الآستانة
أذكر يومًا من صيف سنة ١٩١٠، وكنت بمونتريه من أعمال سويسرا، إذ أخذ بنظري مغرب شمس بديع على بحيرة ليمان الساحرة الجمال، وكنت يومئذ أسيح وحدي ولم يكن لي بد من أن أفضي بإعجابي إلى أحد. وكان عامل الأسنسير (المصعد) أول من لقيت في هبوطي من غرفتي إلى قاعة الطعام، فسألته هل رأى الشمس وغروبها؟ ثم لاحظت له: كيف تكون بلاد بها هذه المناظر ولا يكون أبناؤها جميعًا شعراء؟! وابتسم الفتى قائلًا: إن في سويسرا شعراء، ولعله كان يستطيع أن يقول لي: ولم لا يكون الناس جميعًا علماء والعلم في متناولهم جميعًا والجامعات مفتوحة لهم أبوابها. إنما الشعر والعلم والحكمة هبات تخلعها الطبيعة على مختاريها، والذي يفيض إحساسه بمنظر مغرب الشمس البديع على بحيرة ليمان وبين جبال الألب فيتغنى بهذا المعنى صادقًا في التعبير عن شعوره، لا يكون إلا أحد الممتازين من أصحاب المواهب.
ولو أني اليوم كنت في مثل ما كنت فيه سنة ١٩١٠ من تقدير الإنسانية ومواهبها لألقيت على أهل الآستانة السؤال الذي ألقيته على السويسري عامل الأسنسير، فكيف تكون بلاد بها هذا البسفور والجبال المحيطة به والتاريخ الذي يتوجه، ولا يكون أبناؤها شعراء جميعًا؟! بل كيف يشدو بالبسفور وجباله وأقماره وتاريخه أجانب أمثال بيير لوتي وكلود فارير أكثر مما يشدو بها أي تركي؟ ولكني اليوم أقل تقديرًا لطاقة الإنسانية منذ بدء الصبا؛ ولذلك كنت أكثر تفكيرًا في العوامل التي أدت بالأتراك إلى ألا يكون من بينهم مئات الشعراء الذين يتغنون بهذا الجمال الساحر بعض ما تغنى العرب بالعيس والبيداء والخيام والأطلال، ولست أعزو هذا إلا إلى هذا السبب الذي أحسبه متصلًا بعوامل شتى؛ بعضها براعة جمال البسفور براعة يقصر عنها الوصف؛ وبعضها تأثر الأتراك بالحياة الدينية من طريق قيامهم بأعباء الخلافة تأثرًا أنساهم ما في هذا العالم الفاني من جمال؛ وبعضها طبع الأتراك الحربي؛ وبعضها ما أحيط بالأتراك من عوامل قاسية أقامتها مقتضيات السياسة التي كانت تنظر إلى هذه الدولة الإسلامية نظرة عدوان وعسف؛ وبعضها — ولعله أهمها — قلة تقدير الرجال لهذا الجمال، لأن المرأة لم تكن تتوِّجه بتاج الحرية السافرة، وكل جمال لا تتوجه المرأة يقل قدر الرجل له؛ فالمرأة كمال الرجل ومنبع بقاء الإنسان وخلوده. وهل الجمال إلا كمال ما يراه الإنسان من مظاهر الوجود الباقية بقاء الخلد أو المتجددة تجددًا يجعلها باقية؟! والآن وقد سفرت المرأة التركية سفور حرية لا سفور ملبس، وقامت بالشعب التركي نهضة مدنية إلى جانب سلائقه الحربية، وأصبح يأخذ من الدنيا بنصيب كأنه يعيش أبدًا، فقد انفسح الأمل في أن يقوم من بين الأتراك ومن بين أهل عروس البسفور أولئك الشعراء الذين يلهمهم خلد الإنسانية المتجسد في المرأة أسمى معاني الشعر، فيسبغ خيالهم على هذه البقعة المباركة من بين ما باركت الطبيعة بجمالها وجلالها ما تثيره هي في نفوسهم الحساسة من صور الجمال والجلال.
