بورسعيد – باريس
كانت معدات سفرنا لرحلة سنة ١٩٢٦ تامة يوم ١٨ من يوليو، لا ينقصها إلا أن نعرف بالدقة الساعة التي تبرح فيها الباخرة «مونجوليا» ميناء بورسعيد، ومع ترددي على «كوك» لأقف منه على الموعد المضبوط فقد كان آخر ما اتصل بعلمنا أن آخر قطار يدرك الباخرة هو الذي يغادر القاهرة في الساعة الحادية عشرة من صباح ١٩ من يوليو، وخيِّل إلينا أن هذا معناه أن الباخرة تتحرك بعد ساعة أو نحوها من وصول القطار إلى بورسعيد، ففضلنا أن نسافر بقطار الصباح الباكر، وجاءت الساعة التي يصل فيها القطار الذي أشار «كوك» إليه ولم تكن الباخرة قد وصلت الميناء، ولا كان أحد يعرف عن موعد وصولها بالدقة خبرًا، بل قيل لنا إنها قد لا تصل قبل صباح اليوم التالي، فأثار هذا التأخير في نفسي حالة عصبية أن كنت أعتبر كل ساعة أكسبها أدنى إلى تحقيق الغرض الذي من أجله نسافر، كما كنت أشعر بشيء من الطيرة ألا يكون كل شيء في السفر كما أريده أن يكون.
وفي الساعة الثامنة مساء قيل إن الباخرة تصل بعد ساعتين، وإن أنوارها ظهرت بالفعل على قناة السويس، وأقلتنا إليها الزوارق؛ إذ ليس في بورسعيد «أرصفة» ترسو عليها السفن. وسألنا الحمال عن متاعنا، فإذا به مبعثر فوق ظهر السفينة، فجمعناه على عجل من هنا ومن هناك، وشكرت للذين ودعونا متمنين لنا سلامة السفر، وأويت إلى مخدعي متعبًا منهوكًا بعد أن قضيت النهار كله منذ الصباح الباكر، وحين سفرنا من القاهرة، أنقلب بين مشاعر وإحساسات ليست كلها مما تبتهج له النفس، فلما تنفس الصبح إذا الباخرة تجري بنا فوق موج بسام تزجيه ريح رخاء، وإذا سطح السفينة الفسيح تتلطف أشعة الشمس عليه بما ينعش النفس من نسيم البحر الجميل. وكانت حياة السفينة وعباب البحر المحيط بها هي الانتقال الأول من بيئة الذكرى المريرة، لولا ما كان من سفر وحيدنا من قبل معنا على البحر بين موانئ مصر والشام، ولولا ما تدعو آفاق البحر النفس إليه من الاستجمام والتفكير والتذكر.
على أن ما في حياة السفينة من جديد، وما تعوَّد المسافرون على البحر خلقه من أنواع اللهو والمتعة، يهوِّن من غضاضة ساعات التفكرة والذكرى، ويخلق أمامنا عالمًا جديدًا يستغرق من تطلعنا بمقدار ما يستغرق السفر على البحر بين مصر وأوربا من أيام قلائل. والبواخر الإنكليزية أشد من غيرها إثارة للتطلع؛ فأنت في سريرك ما تزال تغط في نومك ولا تنتظر البتة من يزعجك عن فراشك، فإذا باب القمرة يدق حتى تستيقظ، وإذا القائم بخدمتها يحمل إليك فنجانًا من الشاي، وثلاث بسكويتات أو أربعًا، وتفاحة أو برتقالة أو واحدة غيرهما من الفاكهة، ويضع ذلك على الرف إلى جانب مخدعك تكاد تتناوله من غير أن تجلس في فراشك. فإذا اطمأن إلى أنك استيقظت أهدى إليك في رقة وأدب تحية الصباح، وسألك عن الساعة المضبوطة التي تريد أن تذهب فيها إلى حمامك، وهل أنت بحاجة قبلها إلى شيء من الماء الفاتر لتزيين ذقنك. هذه الحركة كافية لتدلك على أن الساعة أصبحت السادسة، وأن الوقت آن لتأخذ بأسباب اليقظة، على أنك في حل من أن تظل آخذًا بهذه الأسباب إلى ما بعد الساعة التاسعة حين تصعد لتناول إفطارك بغرفة الطعام؛ عصيدة وبيضًا