في فينا
قاتل الله الحرب! لقد جنت على كل شيء في أوربا، بل في العالم، كما جنت على أرواح الذين استشهدوا فيها وعلى قلوب الذين اكتووا بنارها، كانت «فينا» تعد قبل الحرب عروس مدائن أوربا، وكانت تنافس باريس وتجد كثيرين يحكمون لها بالتفوق عليها، وها هي ذي اليوم أشبه ما تكون بعزيز قوم ذل. ما تزال آثار الماضي بادية في قصورها الفخمة، وفي دار الأوبرا البديعة التي كانت أبهى معاهد الموسيقى في أوربا، وفي طرقها الفسيحة الجملية، وفي ضواحيها النضرة. وهياكل هذه الآثار تشهد اليوم في خضوع وانكسار مصير عاصمة إمبراطورية النمسا والمجر الحسيرة؛ تشهد عاصمة لم يبقَ لها من ملكها عشر معشار ما كان لها، فقد علتها غبرة ترهقها قترة، وأصبحت تعمل بيديها لكسب العيش، وكانت أسباب العيش والنعمة تأتيها طائعة من كل مكان، ويزيد عدد سكانها على مليونين، وكان قبيل الحرب يقارب ثلاثة الملايين، وكانت تعتمد في عيشتها يومئذ على إمبراطورية تعدادها ستون مليونًا أو يزيدون، وهي اليوم تعتمد على جمهورية لا تكاد تبلغ ستة ملايين؛ لذلك تكثر فيها الفورات والاضطرابات؛ لأن أهلها في حيرة كيف ينظمون حياتهم، وكيف يصلون من العيش إلى ما يتفق ومكانتهم من الحضارة وإن بعد كل البعد عن أن يشابه في شيء ما عرفوا قبل نكبة الحرب وسان جرمان. ذهبنا إلى دار الأوبرا لنشهد فيها تمثيل رواية «مدام بترفلاي»، فأخذتنا روعة عمارتها، لكنا أخذنا أكثر من ذلك بحال أثاثها الذي أصبح لا يتفق وروعة هذه العمارة. ومن عادة دور الأوبرا في عواصم أوربا جميعًا أن يلبس الناس في ملابس السهرة، وكانت دار فينا في مقدمة الكل في هذا الشأن، وكانت نساء فينا في شعورهن بتفوقهن في الجمال على سائر نساء أهل أوربا يتغالين في التزين، يكاثرن به أوفر النازلات في عاصمة النمسا غنى وجاهًا. لكن نساء النمسا وإن بقي لهن جمالهن الممشوق في اعتدال القامة وصفاء اللون ووسامة القسمات، اعتدالًا وصفاء ووسامة لا ينافسهن فيها أحد، فقد أزالت الحرب عنهن أسباب البهرج والزينة، وانتزعت منهن الحلي وثمين الجواهر، فلم يبقَ لدار الأوبرا أن تقتضي أحدًا لباس السهرة؛ لذلك ذهبنا كما يذهب الناس جميعًا إليها في ثياب النهار. على أن ما جنت الحرب على ثروة فينا لم ينل منها، فقد غنى الممثلون رواية «بترفلاي» بالألمانية، وكنا لا نفهم منها حرفًا، وصدحت موسيقى هذه الرواية الساحرة، فتتبعنا كثيرًا منها، وتذوقنا الغناء والموسيقى والتمثيل مما بعث أمامنا برهة من حياة «فينا» الجميلة عاصمة الإمبراطورية التي لم تعرف الشظف ولم تعرف الذلة، فازددنا بذلك أسفًا على ما أصارتها الحرب اليوم إليه.
