من الآستانة إلى بخارست
صباح الخميس ٨ سبتمبر، جلست إلى نافذتي أجيل البصر في قرن الذهب وفيما وراء قرن الذهب من مباني الآستانة. بعد سويعات سأركب الباخرة إلي قسطنزة ثم إلى بخارست في طريقي إلى باريس، وبعد سويعات تختفي هذه المناظر عن عيني. ومن يدرى! أيتاح لي أن أراها في حياتي مرة أخرى؟ هذه القباب والمآذن الذاهبة في السماء محدثة عن المساجد تحتها، أبدع فيها الفنانون ما شاء لهم المعمار، أو هي قباب ومآذن ليس فيها من الفن شيء أن أقامها من أراد بها العبادة لوجه الله وحده، وهذه المنازل المتدرجة من شاطئ الماء إلى أعالي تلال الآستانة، وهذه الصفحة؛ صفحة الماء المتموج تحت ضياء الشمس الساطعة؛ وهؤلاء الأتراك الذين يغدون ويروحون وكلهم في زي واحد وهندام متسق، هذا كله وما وراء هذا من سائر ما في الآستانة من جمال البسفور، وحديث التاريخ، وآثار النهضة، مما شهدت عيناي ستة أيام تباعًا سيتدثر كله في حجب الماضي وطيات الغيب، ويظل منه عندي ذكرى وخبر! أيا صوفيا المسجد الذي كان كنيسة وما يزال كل ما فيه يحدث عن ماضيه، وما يزال كل ما فيه من جمال وروعة بعمده الضخمة وزجاجه الملون السندسي ومنبره البديع وبسطه الثمينة؛ والسليمانية المسجد الإسلامي البحت كله الرهبة والجلال، وجامع السلطان أحمد، وقصور (تب كابو) ويلدز وضلمه بخشه، هذا كله مما رأيت وما كنت أن أرى حتى أمس سيفر مني ويغيب عني إلى أجل لا أدري من أمره شيئًا. وكل هذا كان محببًا إليَّ؛ لأنه صورة حية لخيالات ذهنية امتلأ بها رأسي منذ زمان طويل، وهأنذا ما أكاد أشعر بها بعض حسي وبعض حياتي حتى أحسها تختفي آخذة معها بعض حسي وبعض حياتي!! ما أشد الإنسان صلابة وقسوة! ينفصل كل يوم من حياته جزء يبتر منه بترًا، وهو عن ذلك لاهٍ وله أكثر الأمر باسم، لكن جمال الطبيعة في هذا الموقع لا يسهل على النفس انفصاله منها؛ ولذلك طال تحديقي من نافذة غرفتي إلى قرن الذهب وإلى مساجد الآستانة وبيعها الصاعدة من الماء حتى تلامس الأفق، وحتى تكون فيه صورة لا تشبع عين من النظر إليها.
وداعًا للآستانة ولكل ما فيها إذن، وداعًا جميلًا لأيام قليلة كان فيها كل ما في الآستانة طروبًا باسمًا؛ وكان من لقيت من المصريين بشًّا رقيقًا. وداعا لهذا القسم من عمري تحدَّر في هاوية سحيقة لن يرى بعدها النور، ولنستقبل سفرنا راجين آملين.
وذهبنا إلى المرفأ؛ واجتزنا الجمرك بعدما أعددنا لذلك عدتنا من الحصول على إجازة من البوليس بمغادرة الآستانة؛ فأنت لا تدخل الآستانة إلا بجواز، ويقال إنك لم تكن تستطيع أن تتحرك في أنحائها منذ زمن غير بعيد إلا بجواز. ومن جديد راقب عمال الجمرك متاعنا، وما أدري ونحن نغادر بلادهم ما شأنهم به. ثم علونا سطح الباخرة التي تقوم بالسياحة بين الآستانة وقسطنزة، ولم يكن لنا والباخرة راسية في الميناء أن نرى غير بناء الجمرك، ولا جمال فيه ولا عزاء عن النظر إليه إلا لطف إخواننا الذين كلفوا أنفسهم مؤونة توديعنا.