والحق أن البسفور والآستانة بعض هذه الفلذات من الجنة فر بها آدم وحواء يوم أخرجهما منها ربهما، فنثراها في بقاع الأرض نثرًا، أليس أجمل ما في الحياة دوام تجددها إلى أن تستقر إلى خلد من السكينة يغنيها عن التجدد ويسمو بها من درجات الحياة إلى مراتب الآلهة! والبسفور والآستانة خلعت عليهما الطبيعة من دوام التجدد ما يمسك النظر عندهما أيامًا وأيامًا فلا يرى إلا جديدًا. انظر إلى هذه الجبال عن جانبي المضيق تتجدد صورها وألوانها كل لحظة من النهار بتغير الشمس عنها، وبالسحب تحجبها ثم تهتك حجبها، وبالمطر يهمي ثم يقلع، وبالرياح تهز أشجارها وحشائشها أو تذرها مطمئنة ساكنة، وانظر إلى هذه الصفحة، صفحة مياه البوغاز، راكدة مرة، متموجة أخرى، متلاطمة ثالثة، عابثة بالضوء وأشعته عبثها بالقتام ودكنته. وانظر إلى هذا القمر يحبو سابحًا في لجة السماء كما تحبو السفن تحته في لجة الماء. وانظر ما خلف التاريخ من قصور في عظمتها تجهُّم وفي ابتسامتها رهبة، ومن مساجد ترتفع فوق مآذنها الدعوة إلى الصلاة ينادي إليها اليوم متقبع لا تحجب القبعة ما بينه وبين الله أكثر مما كانت تحجب العمامة أيام كانت تركيا «الرجل المريض» تتنازع دول أوربا على اقتسام تركته. ثم انظر إلى ما أحدثت مدنية اليوم؛ انظر إلى سيدات تركيا السافرات المتوجات جمال القنن الرفيعة والموج الزاخر كما يتوجن جمال ما في السماء والماء، انظر إليهن ما يزلن في إقدامهن إلى الحرية على استحياء من هذه الحرية التي كانت بالأمس تحسب عليهن ذنبًا وعارًا، والتي هي اليوم زينتهن وزينة تركيا رجالًا ونساءً، شعبًا وقادة.
انظر إلى هذا كله وإلى دوام تجدد صور الجمال فيه يبهرك فيجل عن وصفك إياه … ما بالك إذا أنت أمعنت في ركوبك البسفور صوب البحر الأسود، فرأيت نفسك تحبو بك السفينة من جمال إلى براعة إلى بهر إلى ذهول لا يرد عليك روعك بعدها إلا موج هذا البحر الأسود المترامي العباب الداكن السحاب، بما أطلق على مياهه التي تعكس صورة سمائه ذلك الاسم الأسود!
على أنك واجد داخل الآستانة وخلال التلال السبعة التي بنيت عليها أودية وأخاديد لا تقل عن البسفور وجباله شعرًا. ذهبت أول ليلة نزلت فيها الآستانة مع أصحاب يقيم بعضهم بعروس البسفور، إلى ملهى في حدائق «تكسيم»، فرأيت فيه ما ترى في القاهرة وفي الإسكندرية من رقص وموسيقى تقوم بهما حثالات من طريدي الفن الأوربيين الذين لم يجدوا في بلادهم مرتزقًا، فهبطوا إلى حيث يتلقف الناس مظاهر مدنية الغرب الغالبة بحذافيرها، فلا تصل أيديهم أغلب الأمر منها إلا لما يلفظه أهلها احتقارًا واشمئزازًا، فطلبت إلى صديق لي يقيم بتركيا من سنوات أن نذهب في الليلة التالية لنشهد منظرًا تركيًّا بحتًا. قال صاحبي: إذن فلنشهد منظرًا تركيًّا قديمًا؛ فتركيا الحديثة لما تجدد لهوها المعيد لنشاط