أدت هذه الحال الاقتصادية السيئة إلى أن المتاجر الكبرى صار أكثرها يأخذ بنظام الممارسة في البيع والشراء، حتى لم يكد يكون لشيء ثمن محدود! وإذا كان هذا النكوص في الخلق التجاري مما يلاحظ في بلاد كثيرة غير فينا، بل مما يلاحظ في باريس، فإنه لم يصل إلى ما وصل إليه في فينا مما يشعرك بسوء الحال رغم وجود كفايات علمية وصناعية وتجارية عظيمة في المملكة. وصل هذا الخلق في فينا إلى أن البلدية تحدد الأجور لكل غرفة من غرف الفنادق تحديدًا يعلن على جدار الغرفة، مما يبعث على الظن بأن لا سبيل لرجال الفندق إلى التلاعب بهذه الأجور، ومع ذلك فإنك تصل من غير كبير عناء إلى خفض هذا الأجر لسبب أو لآخر يتقدم به أصحاب الفندق على أنه أدى بهم إلى إكرامك. ودخلنا غداة وصولنا فينا متجرًا من متاجر أزياء السيدات، وأعجبت زوجي قبعة فيه، لكنها استكثرت الثمن. وما أشد عجبنا ساعة خروجنا إذ نادتنا البائعة تسألنا كم نريد أن ندفع، وتناقشنا في شيء من الضراعة. ودخلنا يومًا آخر متجرًا من تلك المتاجر أيضًا في ميدان الأوبرا، أكبر الميادين شأنًا وأكثرها في اتصاله «بالرنج» تجارة، فاشترينا تطريحة بما يقرب من نصف الثمن الذي عرض علينا أول الأمر، ومن ذلك كثير يسوءني ذكره وما تزال فينا في نكبتها، وقد يسائل إنسان: ولمَ نلوم إذن تجارنا في خان الخليلي وتراجمتنا الذين يبيعون السائحين ما يسمونه الأشياء الخاصة بمصر وهو أتفه ما بها، ويمارسونهم في ذلك على الصورة التي يصفها السائحون الأوربيون بأتعس الألوان، ويرتبون بعد ذلك عليها ما شاءت لهم أهواؤهم في تصوير مصر والشرق ومقدرة أهلهما على الاضطلاع بعبء الحضارة؟ وليس جوابنا على هذا أن تجار «فينا» هم كتجار خان الخليلي، ولا أن كتَّاب أوربا على حق يصورون به مصر والشرق صورة منتزعة من القروش أو الجنيهات التي يدفعونها للتراجمة ولتجار السجاجيد والنحاس وغيرهم ويلذعهم إنفاقها. فالسائحون الأوربيون الذين ينزلون مصر وينزلون الشرق يجيئون إلينا أكثر الأحايين وهم لا يعرفون من أمرنا ولا من لغتنا ولا من تاريخنا أكثر مما تهديهم إليه كتب السفر الموجزة التي يقرءونها في قطار السكة الحديدية، وهم يزدادون إعجابًا بما تذكر تلك الكتب أنهم سيرونه بمقدار بعد هذا الذي سيرون عن الحقيقة وعن المعقول، وطائفة من الكتاب الأوربيين هم — مع الشيء الكثير من الأسف — وسائر السائحين في هذا المعنى سواء، ثم هم يجيئون ممتثلين غرورًا بأنفسهم واحتقارًا لهذه البلاد «الشرقية» التي يزورونها على أنها مصح مفيد بصفو هوائه، ومتحف جميل بقديم آثاره، فأما أن في هذا المتحف المصح شعبًا له حياة وله مميزات وله نشاط وله أثر في حياة العالم، فذلك ما قد تعلموا منذ صغرهم أن