حكم الرومان على بلاد القبط
وفي سنة ٣٠ قبل الميلاد استولى قيصر الرومان على بلاد القبط وصيَّرها إيالة رومانية؛ ومن ثَمَّ صارت مملكة الرومان تُرسل إلى مصر حُكَّامًا يحكمون على القبط بمثابة نواب عنها.
وفي عهد هذه الدولة أتى إلى بلاد القبط الرسول المغبوط مار مرقس البشير، متأدبًا بكلمة الله ومبشرًا بإنجيله الشريف وكتابه المُنِيف، فلم يسمع لقوله بادئ بدءٍ إلا النذر اليسير، ولكن بعد ذلك تقوَّى الدين المسيحي، وانتشر بين الأقباط انتشارًا كليًّا حتى عم القُطر بأسره وملحقاته، ولا سيما في القرنين الثاني والثالث من التاريخ المسيحي.
وأول نائبٍ رومانيٍّ انتدب من دولة الرومان للحكم على بلاد القبط هو الملك قودريليوس غالوس، الذي أصلح حالة مصر الزراعية؛ لعلمه أنها مصدر ثروة هذه البلاد.
ومن أشهر ملوك هذه الدولة أيضًا الملك أدريان الذي شُهد له بحسن السياسة والحكمة، وهو الذي حسم الشقاق وأوجد الوفاق بين الذين اختلفوا في مسألة العجل من حيثية محل رضاعته الأصلي، وكانت مدة حكم هذا الملك كلها درر وغرر؛ إذ كانت البلاد راتعة في رياض الهناء والرَّخاء، ومتمرغة على بساط الراحة والرفاهية والأبهة. ومنهم الملك دقليديانوس الذي كان رجلًا جهولًا إذ لم يحسن التدبير، بل قضى مُدَّة حُكمه في التخريب والتدمير، وقد تجشم في عهد حكمه الأقباط من الأهوال ما تشيب من هوله الأطفال.
اضطهاد الأقباط
وبيان ذلك أنَّه ظهر جنديٌّ يُسمى أخبلاوس، أغرى سكان البلاد على مجاهرة الإمبراطور الروماني بالعصيان، فانقادوا لرأيه السخيف انقياد العميان، غير عالمين ما وراء ذلك من الوبال والنكال؛ فكانوا الباحثين عن حتفهم بظلفهم.
لأن الإمبراطور ريثما بلغهُ ذلك حشَد جيشًا جرارًا، وأتى مدينة الإسكندرية حتى فتحها عنوة، وقبض على أخبلاوس العاصي؛ وسَلَّمَهُ للوحوش الضارية فمزقته وافترسته، ثم أحرق المدينة وسبى النساء والرجال والأطفال، فانتهز حينذاك أعداء الديانة المسيحية أو بالحري الأمة القبطية هذه الفرصة المناسبة للإيقاع بهم والسعي في نكايتهم وإهلاكهم، وكان أشدهم عداوة لهم الملك مكسيمان شريك الإمبراطور دقيليديانوس، فطفق يوسوس له أنَّ هذه الفتن والثورات إن هي إلا نتيجة تمسك الأقباط بالديانة المسيحية، واعتصامهم بعروتها الوثقى، وتركهم لديانة أجدادهم وأسلافهم؛ حتى لقد جعل الإمبراطور المذكور يعتقد أنَّ راحة المملكة متوقفة على محو آثار هذه الديانة المسيحية، وقطع دابرها من على وجه البسيطة، أو على الأقل من البلاد المنتمية للمملكة الرومانية.
ولما كان الإمبراطور المنوَّه عنه ممَّن أصروا على رفض الإيمان المسيحي وآثروا البقاء على دين آبائهم وأجدادهم، استصوب هذا الرأي الذميم الوخيم، ثم أصدر الأوامر الصارمة للولاة والحكام؛ يحضهم فيها على طلب المؤمنين وإلزامهم بترك الديانة المسيحية، والعود إلى العبادة الوثنية الأصنامية، ومن يخالف يُجازى بالقتل بلا شفقة، وأمر بهدم الكنائس فهدمت، وغصَّت السجون بالمسجونين وقُتل من جراء ذلك خلقٌ كثير لا يُحصى ولا يُستقصى، ودام هذا الاضطهاد مُسْتَمرًّا مُدَّة من الزمن كادت فيها أرواح الأقباط جميعًا أن تُزهق، ووصل الفتك الذريع والجور الفظيع الشنيع إلى مدينة قفط التي كانت غاصَّةً وقتئذٍ بالمهاجرين الذين هربوا إليها، والْتَجَئُوا بها تخلُّصًا من هذا الاضطهاد المريع، فأمر الإمبراطور بقتل من فيها وأحرقها وأحرق مدينة ليست بأقلَّ شهرة منها تُدعى بوزيريس، وقصارى القول أن عدد من قُتِلُوا من الأقباط في هذا الاضطهاد لا يدخل تحت عدٍّ أو حصر؛ ولذا ترى الأقباط يؤرخون له إلى يومنا هذا فيقولون سنة كذا للشهداء؛ أي المؤمنين الذين قُتِلُوا شهادةً للمسيح في عهد الإمبراطور دقليديانوس هذا الظلوم الغشوم.
ولكن لم يَدُمِ الحال على هذا المنوال، بل أبى الله إلا أن يفتقد هذه الأمة المنكودة الحظ وينقذها من غوائل وأهوال هذا الاضطهاد، فقيض لها ملوكًا رومانيين عادلين رَثَوْا لحالتها وأنقذوها من بلوتها؛ إذ كان هؤلاء الملوك مسيحيين مؤمنين فعمَّت في أيامهم الديانة المسيحية وامتدت امتدادًا تامًّا.
ولكن لم يمضِ على ذلك طويل زمن حَتَّى حاقت ببلاد القبط مصائب أخرى أشد وطأة من الأولى، وكان السبب في ذلك انقسام المسيحيين إلى جملة أقسام وأحزاب، فنجم عن ذلك شِقَاق عظيم أدى إلى تداخل الحكام وولاة الأمور، وكثُر الفتك والبطش والقتل ونفي رؤساء الأديان.
وكان القبط ممن قاسَوْا شدائدَ كثيرة في هذه الظروف المدلهمة؛ لأنهم أَبَوْا أن يوافقوا الحزب الذي كانت الملوك تنتصر له، فقتل منهم عدد عديد، وهاجر أكثرهم إلى بلاد النوبة والسودان، واستوطنوا فيها وعلموا سكانها الديانة المسيحية فقبلوها وتديَّنُوا بها.
وما زالت نيران هذه الاضطهادات متأجِّجَة مستَعِرَة مدة مديدة، إلى أن أتى العرب واستولوا على بلاد القبط وأخذوها من الروم على يد عمرو بن العاص قائد جيوش عمر بن الخطاب الثاني من الخلفاء الراشدين، فارتفعت حينئذٍ هذه الاضطهادات عن الأقباط قاطبة.