ولحمًا وشايًا وفاكهة وما شئت إلى جانب هذا كله من المطعومات. وبعد الساعة التاسعة تبدأ اليقظة على سطح البواخر عامة والإنكليزية خاصة. ولقد يود المسافر، في اليوم الأول، بل في الساعات الأولى من سفره، أن يتعرف إلى البيت الجديد، بل المدينة الجديدة التي يقيم فيها أيام هذا السفر، فيلتمس صالون الباخرة وغرفة المطالعة وغرفة التدخين فيها، وما قد يكون في بعضها من صالونات وغرف عدة، فإذا استوى إليه علم ذلك كله عاد إلى سطح السفينة يمشي الهوينى يحاول أن يتعرف وجوه المسافرين معه. وهذه النظرة الأولى من المسافر إلى بيئته الجديدة تستغرق من وقته ساعات سفره الأولى، وتبعث إلى نفسه ما لكل جديد من لذة ما لم يحل دوار البحر بينه وبينها، فإذا انتصفت الساعة الحادية عشرة صباحًا رأيت عربة صغيرة يدفعها أحد خدم الباخرة، تتبعها عربة أخرى وعلى إحداهما فناجين الحساء «الشربة»، وعلى الأخرى بسكويت غير محلى ليتناول كل مسافر من ذلك حظه. وفي الساعة الأولى من بعد الظهر ينزل الكل إلى غرفة الطعام لتناول غدائهم، ثم تعقب ذلك فترة هدوء وسكينة ينتهزها بعضهم لينالوا غفوة الظهيرة على المقاعد الطويلة فوق سطح المركب لمن لم يشأ منهم أن ينزع ملابسه، وفي القمرات لمن أراد الراحة التامة. ولعل مواطنينا المصريين أشد الناس حرصًا على هذه الراحة التامة، فإذا كان العصر تناول المسافرون الشاي وأمضوا ساعة أو نحوها بعده، ثم سمعوا ناقوس المساء يدق يدعوهم ليعدوا أنفسهم لطعام العشاء ولارتداء ملابس السهرة، فإذا كانت الساعة الثامنة أشرقت غرفة الطعام بالسيدات في ملابس زينتهن، وفي حليهن البديع البريق، وبالرجال يلبسون الأسموكنج، ويتخللون السيدات في جلستهم إلى المائدة لتبدو كل جميلة منهن بينهم كأنها زهرة عطرة بين أوراق يانعة هي بالزهرة بر وعطف وحنان. وينتقل الكل لتناول القهوة في الصالون، وينسحب المدخنون من الرجال إلى سطح المركب أو إلى غرفة التدخين، ثم ينقسم الجمع طوائف، تهفو آذان طائفة إلى سماع الموسيقى، فتجد من سيدة بارعة، أو من رجل متقن، من يشنفها بحلو النغم، وتنتقل طائفة إلى حيث يلعب كل جماعة منها نوعًا من أنواع الورق على موائده الكثيرة في البار وفي غرفة التدخين وفي غيرها من الأماكن التي يهوي اللاعبون إليها. فإذا انتصف الليل أو قارب أن ينتصف بدأ الناس ينسلون لواذًا إلى مضاجعهم يقضون فيها ليلهم منتظرين دقات القائم بخدمة القمرة على بابها متى أصبحت الساعة السادسة، ثم دخوله بفنجان الشاي والبسكويت والفاكهة.
هذا نوع من الحياة جديد بالنسبة لسيدة مصرية لم تألفه من قبل، ولم يحل حائل دون أخذها منه بنصيب أية سيدة أوربية من المسافرات معها، وهو جديد وإن كانت قد رأت في مصر مظاهره؛ لأنه اشتراك في تمثيل رواية الحياة على صورة جديدة بدل الاكتفاء بالجلوس أحيانًا مع النظارة لمشاهدة ممثليها، وهو لذلك جدير بأن يحدث في نفسها ثورة تبعث إليها حياة جديدة كلها نشاط وحركة وإقبال على الحياة، بدل القعود والخمول وما ألف المصريات من التخلي عن الحياة. فليكن لهذه الثورة النفسية من الأثر المحسن ما رجونا من سفرنا فرارًا من وسط مليء بأشباح اليأس والألم.
