النهضة التركية
ليست ابنة اليوم، ولا خلق مصطفى كمال، هذه النهضة الاجتماعية التي تبدو مظاهرها اليوم في الآستانة وفي غير الآستانة من بلاد تركيا، إنما يرجع تاريخها إلى زمن بعيد لا يقف عند سنة ١٩٠٨ حين أعلن الدستور العثماني، بل يرجع إلى حين تألفت جمعية الاتحاد والترقي، وإلى ما قبل ذلك حين وضع المرحوم مدحت باشا دستور الدولة العثمانية الأولى، وحين قام الأمير صباح الدين يدعو إلى اللامركزية. من ذلك الزمن القديم في التاريخ فكرت الأدمغة الصالحة في تركيا في نهضتها الصحيحة، لكن الخليفة العثماني وما حوله من عوامل الرجعية كانوا يومئذ من القوة والبطش بما أضاع نتائج هذه المجهودات الأولى، وإن بقي لها من الأثر في نفس الشعب التركي ما جعله على أتم استعداد لتأييد حركات الإصلاح. فلما تألفت جمعية الاتحاد والترقي وأعانت نهضة تركيا الفتاة ونجحت بتأييد الجيش في إلزام الخليفة السلطان عبد الحميد أن يعلن الدستور، كانت تركيا مستعدة للتضحية في سبيل تأييد هذه الحركة، وإن كانت الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف أقل من تركيا لهذه التضحية استعدادًا، ثم إن الأتراك أنفسهم لم يكونوا يومئذ ينظرون للعرب نظرة النظير للنظير، بل كانوا يشعرون بأنهم غزوا البلاد العربية كلها غزوًا وفتحوها بحد الحسام، ونشأ عن ذلك أن لم تلقَ فكرة اللامركزية ولا فكرة مساواة الممتلكات بتركيا نجاحًا يربط دائرة الإمبراطورية العثمانية المرنة برابطة تجعل كل جزء من أجزائها يذود عن حياضها بالحماسة والغيرة اللتين تذود بهما تركيا، ويدفع كل معتدٍ على أي جزء من الإمبراطورية كأنه معتدٍ على كيانه الخاص وعلى استقلاله وعزته.
وأدى وقوف تركيا هذا الموقف من ممتلكاتها إلى نتائجه اللازمة إبان الحرب الكبرى، فعلى الرغم من أن تركيا كانت دولة الخلافة الإسلامية، ومن أن هذه الممتلكات كانت إسلامية كلها، فإن مظالم عصر الاستبداد التركي الذي سبق الدستور وعدم الاعتداد بلا مركزية هذه الممتلكات بعد الدستور، وقفها من تركيا إبان الحرب غير موقف المدافع عن كيانها، بل إن الحجاز انتقض على تركيا جهرة بزعامة الملك حسين بن علي ووقف في صف الحلفاء، وانتهت الحرب بانحلال تركيا انحلالًا أيأس منها المسلمين وأيأس كثيرًا من أبنائها، وأطمع اليونان أن تعلن الحرب كي تصل أو يصل الحلفاء إلى اغتنام الآستانة، ثم كانت هذه المعجزة من معجزات التاريخ، وكان هذا النصر الباهر الذي أحرزه مصطفى كمال، فأجلى به اليونان والحلفاء عن بلاده، وطهرها من سلاطين آل عثمان الخلفاء، وأقر لها صلح لوزان، وألغى منها الامتيازات الأجنبية، وجعلها دولة في مصاف الدول العزيزة المحترمة.
لكن هذا النصر لم يرد شيئًا من ممتلكات تركيا، ولم يعد إليها إمبراطوريتها القديمة المترامية الأطراف، بل بقيت حدود تركيا لا تضم بين جوانبها غير الأتراك. على أن هذا الذي أصاب تركيا كان له أحسن الأثر في نهضتها الاجتماعية؛ فقد أزال كثيرًا من العوائق التي كانت تقف في سبيل النهضة التركية، وآن للأتراك أن يقيموا حياتهم الاجتماعية على أسس سليمة ثابتة غير متأثرة بمخلفات الماضي وملكه وخلافته، ولا بالإمبراطورية المشتملة على عناصر شتى غير العنصر التركي الذي كان يعد نفسه سيدًا لها وحاكمًا.
