ملوك قدماء الأقباط الوطنيون
لقد مَرَّ على الأقباط حينٌ من الدهر ذاقوا في خلاله لذة الاستقلال، وتمتعوا بمزايا الحرية الحقيقية، وكان ذلك في أيام ملوكهم الوطنيين قبل استيلاء الدول الأجنبية عليهم، وقد أنبأَنا التاريخ بأنَّ ملوكهم الأوائل كانوا من مصافِّ الأحبار كما أسلفنا.
على أنَّ هذه السلطة لم تَدُم مخولة لهم؛ بل انتزعها منهم أحد الوطنيين الغيورين، ألا وهو الملك «مينا» الذي أسَّس البلاد حكومة منتظمة ووضع لها قوانين عادلة.
فالملك «مينا» هذا أول ملك انفرد بالسلطة والسيطرة بعد الكهنة، وكان متصفًا بالهمة والحكمة وحسن السعي، وحسبنا على ذلك دليلًا ما أتاه من الأعمال الجلال؛ إذ هو الذي بنى مدينة «منف» التي تدعى الآن «ميت رهينه» وحوَّل النيل عن مجراه من جانب صحراء «لبية» وجعله في الوادي الذي يجري فيه الآن بين الجبلين، إلى غير ذلك من الإصلاحات والتنظيمات التي مهدت لبلاده طريق التقدُّم والارتقاء، وأوردت رعاياه موارد الهناء والرخاء.
ثم أخلفه في الحكم أخوه «ثتا» وكان عالمًا نحريرًا وجهبذًا خطيرًا، له في الطب رسالة أتى فيها على ذكر أصل التشريح الصحيح، وتلك الرِّسالة هي التي أتمها وكملها «استنس» صاحب اليراع المشهور والباع الطويل الراسخ القدم في أصول هذا العلم.
وبعدئذٍ حكم الأقباط ٢٦ عائلة مُلوكية وطنية أشهرها ما يأتي بحسب الترتيب والتعقيب؛ أولًا: الملك «سميس» الذي فشا في عصره الوباء بالدِّيار المصرية، وأهلك من الناس جمًّا غفيرًا وعددًا عديدًا، فعكفت الأهالي على ارتكاب الدنايا والمعاصي، والفتن التي أفضى بها الأمر إلى حصول هيجان عظيم لم ينتهِ إلا بانتهاء مُدَّة عائلته.
و«بينوتريس» الذي سَنَّ قانونًا جديدًا مؤَدَّاه أنهُ يجوز للنساء الترشح لمنصب الملك عند عدم وجود الذكور أو انقراضهم، قاصدًا بذلك عدم خروج المُلك من عائلته الملوكية، وقد ادَّعى هذا الملك القرابة للآلهة، ولقَّب نفسه «بابن الشمس»، فنسج على منواله من أتى بعده من خلفائه، وألزموا الرَّعية بعبادتهم واعتبارهم بمثابة آلهة ذوي تصرف مطلق فاعلين مختارين.
ومنهم «نخروفيس» الذي قمع سكان صحراء لبية الذين شقوا عصا الطاعة عليه فكبح جماح عصيانهم، وجعلهم مُذْعِنِين صاغرين، ومن مآثر وآثار عائلة هذا الملك «المعروفة» أبو الهول الموجود بين هرمَيِ الجيزة والهيكل الموجود بالجهة القبلية من أهرام الجيزة.
ومنهم «خوفو» وكان رجلًا مقاتلًا يصبو إلى اقتحام الأهوال، وولوج معامع القتال، وتشييد البنايات، وبناء الآثار والعمارات؛ إذ هو الذي بنى الهرم الكبير الموجود بالجيزة، ولا صحة لما ادَّعَاه البعض من أنَّ هذا الملك كان ظالمًا لرعيته.
وكذا أخوه «خفرم أو خفرع» الباني للهرم الثاني «ومنكرا أو منقريوس» الرَّافع للهرم الثالث الموجود خلف الهرمين السابقين، وهذا الملك هو الذي وُجِدَتْ جثته داخل هرمه؛ فأرادت دولة الإنكليز نقلها إلى دار تَحُفُّهَا، فأبى الله إلا حرمانها من نوال هذه الغنيمة الباردة فأغرق السفينة به في ساحل «البرتوغال» ولم يتحصل على شيء منها سوى غطاء التابوت، وهو لم يزل محفوظًا في دار تحفها إلى الآن.
ومنهم «أبايوس» الذي كان مغازيًا ومقاتلًا مثل الملك «خوفو»، ومنهم نيتوكريس ربة الجمال والجلال التي لقبها «مانيثون» «بمورَّدة الخدين»، ولهذه الملكة نادرة تاريخية شهيرة غريبة؛ إذ قد كان لها زوج يدعى «بنيوفيس» الثاني وهو أيضًا أخوها، ففي السنة الثانية من حكمه قام عليه أعداؤُه فقتلوه فانتقمت له زوجته أو إن شئت قل أخته «نيتوكريس» وأخذت له بثأره بطريقة عجيبة وكيفية غريبة. وبيان ذلك أنها أتت بهم إلى مقاصير تحت الأرض، وأعدت لهم فيها وليمة شائقة، وأحضرت إليها كمية وافرة من المطاعم والمشارب الأنيقة، فلما التهوا في لذات المأكولات والمشروبات أمرت بأن ينساب عليهم ماء النيل من سرداب معدٍّ لذلك من قبل فأغرقتهم جميعًا. ثم قتلت نفسها خوفًا من القصاص المزمع أن يلحقها.
وقد امتازت أيام هذه الملكة بإتقان فن التصوير؛ فترى أن صورهم كانت حائزة سائر المحاسن من اعتدال القامة واستدارة الوجه ورقة الأنف إلى غير ذلك، وقد يترتب على ذلك تقدُّم العلم أيضًا؛ لأنَّ الصناعة إن هي إلا من ضمن نتائجه.
ومنهم الملك «أمينامهات» أو «أمختيب» الأوَّل الذي سعى في استخراج الذهب من بلاد النوبة، ثم «أوزريس» الأول صاحب المسلة المشهورة الموجودة الآن في المطرية، «وأموزيس» صاحب العمارات الجسيمة الموجودة بالفيوم والمشيد بحيرة قيرون المعروفة ببحيرة «موريس»، وهو الذي بنى أيضًا القصر الجسيم المسمى «لايرينت» المحتوي على ثلاثة آلاف قاعة منها ١٥٠٠ في الدور الأول و١٥٠٠ فوقها في الدور الثاني، وأخيرًا الملك «تيماوس» الذي أغارت في أيامه «الهكسوس» أو الرعاة على البلاد القبطية.