النهضة القبطية الحديثة
لقد صدق من قال إن الفرع لا بد وأن يرجع إلى أصله مهما تقلَّبت الأحوال، وكيفما اختلفت وانعكست الشئون، وجرت صروف الظروف؛ فهذه هي الأمة القبطية التي ذاقت من أنواع الاضطهادات والاضطرابات صنوفًا وألوانًا حتى أفضى بها الأمر إلى الانحطاط والسقوط، لم تلبث أن شعرت بدائها الدفين، وتنبهت لمصابها الجلل، فنهضت تبحث عن الدواء الناجع النافع الذي يُمَكِّنُهَا من معالجته ومُداواته لتنتشل من ورطة السقوط ووهدة الهبوط. وبهذه المثابة تكون قد تلافت الخطر وتداركت الضرر، ومحت عنها آثار العار والشنار الذي لَحِقَهَا من جَرَّاءِ هذا التأخير. وحتى لا يُقال إنَّ الدم الفرعوني القديم قد «برد وخمد» أو إن هؤلاء الأقباط المتأخرين ليسوا من سلالة أولئك الفراعنة المتقدمين.
هذا ولكي يكون القارئ اللبيب على بصيرة من حقيقة هذه النهضة وكيفية نشأتها وزمن وجودها، يجمل أن نستطرد البحث في هذا الموضوع مَلِيًّا فنقول: إنه لدى أول وهلة من سماع لفظة «نهضة» يتبادر إلى الأذهان أنَّ هذه النهضة إنما قامت لها قائمة بهمة قوم مخصوصين وأفراد معدودين، كانوا هم السبب في إضرام نارها وإبرازها من حَيِّزِ التصور والتفكُّر إلى عالم العمل والفعل؛ فيُقال لهم حينئذٍ منهضون أو بمعنى أوضح وأصح: مصلحون.
والنهضة القبطية التي نحن بصددها لم تتجاوز هذه القاعدة المُطَّردة ولا هي شذت عنها، بل قد قامت أيضًا بهِمَّة رجال غيورين مخلصين جُبِلُوا على محبة الإصلاح، ومالوا بكليتهم إلى نفع أبناء جَلدتهم، ورفع شأن أمتهم، ولم يبغوا تلقاء ذلك أدنى مكافأة أو جزاء عالميًّا، بل ابتغاءً لمرضاة الله تعالى وحبًّا في الخير العام، وحَسْبُهم مكافأةً إقبال أبناء الأمة عليهم لا إدبارهم عنهم، والأخذ بناصرهم وشد أزرهم، عالمين أنَّ هؤلاء المُصلِحين إنما هم شركاؤهم في نعمة الإيمان الأرثوذكسي القويم، وأنَّ ما ينفعهم ينفعهم وما يضرهم يضرهم، وما يغمهم يغمهم وما يسرهم يسرهم، هذا إذا كان المشرب معتدلًا والغاية شريفة؛ وإلا فالعكس بالعكس، ولكن لسوء الطالع لم تكن الأفكار كلها متجهة نحو هذه الوجهة، ولا كانت أميال أفراد الأمة جميعهم تصبو إلى هذا الإصلاح الخطير لغاية في النفس إن لم نصرح بها عاجلًا فسنذكرها آجلًا وكل آتٍ قريب.
ولعل في مقالنا هذا نوع من الإدغام والإبهام فيجبُ علينا أن نميط عنه اللثام حتى يعلم الكل حقيقة الحال، ويقف على كُنْهِ هذه المسألة الخاص والعام.
نقول إنه في سنة ١٥٩٠ قبطية — أي في عهد تولية الخديوي الأسبق إسماعيل باشا — ابتداء تاريخ هذه النهضة الإصلاحية، التي طالما تشوقت إليها الخواطر، وتشوَّفَت إلى رؤياها النواظر. وبيان ذلك أنَّ الجم الغفير والسواد الأعظم من أبناء هذه الأُمَّة لما رَأَوْا ما كانت عليه طائفتهم من التقدُّم والارتقاء، وما آلت إليه حالتها من الهبوط والسقوط؛ شَقَّ عليهم هذا الأمر، فدفعتهم عوامل النخوة المِلِّيَّة، واستفزتهم أريحية المحبة الجنسية للقيام بإصلاح طائفتهم، ولو كلفهم ذلك فوق ما لا يطيقون ولا يستطيعون. سِيَّمَا وأنه قبل هذا العهد بزمن ليس ببعيد كان قد تولى رئاسة هذه الطائفة غبطة الأب الموقَّر الحميد الأثر والخالد الذكر «أنبا كيرلس الأكبر» العاشر بعد المائة، الذي لمَّ شعث هذه الطائفة وأنشأ مدارسها وأصلح كنائسها، وحَسَّن حالتها كما هو مبين ومُدَوَّن بتاريخ حياته الشريف، ولكن أبى الله إلا أن يحرم الطائفة منه ويضن عليها به، فقبضه في شرخ شبابه وعنفوان صباه قبل أن يتمكن من إتمام إصلاحاته وتنظيماته التي آلى على نفسه وأخذ على عهدته إنجازها واحدة فواحدة، طبقًا لظروف الأحوال ودواعي الاحتياج؛ شأن من كان حكيمًا غيورًا على مصلحة طائفته وخير أبناء أمته، فبعد انتقاله من دار العناء والشقاء إلى ديار البقاء والهناء، لم تلبث الطائفة أن عادت إلى حالتها الأصلية حالة التأخر والتقهقر؛ إذ ارتبكت أعمالها وتوقفت حركة أشغالها، وتبددت أوقافها، وخربت مدارسها، وزال بهاء كنائسها، وعادت تندب سوء حظها، وتبكي فَقْدَ راعيها الصالح ورئيسها الغيور، فما طرقت عبارات رثائها وبكائها آذان سَاداتنا المصلحين حتى شمَّروا عن ساعد الجِدِّ، وقالوا بقلب مفعم من الغيرة الجنسية وموعب من الشهامة المِلِّيَّة: «هنا هنا ميدان الجهاد والطِّرَاد، وهنا هنا تظهر همم الرجال وشتان بين قوال وفِعَال.»
هذه كانت حالة طائفتنا القبطية حينئذٍ، وتلك كانت حاسيات ساداتنا المصلحين التي كانت تتوقد بين ضلوعهم، وتُخامِر قلوبهم الطاهرة، وتخالج أفئدتهم السليمة، ولا غرو في ذلك ولا عجب؛ فإنَّ الرَّعية لا بد وأن تكون على دين راعيها، وقد علمت وقتئذٍ ما جبل عليه البطريرك المحكي عنه رحمه الله من كمالات الصفات وصفات الكمالات التي أخذوها عنه، واقتبسوها منه منذ نعومة أظفارهم ونضارة شبابهم.