الحياة. وذهبنا إلى «شفلك بارك»، وكان الأتموبيل في طريقنا إليه يسير في طرق ترتفع، ثم ترتفع، ثم ترتفع، حتى إذا كنا عنده التوى الطريق منحدرًا، ثم وقفت العربة عند باب دخلنا منه إلى البارك مقابل أجر لا يزيد على خمسة مليمات، ونظرت فإذا وهدة مضيئة تنبعث منها أشعة الكهرباء مختلفة الألوان كما تنبعث أنغام موسيقى تركية رقيقة هادئة، وانحدرنا ثم انحدرنا في طرق عنيفة الانحدار والأنوار تقترب منا رويدًا رويدًا أثناء انحدارنا، فإذا بركة مستديرة من الماء صفت على جوانبها مقاعد جلس إلى بعضها رجال، وإلى بعضها سيدات، وإلى البعض سيدات ورجال معًا، وكل أولئك من صميم الأتراك. ودرنا حول الماء حتى اقتربنا من مكان الموسيقى ومقعد المغني، وتخيرنا مكانًا جلسنا إليه، وأجلت الطرف فيما حولي من مرتفع ومنخفض ومن بركة مياه ومن آلات طرب ومن سيدات في جمال قيان الرشيد ورقتهن، ثم خلتنا في إحدى ليالي الخليفة على ما وصفها «ألف ليلة وليلة»، لا ينقصها إلا الستور من ورائها الجواري، وإلا السقاة الحور والغلمان كأنهم اللؤلؤ والمرجان، لا أولئك الشحوط الخفراء المرتدون ثياب أهل الدنيا من «الجرسونات».
وشدا المغني على أنغام الموسيقى، وذكر صاحبنا أنه ينشد أهازيج في الحب، وكان غناؤه حبًّا شرقيًّا فيه استسلام حلو وعبادة وخضوع، حب لا يعرف الثورة ولا يعرف الانتحار، وإنما يعرف الضراعة والرجاء، ويعرف الشجا والدموع، حب يترفق صاحبه في النداء باسم محبوبته، ويرجو الليل أن يحمل على أجنحة الستر إليها رسالته، فإذا استبطأ الرسالة وحسب أن نداءه ذهب سدى لم يقتحم مستور الليل ولم يهتك حجبه، بل ازداد رفقًا، فوصل به الرفق إلى البكاء، ثم إذا خيط ضعيف من الأمل يبدو في سواد الدجنة، فإذا البكاء انقلب رجاءً باسمًا في غير ضحك، ثم يزداد الأمل فيزداد الرجاء معه، ويضعف الأمل فتغرورق العين من جديد، وبين رجاء يبسم وبكاء لذهاب الرجاء انقضى أكثر من دور من أدوار الغناء، وانقضى الوقت وقمنا تاركين وراءنا في «شفلك بارك» فلذة أخرى من سحر الجمال.
•••
ماذا فعل الإنسان بهذا الموقع الطبيعي من يوم استقر فيه واستعمره؟ هل حبب إليه هذا الجمال الحياة فشغف بها وهام؟ أم هو ازور عن الجمال وعن فتنة الطبيعة والدنيا وكان أكثر عكوفًا على العبادة والزهد كلما كانت الدنيا له أكثر فتنة؟ فأما ظواهر التاريخ فتدل على أن هذه البقعة باركتها الأديان أن جاهدت هي في سبيل رفعة الأديان، وأنها لذلك كانت في الدنيا وباطل زخرفها زاهدة. ألم يشدها قسطنطين لتضارع روما رافعة لواء المسيحية؟ ألم تبن فيها «أيا صوفيا» كنيسة لا تقل رهبة ومهابة عن كنيسة القديس بطرس في روما وإن تخلت لها عن الرشاقة والبهرج! وظلت مدينة قسطنطين تضارع روما مهدًا للنصرانية حتى فتحها المسلمون، فجعلوا من «أيا صوفيا» مسجدًا تقام فيه الصلوات ويؤدي الخليفة فيه فريضة الجمعة، ثم لم يكتفوا بأيا صوفيا، بل شادوا من المساجد لذكر الله عديدًا. ولعلهم شادوها لتشعر إذ تدخل فيها غير شعورك حين تدخل أيا صوفيا، فأنت تبهر، لا ريب، بعظمة عمارتها، وأنت تستشعر فيها الرهبة التي يبعث بها الإيمان إلى القلوب، كأنك في حضرة الله ذي الجلال، لكنك لن تستطيع أن تحول بين نفسك والإحساس بأن هذا المعبد كان كنيسة. وكيف تستطيع ذلك وكل ما حولك ينادي بأصل أيا صوفيا! هي في دسامة نقشها وفي تكفيت سقفها وجدرانها بالذهب كنيسة، وهي بالصلبان ما تزال بادية الأثر برغم محوها وطلاء مكانها كنيسة، وهي بوضعها الهندسي وبانحراف قبلة الصلاة فيها عن وسط جدرانها المقابل للباب كنيسة، وكل ما أضيف إليها من مرافق الوضوء ومن منبر الخطابة ومن مآذن الدعوة إلى الصلاة يبدو مضافًا برغم دقة صنعه والعناية باتساقه مع سائر المكان. فوجب أن يشيد المسلمون مساجد لا تقل عنها عظمة وإن استبقوها مسجدًا شاهدًا بفتحهم وغلبهم، ولقد فعلوا وبلغوا مما أرادوا كثيرًا. وجامع السليمانية لا يقل عن أيا صوفيا عظمة ولا مهابة ولا رهبة ولا جلالًا، شاده المعمار سنان بأمر سليمان القانوني، فجاء آية لإبداع فن المعمار في عصره؛ تدخله فإذا أنت يهبط عليك من كل جانب من جوانبه خشوع يمتلئ به قلبك، وابتهال لله أن يغفر ذنبك؛ خشوع تبعث به ظلال كأنها الظلمة المنتشرة في أرجاء بيت الله، وتبعث به عظمة عمارة المكان عظمة قليل مثلها في المعابد. عمد ضخمة النقوش، فوقها قبة كبرى تحيط بها قباب أو أنصاف قباب يمسك الكل سائر سقف المكان؛ وذلك كله مزخرف بنقوش من القيشاني ومن الذهب فيها عبوس وفيها رهبة. وفي أكثر من ناحية من المكان «مبلغات» وكرسي الكهف، وكلها كالقبلة وكالمنبر دقة نقش وصناعة. وأنت إذ تجتلي منها آية ذلك وجلاله وجماله لا تنسى السجاجيد سجاجيد هركة مما تطؤه قدمك باحترام وتقديس؛ لأنه فرش المسجد، ولأنه بديع جميل. وفيما أنت في متاعك بهذه العمارة العظيمة إذا رجال ونساء جاءوا إليها لا لمتاع كمتاعك ولكن لعبادة رب هذا البيت في ضراعة وإنابة، جاءوا فخلعوا قبعاتهم وتوضأوا وذهبوا إلى مكان الصلاة فنحوا القبعات جانبًا وصلوا. وكانت السيدة التي تؤدي فريضة ربها أثناء زيارتنا السليمانية منتحية مكانًا من المسجد لعله خصص للسيدات، ولا أحسبه كذلك بعد إذ أخبرنا الدليل في «أيا صوفيا» أن الرجال والسيدات يصلون جنبًا إلى جنب؛ لأن أولئك وهؤلاء سواسية أمام الله، فيجب أن يكونوا سواسية في بيت الله.
وبين أيا صوفيا والسليمانية جامع السلطان أحمد، وهو إن يك أقل منهما رهبة فله جماله. وفي الآستانة غير هذه المساجد الثلاثة مساجد لا يحصيها العد، لكل منها رهبة ولكل منها جمال، وتشهد كلها بأن الأديان باركت هذه البقعة، فصدف الناس عن جمالها وزهدوا في الدنيا وباطل زخرفها.
