
تيمون
:
إنني أعرفك كذلك، أَلَا أتبَعِ الطبلَ منك طبلًا، أَلَا اذهَبْ فضَعْ للأرض من دماء
الإنسانية ثوبًا.
القائد
:
ما الذي أصارك إلى حالك هذه؟
تيمون
:
ما أصار القمر إذ أكدى نورًا، ولكني لم أستطع أن أكون كالقمر متجدِّدًا؛ إذ
لم أجد شمسًا أقترِضُ منها نورًا.
القائد
:
أي تيمون، ماذا تريد أن أفعل لأجلك؟
تيمون
:
لا شيء إلا أن تكون على رأيي.
القائد
:
وما رأيك؟
تيمون
:
أن تَعِدَني من الصداقة ألوانًا ولا تُنجِز منها لونًا، فإذا لم تَعِدْني شيئًا
منها فلعنة الآلهة عليك؛ لأنك لستَ إلا إنسانًا، وإذا أنت أنجزْتَ منها شيئًا
فاللعنة كذلك عليك؛ لأنك لا تزال كذلك إنسانًا.
القائد
:
إنني كذلك في حال سوء؛ فقد أعوزني المال أُسكِنُ به ثائرةَ جنودي، ولشد ما حزنتُ
إذ علمتُ بأن ذلك البلد اللعين قد تناسَى فضلك يومَ أراد العدوُّ أن يغلبهم على
أمرهم، فحُلْتَ بينه وبين ما أراد بسيفك وثرائك. أَلَا سلامًا لك، وخُذْ هذا المالَ
أصلِحْ به بعض شأنك (يعطيه
نقودًا).
تيمون
:
أَمْسِكْه عليك، فأنني لا آكل ذهبًا.
القائد
:
فإذا قُدِّر لي أن أنقضَ بنيانَ ذلك البلد، فأجعله كثيبًا مهيلًا.
تيمون
:
أفي قتال أنت وبلدك؟
القائد
:
أجل، وأنا الموتور.
تيمون
:
لعنة الآلهة عليهم إذ تغزوهم، وعليك إذ تهزمهم.
القائد
:
ولِمَ اللعنة عليَّ؟
تيمون
:
إذ قُدِّرَ لك أن تقاتل بلادي. أَلَا احتفِظْ بذهبك وهاك ذهبًا، انطلق وكن عليهم
وباءً جارفًا لا تدع منهم أحدًا، لا تشفق على الشيخ الأشيب تروعك منه فُرُوعُه
البيضاء، لا تَدَعِ المرأةَ الأريبة تفلت من حدِّ سيفك؛ فأنها تضم ثوبها على أداة
تخريبٍ أفعل من نفسك. لا تَدَعْ وجنةَ العذراء تلين من غرب حسامك، ولا يحتل الطفل
الذي يبعث بابتسامة الرحمة في أفئدة الحمقى يفر من ضربتك، أَلَا أعدده زنيمًا
تطالبك الآلهة بخنقه، أَلَا اعصبْ عينَيْكَ، وضَعْ أصبعَيْكَ في أذنَيْكَ، فلا تقد إليهما
صيحات الأمهات، ولا تصل إليها صرخات العذارى الغريرات، أَلَا انشر الفوضى
وأرسِلْ ريحَ الدمار. انطلِقْ لا كلم ولا حديث، وَلْتفتح الأرضُ أفواهها فتكون
للجميع قبورًا.
القائد
:
أَلَا اضربوا الطبول نحو أثينا. وداعًا تيمون، إنني لم أحدث لك ضرًّا في
حياتي.
تيمون
:
حسبك أنك كنتَ تقول عني خيرًا.
القائد
:
أتعدُّ هذا ضرًّا؟
تيمون
:
الضر كله. انطلق عني بجندك.
القائد
:
إننا نُسِيئه بمحضرنا، هلموا بنا (تُقرَع الطبول.
يخرجون).
