تملُّك الأيثيوبيين والآشوريين على بلاد القبط
ومن ثَمَّ صارت بلاد القبط تابعة للأيثيوبيين، وأوَّل ملوكهم الملك سباقون الذي ألمعنا عنه في الفصل السابق، وقلنا: إنَّه استولى على مصر وأحرق الملك بوخوريس، ولكن لمَّا صفا له الجو تغيرت طباعه وتحسنت أحواله، فانتقل من حالة القساوة والغباوة إلى الرِّقة والشَّفقة، فمال بكليته لتمدُّن الأقباط وتدين بدينهم، واشتهر بحب الرعية وحسن التدبير، ويقال إنَّه أول من أبدل العقوبة بالقتل، وجعلها بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولما ذاع صيته بين الورى وشاع وملأ الأسماع استنجده ملك إسرائيل وملك الفنيقيين وملك فلسطين لكي يساعدهم على هزم ملك آشور الذي اشتهر بالقوة والبطش؛ إذ كان يكدر ويعكر كأس راحة هذه الممالك الثلاث. فأجاب الملك سباقون دعوتهم ولبى إشارتهم وحَشَدَ جيشًا عرمرميًّا ثم توجه لمحاربة شلمنسو ملك آشور، ولكن الدهر عاكسه فهُزم هو والمتحالفون معه، وضَلَّ مدة من الزمن إلى أن اهتدى أخيرًا إلى الطريق الموصل لبلاده، وكانت هذه الهزيمة الغير منتظرة سببًا في عصيان قاطني الوجه البحري عليه، وانفصالهم عن حكمه، واستقلالهم تحت حكم أسطفانيطس أحد أقارب الملك بوخوريس الذي مات محروقًا كما قدمنا، فانحاز سباقون إلى الصعيد ثم مات.
وأخلفه ابنه سواخوم الذي رام أن ينتقم لأبيه من أُمراء الوجه البحري الذين شَقُّوا عصا الطاعة عليه، فتمكن من ذلك، وحكم بلاد القبط فقام عليه أخوه طهراق وقتله، وانتزع الحكم من يده، وفي عهد طهراق هذا أغار ملك آشور على بلاد القبط فاستولى على منفيس وطيبة، ثم طفق يصلح ما اختل من نظامها واعتل، وأرجع لأمرائها العشرين امتيازهم وضرب عليهم الخراج.
ولكنه ريثما عاد إلى بلاده قام طهراق المذكور واستولى عليها ثانيًا، فرجع ملك الآشوريين وانتزعها منه، وسلمها للعشرين رئيسًا، ثم عاد إلى وطنه وهو يظن أنَّ طهراق لا يجسر على الحرب ثانيًا، ولكن ساء ظنه فإن طهراق عاد بعودته إلى العصيان، وهكذا أصبحت بلاد القبط غنيمة باردة تتناولها وتلعب بها أيدي الآشوريين والأيثيوبيين إلى أن تركها طهراق أخيرًا من تلقاء ذاته لرؤية رآها في المنام، وكذلك تركها الآشوريون لما علموا أن تملُّكهم عليها يكلفهم من التعب والنَّصَب ما لا يُطيقون، فآل أمر حُكمُها إلى الملك تينخ ميمون آخر ملوك الأثيوبيين على حد قول بعض المؤرخين.