وأول ما أفادته النهضة التركية من هذا الوضع الجديد، ومن انتصار مصطفى كمال وانتشاله بلاده من الاضمحلال، أن أمكن تطبيق المبادئ الديمقراطية الصحيحة على ما يفهمها أهل هذا العصر الحاضر تطبيقًا دقيقًا، والتخلص بذلك من المساومات في المبادئ، مساومات كانت السبب في القضاء على كثير من النهضات، فهذه المبادئ الديمقراطية هي التي سعى إليها الذين ظفروا بدستور سنة ١٩٠٨، وهي التي أراد رجال تركيا الفتاة وأعضاء الاتحاد والترقي أن تستظل تركيا بلوائها. لكن دستور سنة ١٩٠٨ ما كاد يعلن حتى رحب به سكان الدولة العلية على السواء؛ لأن كل طائفة من الطوائف كانت تحسب الاستبداد القديم مقيدًا لها، وكانت ترجو في النظام الجديد محققًا لمطامعها الخاصة، ولو كانت هذه الطائفة بطبيعة تكوينها خصمًا لدودًا للديمقراطية؛ لأن طبيعة النظام الديمقراطي لا تقر الطوائف. رحب بهذا الدستور رجال الدين، كما رحب به رجال المال ورجال الأعمال، واجتهد كل أن يخضعه لمطامعه الذاتية، ونشأ عن ذلك أن الذين أحدثوا الثورة من أجل الدستور وخلعوا عبد الحميد في سبيل توطيد دعائمه، انقلبوا هم أيضًا يتلفتون يمنة ويسرة يبحثون عن أعداء النظام الذي أقاموه ليقلموا أظافرهم، كما كان عبد الحميد يبحث عن أعداء نظام الملك المطلق والخلافة الإسلامية ليقضي عليهم فيقضي على أعداء الله والملك.
طوعت إذن ظروف تركيا الجديدة لمصطفى كمال وأعوانه أن يحطموا قيود الماضي، وأن يعمموا النظام الديمقراطي في إصلاحهم على وجه صحيح، وكان أول ما صنعوا من ذلك أن ألغوا أول مظهر من مظاهر نظام الطوائف: ألغوا الرتب والنياشين فيما عدا صفوف الجندية، ثم ألغوا طائفة رجال الدين بوصفها طائفة، وإن جعلوا للتعليم الديني في جامعتهم مقامًا محمودًا، فلم يبقَ أولئك الباشوات ولا أولئك المشايخ الذين يعيشون من لقبهم لا من شيء آخر، والتزم الكل أن يلبسوا لباسًا واحدًا هو لباس أهل أوربا، لم يستثنِ الإصلاح منهم أحدًا إلا أفرادًا هم الموثقون الشرعيون الذين يحملون ترخيصًا خاصًّا بلبس العمامة وأداء وظيفتهم. ولكيلا يكون هذا الإصلاح مظهرًا للإصلاح ويفي، وليكون إصلاحًا حقيقيًّا، قامت حوله حركة نشاط كبيرة في مرافق الحياة المختلفة؛ إذ قررت الدولة مجانية التعليم بجميع درجاته الابتدائية والثانوية والعالية، كما قررت إجبارية التعليم الأولي، وخصصت من ميزانية قدرها مائة وثمانون مليونًا من الجنيهات التركية (حوالي ثمانية عشر مليونًا من الجنيهات المصرية) سبعة ملايين ونصف مليون جنيه تركي للتعليم الثانوي والخاص، ومليون جنيه للتعليم العالي؛ فأما التعليم الأولى والابتدائي فتتعهده مجالس الولايات (مجالس المديريات) وتنفق عليه وتنفذ القوانين الخاصة به تنفيذًا دقيقًا.