تيمون
(يعود إلى الحفر)
:
أيتها الأرض، يا أمَّنا الأولى، ناشدْتُكِ الآلهة أَخْرِجي من صدرك لي جذورًا أسدُّ
بها رمَقِي. ماذا أرى أكلأة أشهد؟ حمدًا لكِ أيتها الأرض (يأكل. يدخل إذ ذاك الفيلسوف).
تيمون
(مجفلًا)
:
إنسان، إنسان! الوباء، الوباء!
الفيلسوف
:
لقد دلَّني القدم على مكانك هنا، ولقد نُبِّئْتُ أنك أصبحتَ تقتدي بي وتسلك مسلكي؛
هذه آثار حزن ضعيف حقيرٍ وثَبَ إليك من تغيُّر الزمان وتنكُّر الدنيا. ما هذا
الفأس الذي في يدك؟ وهذا المكان الذي اعتصمتَ به؟ وهذه العيشة المسفَّة التي تعيش؟
وما هذه النظرات الحزينة الشاردة التي تنظر؟ لا يزال الذين كانوا يتملَّقونك
يَرْتَدُون مطارفَ الحرير، ويحتسون معتقات الشراب، ويرقدون في الفراش الوثير، وتعبق
منهم أنفاسُ الأريج الذكي، وقد نسوا أنه كان يومًا في الدنيا رجلٌ يُدعَى تيمون،
فلا تدنس هذه الغاب باتخاذك وجهَ المتسخِّط المتألِّم، بل كُنْ الآن متملِّقًا واطلب
المال من السبيل التي افتقدتك. أين الآن مفاصل ركبتَيْكَ للسجود والركوع؟ أَلَا
دَعْ عنك هيئتي لا تتَّخِذْها.
تيمون
:
لو كنتُ مثلك لَطرحتُ نفسي عني جانبًا.
الفيلسوف
:
لقد نبذتُها من قبلُ. لو كنت يوم نعمتك في جِنَّة، فعدت الآن أحمق أبله، يا لك
من مجنون! أتحسب هذه الأشجار التي شهدت مصرع النسر بعد النسر، ومنية الطير
بعد الطير ستمشي الآن في مواكبك وتتبع خطواتك وتروح منك كحاشيتك وبطانتك؟
أَلَا ادْعُ الوحوشَ التي تسرح في الغاب تتملَّق لك وتمدح بشأنك.
تيمون
(بغضب)
:
اذهب عني أيها الرجل المجنون، انطلق. لِمَ جئتَ تبحث عني؟
الفيلسوف
:
لأُغضِبك وأسخَر منك.
تيمون
:
ذلك عمل الوغد.
الفيلسوف
:
لو أنك ارتديتَ ثوبَ الحزن هذا الذي اشتملت به لتقتل من عزتك، لَكان خيرًا،
ولكنك تفعل ذلك الآن كرهًا، ولو لم تصبح متسوِّلًا متكفِّفًا لَظللت إلى اليوم
ذا حاشية وخدم.
تيمون
:
لماذا تكره الإنسانية أنت، وأنا أولى منك بهذا الكره؟ لقد كان الناس
جميعًا أشبه شيء بالأوراق اللاصقة بالصفصافة العظيمة، عصفت بها ريح شاتية
فتساقَطَتْ عن أغصانها، وتركت عودي عاريًا، ولقد نشأت في مهاد النعمة، فكان تنكُّرُ
الحياة لي عبئًا لا يزل لي حمله، ولكنك بدأتَ الحياة في ألمٍ، ومشيتَ بها في
عذابٍ فصلبت على الألم عودًا، وقويت على العذاب حملًا، فلِمَ تكره الناس
وتبغضهم؟ إنهم لم يطرحوا بين يدَيْكَ ملقًا، وأنت لم تُلْقِ إليهم عطاءً، أَلَا انطلِقْ
عني، ابتعِدْ.
الفيلسوف
:
أَلَا تزال مزهوًّا فخورًا.