هذا، ولما كان تاريخ هذه النهضة المتعلق بتاريخ هؤلاء المصلحين الكرام متقطعًا بالنسبة لمَجريات مدته، ونظرًا لوقوعه في أوقات متفاوتة وأزمنة متباينة، تختلف باختلاف وجود هؤلاء المصلحين في مُدَدٍ متقطعة، فقد استصوبنا أنْ نُقَسِّمه إلى ثلاث أقسام سميناها لزيادة الإيضاح: الثلاث نهضات.
النهضة الأولى
حيث إن الغرض من وجود أوقاف للطائفة باسم الفقراء أنه يصرف منها عليهم كما يستدل على ذلك من تسمية اسم كل وقف على حدته، وحيث إن الفقراء المومأ إليهم مُهْمَلِينَ ومطروحين في زوايا النسيان ليس لهم من يعولهم أو يفتقدهم، فضلًا عن تصرُّف متولي تلك الأوقاف فيها تصرفًا مطلقًا، فالجمعية تُعلِن حضرة المطران الموقَّر ومتولي الأوقاف وعمد الطائفة أجمع أنها ستجمع أجر بيوت الأوقاف، التي هي تحت يد مشتركيها، وما يتحصل منها في آخر كل شهر يُصرف على الفقراء بمعرفتها.
وكانت هذه الرسالة شديدة اللهجة قوية الحُجة، تشف من الجهة الواحدة عن خلوص نية أولئك الأعضاء الأفاضل، وتُشعِر من الجهة الأخرى بالتهديد والترهيب والإنذار والتحذير، فوجفت منها القلوب وارتجفت الفرائص، واتَّجَهَت إلى هذه الجمعية أفكار الأمة بأسرها وشخصت إليها أنظارها، وتوسَّم منها الكل للطائفة نجاحًا تامًّا وإصلاحًا عامًّا.
معلوم لدى محبتكم أنه معتاد من قديم، اجتماع من يتوفق اجتماعهم أحيانًا من أبناء الطائفة بدار البطريكخانة للنظر في خصوصيات الملة، والفصل فيها بالاتحاد مع الرئيس الحاضر — أعني البطرك — أو من ينوب عنه، غير أنه لمناسبة مشغولية غالب أشخاص الطائفة في شئون أنفسهم، وعدم انتظام جمعية رسمية مؤلفة من أشخاص معينين بأوقات معلومة، كان سبق إعلان بُنُوَّتِكُمْ من طرفنا منذ سنة تقريبًا بطلب تعيين جمعية رسمية مركَّبَة من اثني عشر شخصًا تنظر في أهميات الطائفة، وخصوصيات الأيتام والفقراء وغير ذلك، ولما أنه لحَدِّ الآن لم تُبدوا لنا ما استقرت عليه أفكاركم، دعا الحال لاجتماعكم بهذا اليوم المبارك؛ لتفيدونا بما ترونه موافقًا إجراؤه. والله تعالى يوفق لكم بالخير.
فريثما تُلي هذا الخطاب على مسامع الحضور، لهجت ألسن الجميع بالدعاء له، والثناء عليه؛ نظرًا لحسن رعايته، وكمال عنايته التي شملت جميع أبناء طائفته، ثم طفقوا يتداولون مليًّا في هذا الصدد. وأخيرًا قرَّ رأيُهم على انتخاب جمعية رسمية مركَّبَة من اثني عشر شخصًا للنظر في خصوصيات الأيتام، وإدارة الأوقاف، ونظر وفصل قضايا الطائفة المختَص نظرُها بالبطريكخانة، وأنْ يتعين من قبل هذه الجمعية ثلاث قومسيونات، كل قومسيون منها يكون من أربعة أعضاء: أحدها للأوقاف والثاني للمدارس والمطبعة والكنائس، والثالث للإخوة الفقراء. فوافقهم غبطة المطران على ذلك، ثم شرعوا في انتخاب هؤلاء الأعضاء والنواب، فانتخبوا اثني عشر عضوًا ومثلهم نوابًا، وعرضوا صورة نتيجة الانتخاب على غبطته فذيلها بالشرح المحرر بخط سيادته، والمختوم بختم نيافته تصديقًا لها واعتمادًا عليها.
وكيل بطريكخانة الأقباط قدم لدينا إنهاء رقيم ١٥ الحجة سنة ١٢٩٠، وعلمنا منه أنه لمناسبة أنَّ مصالح الطائفة القبطية المختصة بمدارسها وأوقافها ومطبعتها وكنائسها آخذة في التقدم والعمارية، قد تراءى له أنه إذا تشكل مجلس من أبناء الطائفة للاتحاد معه في نظر وإدارة خصوصياتها المعتاد نظرها في البطريكخانة؛ يكون ذلك داعيًا لزيادة ترقية تلك الأمور ونجاحها، فلهذا صار انتخاب اثني عشر عضوًا لذلك المجلس واثني عشر نائبًا لهم بمعرفة من لزم من الطائفة، وتم الانتخاب بمحضر عمل بالبطريكخانة، ويلتمس صدور أمرنا للمحافظة بمعرفة المجلس المحكي عنه واختصاصه بروية الأمور المثني عنها، وحيث إن ما حصل من انتخاب أولئك الأعضاء والنواب لتشكيل ذلك المجلس بالكيفية التي توضحت، قد استحسن لدينا وفورنا بمساعدتنا إجابة التماس وكيل البطريكخانة — مقدم الطلب — المومأ إليه، فبذلك لزم إصدار أمرنا هذا إليكم للمعلومية بما ذكر، وهذا كما اقتضت إرادتنا.
فلما صدر هذا الأمر السامي الكريم تلقَّاه حضرات أعضاء المجلس بما يليق بمقامه الخطير من الاعتبار والوقار، وأحلُّوه من قلوبهم محلًّا رفيعًا، ثم طفقوا يزاولون أشغالهم ويُباشرون أعمالهم بما عهد فيهم من الغَيْرة والنشاط، ولا سيما لعلمهم بأنَّ هذا المجلس قد صار وقتئذٍ معتبرًا لدى الحكومة السنية الخديوية، ومُطابقًا لمشرب عموم الطائفة القبطية، وأنهم أصبحوا الآن مسئولين عن أداء هذه الخدمة الشريفة المُنِيفة أَمَام الله ومُطالَبِين بها لدى أبناء الأمة التي انتخبتهم؛ ليكونوا نُوَّابًا عنها يذبُّون عن حقوقها ومصالحها؛ وبهذه المثابة كان هذا أول مجلس تَشَكَّلَ بطريقة منتظمة وكيفية محكمة للأمة القبطية.
وما زالت قرارات هذا المجلس مرعيَّة الجانب، وإجراءاته الإصلاحية نافذة المفعول تحت رئاسة حضرة المطران الموقَّر، إلى أن انتخب سيدنا الحالي للبطريركية بناء على طلب حضرات أعضاء المجلس المومأ إليه بالاتحاد مع حضرات الآباء الرؤساء، الذين كانوا موجودين وقتئذٍ بالبطريكخانة بصفتهم نوابًا عن عموم أفراد الأمة القبطية.
