أصل الأقباط وسبب تسميتهم
إنَّه لما كان الغرض من وضع هذا الكتاب الإتيان على ذكر تاريخ الأقباط من ابتداء نشأتهم الأولى إلى انتهاء حالتهم الأخيرة، وَجَبَ علينا — والحالة هذه — أن نتكلم أولًا عن أصل نشأتهم وسبب تسميتهم، ونسبتهم فنقول: الأقباط هم من ذرية قفطايم بن مصرايم بن نوح عليه السلام، ويُسَمَّونَ أقباطًا بالنسبة إلى قِفط وهي اسم لبلدة في الصعيد، قيل إنها أول مدينة تأسست في وادي النيل لما أتى مصرايم بن نوح وتوطن في مصر مع أولاده وأولاد أولاده الذين منهم قفطايم هذا، وهو الذي سميت هذا البلد باسمه.
فقفط إذن هي أوَّل بلدة وطأَتها أقدام أجدادنا الأقباط؛ فكانت منبت شعبتهم، ومسقط رأسهم، ومحط رحال مجدهم.
وقد اشتهرت قفط في أيام ملوك مصر الوطنيين بالقوة والمجد، وازدادت ثروتها خصوصًا في أيام البطالسة؛ إذ امتدت مواصلتها واتسعت تجارتها مع بلاد العرب.
ولما تغلب الروم على مصر ورأوا ما كانت عليه مدينة قفط من الأهمية، وأنها من أعظم أمهات مدن الديار المصرية سموا مصر بأسرها «إيجيبت».
هذا ولقد عُلِمَ بعد طول التنقيب والتنقير، وزيادة الاستقراء والاستقصاء، أنَّ لفظة «إيجيبت» هذه مركبة من كلمتين يونانيتي الأصل؛ إحداهما: «آي» بمعنى أرض أو بلاد، والثانية: «جبت» بمعنى القبط؛ فيكون مجموع معنى الكلمتين «أرض القبط أو بلاد القبط» وهو الاسم الذي تناقل وتداول بين الأجانب عن هذه البلاد إلى الآن.
فالأقباط إذن هم سلالة المصريين القدماء الذين بلغوا الدرجة القصوى والشأو العظيم في العلوم والمعارف، وأحرزوا قَصَبَ السَّبق في مضمار التالد منها والطارف، وارتضعوا أفاويق الحكم واللطائف، وتفيئوا تحت ظلها الظليل الوارف. كيف لا وهم أول من فتحوا البلاد ودوخوا العباد، وشيدوا المدارس وأنشَئُوا المجالس، ووضعوا الشرائع ونبغوا في سائر الفنون والصنائع.
وها هي آثارهم الباهرة ومآثرهم الفاخرة لم تزل ولا تزال بين ظهرانينا تعرب عن فضلهم ونبلهم، وتُترجم عن سمو مداركهم وكمال تقدُّمهم، فسل الأهرامات الباذخة، والمسلات الرفيعة والهياكل الشامخة، والأبنية الشائقة الشاهقة تجدها كلها ألسنة ناطقة وأفواهًا لافظة، تفصح عن براعة أولئك القوم الأولين والأسلاف السالفين.
ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى بيان أو إقامة دليل وبرهان أنَّه لا يتسنى لمن لم يكن متضلعًا من العلوم والمعارف وواقفًا على كُنْهِ أسرارها، أن يأتي بمثل هذه الآثار والمآثر الخطيرة الباهرة، التي تبهر البصر وتخلب اللب وتأخذ بمجامع القلب.