ويقابل هذا النشاط في التعليم نشاط في مرافق الدولة الأخرى، وإن وجب الاعتراف بأن ظروف تركيا المادية من جهة، والعقلية التركية المحافظة بطبعها من جهة أخرى، وتاريخ التطور التركي في العصور الأخيرة وما تأثر به من انكماش عن الإصلاح الواسع المدى من جهة ثالثة، كل ذلك ما يزال بادي الأثر في الإصلاح ومظاهره. وإني ليخيل إليَّ أن مدينة كالآستانة لها ما لها من جمال موقع وعظمة تاريخ، ما كانت لتترك كما هي متروكة اليوم من غير عناية بتجميلها لو أنها كانت في يد غير يد الأتراك، ولو أن النهضة الحالية كانت غير النهضة التركية سواء أكانت الآستانة عاصمة الدولة أم لم تكن. ولم يتح لي أن أجوس خلال تركيا الداخلية لأحكم حكمًا صادقًا على مبلغ نشاط النهضة فيها، لكن الذين رأوا أنقرة يشهدون بسرعة تقدمها، كما أن مظاهر الحياة في الآستانة نفسها أكثر نشاطًا.
زرت جماعة من رؤساء تحرير الصحف التركية، وكان مما سألت أحدهم عنه ما قاموا به من جهود ليرقوا بالصحافة إلى حيث هي اليوم: جمال طباعة وتصوير وورق؛ فكان جوابه أن النهضة العامة أدت إلى هذا الرقي؛ لأنها أدت إلى زيادة في التضامن وفي اشتباك المصالح وفي كثرة تداولها، وفي تزايد تداول الأفكار والآراء معها، فكان لزامًا أن ازدادت مقطوعية الصحف، فأقبل أهلها على تحسينها في حدود مواردهم. وكلما قويت النهضة وتشابكت المصالح وازداد النشاط، وجد الكل الدافع إلى الرقي والإصلاح.
لكن أمرًا يلفت النظر إلى هذه النهضة التركية ويدفع إلى المساءلة عن مبلغ ثباتها وعدم تعرضها لرد فعل يعود بتركيا إلى مثل ما كانت أو إلى شيء منه، ذلك أن هذه النهضة تبدو كأنها ليست أثرًا محتومًا لتطور طبيعي، وأنها مصنوعة على يد مصطفى كمال وأصحابه الذين فرضوها على تركيا فرضًا من طريق التشريع، وألزموها الأخذ بها بقوة القانون وبما وراء القانون من الجندي وسيفه ومدفعه؛ فالرتب ألغيت بالقانون، والعمائم ألغيت بالقانون، ولبس الرجال القبعة والزي الأوربي بالقانون، وسفرت النساء وخرجن إلى مجتمعات الرجال بالقانون. فإذا حدث، لسبب من الأسباب أن جاءت حكومة غير هذه الحكومة وألغت هذه القوانين، ابتهج الناس أيما ابتهاج بالعودة إلى سيرتهم الأولى، ولم يجد هذا الإصلاح الحاضر من يؤيده وينصره ويقف في سبيل تداعيه وعودة الحال الأولى.
هجست هذه الخواطر بنفسي، وجعلتني أشفق على هذه النهضة الديمقراطية الجميلة من الرجعية ومن رد الفعل، فأفضيت بها إلى رؤساء تحرير الصحف الذين زرتهم وسألتهم رأيهم فيها؟ فاطمأنت نفسي إلى جوابهم، وإلى هذه النهضة التي خفت عليها؛ قال قائل منهم: إن هذه النهضة ليست بنت المصادفة ولا ثمرة شهوة من شهوات مصطفى كمال، ولكنها بنت الحاجة، حاجة ماسة كانت تشعر بها الأمة في أعماق نفسها، ولكنها كانت تلقى من بعض الطوائف معارضة باسم الدين، وكان رجال الحكم الماضي يؤيدون هذه المعارضة حرصًا على نفوذهم الذي يظل قويًّا في رأيهم ما بقيت طوائف كثيرة يعارض بعضها بعضًا عن النظر إلى الاستبداد ومظالمه. ولأضرب لك مثلًا: حاجة كان يشعر الكل بها وكان الكل يخشى من المطالبة بالإصلاح لسدها، تلك هي المحاكم الشرعية؛ لم يكن رجل ولم تكن امرأة ألقت به أو بها المقادير في براثن هذه المحاكم إلا كان يعلو منها ضجيجه، وكان يرى فيها المفاسد بأنواعها مجسمة، وكان كثيرون يتحدثون عن هذه المفاسد ويصفونها بأقبح الصفات؛ مع ذلك لم يجترئ أحد على المطالبة بإلغائها مخافة الصيحة باسم الدين، فلما سنت الجمعية الوطنية القوانين المدنية وألغت المحاكم الشرعية، ويسرت إجراءات الأحوال الشخصية كما تيسر غيرها من قبل، شعر الكل كأن كابوسًا زال عن صدورهم، وفرحوا لهذا الإصلاح أي فرح، ولن يستطيع حاكم بالغة ما بلغت قوته أن يعود بهم إلى ذلك النظام العتيق القديم الذي كان موضع شكواهم جميعًا.