وعندما قدمت عريضتهم هذه إلى جانب المعية السنية؛ طُلِبُوا — أعني أعضاء المجلس — «للمثول بين يدي الخديوي الأعظم إسماعيل باشا» بسراي عابدين العامرة، وبعد الاستفهامات اللازمة والاستعلامات الضرورية، صدر الأمر السامي والنُّطق الكريم بالتأمين على رسم غبطته بصفة بطريرك للشعب القبطي، ورئيسًا للمجلس الملي.
ولما تولى غبطته تخلَّى المطران أنبا مرقص من مسند وكالة البطريكخانة، وأصبحت اختصاصاته قاصرة على مباشرة شئون وظيفته بالبحيرة والإسكندرية. فانتدب جنابه للترؤُّس على المجلس بدلًا عنه؛ فقبل ذلك بملء الانشراح والارتياح، ومن ثَمَّ صار يحضر جلساته بذاته ويترأَّس عليها، ومن ضمن الأعمال الخليقة بالذكر الحقيقة بالشكر التي قام بها المجلس الموقَّر حينئذٍ: إنشاء المدرسة الإكليريكية الشهيرة في شهر يناير سنة ١٨٧٥ مسيحية، الموافقة سنة ١٥٩١ قبطية، ولكنها — لسوء الحظ — لم تدُم لأسباب سنوردها في حينها.
هذا، ولقد رأى رجال المجلس حفظهم الله أنَّ الوظيفة الرُّوحية الشريفة المنيفة أرفع شأنًا وأسمى مقامًا من أن يتفرغ صاحبها للنظر في الشئون العالمية والمصالح الدنيوية؛ بناءً على أنَّ الدين والعقل والنقل والاختبار يقضي بذلك، فقرروا في إحدى جلساتهم أن يُنَاطَ بتلك الأعمال وهاتيك الأشغال بعض أفراد الطائفة القبطية، الذين يجري انتدابُهم للنظر في أمر الأموال والأوقاف، وخلافها من الأمور التي هي من هذا القبيل، ورفعوا صورة هذا الاقتراح إلى غبطة البطريرك لأخذ رأيه، فصدق عليها بخطه وختمه، ووافقهم على تنفيذها وأجراها، وهكذا ما زال المجلس المذكور ناهجًا منهج الاعتدال وسائرًا على محور السداد والكمال، ينشر القرارات ويباشر الإصلاحات وينظم المدارس ويصلح الكنائس ويفتقد الفقراء، إلى غير ما ذكر من المآثر الحسناء والمناقب الغراء، وهو مع ذلك يوالي اجتماعاته، ويعقد جلساته بدون توانٍ ولا انقطاع، ولم يكُن هناك اختلاف ولا نزاع؛ إذ كانت الآراء تُقَدَّمُ والملحوظات تُبدَى، والحكم فيها يكون طبقًا لسُنَّةِ الأغلبية والإجماع.
ولكن لما كان شأن القلوب التقلُّب، وعادة الأفكار التغيُّر والتضارب، طرأت بعض اختلافات جزئية بين غبطة البطريرك، وبعض حضرات أرباب المجلس، وذلك بعد تولي غبطته مسند الرئاسة ببضعة أشهر؛ يعني في أواخر سنة ١٥٩١. أمَّا هذه الاختلافات فكانت دائرة وقاصرة على بعض مناقشاتٍ شخصيةٍ محضة ليس إلا، لا دخل لها في أشغال المجلس، وتلك أمور لا يخلو الحال من وجودها، ولا يبعد على الظروف أن تأتي بمثلها، فنشأ عن ذلك عدمُ انعقاد جلسات المجلس، وانحلال المدرسة الإكليريكية التي ألمعنا عنها.
أمَّا أَرْبَاب المجلس فاقتضت حكمتهم وأبت شهامتهم ونخوتهم إلا أن ينحسم هذا الخلاف وتعود المياه إلى مجاريها، فبعدما تداولوا مليًّا في الطرق الموصلة إلى ذلك، عقدوا أخيرًا المجلس في يوم ١٠ أبيب سنة ١٥٩١، وباتحاد آراء الجميع وإجماعهم أصدروا قرارًا مؤداه عدم التصريح لأحد من أعضاء المجلس أو رئيسه «البطريرك» أن يجري بانفراده عملًا مُتعلِّقًا بالمجلس، ووجوب إعادة المدرسة الإكليريكية، وتسليم النقدية للخواجا عوض سعد الله. وقد صادق على ذلك غبطته بخطه، وبهذه المثابة تمكَّنوا من نزع أسباب النزاع، وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه، فعمَّ العموم حينئذٍ الفرح والمرح، وانقشعت غياهب الكدر والترح؛ إذ أُعطي القوس باريها، وأُسكن الدار بانيها، ولما صَفَتْ سماء القلوب من سحائب الهموم، وتنقت من شوائب النفور وغيوم الغموم، وضربت الطمأنينة والسكينة أطنابها في جميع الأفئدة المتباعدة المتنافرة؛ فصيرتها مُتقاربة ومُتَحَابَّة متضافرة، عاد حينئذٍ الإصلاح يوالي السير الهوينى، وأَمَّل الكل تمام الخير والنجاح ودوام الصلح والفلاح، ثم كتب غبطة البطريرك إلى جناب الأب الفاضل والأغومانوس الكامل فيلثاوس يستنهض هِمَّتَهُ، ويستفز غَيْرَته لإعادة المدرسة الإكليريكية وبث روح التعليم فيها كما كانت في المدة الماضية.
كل ذلك يجري والقوم وُقُوفٌ ينظرون إلى ذلك بعين الإعجاب والبِشْر؛ مبتهلين إلى الله جل جلاله أن يعيد الألفة والوفاق، ويمنع أسباب النفرة والشقاق، على أنَّه لم يكُن يخطر على بال أحد أن وراء السويداء شياطين وأفاعي يمقتون هذا الإصلاح الخيري — لغاية في النفس — ويبذلون قصارى جهدهم في تقويض أركانه وهدم بنيانه الوطيد، لا ذمة عندهم فتبكتهم، ولا ضمير لهم فيوبخهم، ولا هم من تلقاء أنفسهم يرعَوْن ويرتدعون، أولئك قوم طمس الله أبصارهم وأعمى بصائرهم، فأصبحوا ولا هَمَّ لهم إلا هدم ما بناه غيرهم، فلا هم ينفعون ولا هم يكفُّون، كأنهم المقصودون بالذات من قول الكتاب، لا يدخلون ولا يدعون الداخلين يدخلون، فهؤلاء القوم الأغبياء الذين دَبَّتْ فيهم رُوحُ البَغْضَاء والشحناء من جهة أرباب المجلس، طفقوا يحضون غبطة البطريرك ويحرضونه على عدم مُوالاة انعقاد المجلس، فرضخ لمشورتهم وأذعن لمقترحاتهم عن طِيب خاطر وبساطة ضمير، ولا تَعْجَبْ أيُّها الحبيب من فوز هؤلاء الأغبياء؛ فإنَّ لهم اليد الطُّولَى في التداهُن والدهاء، والتلوُّن الذي يفوق تلوُّن الحرباء، ومن كانت هذه صفاتهم وأوصافهم فليس ذلك الأمر ببعيد، بل هو أقرب إليهم من حبل الوريد؛ ومن ثَمَّ عاد الانقلاب السريع والتغير الحثيث؛ فوقفت حركة أعمال المجلس، وانحلَّت المدرسة الإكليريكية الكلية ثانيًا، وأمر البطريرك وجزم وصَمَّم على عدم وجود المجلس مُطلقًا، وذلك كله إنما نشأ من تأثير آراء مُشيريه المتلوِّنة، واقتراحات مدبِّرِيه الخبيثة التي أخذت من قلبه كل مأخذ، وقانا الله من نفاق المنافقين ومكر الماكرين.