لكن لا! إن الهزة الأولى لا تكفي لتذيب ما تركز في النفس من أكداس الهم ولتبعث إلى سواد الحزن أملًا في ابتسام؛ لذلك كان من بين المسافرين معنا سيدة فرنسية وزوجها، يحمل هو شارة الحداد وتلبس هي السواد، فما كان أسرعنا إلى التقرب منهما والتعرف إليهما والسؤال عن سبب حزنهما وأساهما، وروت السيدة طرفًا من قصتها، لكنها كانت في روايتها لا يخترم الهم كيانها، وكانت تبدى من الاستسلام للقدر ومن مجالدة الأسى مثلًا صالحًا يجعل الأم الثاكل تفكر من جديد فيما طالما ذكرته لها من أن الحزن لا يعيد مفقودًا، وأن مغالبة الألم والتغلب على اليأس خير ما يفتح مغالق الحياة وينير للأمل السبل إلى النفس ينشر في أنحائها من ضيائه ما يعيد إليها في الحياة كل رجاء. ولعل السيدة الفرنسية لم تكن وحدها التي مهدت للأمل والرجاء سبيلهما، فقد كان من بين المسافرين جماعة لا يهون عليك أن تتصور كيف لا ينكمشون معتزلين الحياة وهم مع ذلك مقبلون أشد إقبال عليها، مسلمون أنفسهم لألوان من المتاع فيها كأنما هم غارقون منها في لجج النعيم؛ فهؤلاء شيوخ وعجائز هدهم الكبر، وهم مع ذلك يأخذون كل مساء أبهج زينتهم، فإذا غادروا غرفة الطعام وجاء خدم الباخرة فخلقوا من أنفسهم موسيقيين يوقعون نغمات الجاز والفوكستروت والشارلستون هرعوا إلى حلقة الرقص كأكثر الشبان فيها نشاطًا ومرحًا. وهذه سيدة نصَفٌ آتية وحدها من أستراليا لم تنعم عليها الطبيعة بشيء من الجمال وإن أسبغت عليها فيضًا من الصحة والعافية تختفي في طيه سنها، تندفع إلى الرقص كلما عثرت بمن يرقص معها حياء من إلحاحها، ناسية سمن بدنها وانتفاخ وجهها حتى يكاد يبض منه الدم، مكتفية عن الجمال والشباب بالعافية المفتونة والماس الثمين تحلي به أصابعها وصدرها ورأسها. وهؤلاء شبان وفتيات من الإنكليز لا يدري أحد ما قد يكون انتاب حياتهم من فواجع، وهم يقضون نهارهم يلعبون نوعًا من التنس يطيقه سطح السفينة. أليس من هؤلاء العجائز والشيوخ والفتيات والشبان أحد غاله من أسباب الأسى ما غالنا، ومن لو تفتحت كلوم قلبه لألهبت صدره زفرات تفري المهجة وتذيب الحياة؟ وقد يكون فيهم هذا الرجل أو هذه المرأة، وقد يكون بينهم من هؤلاء أكثر من رجل أو امرأة. وأنَّى لنا أن نعرف والناس أسرار! لكن هاته الحياة الغريبة يجتمع فيها الناس بعضهم ببعض، رجالًا ونساء، ومن بينهم من تعرف ومن لا تعرف، تحمل الفرد على أن يتعالى كبرًا عن أن يحني لهم هامته، أو يظهر منه إلا ما تهش له الجماعة وتستريح إليه، كما يجعله يكبر في مغالبة ضعف نفسه لتسمو إلى مكانة من تحية الجماعة وإكرامها. حياة هذا شأنها تقوي النفس وتشغلها بكثرة تكاليفها عما يضعضع منها ويضعفها؛ ولنا في حياة المزارعين من أهل ريفنا مثل حي لصدق هذا الرأي، ولصلاح الحياة الحرة، ولدفعها صاحبها للسمو فوق مواطن الانحلال مما تهوي بالقلب إليه الحياة الحبيسة التي كانت نساء الطبقتين الوسطى والموسرة تحياها، والتي لا تزال حتى اليوم نصيب الكثرة الكبرى منهن. وكذلك يتجلى للناس أن الحرية قوام كل خير في نواحي الحياة جميعًا؛ ناحية العقل، وناحية الحس، وناحية العاطفة، وناحية الشعور، وأن الحرمان من الحرية وتقييدها مفسد للعقل والحس والعاطفة والشعور جميعًا، قاتل لحياة الإنسان كما يقتل الظلام والسجن حياة الحيوان والطير والنبات وكل ما في الوجود من صور الحياة.
وجازت الباخرة بنا «كريت» من غير أن نراها، ثم كنا في اليوم الثالث من سفرنا ننتظر أن تجتاز بنا بوغاز «مسينا»، وتناولنا شاي العصر واليابسة ما تزال تتبدى أمام النظر سرابًا لا تستقيم حدوده، فاستعنت بمنظار مقرِّب لأحد المسافرين، فأبصرت عن بعد نواتئ لعل أحدها دير أو ما يشبهه، على أنها ما انفكت تقترب ثم تقترب حتى انكشفت أمام النظر رمال «مسينا» القاحلة ورمال الجنوب الإيطالي المجدب. وكلما ازددنا من هذه الشواطئ الممحلة من كل علامات الحياة دنوًّا نجمت أمام النظر بعض علامات الحياة من منازل ومراعٍ للنعم، أو لعلها أشجار أصارها البعد في مثل نبات المراعي. والآن تبدأ تباشير مغيب الشمس، ويبدأ البوغاز في أضيق أجزائه ينكشف أمام العين لترى البحر من ورائه تنفسح لجته حتى تبتلع آفاق السماء وتبتلعها آفاق السماء. في هذه اللحظة وقفت محركات السفينة فجأة ليحاذر بها ربانها ما يحيط بها من صخور، كذلك