وقال آخر وكنت أحدثه عن المرأة التركية وسفورها واختلاطها بالرجال: لا تصدق أن القانون هو الذي دفع المرأة لتسفر وتتمتع متاعًا صحيحًا بحريتها؛ فالمرأة كانت تشعر بالحاجة إلى ذلك شعورًا قويًّا، لكنها كانت تجد في سبيلها أوهام العامة ومحافظة رجال الحكم واستبقاءهم هذه الأوهام، وكل ما فعله القانون الجديد أن أزال من سبيلها هذه الأوهام؛ بأن جعل العامة يشكون في صحتها وفي اتصالها بالدين، فلما زال العائق اندفعت المرأة إلى السفور وإلى الحرية كما يندفع الماء الحبيس فيزول في اندفاعه أسنه، ويروي كذلك الأرض لتنبت بهجة وجمالًا. والعامة اليوم تنظر إلى سفور المرأة وإلى اختلاطها بالرجال نظرة سرور وطمأنينة؛ لأنها رأت كذب ما كان يزينه لها الرجعيون وأعداء الحرية، وأحست إحساسًا صادقًا بما في الحرية من جمال، وبما يترتب على الحرية من تبادل الاحترام.
قال محدثي: ولو أنك كانت أتيحت لك فرصة التحدث إلى السيدات التركيات في منازلهن لسمعت منهن كثيرًا، فهن يذكرن الحرب والنصيب الذي قمن به فيها، ويذكرن اشتغالهن حينئذ بكل شئون الحياة؛ لأن الرجال جميعًا كانوا في خطوط القتال. مدى ثماني سنوات كاملة، من سنة ١٩١٤ حين أعلنت الحرب العظمى إلى سنة ١٩٢٢ حين ألقى مصطفى كمال بجيوش اليونان وراء أزمير، وهن متوليات أمور الحياة كلها، وهن لِما تولين منها صالحات مدبرات حكيمات. أفتكون المرأة كذلك يوم البأس والشدة، فإذا استقر السلم في نصابه وآن لكل أن يجني نصيبه يكون نصيبها أن تسجن من جديد في عقر دارها وأن يسدل على وجهها السواد؟ كلا! هي تحتفظ بحريتها وقد كان لها في تحرير بلادها نصيب، وهي تحتفظ بالحرية في كل مظاهرها، وتعرف كيف تجعل هذه الحرية موضع الاحترام والإجلال.