أمَّا جمعية الإصلاح التي نوَّهْنا عنها آنفًا فانتهزت هذه الفرصة وطفقت تحرر النشرات وترسل الخطابات إلى الفريقين تارة سرًّا وطورًا جهرًا، تحثهم فيها على نزع أسباب الخصومات، ورفع دواعي المشاحنات والعداوات، والعود إلى الوفاق والاتِّفَاق، وكذا بعث أيضًا المرحوم إسماعيل باشا المفتش تذكرةً غير رسمية يحض فيها غبطة البطريرك على الالتئام والوئام مع المجلس، فأذعن غبطته أخيرًا مرضاة لخاطر سعادته، ولكن كان هذا الإذعان وقتيًّا ثم عاد إلى ما كان عليه؛ فذهبت جميع هذه المساعي أدراج الرِّياح، وهكذا أخذ الخطب يتفاقم والخصام يتزايد ويتعاظم، فأُهمِلَت الشئون وتوقفت حركة الإصلاحات الطائفية وانحل المجلس انحلالًا كاملًا.
النهضة الثانية
من يرضى بالذل والخذلان أو من يتحمل الهوان والامتهان إلا الخسيس الجبان الذي منعت عنه قوة الإدراك والتمييز، ونزعت منه حاسة الشعور والإحساس؟! أو من العقلاء يرى أن غيره من الخلائق في صعود وسعود ويرضى لنفسه بالتأخُّر والتقهقر؟! لعمري إنَّ نفوس الأحرار الأبِيَّة تأبى ذلك كل الإباء، وتصبوا إلى مجاراة الفضلاء والنُّبلاء، ومباراة الرجال الكرام العظام، سُنَّة الشهامة من قديم الأزل، وهيهات أنْ تجد لسُنَّةِ الشهامة الغريزية تغييرًا أو تبديلًا. تلك كانت مبادئ بعض فضلاء الطائفة بعد انحلال المجلس المِلِّي وسقوطه في هذه الدفعة الثانية، تلك السقطة التي هلعت لها قلوب أَحِبَّاءِ الخير ونصراء الإصلاح، وجزعت من هولها أفئدة زعماء الحق ودعاة الصدق، الذين آلوا على أنفسهم وأخذوا على عهدتهم أن لا يألوا جهدًا ولا يعلوا مهدًا، ما لم يروا طائفتهم تُضارع غيرها من الطوائف المتمدنة المتقدمة شأن الغيورين الأحرار الذين يفضلون «النار على العار».
ففي سنة ١٨٨٣ — أي عقب إطفاء وانقضاء الثورة العُرابية الشهيرة — نهض هؤلاء الفضلاء نهضة ثانية يُطالبون بحقهم المسلوب منهم ظلمًا وعدوانًا.
فلما توقع منهم غبطة البطريرك ذلك، عقد العزيمة على عدم تلبية دعوتهم وإجابة طلبهم «مهما أفضى الحال» وكان ذلك بناءً على ما أشار به عليه مشيروه أرباب الخداع والدهاء، فلما علموا ما انطوى عليه ضمير غبطته، ومن كان على شاكلته وعلموا أنَّ مُطالبتهم هذه لا تجديهم نفعًا عمدوا إلى الاجتماعات والمداولات؛ عساهم يتمكنوا من تنفيذ مآربهم وتتميم رغائبهم، فاجتمعوا في غاية طوبة سنة ١٥٩٩ قبطية الموافق ٦ فبراير سنة ١٨٨٣ مسيحية، اجتماعًا عموميًّا حضره عدد يتجاوز المئة وعشرين شخصًا من وجهاء ونزهاء ونبهاء الطائفة، المهذَّبين العارفين طريق الإصلاح الحقيقي، وفي مقدمتهم سعادة بطرس باشا غالي، وحضرات البكاوات الموقَّرين، ولما استقرَّ بهم الجلوس خاطبهم سعادة الباشا بما مؤداه أنَّ الغرض من هذا الاجتماع هو المداولة والمفاوضة في طريقة ناجعة ووسيلة نافعة، تمكنهم من إعادة المجلس، فأجمع الجميع على وجوب المبادرة إلى ذلك، ثم اتفقوا على إحاطة غبطته بما ارْتَأَوْهُ من الآراء السديدة والاقتراحات المفيدة؛ فأبى كل الإباء، وأخيرًا اجتمع أكابر الشعب القبطي وعرضوا المسألة على دولة رئيس النُّظَّار المرحوم شريف باشا الذي عرضها على سمو الخديوي الأعظم المغفور له محمد توفيق باشا، فاقتضت إرادته الكريمة صدور أمره العالي للمرحوم الباشا رئيس النظار في ٤ جماد أول سنة ١٣٠٠ / ١٣ مارس سنة ١٨٨٣ نمرة ١ الناطق بوجوب تشكيل المجلس، ولما صار تبليغ هذا الأمر الكريم لغبطة البطريرك لم يسلم في مبدأ الأمر، فانتدب البعض من أبناء الطائفة لتفهيمه بما ينبغي عن لزوم الإذعان لأوامر الجناب العالي، فلم يُعِرْهُم إلا أذنًا صَمَّاء؛ فكانوا كمن يضرب في حديد بارد، ثم حرَّر خِطابًا لدولة الباشا رئيس النُّظَّار جوابًا على ما صدر منه، مؤدَّاه أنَّ العادة المعتادة منذ القدم بأن لا يكون لهذه الطائفة مجلس لأنه لا لزوم له، وأن ذلك يخالف القواعد الدينية والعقائد الكنائسية … إلخ.