لكنك ما تكاد تذر المساجد ورهيب جلالها وتخرج إلى الدنيا وتطالع البسفور وقرن الذهب من جديد، حتى ترى أن ظواهر التاريخ هذه ليست إلا ظواهر، وأن هذه الفلذة من الفردوس فتنت الناس بجمالها فافتنوا في ألوان المتاع بها، وأن الذين شادوا هذه المساجد كانوا أشد أهل الأرض تورطًا في متع الحياة ولذاتها، وإنما كانوا يخدعون بها الشعب يصرفونه عن السمو بنظره إليهم ويخادعون بها الله يلتمسون إليه زلفى، بل لعل تورط أهل هذه البقعة في الآثام هو الذي دعاهم إلى كثرة التوجه إلى الله يستغفرونه عن خطايا لا مناص لإنسان من الوقوع فيها وحوله من المغريات بالإثم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
انظر إلى هذه الدور الفخمة مما سوى المساجد؛ هي ليست دور علم، ولا مدارس فن، ولا هياكل حكمة، ولا متاحف آثار، وإنما هي قصور بناها الملوك والسلاطين والأمراء والأثرياء لمتاعهم ولذتهم، وما تزال كذلك إلى يومنا الحاضر إلا الأقل منها؛ فهذا قصر «تب كابو» الذي كان مقر ملك البيزنطيين فاستولى عليه الغزاة وجعله محمد الفاتح وخلفاؤه الأولون مقرًّا لهم، قد أصبح اليوم متحفًا يزوره الناس جميعًا، ولكن أتدري ما الذي يعرض فيه؟ تحف نادرة مما استولى عليه الغزاة أثناء فتحهم: عرش فارسي نفيس مرصع بالأحجار الثمينة، وعرش آخر مصري جاء به السلطان سليم لما غزا مصر، ثم تيجان سلاطين آل عثمان وخلفاء المسلمين. يا لجمال ما كان ينعم به خلفاء أبي بكر وعمر! كل تاج مرصع بماسات تخر أمامها كل امرأة ساجدة ولو كانت أشد الناس في الحياة زهدًا وإلى الله قربى، وإلى جانب الماس أحجار ثمينة من اللؤلؤ والمرجان والعقيق والفيروز جلت عن الأشباه والنظائر، وهذه التيجان تتتالى واحدًا بعد الآخر تحلي عمامات وضعت على رءوس وأجساد من قماش، وتاج كل خليفة يبذ تاج الخلفية الذي سبقه ثراء وسناء. وفي الأجنحة الأخرى من «تب كابو» مقاصير السلاطين، وكل مقصورة — أو كشك كما يسميه الأتراك — آية في ثراء التأثيث بالطنافس والمذهبات. وإذا كانت دقة الفن تنقص هذا الأثاث والمقاصير التي تشتمله فإن ما فيه من تكاثر وبهرج مكسال لينطق بحب أصحابه الجم للنعيم يغرقون فيه إلى الأذقان وإلى الرءوس. وإلى ناحية من القصر كشك بغداد يرسم في نفسك «بكنبه» و«شلته» يضيف إليها خيالك هذه العمائم الكبيرة التي تحمل التيجان، صورة الترف والرخو الغارق في أنهار من خمر وفي عبير المسك تنشره الجواري الجميلات البضات يتخللهن الغلمان يحملون «الشبكات» المرصعة المقابض بالدر والجوهر، هذا و«تب كابو» أقدم قصور الآستانة وأقلها زخرفًا وأكثرها حديثًا عن ثورات الانكشارية ممن كانوا يعلنون العصيان في فنائه أو في مياه البسفور التي تطل عليها نوافذه.
