مغامرة شوسكوم أولد بليس
ظل شيرلوك هولمز منكبًّا لوقتٍ طويلٍ على مجهر تشريحي، ثم اعتدل في وِقفته واستدارَ ونظَر نحوي في انتصار، وقال: «إنه غِراء، يا واطسون. لا ريب أنه غراء. ألْقِ نظرة على هذه الأشياء المتناثرة على منصة المجهر.»
انحنيتُ على عدسة المجهر، واستجمعتُ تركيزي لأرى بوضوح.
قال هولمز: «هذه الشعرات هي عبارة عن خيوطٍ من معطف صوفي خَشِن. هذه الكتل غير المنتظمة الرمادية هي غبار. على اليسار يوجد قشور طِلائية. وتلك النقط البُنية في المنتصف هي بلا شك غراء.»
قلت ضاحكًا: «حسنًا، أنا مستعد لأن أقبَل بكلامك. هل هذا مفيد في أي شيء؟»
أجاب: «إنه دليل دقيق جدًّا. قد تتذكر في قضية فندق سانت بانكرس أنهم عثروا على قبَّعة بجانب جثة الشرطي. أنكَر المتهم أنها تخصه. ولكنه صانعُ إطاراتِ لوحاتٍ ممن يستخدمون الغراء بشكل اعتيادي.»
«هل هذه واحدة من قضاياك؟»
«لا؛ طلب مني صديقي ميريفيل من سكوتلانديارد أن أحقِّق في القضية. منذ أن توصَّلت إلى سكَّاك النقود هذا عن طريق بُرادة الزِّنك والقَصْدير الموجودة في خياطة ثَنْية كمِّه، بدءوا يدركون أهمية المجهر.» نظر بنَفادِ صبرٍ إلى ساعته وقال: «اتصَل بي عميل جديد، ولكنه متأخِّر عن موعده. بالمناسبة، يا واطسون، هل لديك إلمام بسباقات الخيل؟»
«لا بد أن يكون لديَّ إلمام بها؛ فقد أنفقتُ عليها نصف معاش الجرحى الخاص بي.»
«إذن سأجعلك «دليلي العمَلي إلى المضمار». ماذا عن السير روبرت نوربرتون؟ هل يُذكِّرك هذا الاسم بأي شيء؟»
«في الواقع، أتذكَّر هذا الاسم. إنه يعيش في ضيعة شوسكوم أولد بليس، وأنا أعرف هذا المكان جيدًا؛ فقد كان مسكني الصيفي هناك فيما مضى. كاد نوربرتون أن يدخل في مجالك ذات مرة.»
«كيف كان ذلك؟»
«كان هذا عندما جَلَدَ، بسوط الحصان، المُقْرِض المعروف في شارع كورزون، سام بروير، في مرج نيوماركت هيث. لقد كاد أن يقتل الرجل.»
«آه، هذا يبدو مثيرًا للاهتمام! هل دائمًا ما يُرفِّه عن نفسه بتلك الطريقة؟»
«حسنًا، تَحوطه سُمعة بأنه رجل خطير. إنه أكثر الفرسان تهوُّرًا في إنجلترا؛ جاء ثانيًا في سباق «جراند ناشونال» منذ عدة سنوات. إنه أحد أولئك الرجال الذين جاوزوا بأفعالهم جيلَهم الحقيقي. لا بد أنه كان شابًّا مترَفًا في أيام عصر الوصاية على العرش في إنجلترا؛ فقد كان ملاكمًا، ورياضيًّا، ومنغمِسًا في سباقات الخيول، ومُحبًّا للنساء الجميلات، وكان، حسب كل الروايات، غارقًا في الديون إلى الحد الذي كان من المستحيل معه أن يصحِّح أوضاعه المالية مرة أخرى.»
«ممتاز، يا واطسون! يا له من وصفٍ دقيق للرجل! يبدو أنني أعرف هذا الرجل. والآن، هل يمكنك أن تعطيني فكرة عن ضيعة شوسكوم أولد بليس؟»
«كلُّ ما يمكنني قوله هو أنها تتوسَّط منطقة شوسكوم بارك، وأنه يوجد بها إسطبلات شوسكوم الشهيرة، ومَهْجع التدريب.»
قال هولمز: «وكبير المدربين هو جون ماسون. لا حاجة إلى أن يبدوَ عليك الاندهاش لمعرفتي بهذا، يا واطسون؛ فهذا خطابٌ تلقَّيتُه منه، وأنا بصدد قراءة محتوياته. ولكن دعنا نتحدث أكثرَ عن منطقة شوسكوم. يبدو أنني حصلت على معلوماتٍ قيمة.»
قلت: «يوجد هناك الكلاب من سلالة شوسكوم سبانيِل. نسمع عنها في كل عرض للكلاب؛ فهي السلالةُ الأكثرُ حصريةً في إنجلترا. وهي فخر سيدة ضيعة شوسكوم أولد بليس.»
«أظنك تعني زوجة السير روبرت نوربرتون!»
«لم يتزوج السير روبرت قطُّ. أعتقد أن السبب في ذلك أيضًا يرجع إلى تطلعاته الشخصية. إنه يقطن مع شقيقته الأرملة، الليدي بياتريس فالدر.»
«هل تعني أنها تعيش معه؟»
«لا، لا. المكان كان مِلكًا لزوجها المتوفَّى، السير جيمس. نوربرتون لا يملك أي حق فيه على الإطلاق. هي لها فقط حقُّ الانتفاع به طوال حياتها، ويعود بعد وفاتها إلى شقيق زوجها. في الوقت الحاليِّ تتسلم الإيجارات كل سنة.»
«وأفترض أن شقيقها روبرت يبدِّد الإيجارات المذكورة، أليس كذلك؟»
«هذا صحيح، إنه شخص صعب المِراس، ولا بد أنه يجعل حياة شقيقته بالِغةَ المشقة. ورغم ذلك فقد سمعتُ أنها وفية له. ولكن ما الخطْب في شوسكوم؟»
«آه، هذا بالضبط ما أريد أن أعرف. وها هو، حسبما أظن، الرجل الذي يمكنه أن يخبرنا.»
كان الباب قد فُتِح، وأدخَل الخادمُ رجلًا طويل القامة حليق الذقَن، على وجهه تعبيرٌ قاسٍ وعابس، يمكن رؤيته فقط على وجوه أولئك الذين عليهم أن يُسيطروا على الخيول أو على الصِّبْية. كان لدى السيد جون ماسون الكثيرُ من كليهما تحت سيطرته، وكان يعتبر المهمة متساوية في الحالتين. انحنى ليُحيِّيَنا بثبات بارد، وجلس على المقعد الذي أشار له هولمز أن يجلس عليه.
«هل تلقيت رسالتي يا سيد هولمز؟»
«نعم، ولكنها لم توضح شيئًا.»
