استرجاع ملوك القبط الوطنيين سلطتهم
وبهذه المثابة تسنى للأقباط استرجاع سلطتهم، وانتزاع بلادهم من يد أعدائهم، ثم طفقوا يعمرون ما دمرته ملوك العمالقة من الهياكل الدينية والعمارات المدنية، وأوَّل الملوك الذين حكموا على بلاد القبط بعد طرد الرعاة «الملك أخميس» الذي قطع دابرهم عن آخرهم، وأنقذ البلاد من شرهم وجورهم، ولقد اشتهر ملوك هذه الدولة الوطنية الثانية بالغزوات والفتوحات.
فمنهم الملك «أمنحوتيب» الذي فتح بلاد «كوش» «والأيثيوبية» وجعلها لقبًا لولي عهده؛ فكان يُقال له «أمير كوش».
ومن أشهر ملوك هذه الدولة الملك طوطوميس الأول، ثم طوطوميس الثاني الذي تمكن من إدخال الولايات السودانية تحت حكمه، واهتم كسلفه ببناء العمارات وتأسيس المباني، على أنه قضى نحبه ولم يُرزَق ابنًا يرث الملك من بعده، فآل أمر الحكم إلى أخيه «طوطوميس» الثالث. ولما كان هذا الأخير قاصرًا أقاموا «أخته حاشاذو» وصيةً عليهِ ونائبة عنهُ، فتزوجت بهِ وشرعت في إدارة حركة المملكة بكل همة وشهامة.
وبما أنها كانت ولوعة بالفتوحات والغزوات شأن أبنائها السالفين استولت على بلاد «سورية» وضربت عليها الجزية، ومن آثار هذه الملكة المشهورة تشييد المسلتين الكائنتين «بالكرنك» التي لم تَزَل إحداهما قائمة إلى الآن تنادي بهمتها العجيبة وشهامتها الغريبة. وكان على رأس كلٍّ من هاتين المسلتين تاج من ذهب هرمي الشكل، ولقد نقشت الملكة تاريخ غزواتها على جدران أحد آثارها المدعو «بالدير البحري»، ولما بلغ الملك طوطومس الثالث أشُدَّه وأدرك رشده استولى على الأحكام، فارتقت في أيامه بلاد القبط ارتقاء كليًّا؛ إذ فتح جزيرة قبرص وجزيرة كريد ومدينة نينوى، ويُقال إنه أدخل تحت طاعته سواحل جنوب إيطاليا.
ولهذا الملك آثار جمة نخص منها بالذكر مدينة «هليوبولس» — أي المطرية — ومنف وجزيرة أصوان، ثم توفي بعد أن حكم نحو ٤٥ سنة تقريبًا.
ومنهم أمنوفيس الثالث الذي كان مُهابًا حسَن السياسة في السلم والحرب، وقد اشتدت المملكة في عهد ولايته إلى داخل بلاد الحبشة. وأغلب آثار هذا الملك موجودة بجزيرة أصوان، وجبل السلسلة، وبجهة طرة وجزيرة الطور.
ومنهم الملك أمنوفيس الرابع، وكان هذا الملك يأخذ الجزية من الممالك الخاضعة لسلطته كجاري العادة. وقد تزوج بامرأة أجنبية؛ فأدخلت في البلاد عبادة الشمس فحقد الأقباط عليه وشددوا النكير على فعله هذا، ولما اتَّضح له ذلك خاف على نفسه فنقل تخت المملكة من طيبة إلى المدينة التي شيدها، وسمَّاها بمدينة المنيا، وتعرف الآن باسم تل العمارنة.
وبعد موته نُسِخَتْ عبادة الشمس التي أدخلها إلى البلاد مرضاة لخاطر زوجته، وهذا الملك هو صاحب الصورة المشهورة الموجودة بالأقصر.
ومنهم الملك رمسيس الأول، وهو الذي تجرَّأ على مُقاتلة قبيلة الخيتاس فانتصر عليهم، ثم خلفه ابنه منفطه أوسيطوس، الذي كان رجلًا غيورًا على مصلحة الأمَّة ومتصفًا بالهمة والحكمة. وقد يستدل من الأبنية التي شيدت في أيامه أنَّ فن النقش والعمارة تقدم تقَدُّمًا تامًّا، ويُقال إنه هو الذي صنع المسلة التي نقلت إلى رومية، ومن المؤكد أنه هو أول من حفر الخليج لتوصيل ماء النيل بالبحر الأحمر. وقد فتح أيضًا طريقًا للقوافل من آسيا إلى جبل أتوكي وأوجد بها عينًا «أردوازية» صناعية لشرب المسافرين إذا أضناهم التعب، وأنهكهم الظمأ وأعياهم النصب.