ولكن فضلًا عن كل ذلك لم تُعِرِ الحكومة أقواله جانب الالتفات، بل صدر أمر آخر يقضي بتَكرار التنبيه عليه بإطاعة الأوامر العلية وتشكيل المجلس، فأذعن أخيرًا رغمًا عنه، ثم بعث برقاع الدعوة الرَّسمية لأبناء الطائفة للحضور بالدار البطريركية، وكان ذلك في أيام الصوم المقدس ١٤ برمهات سنة ١٥٩٩، وقد حضر هذه الحفلة غبطته بذاته مصحوبًا بأحد الأساقفة، وبعد تقديم الدعاء للعزة الإلهية، خاطب الجمهور بما مؤداه أنَّه من حيث إن أعيان الطائفة رغبوا تشكيل المجلس كالسابق، وطلبوا ذلك من الحكومة السَّنِيَّة كنا افتكرنا تأخير ذلك، حيث إننا الآن في أيام الصوم لكن اقتضى الحال لصدور أمر أفندينا؛ فطاعة للأمر — حيث كلٌّ منا يلزمه إطاعة الأوامر الخديوية — لزم اجتماعكم لانتخاب أعضاء ونواب المجلس. ثم نهض سعادة الباشا وأظهر للحضور الغرض الأصلي من هذا الاحتفال، وأردف كلامه بالدعاء لسمو الخديوي المعظم ووزرائه الفخام، وتلا خطاب دولة رئيس النظار السابق صدوره لتبليغ الأمر العالي؛ ومن ثَمَّ أخذ كلٌّ من الحاضرين ينتخب من يرى فيه الجدارة واللياقة، ثم عرضت صورة الانتخاب على الجناب العالي فصدق عليها.
وعلى هذا النَّسق وذاك النمط تم انتخاب المجلس في الدفعة الثانية بهِمَّة هؤلاء القوم الأفاضل المحترمين، وأولئك السادة المُصلِحين الموقَّرين، الذين لم يتمكنوا من نوال بغيتهم والحصول على أمنيتهم إلا بعد العناء الشديد والجهد الجهيد؛ ومن ثَمَّ سارت الأعمالُ ثانيًا على محور الاستقامة وكمال الاعتدال، ولكن أبى الدَّهرُ إلا أنَّه يُعاكس هذه الطَّائفة المنكودة الحظ فقيض لها شياطين آخرين لا ذمة عندهم ولا دين، طفقوا يوغرون صدر غبطة البطريرك ويثيرون خاطره ضد المجلس؛ حتى تمكنوا من نوال غرضهم الخبيث، فانقطع غبطته عن حضوره، ثم أخذ التواني والتراخي يَزدادُ رويدًا رويدًا حتى تأخرت الجلسات وتوقف سير القرارات، وبالإجمال عومل هذا المجلس اللاحق بما عومل به المجلس السابق؛ حتى كاد يبطل ويَنْحَلُّ رأسًا، فكانت العوامل المحرضة لغبطة البطريرك على مقته وإيقاف حركته هي نفس العوامل التي أدت إلى انحلال المجلس الأول — أي دسائس ذوي المآرب الشخصية والرَّغائب الذاتية — حمانا الله من خداع كل مكابر ومهاتر، ووقانا من شر الخادعين المنافقين الذين باعوا دينهم بدنياهم.
النهضة الثالثة
من تَعَوَّدْ على عادة خصوصية صارت ولا شك له عادة ثابتة، ومَلَكة راسخة لا تمنع عنه ولا تنزع منه، ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماءً، ومن تطبع على شيء وشب عليه صار هذا التطبُّع فيه طبعًا مُلازمًا له، ووضعًا خاصًّا به، فهكذا كان الحال مع نبلاء الطائفة القبطية وأغبياء الطغمة الإكليريكية؛ فإنَّ كلا الطرفين كانا مُصِرَّيْنِ على السير في خطتهما وعدم العدول عن منهجهما.
أمَّا الفريق أو إن شئت قل الحزب الأول يعني أحباء الإصلاح؛ فكانوا لا يرون بُدًّا من إعادة المجلس نظرًا لما ظهر لهم منه من النفحات الجلية المفيدة، والثمرات العديدة الحميدة. فبعد أن استمر تعطُّل المجلس الأول، وانْحَلَّ أو كاد ينحل، وأهملت الإصلاحات والتنظيمات، وألمَّ بالطائفة ما أَلَمَّ بها من الآفات، واعتراها عندئذٍ ما اعتراها من العاهات؛ شَقَّ هذا الأمر على سادتنا المصلحين، فلعبت بهم عوامل الغيرة، واستفزتهم بواعث النخوة، فعقدوا النية على انتشال أمتهم من هذه الوهدة العميقة، ولكنهم كانوا يُخفُون آراءهم ومبادئهم تحت طي الانتظار ظنًّا منهم بأنَّ الحالة ربما انصلحت من ذاتها، بدون تكبُّد تعب أو تجشُّم نَصَب، ولكن عِيلَ أخيرًا صبرُهم، ولم يجدوا للكظم والتجلُّد سبيلًا، فنهضوا نهضة ثالثة هي النهضة الأخيرة الشهيرة، التي كانت لها طنة ورنة دَوَّى صداها في الآذان، ولم يسمع بمثلها في كل زمان ومكان، وقد كثُر في شأنها القال والقيل، وكتبت بخصوصها المقالات الضافية، ونشرت النشرات المفحمة الشافية، ودونك أيها القارئ اللبيب تفصيل تلك النهضة الثالثة تفصيلًا كاملًا شاملًا.
إنه بعد مُضِيِّ ثماني سنوات على انتخاب المجلس في الدفعة الثانية كما مر، لم يأتِ بالنتيجة المقصودة بالذات من وجوده؛ نظرًا لعدم رضا غبطة البطريرك عنه، وسعيه في إبطاله وانحلاله، وناهيك أنَّ مُدَّة أربابه كانت قد انتهت وقتئذٍ قانونيًّا، فلم يَرُقْ هذا التواني الزائد والتراخي الذي تجاوز الحد في أعين الكثير من نبلاء الأمة ونبهائها الغيورين على مصلحتها وإصلاح شئونها، فنهضوا نهضة ثالثة يُطالبون بحقهم المقدس ويطلبون تجديد الانتخاب لما اتضح لهم، وظهر أمام أعينهم من الإصلاحات الخطيرة التي قام بها في الماضي خير قيام.
وفي يوم ٢٣ بئونة سنة ١٦٠٧ قبطية تجمهر منهم جمهور معتبر، مؤلف من نخبة أعيان ووجوه الملة ونبهائها، وحضروا إلى البطريكخانة لمخابرة غبطته بهذا الصدد، ولكن لما كان «سيدنا» قد أصبح يشمئز ويستنكف من اسم المجلس، دار الكلام بينهم وبين غبطته مدة من الزمن على غير جدوى.