ولما انقضى لآل عثمان عهد الفتح واكتفوا بإمبراطوريتهم المترامية الأطراف في أوربا وآسيا وإفريقيا، فكر خلفاء محمد الفاتح من السلاطين في المتاع الجم بالدنيا ونعيمها، فلم يكفهم «تب كابو» وبنوا قصور «شراغان» و«ضلمه بخشه» و«يلدز» وغيرها، كما بنى الأمراء والوزراء من القصور ما تتزين به شواطئ البسفور وقمم تلال الآستانة. وفي هذه القصور اجتمع من أسباب الترف ما لم يعرفه لويس السابع عشر ولا غيره من أشد الملوك إمعانًا في الترف واللذة. زرنا قصر يلدز الذي أصبح اليوم ملكًا عامًّا، فأجرته بلدية الآستانة ناديًا للقمار وفندقًا ومطعمًا، فبهرتنا عظمته وجلاله، وإن لم يأخذ بالنظر فيه شيء من الفن ودقته. وطفنا أنحاءه وذكرنا قصر فرساي وقصر فونتنبلو بفرنسا، وقصر وندرسور بإنجلترا، وأسفنا أن أصبح مقر خلافة المسلمين وسلطان آل عثمان ملهى وملعبًا بدل أن يكون متحفًا قوميًّا أو يكون مدارس ومعاهد للعلم والفن. وفي أثناء زيارتنا القصر رأينا (الأغوات) الذين خدموا عبد الحميد إبان ملكه ما يزالون يحرصون على أن يظلوا في قصر كان مقر ملكه، ولو كانوا مع ذلك خدمًا لرعاياه وأتباعه، ولو خدموا سيدات من عامة الشعب بدل مئات الجواري الحسان اللائي كن لإمام المسلمين وخليفة رسول رب العالمين متاعًا ولذة. وكم من قصور كانت كقصر يلدز مباءة شهوات وملعب نسوة يتلهى بها أمير المؤمنين ساعة يستريح من حكم المؤمنين ومن السهر على طمأنينة دينهم ودنياهم وأنفسهم وأرواحهم! وكقصور الخلفاء كانت قصور الأمراء والوزراء، وكان ما يجبى من هذه الإمبراطورية العظيمة الممتدة من الأناضول إلى العراق إلى عدن إلى مصر وطرابلس وتونس، ينفق أكثره على ما في هذه القصور الكثيرة من ملاذ وشهوات يحرض عليها جمال هذه البقعة الساحرة من بقاع الجنان. فأما الشعب في تركيا وفي الإمبراطورية جميعًا فكان عبدًا يستغل لسد حاجات هذه الشهوات، ثم تشاد له المساجد ليسمع فيها من الوعظ ما يزهده في الدنيا ومتاعها طمعًا في الآخرة ونعيمها، فلا يسمو بنظره إلى هؤلاء المختارين لسعادة الدارين بالملك وبالخلافة، ولا يسألهم عما يستنزفون من عرق جبينه حسابًا.
على أن الشعب التركي المقيم مع حكامه على ضفاف هذه الفلذة من الفردوس لم يكن يستطيع أن ينسى نصيبه من الدنيا، وأن يتخلص من فتنة البسفور وسحره وإن كان هذا النصيب من فتات متاع الخلفاء والعظماء. وإن كان ما يقصه الكتاب وما ترويه الأقاصيص عن افتتان طوائف الأتراك جميعًا في ألوان المتاع، بل في التمتع بمتاع الآخرين، ليس إلا أثرًا محتومًا لهذا الجمال الذي خلعته الطبيعة على بقعة الأرض التي يعيشون فيها، فما من لذة أو متاع مما تشتهيه الأنفس إلا تسمع للترك فيه فنونًا لا تجاريهم في مضمارها أمة من الأمم.
هذا الانهماك في أسباب اللذة بعد استتباب أمر المماليك المفتوحة للأتراك هو الذي نزل بتركيا من مكان عزتها شيئًا فشيئًا، حتى جعل منها «الرجل المريض» زمانًا طويلًا، وهو كذلك الذي أثار من خلاله تركيا الفتاة، وهو الذي أدى آخر الأمر إلى نهضة تركيا الحديثة نهضة مكنت فيها الديمقراطية وأجلت عنها عوامل الاستهتار والفساد. وهذه النهضة هي التي جعلت من «يلدز» العاتبة ملعبًا للشعب، ومن شبان العصر الحاضر القوة الحاكمة لتركيا الحديثة. ومظاهر هذه النهضة هي ما نرى في تركيا كلها وما نرى في الآستانة من انتقال من أحلام «ألف ليلة وليلة» إلى الواقع المحسوس من حكم المدنية الغربية واستعلائها.