«لقد كان أمرُ وضع التفاصيل على الورق أمرًا بالغ الحساسية لي، كما كان أمرًا مُعقَّدًا أيضًا. لم يكن من الممكن أن أفعل ذلك إلا وجهًا لوجه.»
«حسنًا، نحن رهن إشارتك.»
«بادئ ذي بدء، يا سيد هولمز، أعتقد أن ربَّ عملي، السير روبرت، قد أصابه الجنون.»
رفع هولمز حاجبَيه في دهشة قائلًا: «هذا شارع بيكر ستريت وليس هارلي ستريت [كان شارع هارلي ستريت، ولا يزال، يَشتهر بعيادات الأطباء والمستشفيات]، ولكن لماذا تقول هذا؟»
«حسنًا يا سيدي، عندما يأتي رجلٌ فِعلًا أو فِعلَين غريبَين، فربما يكون ثمَّةَ سبب وراء هذا، ولكن عندما يكون كلُّ ما يفعله غريبًا، عندئذٍ تبدأ في التساؤل. أعتقد أن شوسكوم برنس وسباق الديربي قد أصاباه بالجنون.»
«أذاك هو المُهر الذي تُدرِّبه؟»
«إنه الأفضل في إنجلترا يا سيد هولمز. إن كان ثمَّة مَن يعرف هذا، فهو أنا. والآن، سأكون صريحًا معك؛ لأنني أعلم أنك رجل نبيل وشريف، وأن ما سيُقال لن يتخطى جدران هذه الغرفة. لا سبيل أمام السير روبرت سوى أن يكسب هذا الديربي. إنه غارق في ديونه، وهذه هي فرصته الأخيرة. كلُّ ما أمكنه جمْعه أو اقتراضه من مال معتمِدٌ على هذا المُهر؛ وعلى الحظ الجيد أيضًا. إن المراهنة على فوزه في الوقت الحاليِّ أقلُّ مما كانت عليه حين بدأ يَدعمه.»
«ولكن كيف ذلك إذا كان المُهر جيدًا جدًّا؟»
«الناس لا يعرفون كم هو جيد. كان السير روبرت بارعًا للغاية فيما يخص الجواسيس على خيل السباقات؛ كان يُخْرِج أخا المهر برنس غيرَ الشقيق لتدريبات الدوران السريع. لا يمكنك أن تفرِّق بينهما، ولكن يوجد فارق طولَين بينهما في مسافة فيرلُونج [٢٢٠ ياردة] أثناء العَدْو. إنه لا يفكِّر في شيء سوى الحصان والسباق؛ فحياته كلها تعتمد على هذا الأمر. وقد جعل المرابين اليهود ينتظرون حتى موعد السباق. إذا خذله المهر برنس، فقد انتهى.»
«إنها تبدو مقامرة يائسة نوعًا ما، ولكن أين الجنون في هذا؟»
«حسنًا، أولًا، ما عليك إلا أن تنظر إليه. لا أعتقد أنه ينام ليلًا؛ فهو في الإسطبلات طوال الوقت، والاضطراب بادٍ في عينيه. إن الأمر كله يفوق قدرة أعصابه على الاحتمال. ثم إلى جانب ذلك أسلوب تعامله مع الليدي بياتريس!»
«حسنًا، أيمكنك أن تكون أكثر تحديدًا؟»
«لطالما كانا أعزَّ صديقين؛ فقد كان لكليهما نفسُ الذوق، ولقد أحبَّتِ الخيولَ بقدْر ما أحبَّها هو. كانت كلَّ يوم في نفس الوقت تقود عربتها إلى الإسطبل لترى الخيول، وكانت تحبُّ المهر برنس في المقام الأول. كانت أذناه تنتصبان عندما كان يسمع صوت العجلات على الحصى، وكان يمشي خبَبًا إلى العربة كلَّ صباح؛ ليحصل على مكعب السُّكر الخاص به. ولكن كل هذا انتهى الآن.»
«لماذا؟»
«في الواقع، يبدو أنها فقدَت كل اهتمام بالخيول. ظلت لأسبوع تمر بجانب الإسطبلات، ولا تقول حتى «صباح الخير»!»
«هل تعتقد أنهما تشاجرا؟»
«لا بد أنه كان شجارًا حادًّا وعنيفًا، وبغيضًا أيضًا. وإلا فلماذا يتخلى عن كلبها السبانيِل الأليف الذي أحبَّته كأنه طفلُها؟ لقد أعطاه منذ بضعة أيام للعجوز بارنز، الذي يملك حانة جرين دراجون، التي تبعُد مسافة ثلاثة أميال، في بلدة كريندال.»
«بالتأكيد هذا يبدو غريبًا.»
«بالطبع مع قلبها الضعيف ومرض الاستسقاء الذي تُعاني منه، ما كان لأحد أن يتوقَّع أنها يمكن أن تتعافى وتخرج معه، ولكنه كان يَقضي معها ساعتَين كل ليلة بغُرفتها. كان من المرجَّح أن يبذل ما في وُسعه؛ إذ كانت صديقة جيدة ونادرة له. ولكن ذلك انتهى تمامًا، أيضًا؛ فهو لا يقترب منها أبدًا. وهذا يؤثِّر في نفسها تأثيرًا عميقًا. إنها واجمة وعابسة وتُعاقر الخمر، يا سيد هولمز؛ تعاقر الخمر بإفراطٍ شديد.»
«هل كانت تُعاقر الخمر قبل هذا الجفاء؟»
«في الواقع، اعتادت أن تَحتسي كأسًا واحدة، ولكن الآن عادةً ما تحتسي زجاجةً كاملةً كلَّ ليلة. هذا ما قاله لي ستيفنز، كبير الخدم. لقد تغيَّر كلُّ شيء يا سيد هولمز، وثمَّة شيء بغيض وملعون في الأمر. ولكن من ناحية أخرى، ماذا كان سيدي يفعل عند سرداب الكنيسة القديمة في الليل؟ ومَن هذا الرجل الذي قابلَه هناك؟»
فرك هولمز يديه متحمِّسًا.
«أكملْ يا سيد ماسون. إن ما تقوله يزداد تشويقًا.»
«كان كبير الخدم هو مَن رآه ذاهبًا. في تمام الساعة الثانية عشرة ليلًا وكان المطر غزيرًا. وهكذا في الليلة التالية كنت بالمنزل مستيقظًا، وبالفعل، كان سيدي قد غادر مرة أخرى. ذهبنا أنا وستيفنز خلْفَه، ولكنها كانت مهمة مثيرة للأعصاب؛ إذ كانت مهمتنا ستصبح فاشلة لو كان رآنا. إنه رجل مروِّع إذا ما بدأ في استخدام قبضتَيه، وهو لا يُكِنُّ احترامًا لأحد. لذا اتخذنا حذرَنا حتى لا نكون قريبَين أكثرَ مما ينبغي منه، ولكننا تتبَّعناه بكل خفة. كان متجِهًا إلى السرداب المسكون، وهناك كان رجل في انتظاره.»