ولم يكتفِ غبطته برفض طلبهم وعدم إجابة دعوتهم، بل حرر أيضًا للمعية السنية ولرئاسة مجلس النظار — بناءً على ما حسَّنه لديه الماقتون للمجلس الناقمون عليه — بما شاء من التنديد بالمجلس والطعن فيه وعدم لزومه بالأصالة. أمَّا حضرات أرباب المجلس — أو بالحري متطلبو المجلس — ومن وافقهم على ذلك من نوابغ الأمة ونخبتها، فبالنسبة لتغيُّب سعادة الباشا الوكيل في أوروبا وتأكدهم من حقد البطريرك على المجلس ولعلمهم بأنَّ البند «٣٢» من لائحة المجلس المشرفة بالأمر العالي مُصرح به «أنه عند غياب الرئيس أو وكيله في وقت لزوم الاجتماع يتولى رئاسة المجلس مؤقتًا من ينتخبه الأعضاء» فقد رأوا ضرورة الاجتماع طبقًا لهذه المادة وانتخاب من يلزم، وبعد أن أُجْرِيَ الانتخاب آلَ أمر الرئاسة المؤقتة إلى المرحوم الطيب الذكر سعد بك ميخائيل.
ولما أصبح المجلس في حالة منتظمة عقدوا النِّية على أن يجمعوا جمعية عمومية مؤلفة من نخبة الطائفة بالدار البطريركية، تكون بمثابة لجنة عمومية يرأسها غبطة البطريرك لتجديد الانتخاب بطريقة منتظمة مُحكَمَة لا تقبل نقضًا ولا إبرامًا، وكانوا يظنون أنَّ البطريرك يتعطف ويتنازل لإجابة دعوتهم في هذه الدفعة، ولكن خاب ظَنُّهُم وساء فَأْلُهُم؛ إذ إن غبطته حفظه الله ريثما عَلِمَ أنهم عزموا على ذلك وشرعوا في توزيع رِقَاع الدعوة، بادر بتحرير رسالة لسعادة محافظ مصر الأكرم، يقول له فيها بأنَّ هذا الاجتماع سيتأتى منه ما يُخِلُّ بالنظام العام، ويطلب من سعادته إرسال بعض أنفار البوليس حفظًا ووقاية له من غدر أبنائه «تأمل! تأمل!» وبما أن واجبات المحافظ تقضي عليه بإجابة مثل هذه الطلبات؛ فقد أرسل رأسًا إلى غبطته عددًا من أنفار البوليس. أما حضرات أرباب المجلس المحترمون الموقرون فحفظًا للكمال وحسمًا للقيل والقال، امتنعوا هم وإخوانهم المصلحون عن الاجتماع بالأصالة، فلم يقتنع غبطة الأب البطريرك الصالح والراعي الغيور بكل ذلك، بل زاد الطين بلة ووسع الخرق على الراتق؛ إذ لم يكتفِ برَفْضِ طلبهم وتوغير الصدور عليهم، والاستنجاد برجال البوليس على منعهم، بل حرر أيضًا إلى جميع المطارنة والأساقفة ورؤساء الأديرة يطلب إليهم الحضور إلى الدار البطريركية. ولم يكن جُلُّ قصده من هذا الاجتماع تعديل بعض موادِّ اللائحة — كما ادعى أولًا — بل لكي يستعين بهم على محو آثار المجلس وإطفاء أنواره، فلما اجتمع بهم جميعًا طلب إليهم أن يؤازروه ويشاطروه في تنفيذ أغراضه السيئة، فلم يسعهم إلا الرضوخ والإذعان، فحرروا القرار الحكمي المشهور ضد إيجاد المجلس، وسموه بالقرار الإكليريكي، وليس في هذا القرار ما يهم ذكره؛ إذ كله يفيد أنَّ العادة لم تكن جارية في انتخاب مجالس، وأنَّ المجلس مخالف للدين إلى غير ذلك من الخرافات والخزعبلات الصبيانية، ويسرنا هنا أن نقول بملء السرور والانشراح إنَّ البعض من المخلصين الصادقين الذين يقولون الحق وينادون بالصدق على رءوس الأشهاد، غير خاشين في تقرير الحقيقة على علاتها لومة لائم من نفس الإكليروس الذين استحضرهم جنابه، رفضوا موافقته على تحرير هذا القرار مثل جناب القمص الموقَّر الأغومانوس فيلثاوس وحضرة الفاضل القمص بطرس رئيس كنيسة الملاك بالدير البحري. أما الباقي فأمضوا على هذا القرار — وربما كان أغلبهم يجهل ما فيه — وذلك مرضاة لخاطر رئيسهم وأبيهم؛ مفضلين بيع الذمة والدين والشرف — إن كان عندهم دين أو شرف — على رفض طلبه، غير عالمين أنهم سيقفون يومًا ما أمام عرش الديان ويُسألون عمَّا جنت أيديهم يوم لا تنفعهم شفاعة غبطته ولا هم يعافون، ولسوف يعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون.
وفي اليوم التالي لإنهاء هذا القرار المُلفَّق توجه حضرة البطريرك يصحبه بعض الآباء الرؤساء إلى الإسكندرية؛ ليعرض على المسامع الكريمة والأعتاب الخديوية الفخيمة مرغوباته المعلومة «لأن الخديوي المرحوم توفيق باشا كان مشرقَ الثغر وقتئذ»، ولكن لما كان سمو الأمير رحمه الله أسمى معرفةً من أن يجهل كُنْهَ هذه المسألة التي صدرت عنها أوامر خديوية سابقة؛ لم يُعِرْ هذه الطلبات جانب الالتفات، ولم يكترث بتلك الترجيات العديمة الثمرة، بل كان مضمون نطقه الشريف وجوب العمل بمقتضى الأوامر الخديوية الماضية.
وفي هذه الأثناء تشرف جملة من أرباب المجلس بالمثول بين يدي سموه، وسمعوا بآذانهم النطق الكريم بما يُفيد تأييد استمرار المجلس؛ طبقًا للأوامر العلية واستحسان مصالحة جناب البطريرك على هذه الصفة، فقدموا جميعًا واجبات الشكر، وفرائض الإخلاص والعبودية للحضرة الفخيمة الخديوية، وانصرفوا وكلهم ألسنة تلهج بالثناء وتكرر عبارات المديح والدعاء.