•••
وتتلخص النهضة التركية في الآستانة وفي غيرها في عبارة بسيطة: الفصل بين السلطتين الدينية والزمنية، وجعل علاقات الناس بعضهم ببعض زمنية كلها خاضعة لمبادئ الديمقراطية يمتد إليها جميعًا سلطان التشريع الذي يقوم به نواب الأمة، وقيام هذه النهضة بالإصلاح المستمد من الحضارة الغربية، وإقامة ذلك على أمتن أسس ممكنة، وتطبيق آثاره بقوة القانون على كل مظاهر الحياة. وكانت أولى مظاهره البادية للعيان هي الملبس؛ فكان العهد القديم يجعل لكل طائفة لباسها: يجعل لرجال الدين لباسًا، ولطوائف السراة لباسًا، وللفقراء لباسًا، كما كان يقضي بحجب المرأة عن الاشتراك في حياة الجماعة، فقضت النهضة الديمقراطية على هذه المظاهر المتباينة، وجعلت لباس أهل الحضارة الغربية (القبعة) لباس الناس جميعًا، كما حررت النساء وجعلت القبعة أو ما في صورة القبعة لباسهن جميعًا أيضًا. وإذن فقد أصبحت الآستانة متماثلة في صورة أهلها. حدثني صديق قال: كان المعممون في تركيا يحتشدون في ميدان فسيح فيها، فلا تكاد ترى غير بياض العمامة غطاء للرءوس، وكان هؤلاء يتخذون من لباسهم الذي يشبه المسوح وسيلة لامتيازات تخليهم من التكاليف العامة كالجندية وغيرها، وكانوا إلى جانب ذلك سبب ارتباك مستمر بسبب ما يخلقونه في نظام الحياة وفي سبيل التطور من مشاكل وعقبات، فلما زال هذا اللباس زالت معه الامتيازات والمشاكل، وأصبح الحكم للقانون وحده، وأيقن الناس أن نظام الطوائف في منافاته للديمقراطية يعطل كثيرًا من صور الحرية، فاستراحوا إلى هذه المساواة الجديدة أيما استراحة. وكان النساء يخرجن في ملابس مختلفة يدل بعضها على العظمة أو الاستعباد، فصرن جميعًا يخرجن سافرات، ويلقيين الرجال ويتحدثن إليهم ويبعثن إلى نفوسهم شعر الحياة والتعلق بها والعمل فيها؛ لأنهن صرن قوى ذات نشاط، لا مجرد متاع وضيع. وقوَّى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية هذا الروح الجديد: روح المساواة، وبعث إلى نفوس الناس جميعًا شعورًا بالكرامة الإنسانية يتساوى فيها الكل؛ لا فارق بين غني وفقير وعامل وصاحب مال.
ومظاهر الحياة في الآستانة تشهد كلها بصدق ما قال صاحبي، وإن كانت آثار الماضي ومفاسده ما تزال تبدو هنا وهناك في كثير من المظاهر مما لم تمكن الأحوال العامة الدولة من إصلاحه، ومما لم تستطع النفوس التخلص منه في هذه البرهة الوجيزة التي انقضت على الإصلاح الوليد منذ أربع سنوات؛ فأنت لا ترى اليوم في الآستانة ما لا تزال تراه في القاهرة من أزياء مختلفة يقصر دون تباينها واختلافها كل ما خلق الخيال عن برج بابل، بل ترى تناسقًا ووحدة يتفق فيها الأتراك وغيرهم من أهل الحضارة السابقة، وبذلك قضى الأتراك على نظام الطوائف الذي كان يشعر بنضالها وعدوانها، وقضوا كذلك على شعار ليس من الدين ولا من مقوماته في شيء، ولكنه كان مظهر حرب دائمة بين أهل الأديان المختلفة، قد تتفق مع روح العصور الماضية ولكنها تنافي الروح الزمنية الحاضرة، وينكرها المعنى السامي الذي يجعل الإيمان صلة روحية بين المرء وربه لا يخضع لقانون ولا يحدده سلطان، على حين يحدد القانون صلة الإنسان تحديدًا يختلف حسب ما يقضي به خير هذه الصلات، ويتغير ما تغير تقدير الناس للحياة وسعيهم فيها.