«وما هذا السرداب المسكون؟»
«في الواقع، يا سيدي، يوجد بالحديقة كنيسة صغيرة متهدمة وقديمة. إنها قديمة جدًّا حتى إنه لا أحد يستطيع أن يعرف بالضبط تاريخ إنشائها. ويوجد أسفلَها سِرداب اكتسب سمعة سيئة فيما بيننا. إنه مظلِم ورطب وموحِش بالنهار، ولكن قلة قليلة في تلك المقاطعة هم مَن لديهم الشجاعة للاقتراب منه ليلًا. إلا أن سيدي لا يشعر بالخوف؛ فهو لم يخشَ شيئًا قطُّ في حياته. ولكن ماذا يفعل هناك ليلًا؟»
قال هولمز: «انتظر قليلًا! تقول إنه يوجد رجلٌ آخر هناك. لا بد أنه أحد السُّياس، أو أحد أفراد المنزل! قطعًا عليك فقط أن تتبيَّن هُويته وتستجوبه، أليس كذلك؟»
«ليس أحدًا أعرفه.»
«كيف يمكنك أن تقول هذا؟»
«لأنني رأيته، يا سيد هولمز. كان هذا في الليلة الثانية. استدار السير روبرت ومرَّ بنا؛ أنا وستيفنز؛ حيث كنا نرتجف ونحن نختبئ بين الشجيرات كأرنبَين صغيرَين؛ لأنه كان يوجد قليلٌ من ضوء القمر في تلك الليلة. ولكن كان بوُسعنا أن نسمع الآخرَ يتحرَّك هنا وهناك خلْفَه. لم نكن خائفَين منه؛ لذا نهضنا من مكاننا عندما رحل السير روبرت، وتظاهرنا بأننا كنا نتمشى تحت ضوء القمر ليس إلا، وهكذا اقتربنا منه بطريقةٍ عرضية وبريئة، كما لو أننا التقينا به مصادفة. قلتُ: «مرحبًا يا رفيقي! مَن تكون؟» أعتقد أنه لم يكن قد سمِعَنا ونحن قادِمَين؛ لذا نظر خلفه وعلى وجهه علاماتُ هلع، وكأنه رأى الشيطان خارجًا من الجحيم. خرجَت من فمه صيحة، وجرى بأسرع ما بوسعه أن يجري في الظلام. كان سريعًا في الركض! أشهد له بذلك. وفي دقيقةٍ كان قد اختفى عن أنظارنا وأسماعنا، ولم نكتشف مطلقًا مَن كان أو ماذا كان.»
«ولكنك رأيتَه بوضوح في ضوء القمر؟»
«نعم، يمكنني أن أقسِم أن وجهه كان شاحبًا؛ يصح أن أقول إنه كان شخصًا وضيعًا. ما الذي يمكن أن يجمعه بالسير روبرت؟»
جلس هولمز لبعض الوقت شارد الذهن. ثم سأل أخيرًا:
«مَن الذي يبقى برفقة الليدي بياتريس؟»
«خادمتها، كاري إيفانز، إنها معها طوال تلك السنوات الخمس.»
«وهي، بلا شك، مخلصة، أليس كذلك؟»
تململ السيد ماسون في جِلسته على نحوٍ ينمُّ عن عدم الراحة.
وأجاب أخيرًا قائلًا: «هي مخلصة بالقدْر الكافي، ولكنني لن أقول لمَن.»
قال هولمز: «آه!»
«لا يسعني إفشاء الأسرار عن الأمور الخاصة.»
«أتفهَّم ذلك تمامًا يا سيد ماسون. بالطبع، الموقف واضح بما يكفي. بناءً على ما جاء في وصف الدكتور واطسون للسير روبرت، يمكنني أن أُدرِك أنه ليس ثمَّة امرأةٌ بمأمنٍ منه. ألا تعتقد أن هذا يمكن أن يكون سببَ الشجار الذي نشب بينه وبين شقيقته؟»
«في الواقع، الفضيحة واضحة وضوح الشمس منذ وقت طويل.»
«ولكن لعل شقيقته لم ترَها قبْلًا. دعنا نفترض أنها اكتشفت أمرها فجأة، وهي تريد أن تتخلَّص من المرأة. لن يسمح لها شقيقها بذلك. هذه السقيمة، القليلة الحركة وذات القلب العليل، لا تملك وسيلة لتفرض إرادتها. وخادمتها المقيتة لا تزال لَصيقة بها. ترفض السيدة أن تتكلم، ويَكْسو العُبوس وجهها، وتعتاد على شرب الخمر. وفي غمرة غضبه يُبعِد السير روبرت كلبها السبانيِل عنها. ألا يتسق كلُّ هذا بعضه مع بعض؟»
«في الحقيقة، يمكن لهذا الافتراض أن يفيَ بالغرض إلى حدٍّ ما.»
«بالضبط! إلى حدٍّ ما؛ إذ كيف يمكن أن يكون كل ذلك ذا صلة بالزيارات الليلية للسرداب القديم؟ لا يمكننا أن نُدخِل تلك النقطة في حَبْكتِنا على نحوٍ متسق.»
«لا يا سيدي، وثمَّة شيء آخر لا أستطيع أن أجعله متسقًا. ما الذي يدعو السير روبرت إلى أن ينبش قبرًا ليستخرج جثة؟»
انتصب هولمز في جِلسته بغتة.
«لقد اكتشفنا هذا البارحة فقط؛ بعدما كنتُ قد كتبتُ رسالتي إليك. بالأمس كان السير روبرت قد ذهب إلى لندن؛ لذا نزلت أنا وستيفنز إلى السرداب. كان كل شيء كما هو، يا سيدي، عدا أنه في أحد الأركان كان يوجد بقايا جثمان بشري.»
«أظن أنك أبلغت الشرطة، أليس كذلك؟»
تبسَّم زائرنا متجهِّمًا.
«في الواقع، يا سيدي، أعتقد أن الأمر لم يكن سيثير اهتمامهم؛ لم تكن البقايا سوى رأس وبعض أجزاء هيكل عظمي، ربما يكون عمرُها ألفَ سنة، ولكنها لم تكن هناك في السابق. يمكنني، أنا وستيفنز، أن نُقسِم على هذا. كانت مخبَّأة في ركن ومغطَّاة بلوح، ولكن لطالما كان ذلك الركن خاليًا في السابق.»
«ماذا فعلتما بها؟»
«في الواقع، لقد تركناها هناك فحسب.»
«كان هذا تصرفًا حكيمًا. تقول إن السير روبرت كان بالخارج البارحة. هل عاد؟»
«نتوقَّع عودته اليوم.»
«متى تخلَّص السير روبرت من كلب شقيقته؟»
«كان هذا منذ أسبوع فحسب. كان الكلب يعوي خارج منزل البئر القديم، وفي هذا الصباح كان السير روبرت في إحدى نوبات غضبه، فأمسك بالكلب، وظننا أنه كان سيقتله. ثم أعطاه إلى خَيَّال السِّباق، ساندي باين، وطلب منه أن يأخذ الكلب إلى العجوز بارنز في حانة جرين دراجون؛ لأنه لا يريد أن يراه ثانيةً.»