يضعوا من أمره على عيونهم غشاوة، فإذا ذهبوا إلى متجر ذهبوا مع مترجم، ثم طلبوا أنفس الأشياء، فبالغ لهم التاجر بعض الشيء في ثمنها؛ لأنه يتحدث إلى قوم لا يفهمهم ولا يفهمونه، فحسبوا هم أنه يغلو أضعافًا مضاعفة؛ لأنهم رأوا مثل هذا الذي يعرض عليهم بربع الثمن الذي يذكر لهم، لكنه من صناعة أخرى ومن خامات أخرى، كذلك يقول لهم التاجر! وما شأنهم بالصناعات والخامات ما دام المنظر هو هو، والمظهر هو هو، ثم إن عليم التفاوت في إدراك مختلف معاني الحياة، وفي تقدير آثار الفن بنوع خاص، قد باعد ما بين الشرق والغرب في تقدير هذه الآثار التي يوجد في بلادنا منها كثير؛ تاجر يعرض على سائح قطعة من خشب المشربيات (الأرابسك) فيطلب التاجر فيها عشرة قروش فيدفع السائح دهشًا لتفاهة الثمن، ويطلب التاجر في مثلها خمسين قرشًا فيدفع السائح دهشًا لقلة الثمن، ويطلب جنيهًا فتدهش السائح قلة الثمن. المسألة إذن ليس فيها شيء من الاشتراك في التقدير؛ كل هذا ولا دخل مطلقًا لحال مصر الاقتصادية في الموضوع. أما تاجر فينا فيمارسك؛ لأن سوء حال النمسا الاقتصادية تدفعه إلى ذلك، أو إلى أكثره بالرغم منه؛ تدفعه إلى ذلك وهو يعلم أنك تفهمه وتقدر بلاده كشعب قبل أن تقدرها كمصح، وكحياة نشيطة عاملة قبل أن تكون متحفًا لروائع الفن ولعاديات الماضي.
على أن هذه الحالة الاقتصادية السيئة وما نجمت عنه من حال سياسة أبدعتها الحرب والصلح جميعًا، جعلتك في حل من أن ترى من «فينا» متحفًا لآثار حياة انقرضت شهدنا نحن جميعًا انقراضها، ولما تقم بهذه الآثار حياة جديدة تجعلها، وإن حدَّثت عن ماضٍ مجيد، ليست أقل بلاغة في حديثها عن حاضر عتيد؛ تذهب إلى اللوفر وإلى فرساي وإلى فونتنبلو، فتحدثك في عظمة عن ملوك فرنسا حتى الثورة حين كان اللوفر مقرهم جميعًا، وحين كانت التويلري متاع نزهتهم ونزهة متاعهم، وحين كان فرساي المحدث الأكبر عن لويس الرابع عشر، وفونتنبلو عن نابليون، لكنها إلى جانب حديثها هذا عن الماضي القريب أو البعيد تحدثنا عن حاضر مجيد ليس أقل من ذلك الماضي عظمة وجلالًا؛ لقد انتقل تراث أولئك الملوك فسار ملكًا مطمئنًا للشعب، فنظمه في تلك القصور التي آلت إليه هي أيضًا كما شاء له ذوقه الجمال، ووضع الفكرة الملوكية التي بادت في المكان الذي يريد خياله أن يكون لها من بين المعروضات الحية في نظام الفن الديمقراطي. أنت تشعر باستقرار هذا الملك للشعب بمقدار ما ترى من عنايته وتنسيقه، أما في قصر البراطرة بفينا، وأما مصيفهم بضاحية شنبرون، فتشعر إذ تدخلها بأنها كانت مأهولة إلى قريب بملاكها، وأنهم هددوا فيها وأزعجوا عنها فولوا عنها فرارًا، ولم يتركوا لغيرهم من حياتهم فيها أثرًا مذكورًا. يصل الإنسان