عوائد الأقباط القديمة المشهورة
لا ريب أنَّ الأمة المتمدنة المتقدمة إنما يُطلق عليها هذا الاسم إذا هي كانت على جانب عظيم من دماثة الأخلاق، وطهارة الأعراق، وكريم الشيم، وجميل الشمائل، وذلك كله لا يظهر جليًّا إلا في العادات التي خصت بها كل أمة على حدتها دون غيرها.
ولنورد هنا ما اتصل بنا من عوائد أجدادنا الأقباط المشهورة فنقول: لقد كان لقدماء الأقباط عوائد كثيرة شهيرة صادرة عن الحكمة والسداد، نخص منها بالذكر ما اشتهر بين الورى، وعُرِفَ لدى العام والخاص والداني والقاصي، كعدم إتاحتهم لموتاهم بالدفن إلا إذا أحسنوا عملًا ولم يقضوا سني حياتهم هملًا. وكان هذا الحكم الصارم يسري على الرفيع والوضيع، والخطير والحقير، والغني والصعلوك، والمالك والمملوك على حدٍّ سوى. وذلك مما يدل على ميلهم للحق والإنصاف، وعدم جنوحهم إلى الإجحاف والاعتساف، ومُعاملتهم لجميع الناس بالعدل والقسطاس، ومن عاداتهم أيضًا أنَّه لا يَسُوغ للابن أن يمتهن غير مهنة أبيه وجده؛ لكي يتقنها ويحسنها سعيه وجده. ومنها حكمهم على مجتري الجرايم ومجترحي الجنح بقطع أعضائهم التي مكنتهم من إتيان هذه المنكرات، وارتكاب تلك الجنايات، فالسارق كان يقطع يمينه، والكذوب المزور المختلق الإحن والمحن يقطع لسانه، وهلم جرًّا.
وهذه العادة وإن لم توافق مشرب أهل هذا العصر، وتطابق مقتضيات التمدن الحالي، على أنها لا تخلو على كل حال من الحكمة والسداد كما قدمنا.
وكانت العادة الجارية عند الملوك أن يُكافئوا من نبغوا في صناعتهم أو برعوا في مهنتهم من أهل رعيتهم؛ لكي يستفزوا غيرتهم ويحركوا نخوتهم للاهتمام بإتقان أعمالهم وتحسين أشغالهم، وهذه هي الخطة التي يختطها الأوروباويون الآن، ويستعملها الغربيون في غالب الأحيان، نقلًا عن أجدادنا وأسلافنا الذين سبقوهم إليها؛ فكان لهم الفضل المتقدم.
ومن عوائدهم أيضًا احترام شُبَّانِهِم لشيوخهم الاحترام الزائد.
ومن عوائدهم التي كانوا بها يحافظون على جنسيتهم وأصولهم: أنهم كانوا يتجنبون الأجانب تجنُّبًا شديدًا، ويمتهنون كل من لم يكن من مواطنيهم؛ فلا يجالسونه ولا يتناولون معه طعامًا البتة، ولعلنا نجد هذه العادة جارية في بعض الممالك الغربية العظمى للآن.
وكانت أحكامهم لا تصدر إلا من مجالس مؤلفة من ثلاثين قاضيًا، لهم رئيس يرأسهم هو بمثابة رئيس المحكمة عندنا؛ حتى يباشروا الأعمال على غاية ما يرام، من تمام الإحكام والانتظام.
أمَّا العلوم والمعارف فكانت قاصرة على الكهنة دون غيرهم؛ ولذا كانوا في ذلك الوقت أصحاب الشأن الرفيع بل أهل السلطة والسيطرة على الجميع.