جلس هولمز لبعض الوقت يفكِّر في صمت. كان قد أشعل أقدم وأقذر غليون لديه.
وأخيرًا قال: «ليس واضحًا بعدُ لي يا سيد ماسون ما تريد مني فعْله في هذا الشأن. ألا يمكنك أن تكون أكثر تحديدًا؟»
قال زائرنا: «ربما من شأن هذه أن تجعل الأمور أكثر تحديدًا، يا سيد هولمز.»
أخرج ورقة من جيبه وفضَّها بحرص، فكشف عن شظية متفحِّمة لعظْمة.
تفحَّصها هولمز باهتمام.
«من أين حصلتَ عليها؟»
«يوجد فرن مركزي للتدفئة بالقَبْو أسفل غرفة الليدي بياتريس. ظل الفرن خامدًا لبعض الوقت، ولكن السير روبرت اشتكى من برودة الجو وأمر بإيقاده مجددًا. هارفي هو مَن يشغِّله؛ وهو أحد الفتية الذين يعملون تحت إمرتي. في صباح يومنا هذا جاءني بهذه القطعة التي وجدها عندما كان ينظِّف الفرن من الرماد؛ إذ لم يَستسِغْ شكلها.»
قال هولمز: «ولا أنا أيضًا. ما الذي تستنبطه منها يا واطسون؟»
كانت قد احترقَت حتى أصبحَت متفحِّمة، ولكن لم يكن ثمَّة شكٌّ فيما يتعلَّق بأهميتها التشريحية.
قلت: «إنه المِفْصل العلوي لعظْمة فَخِذ بشرية.»
قال هولمز وقد أصبح جادًّا جدًّا: «بالضبط! متى يذهب هذا الفتى إلى الفرن؟»
«يذهب كل ليلة لينظفه ثم يغادر.»
«إذن فأي شخص يستطيع أن يذهب هناك أثناء الليل، أليس كذلك؟»
«نعم يا سيدي.»
«هل تستطيع أن تدخله من الخارج؟»
«يوجد باب من الخارج. ويوجد آخرُ يؤدي عن طريق سُلَّمٍ إلى الرواق الذي توجد فيه غرفة الليدي بياتريس.»
«هذه مسألة خطيرة، يا سيد ماسون؛ خطيرة وقذرة نوعًا ما. تقول إن السير روبرت لم يكن بالبيت البارحة، أليس كذلك؟»
«بلى يا سيدي.»
«إذن، فمَن كان يحرق العظام، أيًّا مَن كان، لم يكن هو.»
«هذا صحيح يا سيدي.»
«ما اسم الحانة التي ذكرتها؟»
«جرين دراجون.»
«هل يوجد صيد جيد للأسماك في هذه المنطقة من بيركشاير؟» ظهر على وجه المدرِّب الصريح تعبيراتٌ تدل على اقتناعه بأن مخبولًا آخرَ قد دخل حياته المنهكة.
«في الحقيقة يا سيدي، سمعت أنه يوجد سمك سلمون مرقَّط بالقناة التي يُستعان بمياهها لإدارة الطاحونة، ويوجد سمك الكراكي ببحيرة هال.»
«هذا ممتاز، أنا وواطسون صيادا سمك مشهوران؛ أليس كذلك يا واطسون؟ يمكنك أن تبعث برسائلك إلينا لاحقًا على حانة جرين دراجون. من المتوقَّع أن نصلها الليلة. وأنا لست بحاجة إلى أن أقول إننا لا نريد أن نراك يا سيد ماسون، ولكن رسائلك ستصلنا، ويمكنني بلا شك العثورُ عليك إن أردتُ لقاءك. وحين نُحرِز بعض التقدُّم في القضية، سأعطيك رأيًا مدروسًا فيها.»
وإذ كان ذلك في أمسية صافية من شهر مايو؛ وجَدْنا أنفسنا أنا وهولمز وحْدَنا في عربة قطار من الدرجة الأولى، وفي طريقنا لمحطة شوسكوم الصغيرة التي لا يتوقَّف فيها القطار إلا بناءً على طلب أحد المسافرين. كان الرَّف فوقنا تغطيه فوضى هائلة من صنانير الصيد والبكرات والسلال. وبعدما وصلنا إلى وِجهتنا قطعنا مسافة قصيرة بالعربة حتى وصلنا إلى حانة قديمة الطراز؛ حيث أدخل صاحبُ الحانة المقامر، جوزياه بارنز، نفسه بلهفة في خُططِنا للفتكِ بالأسماك في الجوار.
قال هولمز: «ماذا عن بحيرة هال وفرصة صيد سمك السلمون المرقَّط هناك؟»
تجهَّم وجهُ صاحب الحانة وقال: «هذا غير مناسب يا سيدي؛ فقد تُجازِف بأن تجد نفسك ملقًى بك في البحيرة قبل أن تنتهيَ من الصيد.»
«كيف هذا إذن؟»
«إنه السير روبرت يا سيدي؛ فهو شديد الرِّيبة من جواسيس خيل السباق. أنتما غريبان عن تلك الأنحاء، فلو اقتربتما من مهجع التدريب الخاص به هكذا، فسوف يُلاحِقكما حتمًا. إن السير روبرت لا يترك شيئًا للصدفة، لا يترك شيئًا.»
«لقد سمعت أنه يمتلك حصانًا سيدخل سباق الديربي.»
«نعم، وهو مُهر جيد أيضًا. لقد وضعنا كل أموالنا عليه من أجل السباق، وكل أموال السير روبرت أيضًا.» ثم نظر إلينا بعينَين فاحصتَين وقال: «بالمناسبة، أظن أنكما لستما ضمن المراهِنين في السباق، أليس كذلك؟»
«نعم، بالتأكيد. نحن مجرد شخصَين لندنيَّين منهكَين، بحاجة ماسةٍ إلى بعض من هواء بيركشاير العَليل.»
«حسنًا، أنتما في المكان المناسب لذلك، وهذا المكان عامر به. ولكن احرصا على تذكُّر ما قلتُه لكما عن السير روبرت؛ فهو من النوع الذي يضرب أولًا ويتحدث بعد ذلك. ابتعِدا عن الحديقة.»
«بالتأكيد يا سيد بارنز! بالتأكيد سنفعل. بالمناسبة، هذا الكلب من فصيلة السبانيِل الذي كان يَعْوي في الرَّدْهة هو من أجمل الكلاب من هذه الفصيلة.»
«أقر بذلك؛ فهو من سلالة شوسكوم الأصلية. لا توجد سلالة أفضل منها في إنجلترا.»