من فندق أستريا الذي نزلنا به إلى قصر البراطرة في بضع دقائق يقطعها سيرًا على الأقدام في طريق غير فسيح، فإذا آن له أن يمر بظاهر القصر وأن يقترب من أبوابه، رأى على يمينه عمارة من نوع عمارة القصر الواقع على يساره مقفلة الأبواب لا يحدث شيء حولها عنها ما هي … سألنا فإذا هي إسطبلات الإمبراطور، ولكن أين العربات وأين الجياد المطهمة وأين ما نرى من ذلك في «البتي تريانون» حين نزور فرساي؟ المالك الجديد، الشعب، لمَّا يعرف كيف يكون نظامها، ولعله لما يتسلمها من الحراس الذين قد يردونها كاملة، وقد يردون نصفها أو ما دون النصف. وجزنا هذه العمارة المقفلة، فدعتنا تماثيل فخيمة لنستدير عندها، فإذا تلك بوابة القصر، وإذا له بابان عن اليمين وعن الشمال، عقد فوقهما قبو بمقدار عرض العمارة يمتد النظر بعده في فضاء، ثم تقف عمارة ثانية دون امتداده. وآثرنا قبل دخول القصر أن نرى ما وراء القبو مما بين العمارتين، فدلفنا فإذا بنا في فناء هائل هائل يحيط بفسحته أجنحة القصر الأربعة، ويقوم في وسطه تمثال الإمبراطور فردريك، ويحدث خلال النظر في فسحته عما يمكن أن يكون ذلك القصر وما يمكن أن يحتوي، وللحظتي أيقنت أن مجرد المرور بغرفة من غير وقوف بأيها يحتاج إلى ساعات عدة، ما بالك إذا أردت أن تنال من كل غرفة خطفة عين! وعدنا إلى الأبواب فصعدنا سلمًا فيه من سلم قصر الهابسبور ببودابست شبه غير قليل، نشهد آثار الملكية الساقطة عن عرشها سقطة لا يزال دويُّها في الآذان. من تسع سنوات فقط، في سنة ١٩١٨، كان يقيم في هذا القصر إمبراطور النمسا والمجر وخليفة الإمبراطور الهرم فرنسوا جوزيف الذي شهد القصر من آثار بذخه وترفه قبل الحرب ما يصبح حديث خرافة إلى جانب ألف ليلة وليلة. في هذه العشرات، بل المئات، بل أكثر من ذلك من الأبهاء والصالات والغرف والمقاصير والحجرات وملحقاتها من المتزينات والحمامات، كان الترف يسيل أنهارًا، وكان الملك وحاشيته وبلاطه وخدمه وحشمه يجدون في النعمة بهذا كله ما يمكنهم من حسن القيام على سياسة المملكة والقضاء على دسائس أعداء الملك، وهذا كله كان يستنزف من أموال ودماء وقرابين وأعطيات ورشى كل ما يمكن أن يصل إليه؛ لأن أضعاف ما يمكن أن يصل إليه هو في رأي الملك ورجاله بأشد الحاجة إليه لحسن سياسة الدولة ولقيام النمسا مقام العظمة الذي كانت تقفه بين الأمم. وها هم أولاء الذين كانوا يحسنون سياسة النمسا والمجر ويستعينون على حسن سياستها بهذا المتاع كله قد فروا فرار الآبق، وتركوا النمسا كليمة محطمة تئن أنين الجريح في حياته، بل الجريح أكثر من ذلك كرامة وعزة، إذ أصبحت النمسا تدوسها أقدام من كانوا يطأطئون رءوسهم أمام عظمتها ويخشعون ضراعة واسترحامًا.