تيمون
:
أجل، بأنني لسْتُكَ.
الفيلسوف
:
وأنا بأنني لم أكُ يومًا غنيًّا ربَّ مالٍ كثيرٍ.
تيمون
:
انطلِقْ عني، لو كانَتْ حياةُ أثينا كلها في هذه البقلة لأكلتُها أكلًا
(يلتهم الجذور).
الفيلسوف
:
ماذا تريد أن تحملني إليها؟
تيمون
:
نَبِّئْها بأن لديَّ ذهبًا. انظر، ها أنا أضمُّ يدَيَّ عليه.
الفيلسوف
:
لا نفع منه هنا.
تيمون
:
بل أكبر نفع وأجزل فائدة؛ إنه يرقد هنا هادئًا ساكنًا لا يُحدِث أذًى ولا
يجلب ضرًّا. أيها الفيلسوف، ماذا كنتَ فاعلًا بالعالَمِ، إذا ملكتَ السلطان
عليه.
الفيلسوف
:
أعطيه للوحوش لأتخلَّصَ من الإنسان.
تيمون
:
أتودُّ أن تكون وحشًا بين الوحوش؟
الفيلسوف
:
أجل.
تيمون
:
أمل وحشي أرجو الآلهة أن تحقِّقه؛ فلو كنتَ أسدًا خدعَكَ الثعلبُ، وإن كنتَ
حمارًا أكلك الذئب، فإن رحتَ ذئبًا استرابَ بك الأسد، فإن عدتَ وعلًا ركبك
الزهو والخيلاء وسقتَ بحياتك إلى الموت في سورات غضبك؛ وإنْ دبًّا فتكَكَ الجواد،
فإنْ جوادًا التهَمَكَ الفهدُ، فإنْ فهدًا كنتَ بالنمر أقرب شبهًا؛ وأي حيوان تَكُونه
ترح لحيوان آخَر عبدًا وليًّا، كيف استطاع الحمار أن يهدم الجدار، وكيف جئتَ
إلى هذا المكان؟
الفيلسوف
:
وسأجيئك كلما لم أجد عملًا ألهو به.
تيمون
:
لن تكون مرحَّبًا بك حتى تكون آخِر حي بقي على الأرض، اذهَبِ الآن عني أيها
الشقي، يُحزِنني أن أفقد حجرًا ألقيه عليك (يقذفه
بحجر).
الفيلسوف
:
يا لك من حيوان!
تيمون
:
يا للعبد المنكود!
الفيلسوف
:
يا لك من أفعى!
تيمون
:
اذهب أيها الشقي عني، ابتعِدْ أيها الوغد، لقد سئمتُ كلَّ شيء في هذا العالم
الكاذب. أي تيمون، احفرْ قبرَكَ بيدك واتَّخِذْ مرقدك بجانب ضفة النهر حتى تتلاطم
الأمواج المزبدة فوق قبرك. (ينظر إلى
الذهب) وأنت أيها الملك الجميل، يا فاصل الأب من أبيه، ومدنس
فراش الأزواج الطاهرات، أيها الخداع الجميل المحبوب الناعم الخجول الذي
تذيب حرارةَ خجله برودةُ الجليد، أيها الإله المحظور الملموس الذي تذلِّل العصيَّ
المستحيلَ فيكون طبقًا مواتيًا، أيها المتكلم بكلِّ لسان في كل غرض، يا سحر
القلوب وفتنة العقول، انشرِ الفوضى في الناس حتى لا يكون سلطانُ العالم إلا
للوحوش الضارية.
الفيلسوف
:
وددتُ لو يكون ما تقول. إنني ذاهب عنك لأنبئ القومَ أنَّ لديك ذهبًا، فيهرع
الناس إليكَ من كلِّ فجٍّ ينسلون.
تيمون
:
اذهَبْ عني.
الفيلسوف
:
عشْ واحببْ بؤسك وجنونك.