وتناولنا طعام الغداء ولما تتحرك الباخرة، ثم أقلعت، حتى إذا توسطت البسفور صفحة مصقولة تحت الشمس تطوقه من الجانبين مناظر صاغتها الطبيعة وحدها في يوم من ستة أيام الخلق، كنا لوداع عروس البسفور أكثر أسفًا؛ لما في هذا البوغاز من الجمال، بل لما فيه من عرائس الآستانة وأشقودرة عن جانبيه؛ وجزائر الأمراء ناتئة في مياهه، وكل واحدة منها يتوسطها جبل نثرت على سفوحه المنازل تحدق إليها وتحدق إليك كأنما تدعوك إليها وهي مطلة على البحر من ناحية وعلى السفح من الأخرى. ومن ذا استطاع ألا يجيب دعوة جزائر الأمراء للتصعيد فيها حتى قمة جبليها، ليحدق إلى البسفور وما حوله، وليستمتع بهواء أنقى هواء وأحلاه! ثم ابتعدت السفينة رويدًا رويدًا مجاوزة ببك إلى ترابيا تتجلى عندها أنضر السفوح وأبهجها، ووقفت إلى جانب مكان الربان أرقب من خلال زجاج نوافذها كيف تتخطى السفينة البسفور إلى البحر الأسود، وأنتظر أن أرى حصون البوغاز التي قصَّ عليَّ إخواني بالآستانة أنها معاقل تركيا ضد عدوان بواخر روسيا من البحر الأسود على الآستانة. والآن فها هي الجبال تقترب وقد صرنا ولا ريب على قيد خطوة من هذا البحر الأسود ومن حصون البوغاز. لكن لا! لقد نتأ أمام النظر جبل جديد يتصل بالجبلين ويقف في طريق السفينة، أفتراها تتسرب هي الأخرى خلال الأنفاق تحت الجبال؟ أدرت النظر في كل جانب رجاء أن أتبين الفرجة التي تنفذ منها، فارتد بصري حائرًا؛ عن اليمين فرجة أو شبه فرجة وعن الشمال مثلها، والباخرة متقدمة في سيرها لا تتجه يمنة ولا يسرة، كأنما تريد أن تتسلق سفوحه بين الأعشاب والأشجار، وظللنا على ذلك زمنًا خلته طويلًا، ثم تبينت الأعلام في الماء هادية طريقنا إلى اليمين، فاستدرنا فيه، وإذا نحن ما نزال بين جبال خضراء السفوح في شيء من ذبول أوليات الخريف، ثم إذا جبل يقطع علينا الطريق من جديد، استدرنا عنده فتبدت منازل على السفوح، وتبدت حصون البوغاز، وتبدى هناك عند مرمى النظر عباب البحر الأسود المترامي إلى ما وراء الأفق، عن قريب ندخله ونجتازه إلى قسطنزة فنصلها في الساعة الرابعة صباحًا.
وجلست مستدبرًا البحر الأسود، مستقبلًا البوغاز الساحر، ألقي عليه آخر النظرات وأودعه راجيًا في الحياة يوم عودة إليه واجتياز إياه إلى حيث لا أدري الآن. يا عجبًا! إن في هذه البقعة من الأرض لجمالًا باهرًا، فما للإنسان الذي جعل جنات من سويسرا ومن السافوا ومن التيرول ومن غيرها من البقاع التي جادت عليها الطبيعة ببعض ما جادت به على البسفور من جمال، قد ترك هذا البسفور في روعة الوحشة الطبيعية! أأولاء أناس وأهل البسفور غير هؤلاء الناس؟ هل عجزت الإمبراطورية العثمانية القديمة كلها عن تجميل هذه البقعة الضيقة منها ولم تعجز عن أن تشيد في الآستانة مساجد وقصورًا؟! ألا لعل تركيا الحاضرة على صغرها تستطيع بمعجزة كالمعجزة التي أظفرتها في الحرب الأخيرة أن تقوم للبسفور بما عجز السلاطين الخلفاء عن القيام به.