على أنك ترى في قصر شونبرن ما لا تراه في قصر البراطرة بفينا، فناحية من قصر شونبرن تكاد تكون كقصور فرساي واللوفر، أو بالأحرى كقصر وندسور، احتفاظًا بروعته الإمبراطورية وتنسيق أثاثه ومعرفة الناس مواقعه، أما قصر «فينا» فهو على ما حدثتك كأنما فر منه بالأمس أهله، فما يدري نظامه بعدُ مَن وضعوا أيديهم عليه، ذلك بأن الإمبراطور كان يسمح للشعب، أو — بكلمة أدق — للرعية، بأن تزور شونبرن في أيام معينة، وكان يعد ذلك تفضلًا منه عليهم، وكان رجال القصر في تلك الأيام يجمعون أثاث القصر في ناحية ويحمونه بالحواجز من حبال وغيرها يقيمونها بين الشعب الذاهل إجلالًا لعظمة إمبراطوره وبين هذه الطنافس والنفائس المقدسة مما لا يجوز أن تقع عليه عين من غير أن تختلط في آي الإعجاب والإكبار بآي التقديس والإجلال، فلما ذهبت الإمبراطورية وآل القصر للشعب، لم يكن الشعب في حاجة إلى أكثر من الاحتفاظ بالقصر كما كان أيام الإمبراطور يتفضل عليه بزيارته، ومن أن ينزع من نفسه ومن خياله المضطرب بالتقديس والعبادة هذا الاضطراب المذل المخجل.
أما قصر «فينا» فلم يكن الشعب يعرفه، ولم يكن يتاح له أكثر من أن يمر بفنائه الفسيح الهائل؛ لذلك ظل كل ما فيه سرًّا من الأسرار إلا على رجال البلاط الذين فروا مع الإمبراطورية حين فرت، أما من بقي منهم فلم تبقَ لأحد به ثقة، مما جعل الشعب نفسه يفكر في أن يعيد النظام إلى قصر الإمبراطور، وما أوسع الهوة بين الرعية وقصر الراعي! لذلك ظل نظام القصر غير مكتمل، لأن المالك الجديد بحاجة إلى زمن وإلى مجهود لإكماله، ولأن لديه من سائر نواحي حياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مما خلفت الحرب ما يشغله عن هذا اللون من ألوان الكمال الذي لا حاجة تمس إليه، ولا ضرورة تلجئ إلى الإسراع فيه.
•••
وهذا الشعب النمسوي في فينا والذي يعدل ثلث سكان النمسا كلها، ماذا تراه يفعل لحياته؟ أن بين ماضيه القريب وبين حاضره لهوة سحيقة أكبر من كل ما يتصور الخيال، هوة ليس سببها سقوط الإمبراطورية كما سقطت الملكية في فرنسا أيام الثورة الكبرى، ولو أن الأمر كان كذلك لهان الخطب، ولتمخض النظام القديم عن النظام الجديد في ظاهر من الثورة، ولكن في تطور يستبقي من القديم صالحه ويقضي فيه على ما دعا إلى الثورة عليه، ويشيِّد في أناة ورفق تلك المدينة الفاضلة الجديدة التي سعت الثورة إليها، والتي لا تزيد في أكثر الأحايين، فضلًا على ما ثار الناس عليه، وإن كانت دونه سوءًا وشرًّا، لكن ما أصاب النمسا بفعل الحرب قد حطم النمسا نفسها ولم يكتفِ بتحطيم نظامها. لم تبقَ إمبراطورية النمسا والمجر، ولم تبق مملكة النمسا وحدها، بل فُصلت المجر وقُلِّمت كما قدمنا، ثم قلمت النمسا بشر مما أصاب المجر، فهبط تعدادها من أكثر من خمسة وثلاثين مليونًا إلى ستة ملايين، وانتزعت منها أكثر أجزائها قدرة وأعظمها خصبًا وأوفرها إنتاجًا، وألقيت تلك العاصمة المجيدة القديمة (فينا) وما حولها من ملايين أربعة على خريطة أوربا، كما تمسك الرجل فتجز ساقيه وذراعيه وتحطم رأسه وتدق صدره ولا تبقي فيه إلا جذعًا يحيا ولا يعرف من الحياة غير الألم، فماذا يصنع هذا الشعب وهذا ما أصابه، وهو شعب مجيد ذو تاريخ يحدث عن أنه كان إلى يوم أعلنت الحرب صاحب كلمة مسموعة في سياسة أوربا كلها؟ بل لعل النمسا لو وقفت من مقتل ولي عهدها في «سيراجيفو» غير ما وقفت، ولم تندفع في السياسة التي دفعتها إليها ألمانيا وجنحت إلى السلم، لما نشبت الحرب كما نشبت، ولما ألقي على النمسا ما ألقي عليها من تبعات يعلم الله والتاريخ أن تلك الأمم الاستعمارية جميعًا متساوية فيها إزاء الحرب، وأن ما يتحمله بعضها من أعذار لإلقاء التبعة على البعض لا يدفع إليه إلا فزعه المرعب من أشباح ملايين الموتى والمدن المخربة والقلوب المفجوعة والنفوس الكليمة بالأيم واليتم وبكل أسباب الرزيئة والفجيعة.