قال هولمز: «أنا أيضًا مولَع بالكلاب. إذا سمحتَ لي أن أسألك، كم يساوي ثَمَن كلب قيِّم كهذا؟»
«أكثر مما في مقدوري دفعه يا سيدي. لقد كان السير روبرت هو مَن أعطاه لي بنفسه؛ لهذا يتعيَّن أن أبقيه مربوطًا إلى مِقْود؛ لأنني إن أطلقتُه سينطلق مغادرًا إلى بيت السُّكنى في شوسكوم في لمح البصر.»
بعد أن تركَنا صاحبُ الحانة، قال هولمز: «إننا بصدد تجميع بعض أوراق اللعب في القضية في أيدينا يا واطسون. لن تكون لعبة سهلة، ولكننا قد نتبيَّن طريقنا في خلال يوم أو اثنَين. بالمناسبة، إن السير روبرت ما زال في لندن، حسبما سمعت. ربما نستطيع أن نَدخل النطاق المحرَّم الليلة دون أن نخشى التعرُّض لاعتداء بدني. يوجد نقطة أو اثنتان أحتاج إلى أن أتأكَّد منهما.»
«هل لديك أية نظرية يا هولمز؟»
«فقط هذه يا واطسون؛ وهي أن ثمَّة أمرًا ما حدث منذ أسبوع أو نحوِ ذلك، وأحدثَ تأثيرًا بالغًا على حياة أفراد منزل ضيعة شوسكوم. ما هو هذا الأمر؟ ليس بوُسعنا سوى أن نُخمِّن ماهيته من تأثيراته. يبدو أنهما شخصيَّتان معقَّدتان على نحوٍ يبعث على الفضول. ولكن ذلك سوف يُساعدنا بالتأكيد؛ فالقضية الخالية من التنوُّع، والتي لا يوجد بها الكثير من الأحداث، هي وحدها القضية الميئوس منها.»
«دعنا نتأمَّل المعلومات التي بحوزتنا. لم يَعُد الأخُ يزور شقيقته العزيزة والعليلة، وأخذ منها كلبها المفضَّل وأهداه … كلبها يا واطسون! ألَا يَلفِت هذا انتباهَك إلى شيء؟»
«لا شيء سوى غضب شقيقها منها.»
«حسنًا، ربما يكون الأمر كذلك أو — في الواقع — ثمَّة خيارٌ آخر. الآن دعنا نستأنف استعراضَنا للموقف من الوقت الذي بدأ فيه الشجار، إن كان قد حدث شجار بالفعل. تلزم السيدة حجرتها، وتغيِّر عاداتها، ولم يَعُد أحدٌ يراها إلا عند مغادرتها للمنزل في العربة مع خادمتها، وتأبى التوقُّف عند الإسطبلات لإلقاء التحية على حصانها المفضل، وصارت مقبلة على الشرب. هذا يُغطي أحداث القضية، أليس كذلك؟»
«عدا مسألة السرداب.»
«ذلك خيطٌ آخرُ للأفكار. يوجد خيطان، وأرجوك ألا تَخلط بينهما؛ الخيط الأول، الذي يخص الليدي بياتريس، له نكهة منذِرة بشرٍّ غامض، أليس كذلك؟»
«لا يمكنني أن أستخلص شيئًا منه.»
«حسنًا، الآن، دعنا نتناول الخيط الثانيَ والذي يخص السير روبرت. إنه حريص حرصًا محمومًا على الفوز بالديربي. وهو واقعٌ في قبضة المرابين اليهود، ومن الممكن في أية لحظة أن تُباع كلُّ ممتلكاته وأن يستوليَ مُقرِضوه على إسطبلات السباق الخاصة به. إنه رجل جَرِيء ومتهور. وهو يَستمد دخله من شقيقته. وخادمة شقيقته أداةٌ طيِّعة في يده. حتى الآن يبدو أننا على أرض صُلبة نوعًا ما، أليس كذلك؟»
«ولكن ماذا عن السرداب؟»
«آه، نعم، السرداب! لنفترض يا واطسون — إنه محض افتراض شائن، فرضية نطرحها على سبيل الجدل — أنَّ السير روبرت قد تخلَّص من شقيقته.»
«عزيزي هولمز، هذا أمر غير وارد.»
«بل مُحتمَل جدًّا يا واطسون. إن السير روبرت رجل من أسرة نبيلة، ولكنك أحيانًا ما تجد غُرابَ جيَفٍ وسطَ العُقْبان. دعنا لوهلةٍ نتطرق إلى هذا الافتراض. إنه لا يستطيع أن يغادر البلاد قبل أن يكون قد جنى ثروته، وهذه الثروة لا يمكن أن تُجنى إلا بنجاحه في القيام بضربة موفَّقة مع شوسكوم برنس. لذلك، ما زال عليه أن يبقى في مكانه. ولكي يفعل ذلك سيكون عليه أن يتخلص من جثةِ ضحيته، وسيكون عليه أيضًا أن يَعثر على بديلٍ لينتحل شخصيتها. وبوجود خادمةٍ مؤتمَنة على أسراره فلن يكون ذلك مستحيلًا. يمكن أن يُنقل جسد المرأة إلى السرداب؛ فهو مكان نادرًا ما يَزوره أحد. ويمكن أن يتخلص منه في سريةٍ بالفرن ليلًا، تاركًا خلفه الدليل الذي رأيناه بالفعل. ما رأيك في ذلك يا واطسون؟»
«حسنًا، كل شيء وارد إذا ما تحققتَ من افتراضك الشنيع.»
«أعتقد أن ثمَّة تجرِبةً صغيرة يمكننا أن نُحاول إجراءها غدًا يا واطسون، لكي نستبين الأمر بعض الشيء. في غضون ذلك، إذا أرَدنا أن نحافظ على شخصيتينا، أقترح أن نستضيف مضيفَنا لاحتساء كأس من خمر معنا، وإجراء محادثة مطوَّلة حول الأنقليس والسمك النهري؛ حيث إن هذا يبدو الطريقَ المباشر لِنَيْل وُدِّه. ربما نصادف في إطار ذلك بعضَ النميمة المتداوَلة المفيدة.»
في الصباح اكتشف هولمز أننا كنا قد أتينا من دون طُعم الملعقة لسمك الجاك، وهو ما أعفانا من الصيد ذلك اليوم. في حوالي الساعة الحادية عشرة شرَعْنا في أخذ جولة، وحصل هولمز على إذنٍ من بارنز بأخذ الكلب السبانيِل الأسود معنا.
عندما أشرَفْنا على بوابة حديقة عالية ذات درفتَين يعلو كلٌّ منهما تمثال لحيوان الجريفن الأسطوري الذي يَرمز إلى النبالة، قال هولمز: «هذا هو المكان. أبلغَني السيد بارنز أنه عند الظهيرة تقريبًا، تأخذ السيدة العجوز جولتها، ولا بد أن تُبطئ العربةُ سرعتها بينما تُفتَح البوابة. عندما تمر العربة، وقبل أن تَزيد من سُرعتها، أريدك، يا واطسون، أن تُوقِف الحُوذيَّ وتسأله بعض الأسئلة. لا تَشغَل بالَك بي، سأكون واقفًا خلف شجيرة البَهْشِيَّة هذه وأشاهد ما يمكنني مُشاهدته.»