وخطرت السفينة فوق موج البحر الأسود تعكس مياهه دكنة سمائه رغم الشمس البازغة، وتوارت الشواطئ بحجاب الأفق، وتمطى الناس على مقاعدهم اتقاء دوار بدأ يداعب بعض الرءوس، وظل من لا يخافون الدوار يدورون فوق السفينة، ثم آن للناس أن يتناولوا طعام العشاء وقد اطمأنت صفحة الماء، لكي يكون لهم متسع في الوقت يستريحون فيه إلى النوم ليقوموا في الساعة الثالثة استعدادًا للنزول.
وفي منتصف الساعة الرابعة تبدى فنار قسطنزة، وبعد ذلك بقليل رسونا ومررنا بالجمرك وبمراقبة الجواز، وفيهما بعض ما في تركيا من دقة، ثم انطلق بنا القطار قبيل الساعة السادسة قاصدًا بخارست مارًّا في طريقه بأرض زراعية مسطحة أشبه بأراضي مصر، وفيها الذرة والغلال وغيرهما من المزروعات؛ لذلك لم يأخذ بالنظر خلال الطريق غير الجسور الكبيرة، عبر القطار فوقها الدانوب، وعبر بعض منخفضات فيها مياه لم أدرِ أراكدة أم جارية.
ونزلنا بخارست والصورة التي لدينا منها فاترة بعض الفتور، ولقد سمعت عنها غير مرة ما سمعته عن بروكسل وجنيف وبعض المدائن أنها باريس مصغرة، لكن إخوانًا يقيمون بها ذكروا أن ليس فيها ما يقف النظر عنده، وقصدنا إلى فندق «أثينا بلاس»، ثم أخذنا تذاكرنا على الدانوب إلى بودابست، وخرجنا إلى ظاهر المدينة في طريق «كسلف»، فبدا لنا منها أول شبه بباريس؛ فهذه الطريق تشبه الشانزليزيه في سعتها، وفي الأشجار المغروسة خلالها والمنازل الرشيقة على جانبيها وقوس النصر في آخرها. وبعد قوس النصر تستمر طويلًا بين المزارع كما يصل الشانزليزيه إلى غاب بولونيا، لكن «كسلف» من الشانزليزيه كالكارت بوستال من صورة بديعة كالجيوكندة أو أية صورة بديعة أخرى: فيها رسم الأصل ولكن ليس فيها شيء من حياته. وأين الطريق في أية مدينة من مدائن العالم بحياة الشانزليزيه! أين لطريق أن يبتدئ من اللوفر ومن حدائق التويلري ومن ميدان الكونكورد لينتهي إلى قوس النصر ولترى على جانبيه «الجران باليه» و«البتي باليه»، ولتطالع من خلال الطرق المتصلة به قبر نابليون في الأنفاليد، وليطالعك من خلال برج إيفل! لكن طريق كسلف رسم على صورة الشانزليزيه، فجعل لبخارست الحق في أن تكون باريس الصغرى.
وغربت الشمس وأضاءت الأنوار بالمدينة، وسرت يهديني صاحبي خلالها لأرى فيها من باريس شبهًا جديدًا، سرنا قاصدين حدائق «ششمجيو» لنري فيها بحيرة كبحيرة غاب بولونيا ومطعمًا كمطاعمه، فمررنا بطرق متسعة غاصة بالمارة، وأكثرهم أوانس جعلن من وجوههن وأنفسهن متاعًا للناظرين. أليست هذه باريس؟ والحوانيت تعرض المبيعات في زجاجها المضيء كحوانيت باريس في الشوارع الكبرى.