قالوا، أما أنا فخيل إليَّ أن جلال هذه الساعة الساحرة وهذا المنظر العظيم في جماله وجدبه قد بلغ من نفسه مكان البهر، فاستمهل وتأنى ليزداد به ويزيد منه المسافرين متاعًا. ولم يكذبني المنظار المقرب حينما أراني، وما نزال بعيدين، ديرًا؛ فهذا البناء السامق في قمة الهضبة المطلة من «مسينا» على البوغاز صومعة أو دير أو طابية أقيمت لتحمي البوغاز وفناره، ولعله إلى الطابية أقرب، فهذا الفنار على قرب منه، بل بجانبه، يهدي البواخر التي ما تفتأ تعبر البوغاز، هو بحاجة إلى حماية كما يحتاج كل هادٍ إلى حماية. وعلى مقربة من الطابية، ما خلا حرمًا فسيحًا من الرمال، تقوم منازل منثورة على سفوح الهضبة لا أدري ما قوت أهلها وليس ما حولها من النبات إلا ما قدمت، وما سوى هذه المنازل القليلة على سفوح «مسينا» وجنوب إيطاليا فحجارة ورمل لا تنبت إلا التجرد والمحل، على أن لها في تجردها وإمحالها جلالًا وروعة كجلال موج البحر وروعته، ثم إن الحظ الحسن هو الذي ساقنا لنراها في ساعة المغيب حين تبدأ تكتسي، بدل قطوبها ساعات تجعد الضوء الباهر، وشيًا رطبًا تختلط فيه الحجارة بما يندى به أثير جو الغروب. وقد استوقف لين هذه الرمال والحجارة نظري زمنًا، ولفتني إلى ملاحظة لم تدُر من قبل بخاطري، فهبوط الظلام يُدخل على الأحياء الآهلة وحشة تزداد كلما أوغل الظلام إلى دجنته، وتصل بك إلى الفزع منها بعد أن تكون ألوان الخشية فالخوف فالوجل قد تسربت إلى نفسك مع كل قطعة تهبط من كسف هذا الظلام. فأما هذه البقاع القاحلة فأخوف ما تكون ساعات الظهيرة، وحين يبهر الضوء فيها الأبصار، فإذا تولت الشمس عنها بدأت تأنس إليها، ثم كان لك من نجمها، وإن غاب القمر، سمير وأنيس، وسبب هذا فيما إخال أن الأحياء أشد ما يخشى الحي، وأن الإنسان أخوف ما يخاف منه الإنسان؛ فظلمة الأحياء الآهلة لباس لكل ألوان الغدر والغيلة واللؤم والجريمة؛ أنت في كل خطوة لك فيها معرض لغادر يسلبك مالك أو حياتك، ولكمين ينصب حبائله لشرفك أو نفسك، والنور وحده هو الكفيل بهتك الكثير مما تخاف من غدر الغادر ولؤم اللئيم. فأما هذه الرمال المترامية أمامك والتي تشعر بنفسك فيها بعيدًا عن الناس والأحياء فلا تعرف الظلمة الحالكة فيها مكمنًا للؤم والغدر، ولا تخشى أنت فيها إلا الحيوان المفترس أنت ما حذرته أشد به فتكًا وأقوى عليه سلطانًا.
واجتازت الباخرة البوغاز، وأطلقت لمحركاتها العنان، وانطلقت محاذية شاطئ إيطاليا، والجو يظلم رويدًا رويدًا ونحن في شغل بذلك كله وبما تكشف عنه المقربات من أنوار تبدو على الشاطئ. وللمسافرين على البحر ولع أي ولع باستجلاء كل ما يستطيعون من مظاهر الحياة على الأرض، وكأنهم ما تزال تتحرك في نفوسهم غرائز الأقدمين من أجدادهم ممن كانوا يرون في البحر عدوًّا لدودًا لهم، ويرون في اقترابهم من اليابسة أنسًا لنفوسهم وسلم نجاة من خطر قد ينزل بهم، أو كأنما يدفع بهم إلى هذا الاستجلاء ما ركب فيهم من تطلع، فهم يحاولون والسفينة فوق البحر تجري بهم أن يستشفوا ما يجري خلال الجدران على أبعاد نائية. ولم يصرف المسافرين عن الإمعان في تطلعهم إلا رنين الأجراس تدعوهم كيما يتزينوا لطعام العشاء. وخيمت الظلمة على الوجود حين تناولنا القهوة في صالون الباخرة، وحين أعلن إلينا أنَّا بعد برهة سنمر ببركان «سترمبولي» الذي سكن منذ أيام هياجه، لكنه ما يزال يقذف في وجه السماء شيظانًا من نار يرسل الفينة بعد الفينة منها شواظًا. وعدنا إلى مراصدنا تجاه الشاطئ الإيطالي، وأمسك بعضهم مناظيرهم المقربة رغم حلكة الظلام، ثم نادى أحد هؤلاء: هذا شواظ رأيته. وحدقت الأبصار وامتدت الأعناق وحاذت السفينة منطقة البركان فإذا به يقذف من فوهته المتدثرة في حجاب الظلمة كل دقيقة أو دقائق قطعة مصهورة من حجر أو حديد تندفع في الجو كأنها شهاب ثاقب، أو كأنها النار التي يقص العجائز أن عيون الجن تتقد بها وتقدح منها شررها. وكلما دفعت فوهة البركان بواحدة من هذه القذائف ارتفع من بين المسافرين في صوت واحد نداء: ها هي ذي! ثم عادوا ينتظرون القذيفة التي تليها يتنفس عنها غليان هذا الجبل الهائج جوفه، ولما كثر ما رأينا منها هدأ نداء المسافرين شيئًا فشيئًا حتى سكن، وجعلوا ينصرفون واحدًا إثر واحد حتى باعدت الباخرة بينهم وبينها، ودخلت من الظلام في لجة كانت هي وحدها ضياءها.