ومن مناقبه أيضًا غزو بلاد السودان والشام ونينوى وبابل وأقصى بلاد أرمينية؛ إذ يظهر أن بعض الممالك التي كانت تابعة في مبدأ الأمر لحكام مصر خرجت عن طاعتهم، فاضْطُرَّ إلى مُحاربتهم وإخضاعهم، ثم خلفهُ ابنه «رمسيس» الثاني المسمى عند اليونان «سيزوستريس» وقد كان هذا الملك أعظم جميع ملوك مصر قوَّةً وشوكة، ومن صفاته الخاصَّة به الملازمة له حبه لرعيته حبًّا شديدًا زايدًا حتى لقد جعلهم أسراء طاعته ورهيني إشارته، فكان إذا مَرَّ بالأزِقَّة والشوارع ضجت الناس وهتفت بالدُّعاء له والتأييد لسلطانه كأنه المقصود بقول القائل:
وقد نسب إليه اليونان افتتاح بلاد العجم، وبلاد الهند والعرب، وبعض ممالك أوروبا، وقالوا إنَّه ضرب الخراج على عشرين أمة واسترعاها، ومما يدل على حُسن سياسته وكياسته أنه كان كُلَّما فتح مملكة أجنبية أبقى بها شرذمة ليست بقليلة من الأقباط الأصليين الوطنيين؛ لينشروا في جميع أنحائها وأرجائها مبادئهم القويمة وأخلاقهم وعوائدهم المرضية.
وبعد وفاته أعقبه في المُلْك المَلِك منفطة أو منفتاح الثاني، وفي أيامه دخل جماعة من اليونان والصقليين إلى البلاد القبطية بقصد الاستيلاء عليها؛ فلم يُمَكِّنْهُم من نوال بغيتهم، بل صدهم بجيشه الجرار وردهم على أعقابهم خائبين، وقد قيل إنَّ خروج بني إسرائيل من مصر كان على عهد هذا البطل الهُمام المِقدام، ولكن هذا الزعم لم يتأكد بعدُ.
ومنهم أيضًا «رمسيس الثالث» الذي أتى بأعمال جديرة بالذكر وحرية بالاعتبار؛ ولذا كان من أعظم ملوك الأرض طُرًّا شأنًا وأسماهم مكانة؛ إذ قامت في أيامه بلاد الحبشة والنوبة، وأغاروا على البلاد المصرية فهزمهم وصدهم، وأدخل أيضًا تحت سلطته كسائر الملحقات المصرية، وأباد جميع أعدائه برًّا وبحرًا، وغادرهم في حيرتهم؛ مرتبكين متعجبين من تلك الجسارة والشهامة التي تجاوزت الحد.
ولكن أبى الدهر إلا أن تسقط وتهبط بلاد القبط في أيام خُلفائه الذين لم ينسجوا على منواله، ولم يُحْسِنُوا التصرُّف ولا تدبروا في نتائج أعمالهم.
وبيان ذلك أنه في أيام رمسيس الثالث عشر آخر ملوك هذه الدولة الشهيرة تداخل رئيس كهنة الإله آمون في أمر الأحكام والسلطة الإدارية التي انتزعها منهم الملك ميناس كما سلف آنفًا. ثم انضم إلى هؤلاء الكهنة أيضًا حزب مؤلَّف من سُذَّجِ الشعب، وما زال الجدال على هذا المنوال بين حزب الكهنة وبين الحزب الملوكي، حتى انتزع أخيرًا رئيس الكهنة السلطة من الملك رمسيس المذكور.
ولا ريب أنَّ هذه الحادثة التاريخية القديمة تُضَارع كُلَّ المضارعة حادثتنا القبطية الأخيرة الشهيرة، كما وأنها تدلُّ أيضًا على طموح كهنتنا إلى السلطة العالمية، وجنوحهم إليها وولوعهم بها منذ القدم.