نعم! ماذا يصنع هذا الشعب الذي رزأه الصلح أكثر مما رزأته الحرب؟ هو يجاهد ليعيش كما يجاهد المريض ليبرأ، وهو يأمل في العيش أمل المريض في البرء، لكنه يحس بفداحة عبء العيش، ويضعف في كثير من الأحيان أمله فيه، حتى ليتنفس في تلك الأحيان عن الاستغاثة مصوغة في طلب الانضمام إلى ألمانيا، وما هذا الطلب إلا استغاثة مؤلمة قاسية! أليس معناها ألا تبقى النمسا دولة، وألا تبقى فينا عاصمة دولة، وألا يبقى الشعب النمسوي شعبًا له كلمة مسموعة في الحياة الدولية، وأن يفنى هذا كله في جمهرة الولايات الألمانية المتحدة ليكون ولاية منها! وقد يصعب أن يكون له ما لها وعليه ما عليها! ولعل الشعب النمسوي إذ يرسل صيحة الاستغاثة هذه يريد أن يقول إنه لم يندفع إلى الحرب إلا بتحريض ألمانيا، فيجب أن تحمل ألمانيا وزر ما أصابه فتعينه عليه، وألا تذر ما مزقه الحلفاء به يجني عليه حتى يكاد يأتي على حياته، فإن يكن للصيحة هذا المعنى، أفحق أن الحلفاء مزقوا النمسا جزاء لها عن إعلانها الحرب على صربيا وروسيا؟ لكن ألمانيا لم تمزق ما مزقت النمسا وقد تضامنت معها وكانت المحرك الأول لها في كل تصرفاتها إزاء حادث «سيراجيفو»! وإنما وقف الحلفاء إزاء ألمانيا موقف المتهيب إلى حد غير قليل؛ لأنهم رأوا فيها قوة شباب ليس من اليسير أن تذعن، وللقوة أيًّا كانت احترام وتقدير. والقوي يهاب القوي وإن انتصر عليه، لكنه لا يرأف بالهزيم إذا كان ضعيفًا إلا أن يكون رجل شرف وعاطفة، والأمم لا تعرف العواطف، وأمم أوربا بنوع خاص قد أثبتت أن الشرف الدولي مرن يمكن أن يتشكل مع الحوادث على ما تريده الحوادث أن يكون.