وفي الغداة تناول الحديث وصولنا مارسيليا والساعة التي نبلغها فيها، وعلمنا أنَّا واصلون صباح الغد، وعلقت الباخرة الأخبار اللاسلكية التي نقلتها من المرفأ الفرنسي، فوصلت بذلك بيننا وبين حياة جديدة بمقدار ما زجت بما خلفنا في مصر في طيّ النسيان. وقصت هذه الأخبار ما تجيش به فرنسا من قلق بسبب هبوط سعر النقد فيها؛ فقد هوى سعر الفرنك حتى صار مائتين وأربعين للجنيه الإنجليزي، في حين لا يساوي الجنيه الذهب إلا خمسة وعشرين فرنكًا ذهبًا، وأدى ذلك إلى استقالة الوزارة الاشتراكية التي كان يرأسها هريو وقيام وزارة بوانكاريه الائتلافية. وقد نشأت عن الهبوط، على رواية اللاسلكي، قلاقل في باريس تنذر بقيام أهلها ضد الأجانب الذين يتلاعب نقدهم بأسعار نقدها، والذين جعلوا من غلاء الحياة على أهلها ما أزعجهم وأعاد أمام أبصارهم أسباب الثورات وأشباحها، وأعلن بعض المسافرين أنه سيبرح مارسيليا ساعة وصولنا إياها توًّا إلى سويسرا نجاة بنفسه من أن يزج بها في بلد يغلي جوفه بأسباب الثورة، كما كان يغلي جوف البركان الذي شهدنا من ساعات بقذائف الحمم … أما أنا فبقيت على عزمي أن نقصد توًّا إلى باريس؛ فهي خير مصح نبدأ به لزوجي ولي، وربما زاد من خيره أن يضطرب بأسباب القلق أهله بما يدعونا إلى مزيد من التفكير فيه وإلى مزيد مثله من نسيان أنفسنا. وقد شهدت من قبل في أمم مختلفة وفي باريس نفسها ظاهرات قلق بل ثورة، فألفيتها لا تمس إلا من ألقى بنفسه في غمارها وأخذ منها بنصيب.
ورست الباخرة بكرة الغد في مارسيليا، فلم نتمكن من مشاهدة مدخل مينائها الجميل بهضابه وبالقصور المتوجة هذه الهضاب، وأتممنا التأشير على الجواز، وجاء الحمالون فأنزلوا متاعنا إلى الشاطئ ومررنا به من الجمرك، وأقلَّتنا سيارة اخترقت بنا أحياء مارسيليا، فأرتنا من جديد حياة جديدة، وأنزلتنا فندق «نواي» لنبدأ فيه حياة الفنادق، فنبدأ حياة جديدة هي أيضًا.
•••
صعدنا إلى غرفة الفندق التي اخترنا، وصعد الحمالون إليها بمتاعنا، وأجابت جرسنا خادمة تخطو من الصبا إلى الشباب، صبوح الوجه باسمة السن، ضاحكة النظرة، متوردة الخد، ناصعة اللون، حلوة القسمات، متقاربة القوام، بضة من غير سمن، كلها حياة وصحة، وكلها هشاشة وبشاشة، ويكاد كل جسمها ووجهها ونظراتها وثغرها يصيح من فرط الشباب حبورًا ومرحًا، وما لبثت أن دخلت ففتحت النوافذ فأرتنا ميدانًا تتوسطه الأشجار باسمة الخضرة الزاهية، وأجابتنا إلى ما طلبنا في بشاشة، وخرجت كذلك في بشاشة، وأجالت زوجي بصرها في الغرفة مرة أخرى، وأطلت مرة أخرى من النوافذ، وجلست إلى المقعد الطويل تطوق ثغرها ابتسامة خالصة لم أشهد منذ ثمانية أشهر مثلها ناطقة بالغبطة والرضا، كأنها تستقبل بها هذا النوع الجديد من الحياة ترى فيه أملًا جديدًا في شيء من السعادة كان قد خيل إليها أنها فرت من بين يديها فرار الأبد، ولم يبقَ لها في شيء منها رجاء. وسعدت أنها بهذه الغبطة أن أيقنت فيها بداية البرء من سقمها النفسي الذي هد وجودها وضعضع صحتها. وبداية البرء بشير خير بتواتر تقدمه؛ لذلك أيقنت أنها واجدة في باريس الدواء الناجع لهذا السقم.