تيمون
:
عشْ طويلًا كما أنت، ومت كما أنت. (يخرج
الفيلسوف) لقد تخلَّصْتُ من هذا الشبح اللعين، ماذا أرى؟ أشباحًا
أخرى من قوالب الإنسانية؟ أَلَا كُلْ يا تيمون وأبغِضْهم ولا تحفل بهم (يدخل اللصوص).
اللص الأول
:
أين تراه يضع ذلك الذهب؟ لقد ساقه فقدانُ المال وخذلانُ صحابه له إلى هذا
الجنون المخيف.
الثاني
:
لقد سمعتُ الناسَ يهمسون بأن لديه كنزًا عظيمًا من الذهب.
الثالث
:
دعونا نهاجمه، فإنْ كان بالذهب عابثًا أعطانا منه الشيءَ الكثيرَ بلا اكتراث،
أمَّا إذا كان يريد له حفظًا فكيف السبيل إلى الذهب منه؟
الثاني
:
كلام معقول؛ لأنه لا يحمل الذهبَ معه بل يُخفِيه.
الأول
:
أليس هذا هو؟
اللصوص
:
أين هو؟
الثاني
:
هو بعينه، إنني أعرفه.
اللصوص
(يهجمون)
:
تيمون، أنقذ نفسك.
تيمون
:
ماذا أرى؟ اللصوص للآن؟
الجميع
:
بل جنود لا لصوص.
تيمون
:
هما معًا، وأبناء حواء أيضًا.
اللصوص
:
لسنا لصوصًا، بل قومًا عضَّتْهم الحاجةُ.
تيمون
:
ولِمَ الحاجة؟ انظروا هاكم جذورًا وكلأً وعشبًا، على مسيرةِ ميلٍ منكم مائةُ عين
فيَّاضة نابعة وشجر ناضر وزرع أخضر، إن الطبيعة الكريمة قد وضعَتْ على كلِّ غصن
مائدةً حافلةً بالطعام لكم؛ أتقولون الحاجة بعد كل هذا؟ لِمَ الحاجة؟
الأول
:
نحن لا نصبر على طعام كهذا، نحن لا نعيش على الكلأ والأعشاب والماء
كالوحوش والطير والأسماك.
تيمون
:
أجل، يجب لكم معها لحمان الناس ودماؤهم، إنني أعرفكم لصوصًا اتَّخَذْتم السرقة
رزقًا. إنكم تعيشون على حرفة مكروهة، ولكنكم في الحِرَف المقبولة والصنائع
المقررة من سرقات ولصوصية لا حدَّ لها أيها اللصوص الأشقياء. هاكم ذهبًا
انفثوا به الشرَّ والإثمَ، إنني ضارب لكم على السرقة أمثالًا؛ إن الشمس لا تزال
لصًّا؛ إنها بسيرها العظيم تسرق البحرَ اللُّجِّيَّ أمواجَه، والقمر لصٌّ أفَّاق جوَّاب،
يسرق
نوره من الشمس، والبحر لصٌّ تذيب أمواجُه من القمر جموعًا أجاجًا، والأرض لصٌّ
تتغذي وتُخرِج ثمرها من سماد مسروق من الفضلات العامة؛ كل شيء في العالم لصٌّ
سارق؛ اذهبوا اقطعوا الأعناق بخناجركم، جزوا الرقاب بمديتكم، إنَّ جميع مَن
تلقونهم لصوص سارقون، وكلُّ شيء تسرقونه إنما تسلبون لصًّا مثلكم، انطلقوا
وَلْتكن عليكم لعنةُ المال والذهب.
اللص الثالث
:
لقد كرَّهني في صناعتي بحقي عليها.
الثاني
:
إنني سأصدق ما قال وأجتنِبُ حرفتي.
الأول
:
لنفعل ذلك جميعًا، هلموا بنا (يخرجون. يدخل
فلافياس).