لم نستغرق وقتًا طويلًا؛ ففي غضون ربع الساعة رأينا عربةً فاخرة ضخمة صفراءَ اللون ومكشوفة، آتيةً عبْر الدرب الطويل، وفي عَريشها حِصانَا عربةٍ رائعان رماديَّا اللون عالِيَا الخُطى. جثم هولمز مع الكلب خلف الشجيرة. وقفتُ غيرَ مكترث في الطريق ألوِّح بعصًا. ركض الحارس خارجًا وفتح البوابة.
كانت العربة قد أبطأت من سرعتها حتى صارت في سرعة المشي، وتمكنتُ من أن ألقي نظرة فاحصة على راكبيها؛ وكانت تجلس جهةَ اليسار امرأةٌ شابة متوردة الوجه ذاتُ شعر كتاني اللون وعينَين وقحتَين، وعلى يَمينها تجلس سيدةٌ عجوز مقوَّسة الظهر وحول وجهها وكتفَيها حشدٌ من الشالات وهو ما أظهر مرضها. عندما وصل الحصانان إلى الطريق الرئيسي، رفعتُ يدي في إشارة آمِرة، وعندما توقَّف الحُوذيُّ سألته عما إذا كان السير روبرت في شوسكوم أولد بليس.
في نفس اللحظة خرج هولمز من مخبئه وحرَّر الكلب السبانيِل. انطلق الكلب نحو العربة وهو يُطلِق صيحةَ فرحٍ وقفز فوق الدَّرَج، ثم في لحظةٍ تحوَّل تَرحابُه الحار إلى غضب شديد، وأطبق بفَكَّيه على طرَف التنُّورة السوداء المتدلي فوق الدرَج.
صرخ صوتٌ أجَش: «واصِل المسير! واصل المسير!» ضرب الحوذيُّ الحِصانَين بالسوط، وتُرِكْنا واقفَين في قارعة الطريق.
قال هولمز، وهو يربط مِقوَد الكلب السبانيِل المتحمِّسِ إلى عنقه: «حسنًا يا واطسون، هذا يَفي بالغرض. لقد اعتقد الكلبُ أنَّ مَن في العربة هو سيدته، ولكنه وجدَها شخصًا غريبًا. الكلاب لا تخطئ.»
صِحتُ قائلًا: «ولكنه كان صوتَ رجل!»
«بالضبط! لقد أضفنا ورقةَ لعب إلى ما لدينا من أوراقٍ يا واطسون، ولكن يلزم أن نلعب بها بحذر؛ كشأن كل الأوراق الأخرى.»
بدا أن رفيقي لم يكن لديه خططٌ إضافية لهذا اليوم، وبالفعل استخدمنا عُدَّة الصيد الخاصة بنا للصيد في قناة الطاحونة، وكانت النتيجة أننا حصَلْنا على طبق من سمك السلمون المرقَّط على العشاء. وبعد العشاء مباشرة أبدى هولمز علاماتٍ تدل على تجدُّد نشاطه. ومرة أخرى وجَدنا أنفسنا في نفس الطريق الذي كنا فيه في الصباح، وهو ما قادنا إلى بوابة الحديقة. كان في انتظارنا هناك شخصٌ طويل بملابسَ داكنة، اتضح أنه الشخص الذي تعرَّفنا عليه في لندن، وهو السيد جون ماسون، المدرب.
قال: «طاب مساؤكما أيها السيدان. تلقَّيت رسالتك يا سيد هولمز. لم يَعُد السير روبرت بعدُ، لكنني سمعتُ أن مِن المتوقَّع عودتَه الليلة.»
سأل هولمز: «كم يبعُد هذا السرداب عن المنزل؟»
«حوالي ربع ميل.»
«إذن أعتقد أن بوُسعِنا أن نتجاهله تمامًا.»
«لا يسَعُني القيام بذلك يا سيد هولمز؛ ففي اللحظة التي سيصل فيها، سيطلب رؤيتي ليسألني عن آخر أخبار المُهر شوسكوم برنس.»
«فهمت! في هذه الحالة يجب أن نقوم بهذه المهمة من دونك يا سيد ماسون. يمكنك أن تُريَنا السرداب وتتركنا.»
من دون القمر كان الظلام حالكًا، ولكن ماسون قادَنا فوق أرضٍ عُشبية حتى لاح أمامنا هيكل مظلم اتضح فيما بعدُ أنه الكنيسة الصغيرة العتيقة. دخَلْنا عبْر فُرجة متصدِّعة كانت فيما مضى مدخلَ الكنيسة، ومشى مُرشدنا بحرص، وهو يتعثر وسط ركامٍ من الحجارة المتبعثرة، تُجاه زاوية البناء؛ حيث يوجد درَجٌ حادٌّ يؤدي إلى السرداب بالأسفل. أشعل عودَ ثقاب فأضاء هذا المكان الكئيب؛ كان موحشًا ويوحي بالشر، وله حوائطُ متداعية من الحجارة غير المصقولة، وأكوامٌ من التوابيت، بعضها من الرَّصاص وبعضها من الحجارة، تمتد على جانبٍ واحد حتى السقف المقوَّس الذي يلتقي عنده جانبان من جوانب السرداب، واختفى السقف في الظلال فوق رءوسنا. أضاء هولمز فانوسه، الذي صنع قُمعًا ضئيلًا من الضوء الأصفر المشِع وسط هذا المشهد الكئيب. انعكسَت أشعَّتُه عن ألواح التوابيت، التي كان العديد منها مُزْدانًا بالجريفن، وتاج هذه العائلة القديمة التي حملَت أمجادها حتى بوابةِ الموت.
«لقد تحدثتَ بخصوص بعض العظام يا سيد ماسون، هل يمكن أن تُريَنا إياها قبل أن تذهب؟»
قال: «إنها هنا في هذه الزاوية.» سار المدرب نحو الزاوية، ثم توقَّف في دهشة صامتة حين وجَّهْنا ضوءنا ناحية المكان. قال: «لقد اختفَت.»
قال هولمز، وهو يضحك ضحكة خافتة: «هذا ما توقَّعته. وأتصور أن رمادها يمكن العثورُ عليه الآن بداخل ذلك الفرن الذي أحرَق بالفعل جزءًا منها.»
تساءل جون ماسون قائلًا: «ولكن لماذا، بحق السماء، يريد أيُّ أحد أن يُحرِق عظام رجل مات منذ ألف سنة؟»
قال هولمز: «ذلك ما نحن هنا من أجل اكتشافه؛ يمكن لهذا أن يَعنيَ بحثًا مطوَّلًا، ولا نريد أن نؤخرك. أتصور أننا يمكن أن نعثر على الحل قبل الصباح.»