وخرجنا نجوب شوارع المدينة المحيطة بالفندق وندخل بعض متاجرها، وأخذنا عربة عند مقترب الظهر طافت بنا البرادو والكورنيش والكانبيير، ثم انتهت بنا إلى مطعم له شهرة في صنع سمك البويابيس. وأذكرني طواف العربة بنا في هذه الشوارع والمنتزهات البديعة على الشاطئ الفرنسي الجميل الكلمة المعروفة التي يسخر أهل باريس من أهل مارسيليا حين يقولونها: «لو أن باريس كان بها كانبيير لكانت مارسيليا مصغرة». ولئن يسخر أهل باريس من هذه الكلمة فللمرسيليين عنها من العذر أن متنزهاتهم هذه والبرادو في مقدمتها، لها من روعة الجمال ومن عناية بلدية المدينة بها ما ينقل إليك أثناء اجتيازك إياها من سحر ابتسام شجرها وزهرها، ومن التقاء هذا الشجر في بعض مواضعه بالكورنيش الذي يحاذي البحر وصخور شاطئه ما ينسيك كل شجن، ويطير بك على أجنحة الخيال والنسيم كل مطار.
وعدنا بعد تناول الطعام إلى الفندق نسأل عن مواعيد القطارات المسافرة إلى باريس معتزمين اجتياز طريقها أثناء الليل، لكن صديقًا ذكرني بجمال هذا الطريق، وبأنه جدير بأن يراه الإنسان في سفره، ولئن كانت أربعة عشر عامًا قد مضت منذ تركت فرنسا فإن ما لا يزال باقيًا من أثر جمال أريافها في نفسي جعلني أفضل الأخذ برأي صديقي. وكذلك أتاح لنا الحظ أن نقضي أربعًا وعشرين ساعة كاملة بمارسيليا هي أطول مدة أقمتها بها خلال المرات الكثيرة التي جزتها فيها.
وقضينا عصر ذلك اليوم نرتاد المدينة آنًا في عربة وآخر على الأقدام، وأحسب أن السير على الأقدام خير وسيلة لمن يريد أن يعرف شيئًا عن بلد يحل لأول مرة فيه. وإنَّا لفي مسيرتنا إذ استوقفنا بناء جميل فخم كله الرهبة والجلال، لا يشوبهما عبوس ولا ينقصهما حسن اتساق، وصعَّدنا النظر في واجهة البناء فإذا مكتوب على بابه: «قصر العدالة». هذا القصر إذن هو محكمة مارسيليا الكبرى، هو مأوى القانون ورجاله والعدالة وطالبيها، هو معبد كهنة الحرية والنظام في هذا العصر الديمقراطي الذي سما بحرية الفرد إلى مكان القداسة العليا، فلا رقيب عليها ولا حسيب إلا أن يحاول الفرد الاعتداء على حرية غيره، فإذا فعل ألقت عليه سلطة القانون يدها وجاءت به أمام هؤلاء الكهنة، وهم أفراد من أمثاله لا امتياز لهم فيما وراء جدران هذا المعبد عليه، فطبقوا عليه القانون الذي ارتضى، لا القانون الذي يفرض عليه ولو على كره منه. هذا المعنى جدير بأن يقام له هذا القصر، بل هذا المعبد الرهيب الجليل؛ فالعدل القائم على أساس الحرية الصحيحة هو أسمى المعاني الجديرة بالتقديس والإكبار. والناس ما استمتعوا بحريتهم، وما قام العدل بينهم ليكفلها ويحميها، جديرون بأن ينالوا كل ما يمكن أن يكون في الحياة من سعادة، وأن ينهضوا بالحياة وبالإنسانية إلى مرتبة الكمال التي ترجو الإنسانية بلوغها.
ومررنا بميدان فسيح لا تستوقف النظر عمارته، لكن زوجي استوقفتني منه عند منظر أثار دهشتها وعجبها لأخلاق «هؤلاء الفرنسيين»؛ ذلك شاب وفتاة يتحدثان في الطريق، فلما آن لهما أن يفترقا قبلته وقبلها واتخذ كل سبيله. أَوَليس مدهشًا حقًّا أن يتبادل شاب وفتاة القبلات في الطريق العام! بل في ميدان فسيح وبأعين جمهور المارة من غير أن يحول الخجل دون ارتكابهما هذا الفعل علنًا! وذكرت لها أن هذا من متعارف أخلاق الأوربيين، فهو لا يجرح حياء أحد، وهو كذلك لأنه قبلة أخوية للقاء أو وداع يعبر اللذان يتبادلانها عن إحساس جميل وعاطفة نبيلة. والأعمال تقدر، ويجب أن تقدر، بالنيات التي تدفع إليها أكثر مما تقدر لذاتها. والحياة الحرة التي بلغتها أوربا بعد جهاد طويل وثورات مضنية وتضحيات غالية، والتي أقامت بين الرجل والمرأة من المساواة والإخاء ما جعلهما يتبادلان العواطف والمنافع كما يتبادلها رجلان، أو كما تتبادلها