فلافياس
:
رحمة الآلهة! ويلتاه! أيكون ذلك الرجل الجالس هناك مولاي تيمون وسيدي؟ يا
للآلهة! أكذا يضيع المعروف بين الناس؟ أكذا جزاء مَن يزرع الجميلَ في غير
مواضعه؟ أي شيء ترى في العالم شرٌّ على المرء من أصدقاء تردُّ القلبَ النقي
الشريف إلى خاتمة سيئة. لقد لمحني الآن ببصره، لأمثل بين يدَيْه فأبسط حزني
الصادق لعينَيْه، وسأظل في خدمته آخِر الحياة. مولاي العزيز (يتقدم).
تيمون
:
بعدًا، بعدًا، مَن تكون أيها الإنسان؟
فلافياس
:
أنسيتني يا مولاي؟
تيمون
:
لِمَ تسألني ذلك؟ لقد نسيتُ الناسَ جميعًا، فإنْ كنتَ إنسانًا فقد
نسيتُكَ.
فلافياس
:
أنا خادمك الأمين يا مولاي.
تيمون
:
إذن فإنني لا أعرفك، لم يكن حولي يومًا رجل أمين.
فلافياس
:
الآلهة شهدائي أنه لم يحزن خادمٌ على مولاه حزنَ عيني عليك (يبكي).
تيمون
:
ماذا أرى؟ أتبكي؟ أَلَا ادنُ مني قليلًا، إنني إذن أحبك؛ لأنَّ لك قلبَ فتاةٍ، وتبرأ
أن تكون من الإنسانية الخشنة المتحجِّرة. أيها الرجل، إن الشفقة قائمة والرحمة
مثبتة، عجبتُ لهذا الزمان؛ يبكي مَن ضحَّكَكَ ولا يبكي مَن بكى!
فلافياس
:
مولاي، أتوسَّلُ إليك أن تعرفني وتتقبَّل حزني وترتضيني خادمك كما كنتُ من
قبلُ.
تيمون
:
أكان لي خادم أمين؟ تكاد طبيعتي الحانقة تعود هادئة ساكنة، دَعْني أرى وجهك،
أيتها الآلهة اغفري لي طيشي وغضبي، إنني أعترف لك بأنك جئتِ بإنسانٍ واحدٍ أمين.
أَلَا أصدقني حقًّا، أليس حنانك حنانًا مرائيًا خداعًا.
فلافياس
:
كلا يا سيدي العظيم القدر، الذي سرَتِ الريبةُ في نفسه متأخِّرة في غير أوانها،
لقد كان أولى بك أن تستشعر الريبةَ من الناس في أيام نعماك ومباهج موائدك،
ولكن الريبة لا تبدو إلا إذا الثروة اختفَتْ، شهدائي الآلهة أنَّ حزني عن أصدق
الحب لكَ.
تيمون
:
أيها الإنسان الأمين الأوحد في هذا العالم، هناك ذهبًا لقد أرسلَتْ إليَّ
الآلهةُ من أجلك ذهبًا كثيرًا وكنزًا، أَلَا اذهب وعشْ غنيًّا رخيَّ البال، واجتنب
الناس، بل أبغضهم جميعًا ولا تتصدَّق على أحدٍ منهم، وأعطِ الكلاب ما تنكره على
الآدميين، دَعِ السجونَ تفغر أفواهها فتلتَهِمهم. اذهب وداعًا ولك بحق الآلهة
التوفيق.
فلافياس
:
بل دعني يا مولاي أبقى لأطرد الهمَّ عنك وأوليك العزاء.
تيمون
:
إنْ كنتَ لِلَّعنات كارهًا فلا تمكث، انطلق عاديًا لا تقع عينك على ظلِّ إنسانٍ ما
دمتَ حرًّا سعيدًا، ولا تدعني أنظر وجهك إلى الأبد.
فلافياس
:
بل لن أدعك يا مولاي حتى يفصل الموت بين أحدنا وصاحبه (يدخل تيمون الكهف، يدخل جمْعٌ من نوَّاب أثينا).