عندما تركنا جون ماسون، شرَع هولمز في العمل، فأخذ يفحص القبور فحصًا دقيقًا، بدءًا من قبرٍ قديم جدًّا في المنتصف، اتضح أنه ساكسونيٌّ، مرورًا بسلسلة طويلة من الهوجو والأودو النورمانديين حتى وصَلْنا إلى السير ويليام والسير دينيس فالدر من القرن الثامن عشر. استغرَقْنا ساعة أو أكثر قبل أن يَصل هولمز إلى تابوت من الرصاص يقف عموديًّا أمام مدخل القبو. سمعتُ صيحة الارتياح الخافتةَ التي أصدرَها، وأدركتُ من حركاته المتعجلة، والتي كانت مع ذلك هادفة، أنه كان قد وصَل إلى مُبتغاه. استخدم عدسته المكبِّرة ليتفحَّص بلهفة حافَات الغطاء الثقيل، ثم أخرَج من جيبه عتَلة صغيرة، تُستخدَم في فتح الصناديق، غَرَزها في شِق، رافعًا الجزء الأماميَّ كاملًا، والذي بدا أنه لم يكن مغلقًا سوى بزوجٍ من المفصلات. وعند فتحه أصدر صوتَ تشقُّقٍ وتمزُّق، ولكنه لم يَنفتح إلا قليلًا، وظهرَت المحتويات جزئيًّا قبل أن توقفنا مقاطَعةٌ غير متوقعة.
كان شخصٌ ما في الكنيسة الصغيرة بالأعلى. كانت خطوة ثابتة وسريعة لشخصٍ جاء لهدف معيَّن، ويعرف جيدًا طبيعة الأرض التي يَسير عليها. انساب ضوءٌ عبْر الدرَج إلى الأسفل، وبعد لحظة كان حاملُه يَظهر في المدخل القوطي المقوَّس. كان مظهره مرعبًا؛ إذ كان ذا بِنْية ضخمة وطِباع شرسة. كان يحمل أمامه فانوسًا ضخمًا من فوانيس الإسطبلات انعكس ضوءُه إلى الأعلى على وجهه؛ ليُظهر ملامحَ قاسيةً وشاربًا كثيفًا وعينَين غاضبتَين، ظل يُجيل النظر بهما بنظراتٍ حادة في جميع تجاويف القبو، وأخيرًا ثبَّتهما بنظرة تبعث على الرعب عليَّ أنا ورفيقي.
دوَّى صوته كالرعد: «مَن تكونان بحق الجحيم؟ وماذا تفعلان في أملاكي؟» وإذ لم يقدِّم له هولمز جوابًا، تقدَّم خطوتَين إلى الأمام ورفع عصًا غليظة كان يحملها. صرخ قائلًا: «أتسمعانِني؟ مَن أنتما؟ وماذا تفعلان هنا؟» كانت هِراوَته تهتزُّ في الهواء.
ولكن هولمز، بدلًا من أن ينكمش، تقدَّم لمواجهته.
قال هولمز بنبرته الأكثر صرامة: «أنا أيضًا لديَّ سؤال لك يا سير روبرت. جثةُ مَن هذه؟ وماذا تفعل هنا؟»
استدار ثم فتح غِطاء التابوت الكائن خلفه بقوة. وتحت وهجِ ضوء الفانوس رأيتُ جثةً ملفوفة في مُلاءة من الرأس وحتى القدَم، ولها ملامحُ مروِّعة كملامح الساحرات، يغلب عليها الأنف والذقَن اللَّذان يَبرزان من الوجه ويتَّجهان نحو نهاية واحدة، أما العينان فكانتا معتمتَين وتُحدِقان من وجهٍ شاحب ومتغضِّن.
ترنَّح البارونيت راجعًا للخلف وهو يَصيح، وأسندَ جسده إلى تابوت حجري.
صاح قائلًا: «كيف عرفت هذا؟» ثم، مع بعض العودة لأسلوبه العدواني، قال: «وما شأنك أنت بهذا؟»
قال رفيقي: «اسمي هو شيرلوك هولمز. من المحتمل أن يكون الاسمُ مألوفًا لك. على أية حال، شأني هو شأن كل مواطن صالح؛ وهو مساندة القانون. يبدو لي أن لديك الكثيرَ من الجرائم التي عليك أن تتحمل مسئوليتها.»
لوهلةٍ نظر السير روبرت إليه نظرة غاضبة، ولكن صوت هولمز الهادئ وأسلوبَه البارد الواثق كان لهما وقعُهما.
فقال: «قسمًا بالرب يا سيد هولمز، إن كل شيء على ما يُرام. أقرُّ بأن المظاهر تبدو في غيرِ صالحي، ولكن لم يكن بوُسعي شيء آخرُ لأفعله.»
«سيكون من دواعي سروري أن أعتقد ذلك، ولكن يؤسفني القول إن تفسيراتك يجب أن تكون أمام الشرطة.»
هزَّ السير روبرت كتفَيه العريضتَين، ثم قال: «حسنًا، إذا كان لا بد من ذلك، فلا مَناص. فلتأتِ إلى المنزل ويمكنك أن تحكم بنفسك على حقيقة الوضع.»
بعد ربع ساعة وجدنا نفسَينا في غرفة الأسلحة بالمنزل القديم؛ حسبما استطعت أن أخمِّن من صفوف مواسير البنادق المصقولة خلف أغطية زجاجية. كانت مجهَّزة بأثاث مريح، وتركَنا السير روبرت في هذا المكان لبضع دقائق، وعندما عاد كان بصحبته مُرافقان؛ أحدُهما كان السيدة الشابة المتورِّدة الوجه التي كنا قد رأيناها في العربة؛ أما الآخر، فكان ذا وجهٍ صغير كالفأر، تظهر عليه أمارات المكر على نحوٍ لا يبعث على الراحة. ظهر الذهول التامُّ على ملامح هذَين الاثنَين، مما أظهر أن البارونيت لم يكن لديه الوقت ليشرح لهما المنحَى الذي آلت إليه الأحداث.
قال السير روبرت وهو يُشير بيده: «هذان هما السيد والسيدة نورليت. والسيدة نورليت، أو إيفانز، وهو اسمها قبل أن تتزوج، كانت لبِضْعِ سنوات الخادمةَ الخصوصية لشقيقتي. أحضرتُهما هنا لأنني أشعر أن أفضل مسار لي هو أن أشرح لكما حقيقة موقفي، وهما الشخصان الوحيدان على وجه الأرض اللذان بوُسعهما أن يُثبتا صحَّة ما أقوله.»
صاحت المرأة قائلة: «هل هذا ضروري يا سير روبرت؟ هل فكَّرتَ فيما أنت فاعل؟»
أما زوجها فقال: «أنا، من ناحيتي، أتنصَّل تمامًا من أي مسئولية.»
نظر له السير روبرت باحتقار، ثم قال: «أنا سأتحمل المسئولية كاملة. والآن يا سيد هولمز، استمع لعرضٍ واضحٍ بالوقائع.