ومظهر النهضة التركية في تحرير المرأة أجلى وأجمل، وإن كان قد استثار أسف كثيرين من الكتاب الأوربيين الذين كانوا يعجبون بحجابها الرقيق الذي يحيطها بالأسرار، كما كانوا يرون في زيها وفي زي الرجال ما يجعل الآستانة متحفًا لعاديات تبدو كأنها من الأحياء، ولها في نظر هؤلاء الكتاب بهاء الآثار القديمة وجمالها. قضت النهضة على هذه الصورة، وجعلت حياة تركيا حياة حاضر؛ لأن الأتراك يريدون — على حد تعبير قوي لتوفيق رشدي بك وزير الخارجية التركية — أن تكون لهم متاحف في المدن، لا أن تكون مدنهم متاحف. فكما تساوى الرجل التركي بالرجل الأوربي في مظهره، تساوت المرأة التركية بالمرأة الأوربية في حريتها وفي زيها؛ فأنت ترى الطرقات مكتظة بالرجال والسيدات على السواء، وترى مساواة في الحرية قد خلقت بين الجنسين الاحترام، وترى المرأة ازدادت بذلك نشاطًا وجمالًا. لم تبقَ الفتاة التركية الغضة البضة الكاعب اللعوب، ولم تبقَ نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل، ولم تبقَ أنوثتها تلك الأنوثة المبالغ فيها إلى حد لا تبقى معه لها غاية من الحياة غير إرضاء الرجل ومتاعه، بل أصبحت المرأة التركية إنسانًا كالرجل: تكاتفه في الحياة وتعاونه في القيام بأعباء النهضة، تراها وإياه في الطرقات وفي المنتديات العامة وفي أسباب السعي جنبًا إلى جنب محتفظة بكل المعاني الإنسانية. وأنوثة المرأة إحدى هذه المعاني التي يجب أن تكمل من غير أن تجني على كمال سائر المعاني الإنسانية، وبذلك رقيت المرأة ورقت، وبذلك صارت قوة في الحياة، وصارت شعرًا ذا معنى إنساني، وبذلك استحقت المحبة الصحيحة والإجلال والاحترام.
إلى جانب هذين المظهرين البارزين من مظاهر النهضة في الآستانة ترى نشاطًا في كل نواحي الحياة يؤذن بأن ينقل تركيا إلى الحضارة، إذا لم تك في العناصر الرجعية حياة باقية، وسمحت موارد الدولة باستمراره. والحق أن الآستانة بحاجة إلى أموال طائلة لتكون مدينة كبيرة يتفق مجهود الإنسان فيها مع ما حبتها الطبيعة به من جمال؛ فهذه القصور وتلك المساجد لا تكفي مظهرًا للجمال الذي يخلعه سعى الإنسان على مدينة خلعت عليها الطبيعة ما خلعت على الآستانة، بل يجب أن يغمر ما يجمل به الإنسان مدنية المدينة كلها وكل ما فيها ومن فيها، لا أن يكون وقفًا على أفراد، هم أهل الحكم والمتصلون بهم. ولأهل تركيا في القائمين بأمرها اليوم رجاء يمكن أن يتحقق، إذا لم تقم لعناصر الماضي قيامة من جديد.
على أن النهضة التركية أبعد مدى وأعمق أثرًا مما يتجلى في هذه المظاهر التي ترى في الآستانة، وقوتها على العناصر الفاسدة ومقدرتها على النهوض بتركيا يستحقان عناية تجعلنا نفرد لهما الفصل الآتي.