لهذا كله يسمون بخارست باريس الصغرى… وقد يكون في هذا بعض العزاء لمن لم يعرف باريس، أما صاحبي الذي وصفها بأن ليس فيها ما يقف النظر عنده، وأما أصحابي الآخرون الذين جعلوا صورتها فاترة في نفسي، فهؤلاء جميعًا لا يقنعون بباريس الصغرى، ولا يقنعون بغير باريس الكبرى أو بما يدانيها من كبريات المدائن، وقد يكون لهم من ذلك عذر، فمن عرف العالم صغر العالم في عينه، وصار لا يرضيه إلا خير ما في العالم وأعظمه. كما أن من عرف الناس صغر شأن الناس عنده، فأصبح لا يرى الخير منهم إلا في قليل، أما الأكثرون فيرضون من الحياة بكل بريق تجود به الحياة، ويجدون في كل باريس صغرى عزاء عن باريس الكبرى وغيرها من كبريات المدائن، وهؤلاء في الحياة أوفر من السعادة حظًّا، وأعظم من الرضا نصيبًا.
ولكن، أشرقية بخارست أم غربية؟ أم هي لا شرقية ولا غربية؟ هي في مظهرها أقرب إلى الغرب، ولكنها تتصل بالشرق في كثير، وكأنها لا تزال متأثرة بحكم الترك الذي لم يصرفه الاستقلال عنها إلا من ستين سنة، وكما تحبو تركيا الآن نحو حضارة الغرب حبت رومانيا منذ استقلت نحو هذه الحضارة، فنالت منها نصيبًا، وبقي لها من ماضيها نصيب.
فليس لأهلها من النشاط في حركتهم مثل ما لأهل الغرب، وإن كانوا أكثر من أهل الشرق نشاطًا، وما يزال فيها من تراث الشرق بقاء الأمية في بعض أنحائها، وبقاء البؤس المستسلم مستحوذًا على أطرافها، ثم إن الطبيعة لم تجد عليها بما يعوضها عن شرقيتها ويجعل المظهر الغربي ظاهرًا فيها ظهورًا واضحًا.
ونحن نقصد الغرب نخلط به شرقيتنا؛ لذلك قصدنا غداة وصولنا بخارست إلى مصيف «سنايا» المرتفع بين الجبال، والذي يبعد مسيرة أربع ساعات في القطار عن عاصمة رومانيا. قصدناها لنقيم بها حتى صباح الاثنين، ولنعود منها فنقضي ببخارست ساعات، ثم نغادرها إلى جيورجيو، ونأخذ الباخرة من مرسى رمضان على الدانوب كي تقلنا إلى بودابست.
وسار بنا القطار الذاهب إلى «سنايا» بين سهول ومزارع حتى وصلنا بلوشتي، ثم عاد أدارجه زمنًا ليعدل عن طريق سنايا. ها نحن أولاء قد انتقلنا حقًّا إلى طبيعة غير طبيعة بلادنا، طبيعة يألفها من زار فرنسا وإنجلترا أو سويسرا، ومن اخترق خلال الألب جناتها اليانعة. ها هي ذي الجبال تعلو وتنشق أثناءها مسارب الماء المتدفق من الثلوج المتراكمة فوق قللها لتنحدر في أخاديد إلى الغوطات والأودية، ولتنبت أحراش الأشجار المختلفة ما تزال زاهية برغم اقتراب الخريف، وها هو ذا القطار يشق الماء والخضرة وتحدق إليه وجوه حسان استقلت القطار إلى «سنايا»، وها هو ذا الجو بدأ يتغير؛ بدأ ذلك القيظ الذي ضاق به ذرعنا في بخارست تنجلي غمته لينعش هواء الجبل الجميل النفوس والقلوب، ثم هذه سنايا تقترب، وهذا القطار يقف عندها فننزل منه لنتسلق أول خروجنا من باب المحطة سفوحًا ودرجًا وسفوحًا أخرى، كي نصل إلى فندق سنايا بلاس، فنطل من نوافذه على جبال دائمة الخضرة متجددة الجمال تحت ضياء الشمس كلما أضاءت، وتحت الغمام كلما حجب الشمس الغمام.
«سنايا» مصيف الأسرة الملكية، وبها قصران يتحدث عنهما المتحدثون، فلا بد لنا من زيارتهما، وإذ كان الوقت مساء فلتكن الزيارة صباح غد، ولنقضِ سويعات هذا النهار ومساءه في الحديقة الجميلة أمامنا وفي طرق سنايا المشوقة فوق السفوح. ما أكثر زوار سنايا! وما أشدهم حرصًا على المتاع بهوائها الطلق وبمناظرها الجميلة! لا ريب أنه سيقصد كثيرون منهم قصر الملك صباح غد مثلنا، ولا ريب أنهم سيقضون أحدهم في متاع جميل بعطلة الأسبوع والهواء الجميل.