من الواضح أنك تعمقتَ بشدة في شئوني، وإلا ما كنتُ سأجدك حيث وجدتُك. ومن ثَمَّ أنت، على الأرجح، تعرف بالفعل أن لديَّ حصانًا لا يتوقَّع أحدٌ فوزه في سباق الديربي، وأن كل شيء يَعتمد على نجاحي؛ إذا فزتُ فسيصبح كل شيء على ما يُرام، أما إذا خسرت ففي الواقع لا أجرؤ على التفكير في ذلك!»
قال هولمز: «أتفهَّم الموقف.»
«أنا معتمِدٌ على شقيقتي، الليدي بياتريس، في كل شيء، ولكن من المعروف جيدًا أن حقَّها في الانتفاع بالضَّيعة يظل ساريًا طيلةَ حياتها فقط. أما أنا فواقعٌ في قبضة المرابين اليهود. ولطالما عرَفت أنه إن ماتت شقيقتي سينقضُّ الدائنون على ضيعتي كسِرْب الطيور الجارحة. سيتحفَّظون على كل شيء؛ إسطبلاتي، وخيولي، كل شيء. في الواقع يا سيد هولمز، لقد تُوفِّيت شقيقتي منذ أسبوع.»
«وأنت لم تُخبِر أحدًا!»
«ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ لقد واجهَني شبحُ الخراب المطلق. لو استطعتُ تأجيل الأمر لثلاثة أسابيع فسيُصبح كل شيء على ما يُرام. زوج خادمتها — هذا الرجل الماثل أمامك — يعمل ممثلًا. خطر لنا — أو خطر لي — أنَّ بوُسعه خلال هذه المدة القصيرة أن يَنتحل شخصية شقيقتي. لم يَزِد الأمر عن الظهور كلَّ يوم في العربة؛ إذ لا حاجة إلى دخول أي أحد غرفتها عدا الخادمة. ولم يكن من الصعب ترتيبُ الأمر. تُوفِّيت شقيقتي جراء داء الاستسقاء الذي أصابها لفترة طويلة.»
«ذلك سيكون متروكًا للطبيب الشرعي ليقرره.»
«سوف يشهد طبيبها بأن الأعراض التي كانت لديها لشهور كانت تُنذِر بهذه النهاية.»
«حسنًا، ماذا فعلت؟»
«لم يكن ممكِنًا للجثة أن تبقى هناك. في الليلة الأولى حمَلناها أنا ونورليت خارجًا إلى منزل البئر القديم، والذي لم يَعُد يُستخدَم الآن مطلقًا. غير أن كلبها السبانيِل الأليف تَبِعَنا وظل ينبح باستمرار عند الباب؛ لذا شعرتُ أننا بحاجة إلى مكانٍ أكثر أمانًا. تخلصتُ من الكلب السبانيِل، وحملْنا الجثة إلى سرداب الكنيسة. لم يَحدث أية إهانة أو عدم احترام يا سيد هولمز. لا أشعر أنني اقترفتُ أي خطأ بحق الموتى.»
«يبدو لي تصرُّفك بلا عذر يا سير روبرت.»
هزَّ البارونيت رأسه بنفادِ صبر، وقال: «من السهل أن تعِظ. ربما لو كنتَ في موقفي، لكان شعورُك مختلفًا. لا يمكن أن يرى المرء منَّا كلَّ آماله وكلَّ خططه تتحطَّم في اللحظة الأخيرة ولا يبذل أيَّ جهد لإنقاذها. لقد بدا لي أننا إن وضَعْناها في الوقت الراهن في واحد من توابيت أسلاف زوجها، الراقدة فيما لا يزال أرضًا مقدسةً للموتى، فإن ذلك سيكون مستقرًّا لائقًا بها. ففتَحْنا أحدَ تلك التوابيت، وأخرَجْنا محتوياته ووضعناها كما رأيتَها. أما بشأن البقايا القديمة التي أخرجناها، فلم نستطِع أن نتركها على أرض السرداب؛ لذا قمتُ أنا ونورليت بإزالتها، ونزل هو ليلًا وأحرقها في الفرن المركزي. تلك هي قصتي يا سيد هولمز، ومع ذلك فإنني لا أملك من الكلمات ما أصف به الطريقةَ التي أجبَرْتَني بها على سردها.»
جلس هولمز لبعض الوقت مستغرقًا في التفكير.
وأخيرًا قال: «يوجد عَوارٌ واحد في سَرْدك يا سير روبرت. فمُراهناتك على السباق، ومِن ثَمَّ آمالك المستقبلية، ستظل قائمة حتى وإن استولى دائنوك على ضيعتك.»
«إن الحصان سيكون جزءًا من الضيعة، فلماذا سيَكترثون بمراهناتي؟! مِن المحتمل أنهم لن يَجعلوه يشارك في السباق على الإطلاق. دائني الرئيسي هو، مع الأسف، ألدُّ أعدائي، وهو شخص لئيم يُدعَى سام بروير، والذي اضطُرِرتُ في إحدى المرات إلى جَلْده بسوط الحصان في مرج نيوماركت هيث. أتظن أنه سيُحاول إنقاذي؟»
قال هولمز، وهو يقوم من مجلسه: «في الواقع يا سير روبرت، هذه المسألة يجب بالتأكيد أن تُحال إلى الشرطة. كان مِن واجبي أن أُظهِر الحقائق للنور، ويجب عليَّ أن أتركها على هذا النحو. أما فيما يتعلق بالأخلاق أو التهذيب في مَسلكك، فليس مِن شأني أن أُبديَ رأيًا فيه. لقد قارب الوقت على منتصف الليل يا واطسون، وأعتقد أنه يمكننا أن نعود أدراجنا إلى مسكننا المتواضع.»
من المعروف للجميع الآن أن هذه الواقعةَ الفريدة انتهت على نحوٍ أسعدَ مما استحقَّتْه أفعال السير روبرت؛ فقد فاز المُهر شوسكوم برنس بالفعل بسباق الديربي، وحصل مالكُه المقامر على مبلغٍ صافٍ من المراهنات يُقدَّر بثمانين ألف جنيه، وكفَّ الدائنون أيديَهم عنه حتى انتهى السباق، وعندئذٍ دُفِعَت لهم أموالهم بالكامل، وما بقي كان كافيًا ليُعيد السير روبرت إلى مكانةٍ مُرْضية في الحياة. كان لكلٍّ من الشرطة والطبيب الشرعي نظرةٌ متساهلة بشأن إجراء نقل الجثة، وباستثناء تأنيبٍ خفيفِ اللهجة على تأخُّره في تسجيل وفاة السيدة؛ أفلتَ المالكُ المحظوظ دون أن يناله أذًى من هذه الواقعة الغريبة ضمن مسيرةِ حياةٍ تجاوزَت ظلال الماضي، وتُبشِّر بخاتمة كريمة في سنِّ الشيخوخة.