أمَّا حكم هذه الدولة الكهنوتية الجديدة فقد استمر نحو ١٧٨ سنة، وفي ذاك الزمن أخذ اليونان مدينة تروادة، ولكن لم تأتِ هذه الدولة بعمل يُذكر فيُشكر، بل عاش ملوكها عيشة التواني والكسل، وماتوا بدون أن يخلفوا بعدهم أدنى عمل؛ ولذا دعاهم المؤرخون بالملوك أهل الكسل وأرباب البطالة، وغاية ما علم من آثارهم أنه كان يوجد لأولهم المدعو منداس حجر ببريا أصوان، منقوش عليه كتابة بالقلم اليربائي تحتوي على طلب الدعاء بحفظ الذات الملوكية أي منداس، ولقد كانت هذه الدولة معاصرة للملك داود وابنه سُليمان اللذين استوليا على أغلب الملحقات المصرية بدون أن يجدوا من يمانعهم أو ينازعهم من الأقباط.
ولما دام الحال على هذه الوتيرة مُدَّةً من الزمن شق هذا الأمر على قدماء الأقباط، إذ علموا أنَّهم إذا استمروا على هذا التواني والتهاون ضاعت بلادهم وساءت حالهم، فريثما تضعضعت حالة هذه الدولة الكهنوتية المتقاعدة ظهرت عائلة من بسطة الكائنة بقرب الزقازيق، وخلعت منها الحكم ثم استولت على جميع البلاد القبطية، وجعلت مدينة بسطة المذكورة عاصمة بلادها ومركز ملوكها.
وأول ملوك هذه العائلة شبشاق الأول الذي غزا بلاد فلسطين، واستولى على جميع قلاعها وسلب أموال قصورها الملوكية، ثم أخلفه في الحكم ابنه سار حدون الأول المذكور في التوراة باسم زاراق الحبشي، وهو الذي حارب مملكة يهوذا كسلفه، على أنَّه خُذل وآب بصفقة المغبون. والظاهر أنَّ هذين الملكين كانا من الأجانب الذين توطَّنوا، أو أن لهم قرابة أو مصاهرة مع الأقباط الأصليين؛ لأنَّ أسماءهم تحاكي أسماء ملوك العراق والأكراد، وليس لهم من العمارات والآثارات ما يستحق الذكر.
وفي مدة هذه العائلة تجزَّأَت بلاد القبط إلى ولايات صغيرة كان يرأسُ كل ولاية منها رئيس من الليبيين، ونظرًا لإهمال ملوك هذه العائلة تداخل هؤلاء الرؤساء فيما لا يعنيهم وتجاوزوا حدودهم؛ حتى اغتصبوا وظائف الحكومة، فاختلَّت حركة البلاد واعتلَّت حالتها، فزحف إليها في ذاك الزَّمن الأيثيوبيون من جهة الجنوب والآشوريون من جهة الشمال، فانحطت البلاد انحطاطًا كُليًّا، وضعفت قوتها وخرج عن حكمها سائر مُلحَقَاتها. ثم أعقب هذه العائلة عائلة أخرى كانت أسوأ منها حالًا وأكثر تهاملًا وتكاسلًا، فازداد في عهدها تمزُّق وتغرق بلاد القبط، وانقسمت على عشرين ولاية، كان يحكم على كل ولاية منها أمير مخصوص، وفضلًا عن هذا وذاك فلم تكتفِ بلاد السودان عن الخروج عن طاعة ملوك القبط بعد أن كانت مُنقادة لهم، بل شنَّت الغارة أيضًا على البلاد القبطية؛ حتى وصلت إلى إقليم منف، واستمرت البلاد على هذا التجزُّء إلى أن نهض أحد العشرين أميرًا المدعو تفتحوت وانتزع من شركائه الملك بمؤازرة الزنوج، ثم أسس عائلة أخرى غير هذه العائلة، أشهر ملوكها واحد فقط وهو الملك بوخوريس، وكان شهمًا همامًا غيورًا على مصلحة بلاده؛ إذ اهتم بتنظيمها وترتيبها وتهذيب أهليها، مع المحافظة التامة على الروابط الأجنبية، ولكن الأمة القبطية القديمة امتهنته واتهمته بأنَّه أهان الثور الذي كانت تعبده، فاستعانت على نزعه من السلطة بالملك سباقون ملك النوبة الذي كان وقتئذٍ قد شق عصا الطاعة عليه، فأغار الملك سباقون هذا على بلاد الأقباط، فساعدوه هم بأنفسهم على الاستيلاء عليهم، ولمَّا وقع بوخوريس في قبضة هذا الجبار العنيد لم يُشفِقْ عليه بل ألقاه في النار حيًّا.