وهذا حسن ويدعو إلى كثير من الطمأنينة على هذه النهضة التركية الحديثة، لكن استمرارها يحتاج إلى جهود عظيمة لا محل للخوف على استمرارها ما دامت الحال في تركيا كما هي اليوم، وما دام التشريع يسرع إلى علاج كل نقص يخشى تسربه إلى حركة الإصلاح، لكن هذه السبيل في تعهد الحركات الاجتماعية استثنائية بحتة، وما لم تجد الحركة في الشعور العام مؤيدًا لها ومن رجال الفكر والقلم أنصارًا وأعوانًا، فإنها تتعرض للخطر متى دب إلى النفوس أنها حركة صناعية. لهذا لفتُّ نظر بعض الذين حدثتهم وأبديت لهم أن العلماء والكتاب هم عمد النهضات القومية أكثر من التشريع بما يبثونه من ثقة في النفوس بهذه النهضات، وبما يخلقونه من جو يجعل الرجعة مستحيلة. وسألتهم عن الجامعة والعلماء والكتاب في تركيا وما ينفقون من جهود في هذا السبيل؛ قال رئيس تحرير «وقت»: ما زال تأييد النهضة الحاضرة في بداءته من جانب الجامعة والعلماء؛ لأن هؤلاء لا يزالون في أول العهد بنهضتهم العلمية، فهم في أشد الحاجة إلى وقف كل جهودهم على نجاحها، ومتى نجحت فسيكون لها ولا ريب من الأثر في دعم النهضة ما لسائر الجامعات في أنحاء العالم المختلفة، لكن لنا في تركيا الحاضرة من هذه الدعامة بديلًا متينًا؛ تلك هي الأندية التركية، هذه الأندية منبثة في كل ناحية من أنحاء المملكة؛ وتضم بين أعضائها عشرات الألوف من الأتراك المستنيرين الذين أخذوا على عاتقهم تأييد النهضة الحاضرة وبث روحها في نفوس الشعب بكل الوسائل الناجعة. وهي تعمل إلى جانب عمل الحكومة الرسمي عملًا معنويًّا عظيمًا لا يقل أثرًا في نتيجته عن التشريع وعن التنفيذ. ولقد بلغت هذه الأندية من النجاح في بث الدعوة وفي تنظيم الحركة الاجتماعية بما في الناس من دروس وتعاليم حظًّا عظيمًا؛ حتى لقد أرادت بعض ولايات الدول الشرقية المجاورة أن تنظم أندية تنضم إلى الأندية التركية، لكن حركتنا قومية بحتة؛ لذلك تركنا لهؤلاء المجاورين أن يؤسسوا أنديتهم إن شاءوا من غير أن يكون لنا بهم اتصال؛ حتى لا تبعثر مجهودات تركيا ولا تضل بها المطامع والأوهام. وعمل هذه الأندية لا يقل عن عمل الجامعات والكتاب قيمة؛ لأنه صادر عن اقتناع وإيمان، فليس عضو من أعضائها إلا يشعر بأن واجبه في هذا السبيل لا يقل عن واجبه في الدفاع عن الوطن حين كان الوطن في خطر؛ وحين كان كل تركي يقدم حياته في الحرب طائعًا فداء لواطنه.
ولقد قرأت في بعض ما كتب عن تركيا وأنديتها ما أيد أقوال محرر «وقت» من أن المجهود المعنوي الصادق الذي تحتاج إليه النهضات لنجاحها يبذل في تركيا على خير وجه وبكل إخلاص وصدق، وهذا باعث جديد من بواعث الاطمئنان على هذه النهضة وعلى استمرارها، لكن ذلك لا يزيل كل المخاوف؛ فهنالك دعامة أخرى من دعائم النهضات لست أدري أتستطيع تركيا الحصول عليها أم لا تستطيع؛ تلك هي الدعامة المادية؛ فكل نهضة نفسية تحتاج كي تتم ثقتها بنفسها إلى أن ترى آثارها ومظاهرها محققة في الواقع وأمام العيان. وقد يكون لدى الشعب من الأناة ما يحول دون استعجاله هذه الآثار وما يحمله على التريث والانتظار، لكن من الشعوب العَجِل الذي يريد أن تتحقق كل مطامعه في سنوات قلائل، ولست أستطيع الحكم على النفسية التركية في الوقت الحاضر، لكن شؤون تركيا المادية لا تدفع إلى النفس الاعتقاد بإمكان تحقيق كثير من المظاهر المادية للنهضة الحالية في زمن قصير؛ فتركيا تنفق قسمًا كبيرًا جدًّا من ميزانيتها الصغيرة في شؤون الجيش والدفاع القومي، ومواردها محدودة لا يبدو أنها تسمح بزيادة في الضرائب وفي إيرادات الميزانية في زمن قريب. وما تحتاج إليه تركيا من إصلاح تدعو إليه النهضة كثير جدًّا؛ فالآستانة كما رأيت متحف تاريخ قديم أكثر منها دار حضارة هذا العصر الذي نعيش فيه، وهي اليوم، وأحسبها ستبقى زمنًا طويلًا، مرآة تركيا لأبنائها وللنازحين إليها، ولن تستطيع السياسة وأحداثها أن تسلب مدينة لها ما لموقع الآستانة من روعة؛ حق الأولوية والسبق، وميزة أن تكون عروسًا بين مدائن العالم المتمدن. ثم إن ما يقال عن إنشاء أنقرة والسير في ذلك سيرًا سريعًا لا يدل على أكثر من نشاط الأتراك نشاطًا عظيمًا في سداد حاجاتهم السياسية التي يقتضيها موقفهم الحاضر، لكن مظاهر النهضات من مقتضيات الحضارة؛ فآثار الفن الجميل من متاحف وتماثيل ومن نقوش وصور؛ ومظاهر العلم من متاحف فنية وزراعية وصناعية؛ ومظاهر الحضارة في نظام المدن، ذلك كله في حاجة إلى موارد مادية عظيمة جدًّا أخشى أن تكون تركيا الحاضرة عاجزة عن تقديمها؛ وربما ظلت كذلك زمانًا طويلًا.