امرأتان، قد قضت في القلوب والأذهان على الاعتبار الجنسي الوضيع الذي يجعله أكثر المصريين وأهل الشرق في المكان الأول من قدر صلات الجنسين الذكر والأنثى، وارتفعت بالنفوس إلى اعتبارات إنسانية سامية دفعت الناس جميعًا رجالًا ونساء إلى أن يتنافسوا كي يبلغوا على الحياة كل ما يستطاع من كمال، ومتى غلب نزوع النفس إلى السمو أهواء الجسم في التدلي إلى شهواته، اختلف معيار التقدير الخلقي، واختلف تبعًا له نظرنا إلى أعمالنا وأعمال غيرنا وحسن قدرنا إياها، أو إعراضنا عنها حياء منا أن تقع العين عليها. فقبلة شاب وفتاة في الطريق العام وضيعة مخجلة إذا كانت دوافع الجنس وحدها هي التي تهيج نفسيهما بها، وقبلة شاب وفتاة بريئة طاهرة ما كانت مظهر حب طاهر وعاطفة شريفة، وما دامت الحرية الحقة تفترض في الناس الطهر والبراءة، فليكن النظر العام للقبلات كلها على أنها قبلات إنسانية سامية، كقبلة الأخ لأخته، والأب لابنته، والخطيب لمخطوبته، ولتكن القبلة الوضيعة موضع إعراض عنها وإغفال لها، وكفى بصاحبيها جزاء شعورهما بعدها بأن العمل الذي أتياه ونفوسهما ملوثة يكون أبدع مظهر للطهر والبراءة صادرًا من عاطفة أنزه وأنقى. وبعد، فما هذه الصلات التي تلوث جمال القبلة وما قيمتها من نفوس مهذبة وأذهان مصقولة وعقول تدرك أن أكبر متاع في الحياة طرب الذهن لتفكير دقيق ومنطق سليم، وطرب الفؤاد لفن جميل وأدب رائع! وأجمل ساعات المرأة حين تبدو قطعة من الفن ومن التفكير، وحين تسمو كل الصلات بينها وبين الرجل لتكون فنًّا وتفكيرًا هي أيضًا.
وقضينا طرفًا من الليل متنقلين في أماكن مختلفة قريبة كلها من الفندق، وفي الصباح انطلق بنا القطار ووجهته باريس يقطع من جنات الله رُبًا وأودية وغابات وأنهرًا محاذيًا الرون السريع الاندفاع، وتتجلى للنظر من نوافذه أرض فرنسا الجميلة كلها حديقة يسقيها المطر، وتتدرج أغلب الأحايين مزارعها بين ارتفاع وانخفاض بما يلائم مسيل الماء عليها. وفي ديوان السكة الحديدية الذي كنا فيه رجال وسيدات غير ما ألفنا في أسفارنا بمصر، وهؤلاء وأولئك يتحدثون جميعًا بعضهم إلى بعض بعدما أحدث السفر بينهم التعارف. ومن بين السيدات جميلة تزهى بجمالها، ولكنها لا تراه وحده حياتها، ولا تحسب فرضًا على كل ما في الوجود أن يكون له عابدًا. ونزلت هذه السيدة كما نزل غيرها ليون والمحطات السابقة لها، وجعل رفقاء الديوان يتغيرون، يتركه بعضهم ليجيء إليه غيرهم؛ فلما تخطينا ديچون ولم يبق بيننا وبين باريس غير محطة لاروش لم يكن بالديوان غيرنا إلا سيدة نصفٌ أدنى إلى الكهولة صحبتنا من مارسيليا، وهي لا ريب تقصد مثلنا باريس. ومنذ تحرك القطار في الصباح جعلت تلتمس في حقيبتها غطاء من الشبكة لشعرها، وتعنى الحين بعد الحين بشيء من زينتها، وتقضي ما بين ذلك ملقية نظرها على كتاب بيدها أو مجيلة إياه في الفضاء، فلما انفردنا وإياها بعد ديچون اتصل بيننا وبينها حديث عرفتْ منه أننا مصريان نقصد إلى مدينة النور تسليًا بها عما أصابنا، وأنني أعرف باريس أن قضيت ثلاث سنوات في طلب العلم بها، وعلمنا نحن أنها كانت مدعوة في الحفل الذي أقامته شركة المساجيري ماريتيم لتدشين الباخرة ماريت باشا، وأن الباخرة سافرت بهم ذهابًا وجيئة بين مارسيليا وبرشلونة بإسبانيا، وأطلعتنا على صور صالون الماريت وغرفة الطعام بها وبعض غرف نومها. وسألتها هل دعيت بوصفها صحفية، ليكون لي شرف مزاملتها، فما كان أشد عجبي حين علمت أنها الكاتبة الفرنسية الكبيرة مارسيل تنير صاحبة «هللي» و«بيت الخطيئة» و«ملاحة العيش» وغيرها من الروايات التي يشيد بها الأدب الفرنسي وتشيد به. وذكرت لها ما قرأت منها وما أثار إعجابي من كتبها، فاستحيت وعدلت بنا عن حديث الأدب، وأخذت تحادث زوجي فيما لا يمل النساء الكلام فيه: الملابس، وأعطتها عنوان خياطة زكَّتها بأنها متقنة غير عالية الأجر، وحذرتها من المحلات الكبيرة التي تستغل الأجانب شر استغلال. وعجبت أنا لهذا حتى خالجني الشك في أمرها؛ فإن كانت حقًّا مارسيل تنير فما بالها تعدل عن حديث الأدب الفرنسي حتى كأنها لا تعرف عنه شيئًا؟ وما بالها وقد تجاوزت بعد الشباب مراحل تظهر كل ما أظهرت من عناية بزينتها؟ ثم ما بالها تقف من حديثها عند الملابس شأن أية فتاة وأية سيدة لم تنل من التثقيف والتهذيب حظًّا يذكر، بل لم تنل منهما أي حظ؟ ولكنها إن لم تكن مارسيل تنير فلماذا تسمَّت باسمها؟ وإن تكن هي حقًّا، وكان ما أثار عجبي أغلب شأنها، فما أشدها شبهًا بشعراء وأدباء عرفت وأعرف لا تلمح على سيماهم أي مظهر للنبوغ، بل للموهبة، وهم مع ذلك في الشعر والأدب فحول مقدمون، وكأنما يتنزل عليهم الوحي في سر من الناس، أو كأنهم إذا فرغوا من تصوير ما يلهمون شعرًا أو نثرًا خلت أفئدتهم في انتظار وحي جديد. وهذا جان جاك روسو الكاتب الخالد يذكر عن نفسه في اعترافاته أنه كان في الجماعات أقرب إلى العي وأبعد ما يكون عن حضور البديهة وتوقد الذهن. وهذا أمير الشعر العربي في عصرنا أحمد شوقي بك يصل منك الإعجاب بشعره إلى غاية المدى، فإذا تذاكرت معه في شيء عن الأدب العربي أو الأدب الفرنسي خيِّل إليك أنه لا يعرف شيئًا منهما. فلعل مارسيل تنير، إن تكن هي التي رأيتها، من طراز روسو وشوقي، أم لعلها استكبرت عن أن تحدثنا في أدب فرنسا وقد ذكرنا لها أننا مصريان، وفي ذهنها مثل ما في أذهان أكثر الأوربيين عن مصر صورة شوهاء بتراء لا تشرفهم؛ لأنها تدل على جهالة ما كان يصح بقاؤهم متورطين فيها. وإذا كان لي أن أبتعد عن هذا التأويل بعد ما عرفت مني أني قضيت بباريس ثلاث سنوات في الدراسة العالية فإني لا أظنه مستحيلًا، وقد رأيت من جهابذة العلم والأدب في أمم مختلفة بأوربا من يبلغ بهم سوء التصور حتى ليحسبون أن ليس ثمة معرفة بالعلم والأدب في غير أوربا ولغير الأوربيين …!
على أنها رأت حينما قاربنا باريس ألا تترك في خيال زوجي صورة وهمية من عاصمة فرنسا تجعلها، حين تراها مدينة كالمدائن، تشيح عنها بوجهها وترى رحيلها إليها وما قطعت من بحار وأقطار لهوًا وعبثًا، فذكرت لها أن باريس شوارع وطرقات ومنازل وعمارات، وأن بها أحياء فقيرة كغيرها من المدن وكالقاهرة نفسها، وأن الكثيرين الذين يفدون لأول مرة إليها يظنون قبل نزولهم إياها أن مبانيها حجر من ذهب وحجر من فضة، وأن هواءها معطر بالورد، وأنها بعض ما ورد في ألف ليلة وليلة من مدائن الخيال، فإذا رأوا أن لا شيء من ذلك فيها أعرضوا عنها واعتزموا الانصراف إلى غيرها، لكنهم ما يلبثون بها زمنًا حتى يتبدى لهم أن جمال باريس روح باريس، وأن الإنسان كلما ازداد بهذا الروح اتصالًا ازداد به تعلقًا وشغفًا. ووافقتها أنا على ذلك تمام الموافقة، وأضفت أن ما يبدو للنظرة الأولى من باريس هو أقبح جمال باريس، وأن طول المقام بها والمزيد من التعرف إليها والاختلاط بصميم حياتها، ذلك هو الذي يكشف عن روعة جمالها وعظيم بهرها.
وبلغ بنا القطار مدينة النور قبل منتصف الليل بساعة، فإذا أرصفة محطة ليون من محطاتها تكاد تكون خالية، وإذا نورها ضئيل، وإذا بنا نصيح بحمال ينقل متاعنا خارج المحطة فلا يجيبنا أحد زمنًا غير قليل، ومتاعنا كثير غير سهل الحمل، فجعلت أدور هنا وهناك مناديًا: شيال، شيال، حتى عثرنا منهم على من أوصلنا إلى «أوتموبيل» أقلنا ومتاعنا إلى فندق شاتام مجتازًا أكثر الشوارع خلاء وسكونًا في هذه الساعة الساكنة بطبعها من ساعات الليل. وكان السفر قد هدنا تعبًا ولغوبًا، فأوينا إلى غرفتنا منتظرين بكرة الصباح لكي نستقبل باريس وتستقبلنا باريس.