النائب الأول
:
أين سيدك تيمون أيها الخادم؟ إننا نريد معه حديثًا.
فلافياس
:
عبثًا تحاولون أن تتحدثوا وتيمون، فإنه قد أخلى سبيله إلى نفسه وحدها، فلم
يَعُدْ يألف من شبه الناس أحدًا إلا شبحه.
الأول
:
قُدْنا إلى كهفه، فقد وعَدْنا أهلَ وطننا أن نكلِّمَ تيمون.
الثاني
:
سِرْ بنا إليه لنقومَ بالواجب الذي كُلِّفْنا به.
فلافياس
:
هاكم كهفه. (يتقدَّم) تيمون، تيمون، اخرج
من كهفك وحدثنا صحابًا لك وإخوانًا، إن أهل أثينا يحبُّونك جميعًا في أشخاص
هؤلاء الجَمْع. اخرج لحديثهم أيها الشريف تيمون (يخرج تيمون من الكهف).
تيمون
:
أيتها الشمس التي تدفئ الجسوم احترقي الآن والتهبي، تكلَّموا واللعنة
عليكم.
الأول
:
أيها السيد تيمون العظيم القدر، إنَّ نوَّاب أثينا وقضاتها يُقرِئونك
السلام.
تيمون
:
أشكر لهم تحيتهم وسأردُّ لهم عليها الوباء يجتاحهم لو استطعتُ أن أمسك بذيله
لهم.
الأول
:
أَلَا تناسى ما نحن محزونون لك من أجله، إن قضاة الشعب بإجماع آرائهم جاءوا
يسألونك العودةَ إلى وطنك، فإن مكانًا عظيمًا قد خلا لا يطلب غيرَك
جليسًا.
الثاني
:
إن الشعب بأسره يعترف بأن جرمه عظيم؛ إذ خلا منك بلدُكَ، فبعث بنا إليك لنبسط
ندامته بين يدَيْك، وليقدم إليك كفارةً عمَّا اجترَحَ في حقِّكَ وأساء به إليك.
تيمون
:
الآن تفتنونني به فتونًا، وتباغتونني مباغتةً يسيل مني دموعًا، أَلَا
أعيروني قلبَ مجنون وعينَ امرأة حتى أبكي أيها الشيوخ.
الأول
:
أَلَا تنزل يا تيمون إلى الرجوع إلى أثينا واتخاذ قيادة جيشها، وستُستقبَل
بآيات الشكر وتُمنَح السلطان وتردُّ هجماتِ السبيبايرس عن الوطن؛ فقد عاد
كالديب المفترس يجتثُّ أصولَ السلام في وطنه. أَلَا تقبل يا تيمون، تقبل.
تيمون
:
إذا قتل ذلك القائد أهلَ وطني وذبح قومي، فَلْيعلم أن تيمون لا يحفل بذلك ولا
يأبه، ولكنه إذا أغار على البلد الجميل ودفع بالعذارى الخَفِرات إلى دنس الحرب
الموحشة، فَلْيعلم أنني شفقة على شبابنا وشيبنا لا أحفل ولا أكترث ما دامَتْ
خناجر جنوده لا تحفل ولا تكترث، وما دامت لكم أعناق تُقطَع ورقاب تُنحَر. إنني
أدعكم إلى رعاية الآلهة.
فلافياس
:
لا تتمكنوا أيها الشيوخ، إنكم تطلبون عبثًا.
تيمون
:
إنني كنتُ أكتب الساعةَ مرثيتي وتشهدونها غدًا، إن مرضي العضال قد بدأ يبرد،
اذهبوا وعيشوا وعمروا، وَلْيكن السبياريس وَبَاءَكم وأنتم وباءَه.
الأول
:
لا جدوى من مخاطبته.