فإذا كان الشعب التركي شعبًا عجلًا يريد أن تحقق النهضات كل آماله في سنوات، كان هذا العجز المادي موضعًا من مواضع الخوف على النهضة الحالية، وأما إن كان له من الأناة والروية والصبر ما يمكنه من تقدير ظروفه، ومن السير في حدود موارده، ومن الاغتباط بالنتائج التي يجنيها شيئًا فشيئًا، فإن النهضة ستؤتي كل ثمرها وإن احتاج ذلك إلى عشرات السنين، وكل ثمرة جديدة تزيد الموارد المادية وتزيد النهضة ثباتًا وقوة.
وأكبر الرجاء أن تكون جهود الشعب التركي في العمل السلمي عظيمة كما كانت جهوده في الحرب؛ فإن أثر هذه النهضة لا يقف عند تركيا ولا تحده حدودها، بل هي نهضة لشعوب الشرق كلها، هذه الشعوب التي كان الكثير منها خاضعًا لحكم تركيا المستبدة؛ متأثرًا بنظمها وبأوهام القائمين بالأمر فيها، لكأنما كانت تركيا تلك حائلًا بين المدنية والتقدم وبين الشرق النشيط التواق للمدنية والتقدم. وهذه الشعوب ناهضة كلها اليوم نهضة جليلة مباركة تمسك مصر منها بالزمام؛ فكل نجاح تلقاه النهضة في أحدها هو نجاح للنهضة فيها جميعًا، وكل تغلب من جانب الأتراك على ما يمكن أن يقف في سبيل نهضتهم تحطيم لهذا السياج القديم الذي حال أجيالًا طويلة بين الشعوب التي كانت تشملها الإمبراطورية العثمانية وبين التقدم والعمران. وتحطم هذا السياج يفتح بابًا جديدًا لسيل المدينة من الغرب إلى الشرق؛ ولسريانها من الشرق الأدنى لتتصل بمدنية الشرق الأقصى التي تقدمت في القرن الأخير تقدمًا أدهش العالم كله.
وهذا الرجاء الذي يجيش بنفس كل صادق الإخلاص للإنسانية في تقدمها لترفع منار الحضارة إلى أسمى ذراه، يدعونا إلى تأييد هذه النهضة التركية بكل ما لدينا من قوة، وإلى الأمل أكبر الأمل في تذليل المصاعب المادية التي قد تقف في سبيلها وقد تجعل للرجعية بابًا تطل منه مرة أخرى. على أنَّا ننظر للمستقبل وكلنا ثقة بأن باب الخوف هذا لن يفتح، وبأن تركيا الناهضة ستجني من نهضتها الاجتماعية خير ثمراتها، وبأن الشرق كله سيجني مثلها نهضاته؛ فتتحطم بذلك قيود الاستعمار؛ وتسير الإنسانية إلى الأمام متكاتفة متضامنة لا يذل فيها شعب لشعب، ولا فرد لفرد.