ولما عاد سعادة الباشا من أوروبا ورأى ما رأى وعلم ما علم، اقتضت حكمتُه وسياسته أن يُوفق بين الطرفين المتنازعين؛ لعلمه بأنَّ هذه أنجع وسيلة وأنفع طريقة تؤدي إلى رفع شأن الملة، وإتمام الإصلاح المقصود بالذات، فتمكن بما جُبِلَ عليه من الحزم والعزم والهمة والحكمة إلى إزالة الخلاف والشقاق، وإعادة الائتلاف والوفاق. وفي يوم ٢٢ بابة سنة ١٦٠٨ اجتمع أرباب المجلس يتقدمهم سعادة الباشا المومأ إليه بالدار البطريركية، وعقدوا جلسة حضرها غبطة البطريرك وترأس عليها، وبهذه الجلسة نفسها أعلن الصلح والصفاء بين غبطته وأبناء أمته، ولكن لما كان هذا الإخماد وقتيًّا ظاهريًّا فقط، لم يلبث أن تبدَّل ثانيًا؛ إذ عاد جناب البطريرك إلى نفرته وبغضته للمجلس وعدم ميله إليه بالمرة، وقد بذل حينئذٍ وجهاء الطائفة ونبهاؤها وفي مقدمتهم «جمعية التوفيق» الموقرة الغيورة التي كانت برزت وقتئذٍ تختال في حُلَلِ العدالة، وترفُل في ثياب الحرية، وتجر مطارف الغيرة والمروءة، فحلَّت محل جمعية الإصلاح التي مَرَّ ذكرها في تاريخ النهضة الأولى وقامت مقامها، ولكن لم يُجْدِ ذلك كُلُّهُ نفعًا، بل ذهبت تلك المساعي جميعها هباء منثورًا؛ لأنَّ غبطته ومن كان على شاكلته من زُعماء الفساد ونُصَراء الخراب والدمار قد اجتمعوا وصمَّموا على رفض قَبُول المجلس رفضًا قطعيًّا. وناهيك ما نشرته جمعية التوفيق المذكورة في تلك الأثناء من النشرات المُفحِمَة والمقالات المردعة المقنعة، التي كان الغرض من نشرها على أبناء الأمة رفع القناع ونزع النقاب عن محيا الحقيقة؛ تنويرًا للأذهان وتقريرًا للحقائق، ولكنها لم تَكُنْ إلا لتزيد هؤلاء الأغبياء تكبُّرًا وتجبُّرًا؛ فقد أَبَوْا إلا تكدير صفو راحة أمتهم وعدم الانقياد لصوت الحق الصادح.
ولما تفاقم الخطب وتعاظم الكرب عرضت هذه المسألة أخيرًا على الحكومة السنية عقب وفاة الخديوي المرحوم توفيق باشا، فَلَمَّا وقف سمو الأمير الخطير، والمولى الحازم البصير خديوينا العباس — حفظه الله — على كُنْهِ هذه المسألة وماهيتها من بدايتها إلى نهايتها؛ تفضل بصدور أمره الكريم، القاضي بإعادة تجديد انتخاب المجلس بحضور مندوب من قِبَلِ الحكومة، وقد تم ذلك الانتخاب فعلًا بالدار البطريركية بطريقة علنية رسمية، بحضور الجم الغفير والسواد الأعظم من أبناء الأُمَّة بالعاصمة، وعدد عديد أيضًا من جهات الأرياف الذين وفدوا إليها لهذه الغاية نفسها.
ولما انتظم عقد هذا الاحتفال الحافل قام سعادة المحافظ، وأفصح للحضور عن الغرض من الاجتماع فقال ما مؤداه:
إنَّ رغبة أمير البلاد في راحة وتقدُّم رَعِيَّتِه اقتضت أن يكون لهذه الطائفة القبطية مجلسًا ينظر في شئونها، ويُدير مصالحها؛ أسوة بغيرها من الطوائف، بناء على طلب وجوه وأعيان تلك الأمة؛ ولذا أصدر أمره الكريم بانتخاب اثني عشر عضوًا ومثلهم نوابًا لإدارة حركة هذا المجلس، وقد أرسل سعادة إلياس بك إدوار مشيرًا إلى مندوب الحكومة لحضور هذا الاحتفال بمثابة مندوب من قبل حكومة الجناب العالي، فَمَا عليكم أيُّها السادة الحضور إلا أن تنتخبوا من تَجِدُوا فيه الجدارة والأهلية بكل سكينة وحُرِّيَّة. فريثما تلا سعادة المحافظ هذه العبارة الموجزة المعجزة ضج الحضور بالدُّعاء لسمو الخديوي المعظم والثناء على همة حكومته السَّنِيَّة الساهرة على راحة رعاياها المخلصين لها، والمحافظين على ولائها سرًّا وجهرًا، ثم شرعوا في الانتخاب وأمارات الانشراح والارتياح تلوح على محياهم إلى أن تم هذا الانتخاب على أعظم نسق وأحكم أسلوب، ثم تُلِيَتْ أسماء المنتخَبِين على مسامع الحاضرين فقابلوها بالتصفيق والتهليل.
وعند الختام هتف الكل صارخين مُبتَهِلِين من صميم أفئدتهم: «ليعش أفندينا ليدم خديوينا.» ثم قفلوا راجعين وقد أخذ البِشْرُ والحبور من قلوبهم كل مأخذ مؤمِّلِين أن يكون ذلك الانتخاب خاتمة تلك الأتعاب، ونتيجة هاتيك الأنصاب. ولما عرضت صورة هذا الانتخاب على الأعتاب الخديوية صدر الأمر الكريم بتأييدها وتثبيتها، وبعدئذٍ دُعِي غبطة البطريرك للترؤُّس على المجلس فأبى وحرر من الإسكندرية لحضرات الأعضاء يقول لهم إنه لا يرغب وجود المجلس، ولا يروم الترؤس عليه على الإطلاق، فقضت حينئذٍ الضرورة — والضرورات تبيح المحظورات — أن اجتمع المجلس وقرر نزعه من الرئاسة ومن إدارة شئون الطائفة أيضًا، وانتخاب وكيل يقوم مقامه، فصدرت الإرادة السنية بالتصديق على ذلك، وكذا اجتمع أيضًا المجلس الملي مع الرُّوحي الذي تشكل مؤقتًا وقرر أنه: «بناء على إصرار البطريرك وعناده وعدم انقياده لأوامر الحكومة، وحيثُ ثبت أنَّ المغري له على إتيان هذا العصيان هو مطران الإسكندرية، فمُرَاعاة لاستتباب الرَّاحة العمومية وعدم تكدير النظام العام، وخدش الآداب القومية، ومنع الشقاقات الداخلية؛ تقرر إبعاد أنبا كيرلس البطريرك إلى دير البرموس ببرية شهاة، وهو الدير الذي كان راهبًا فيه لإقامته به وعدم مبارحته إياه إلا بأمر الحكومة السنية، وكذا إبعاد مطران الإسكندرية إلى دير أنبا بولا بالجبل الشرقي.» وقد صدر الأمر السامي مؤيدًا ذلك بتاريخ أول سبتمبر سنة ١٨٩٢، وقد تم ذلك كله فصفا الجو بعد أن كان معكرًا مكفهرًّا، وعاد الصفو والسكون بعد أن كان نائيًا ومغادرًا، فطفق المجلس يدير الأعمال ويدير الأشغال بكل همة ونشاط، حتى إنه في خلال ستة أشهر أصدر تقريرًا بيَّن فيه ما آتاه في خلال هذه المدة القصيرة من الإصلاحات الخطيرة، وكان رئيسه وقتئذٍ الأب الفاضل والحَبر الموقَّر الكامل نيافة الأنبا إثناسيوس أسقف كرسي صنبو المترشح لهذا المنصب السامي والمركز الرفيع، بناءً على طلب أعضاء المجلس الموقر بعد تصديق الحكومة السَّنِيَّة.