تيمون
:
ولكني مع ذلك أحبُّ وطني، ولست ممَّن يفرح للمصاب العام كما تظنون.
الأول
:
هذا قول كريم.
تيمون
:
أحملوا عني تحيتي إلى أهل وطني.
الثاني
:
إن هذه الكلمات خليقة بك.
تيمون
:
أقرِئُوهم عني سلامًا، وخبِّروهم أنني سأغني عنهم أحزانهم ومخاوفهم، فأبدي لهم
وجهًا من وجوه الرحمة والحنان، وأعلمهم كيف ينقذون أنفسهم من غارة ذلك
القائد وقتاله.
النائب الأول
:
هذا قول طيب، لعله سيثوب الآن إلى رشده.
تيمون
:
إنَّ لديَّ هنا شجرة باثقة، أريد اليوم قطعها، وأنا عمَّا قليل مجتَثٌّ أصولَها، أَلَا
نبِّئوا أصحابي وقومي، خبِّروا أهلَ أثينا جميعًا جميعًا أن مَن يشأ منهم فرارًا
من العذاب فَلْيبادر إلى هذا المكان قبل أن تحش شجرتي ضربةُ فأسي، فَلْيتشبثَّ
بأغصانها وَلْيشنق نفسه، أتوسَّلُ إليكم إن أحملوا هذه التحية إليهم.
فلافياس
:
لا تحاولوا بعد الآن إغراءه، فإنكم واجدوه أبدًا كحالة اليوم.
تيمون
:
لا تعودوا إلينا مرة أخرى، بل قولوا لأثينا أن تيمون قد شاد مسكنه الأخير
على ضفة البحر ليغطِّيه البحرُ يومًا بموجه. أَلَا أيتها الشمس أخفي الآن أشعتَكِ
فقد غربَتِ اليومَ دولةُ تيمون وزالَ ملكُهُ (ينصرف
عنهم متألِّمًا حزينًا وهو في أشد حالات الضعف).
الأول
:
هلموا بنا، إن حزنه قد غلب الطبيعة على أمرها.
الثاني
:
هلموا فإن أملنا في تيمون ميت.
الأول
:
هلموا بقاتل آخَر ما بقي لنا من حول. (يخرجون
مسرعين) ينهض تيمون مريضًا لا يستطيع أن يجرَّ رجلَيْه.
تيمون
:
الآلهة لي، إني أحسُّ مد الحياة في جرزٍ، وأرى الموت يُسل مني عضوًا عضوًا.
أيها الموت الشهي الطعم، أقبِلْ إليَّ فأنك المرحَّب به المكرم. أيها الموت تعال
إليَّ، فإنك النجاة العذبة لي من وحشية الإنسان ودناءة الدنيا. (يمشي مترنحًا فيسقط في أقصى المسرح)،
(وهو يحتضر) هنا سترقد رفاة رجل مسكين
فقَدَ روحه المسكينة، أيها الناس لا تبحثوا عن اسمي، ولا تطلبوا لقبي، الوباء
لكم يا بقية الناس بعدي، ويا جموع الأشرار الأوغاد الذين تركتهم في الأرض
مروا بقبري والعنوا ما شئتم، ولكن لا تقفوا بقبري ولا تتمهَّلوا (يموت). (يدخل
فلافياس فيبحث عنه فيجده على هذه الحال فيجري إليه.)
فلافياس
:
مولاي، أي تيمون الكريم، الآلهة لي، تكلَّمْ، تكلَّمْ. تيمون ألا حديث ولا جواب؟!
لي الآلهة لقد قضى تيمون باسطًا ذراعَيْه في هذه الغاب التي لا يسرح فيها غير
الوحش والسبع لكن آلهة السماء تيمون، لقد ذهبْتَ ضحيةَ الصداقة الكاذبة
والرياء والزهو والترف، لقد مات تيمون ضحيةَ لؤم الإنسان ودناءته؛ درس
أليم في الصداقة وعبرة بالغة في الحياة.
(الستار)