وقمنا في الصباح قاصدين القصر، فاجتزنا في الطريق إليه كنيسة القرية متقنة البناء، في سقفها وزجاجها ومنارات أجراسها الرفيعة المذهبة شيء من الفن غير قليل، وفيها من عباد الله الذين جاءوا يرتجون عن آلام العيش سلوة، وفي الحياة هذا الخيال الذي يسعى الكل وراءه ويسميه السعادة خلق كثير. دخلناها هنيهة ثم صعدنا فوق الجبال نطلب القمة، وهبطنا من جديد إلى الطريق المؤدي إلى قصر الملك، وسرنا فيه مع السائرين، وتمر بنا الأتموبيلات قاصدة إليه مسرعة، فلما تكشفت للنظر أعاليه كنا أمام منظر من أبهى مناظر الطبيعة نظمتها يد الإنسان ونسقتها، وكنا أمام قصر عمارته وحدائقه وفساقيه وتماثيله ومياهه فنًّا جميلًا.
القصر على ربوة عالية تحيط به حدائق نسقت فيها الأزهار مختلفة الألوان متجاوبتها، حتى لكأنها ليست ألوانها، وإنما صبغها بها نقاش على ما يريد فن الألوان ويهوى، وهي مع ذلك أزهار طبيعية ذات شذا وذات جمال. وفساقي المياه تتخلل الزهر وتقوم فوقها تماثيل تحكي صور الحياة من مختلف ألوان الحياة، والقصر الفخم مشيد خلال ذلك كله لا تدري أكبير هو أم صغير؛ لأنك في شغل بدقائق فن العمارة والنحت والتمثيل فيه عن تقدير مساحته، فأبوابه وجدرانه وأبراجه ومناراته فن كلها لذاتها، وفن بالنقوش والتماثيل المتصلة بها، كل قطعة فيه تحفة، وهذه التحف لا يزال داخلها مصونًا لم يفتضه الجمهور كما افتض يلدز وفرساي وفتنبلو وغيرها؛ لأن رومانيا لا تزال ملكية، وما يزال لها ملك وإن كان طفلًا، ولكن بحسب الجمهور ظاهر القصر وحدائقه وتماثيله، ففيها من روعة الفن وجماله ما يأخذك عن نفسك ساعات وأيامًا.
في هذا القصر مات الملك فرديناند، وفي هذا القصر تقيم أحيانًا الملكة الكاتبة المحبة للجمال في كل شيء وفي الإنسان مع كل شيء، ولهذا يبقى القصر قدسًا لا تطؤه أقدام الجماهير، وإن كان قد بني بأموال الجماهير، وبالعرق الذي يتصبب من جبينهم، وبالدماء التي تجري في عروقهم.
وقضينا بقية النهار في إعجاب بالقصر وفي جولات في أنحاء سنايا، حتى إذا أقبل الليل أقبل البرد معه، فأوى الناس إلى الفنادق وما بين الجدران. وفي الساعة السابعة من صباح الغد عدنا بالقطار إلى بخارست فبلغناها قبيل الظهر وطفنا بأنحائها، وفي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم ركبنا القطار إلى جورجيو فرمضان، واستقللنا الباخرة قاصدين بودابست.
ومع أنَّا لم نرَ إلا قليلًا من هذه التي يسميها أهلها باريس الصغيرة فقد عرفت أثناء إقامتي القصيرة بها شيئًا عن رومانيا غير قليل، وقد غادرتها آسفًا، وكيف لا يأسف الإنسان لمغادرة بلد عرف فيه إنسانًا ظريفًا يوحي إليك كل معاني المحبة والصداقة لأول ما تعرفه، ولا يتركك إلا بعد أن يترك في نفسك أجمل أثر من رقته ووداعته وجميل عشرته!