ولكن لم تلبث المسألة أن انقلبت انقلابًا غير مُنتظر؛ وبيان ذلك أنَّ الوزارة المصرية تغيَّرَت وقامت بعدها وزارة جديدة هي الوزارة الرِّياضية، فانتهز أعداء الإصلاح هذه الفرصة المناسبة وطفقوا يعرضون العرائض ويقدمون الطلبات، مُلتمسين العفو عن غبطة البطريرك وإعادته إلى رتبته، فبعد أن تفاوض دولة الوزير الخطير مع أغلب نخب هذه الطائفة وفي جملتهم أرباب المجلس أجاب أخيرًا طلبهم، فصدر الأمر الكريم بإرجاعه إلى منصبه، وكذا إرجاع المطران الإسكندري إلى مركزه بشرط أن لا يعودا إلى مثل هذا العصيان والطغيان.
ولما عاد البطريرك الموقر مصحوبًا بالصحة والسلامة إلى مركز وظيفته تنبهت عندئذٍ الأفكار، وتوجهت الأنظار، وشخصت الأبصار إلى ما عساه يحصل بعد هذا التقلُّب العجيب والتغيُّر الغريب؛ فكان بعضهم يظن أنَّ غبطته لا بد وأن يُذعن لمقترحات أبناء طائفته ويرضخ لأوامر حكومته. وكان يتوهم البعض الآخر أنَّه لا يحيد عن جادته ولا يقلع عن خطته، بِناءً على ما ظهر من التشبُّث والاستبداد الذي كان سببًا في احتدام هذا الخصام وإضرام نار ذاك الخلاف، وهكذا كنت ترى القوم ما بين مُصَدِّق ومُكَذِّب ومحقِّق ومرتاب، تاركين القول الفصل والحكم القطعي في هذه المسألة لمَجريات الأحوال وصروف الظروف؛ لعلمهم أنَّ المستقبل أبو العجائب والغرائب، فلرُبَّما يأتي بما لم يكن في الحِسبان؛ إذ ليس على الدهر شيء بعيد الاحتمال والإمكان.
وأوَّل حركة أمَّل الجميع منها كل بركة، وأيدت قول القائلين بأن غبطة البطريرك سينقاد انقيادًا مرضيًا، هو ما رآه رجال المجلس ورئيسهم الموقَّر أنبا إثناسيوس ورجال جمعية التوفيق الموقرة من إكرام غبطته لهم وإحسان وفادتهم، فضلًا عن مصالحتهم ومصافحتهم علانية على مرأى ومسمع من الجميع؛ الأمر الذي أحيا ميت آمالهم وانتشلهم من وَهْدَةِ يأسهم وقنوطهم، فخرجوا من عنده فَرِحِين مَسْرُورين مستبشرين مبتهلين إلى بارئ النسم ورَبِّ الجود والكرم أن يديم الحال على هذا المنوال، ولا يصرم حبل تلك الأماني والآمال على مَمَرِّ الأحقاب والأجيال.
ولكن لما كانت سُنَّة الدهر الغدر وطبيعة الزمن الاعتساف والجور، أبى إلا حرمان أحباء الإصلاح من نوال هذه الأمنية والحصول على تلك البغية؛ إذ قام بعدئذٍ غبطة البطريرك وحزبه ثانيًا ينادون بالويل والثبور، طالبين محو آثار المجلس الملي الغيور الذي لم يجترم جرمًا ولم يقترف إثمًا، بل لا ذنب له إلا غيرته على المصالح المِلِّيَّة والصوالح الطائفية، ولا عيب فيه سوى اهتمامه برفع منار الطائفة وإعلاء شأنها عمل تقتضيه المروءة وتستلزمه الذمة، ولكن أين من يتدبر ويتبصر وقد عميت الأبصارُ وطمست البصائر، ويا ليت إفساد هؤلاء المفسدين كان قاصرًا على السعي في إحباط أعمال المجلس وإثباط عزائم رجال التوفيق والإصلاح، بل قد تطاولوا تطاولًا زائدًا، وحادوا عن جادة الصواب والاعتدال جدًّا؛ إذ قاموا ينادون بعدم لزوم الوعظ في الكنائس، كما أنبأت الجرائد المحلية وكما جاء ذلك مفصلًا في رسالة «البراهين القوية» التي أصدرتها جمعية التوفيق الأسيوطية؛ إذ لما رأى إخواننا الأقباط الأسيوطيون — وما أدراك من هم — هذا الأمر المعيب المشين، قاموا جميعًا ينادون برفض هذا الاقتراح الذميم المشئوم، ويشددون النكير على من ارتأى هذا الرأي الوخيم النتائج، فتُلِيَتِ الخطابات الطنانة الرنانة، ونشرت النشرات العديدة المفيدة التي أدهشت بحسن رقتها ودقتها العقول، ونخص بالذكر منها رسالة الجمعية الأسيوطية التي ألمعنا عنها؛ فإنها أكدت القول وأيدت الموضوع بالبراهين العقلية والنقلية التي أسكتت الخصم، ووضعت في فَمِ المُعارِض حجرًا ضخمًا حتى جعلته أبكم أصم غارقًا في بحر الوهم الخضم.
فانظر وتأمل أيُّها القارئ النبيل إلى هاتيك الأعمال، ثم احكم بما يتراءى لك؛ فإنَّ الله تعالى لا يحب الإفك ولا يرضى بالضلال. ومما يدل على خبث نية هؤلاء المُفْسِدِين أيضًا تحرير القرار الإكليريكي الشهير، الذي أتت جمعية التوفيق المركزية الموقرة على دحض ونقض ما انطوى واحتوى عليه من الأراجيف والتمويهات والتُّرَّهَات والتلفيقات في رسالتها «دفع الوهم عن بسيط الفهم»، ومن الغريب أنَّ هذا القرار قد عمل عقب إرجاع غبطة البطريرك من الإبعاد، فكان باكورة إصلاحاته ونفحاته التي عمت وشملت أبناء طائفته صغيرَهم وكبيرَهم خطيرهم وحقيرهم. فانظر وتأمل!
وبعد مُضِيِّ أمد ليس بمديد، صدر الأمر العالي الناطق بإعادة السلطة الإدارية إليه، التي كانت قد نزعت من غبطته عدلًا وإنصافًا، ولا تَسَلْ عما أظهره حزبه يومئذٍ من التظاهرات الصبيانية والإجراءات التغفلية، على أنَّ نص الأمر الكريم يدلُّ دلالة صريحة واضحة على إرجاع تلك السلطة إليه بشرط تعيين أربعة من أبناء الطائفة لمشاركته في تلك الأشغال الإدارية مؤقتًا لحين تجديد الانتخاب، وهذه — كما لا يخفى على كل من لم يكن مصابًا بمرض الغرض أو ألقى السمع وكان شهيدًا — هي بعينها غاية وبغية رجال التوفيق والإصلاح قاطبة، وهو وجود المجلس الملي على كل حال إن عاجلًا أو آجلًا، وها هي لم تزل عاملة على إنجاز هذا التجديد المُنتَظَر الذي ترجو وتؤمل أن يكون قريبًا إن شاء الله تعالى.