هذه الصيحة بطلب الانضمام إلى ألمانيا غير مرجوة الثمرة القريبة؛ لأن النمسا تعلم كما تعلم ألمانيا أن الحلفاء يقفون في وجهها ويعترضونها بكل ما أوتوه من قوة، وهم إذا كانوا قد أقاموا التحالف الصغير من بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ولتوانيا ويوجوسلافيا سدًّا بينهم وبين البلشفية! فهم لا يريدون أن تزداد ألمانيا قوة على قوتها بانضمام النمسا إليها، ليتجدد أمامها شبح الحرب، ولتكون ألمانيا والنمسا منضمتين قديرتين وهما دولة واحدة أن تسحقا هذا الحلف الصغير بمعاونة روسيا في أيام، لتدور رحى حرب كبرى من جديد؛ لذلك يقاوم النمسويون ما هم فيه من ضيق بكل ما أوتوا من وسائل، ويجدون من حكمة الحلفاء ما يكفل الوقت بعد الوقت إمدادهم بما يستبقي أملهم وإن لم يدفع إلى نفوسهم رجاء في سيادة أو رفعة. والظاهر من هذا ومما تراه في المجر وفي غيرها من البلاد التي تعاني متاعب الحرب الاقتصادية أن سياسة الحلفاء قد انقلبت بعد الحرب من النقيض إلى النقيض. فهي لم تبقَ كما كانت سياسة تنافس وتكاثر في سبيل الاستعلاء والظفر بإغراق الأسواق، بل أصبحت سياسة تجويع يعقبه تفريج لا يزيد على إزالة أثر الجوع. وقد سلكوا هذه السياسة مع ألمانيا نفسها، حتى اقتنعوا بفسادها، وبأن رخاء كل أمة من أمم العالم رهن برخاء العالم جميعًا، أما مع غير ألمانيا فلا يزالون يلجئون إلى تجارب غايتها إبعاد شبح الحرب مع استبقاء سائر الدول في مكان الانحناء أمام إرادتهم.
هذه الحال النفسية ظاهرة الأثر في كل ما تراه في «فينا»: في هذه الطرق الفسيحة التي تدل على عز الماضي والمهملة اليوم أو تكاد محدثة بنكبة الحاضر، وفي هذه القصور التي كانت آهلة فأقفرت، وفي المتاجر التي صارت إلى حال لا تحسد عليه، وفي هذا المرح المتكلف الذي يشعر الإنسان بأن النمسويين إنما يلجئون إليه كما يندفع المصاب لنسيان همه في الشراب أو في الميسر أو في واحدة من هذه الشهوات الدنيا التي لا يلجأ إليها الإنسان عادة إلا كارهًا. ولقد التمسنا يومًا مع أصحاب عرفناهم في «فينا» حانة من حانات اللهو يدعونها «الهاورجة»، فانطلقت الأوتموبيلات بنا إلى خارج «فينا» أو ما يكاد، ثم وقفت عند باب تخطينا منه إلى فناء محطم البلاط، ثم إلى غرفة فسيحة شبه مظلمة مدت فيها الموائد وجلس من حولها الرجال والسيدات، وكلهم يتناولون نبيذ العام، نبيذًا طفلًا لم يحبس في دن ولم يفكر أحد في تعتيقه، وهو لذلك لا يصعد إلى موضع الأسرار ولا يزيد على أن يبعث إلى الناس سرورًا طفلًا هو الآخر، ينسيهم همَّ الحياة زمنًا. وهذا النبيذ العام رخيص قليل الكلفة تقدَّم معه ألوان من الطعام رخيصة قليلة الكلفة أيضًا، يتناولها قاصدو «الهاروجة» في مرح وغبطة ينسون أثناءها ما يثقل كواهلهم من هم: وما أشد إقبال هؤلاء النمسويين على أي سبب من أسباب المسرة أو اللهو يجدونه في هذا المكان الذي تدعو دكنته إلى الانقباض، لولا النبيذ ولولا قصد السرور الذي يجيء الناس به يريدون أن يحققوا بالنبيذ أسبابه، فلما انتصف الليل تركنا الحانة وعدنا إلى فندقنا لنهيئ متاعنا كي نغادر «فينا» في الصباح.
وكأنما طافت بنا من فينا ريح كآبة وهمٍّ، جعلتنا ونحن بالقطار في طريقنا إلى براج نفكر فيما عسى أن نفعل، وإلى أين عسى أن نذهب، ولعل هذا سبب هيام النفس بالإسراع إلى منزل سرور وغبطة ينسيها ما بعثت إليها أوربا الوسطى من كآبة وهم، تألمًا مع أممها لما نكبها به الحلفاء في معاهدات الصلح بغيًا بغير حق.