براج – باريس – مصر
ترددنا آخر أيامنا بفينا بين السفر منها توًّا إلى باريس بقطار الشرق، وبين السفر إلى براج نزور فيها «كارلسباد» ونذهب منها إلى برلين ثم إلى باريس. وكان لنا ببراج صديق لا معدى لنا عن زيارته فيها وبيننا وبينها ساعات، فكتبنا إليه نذكر أنَّا قادمون عليه، وأخذنا تذاكر إلى عاصمة المملكة الجديدة — التي خلقها الحلفاء بمعاهدات الصلح لغاياتهم السياسية — تشيكوسلوفاكيا، وهبطناها، فاستقبلنا بلد جميل، تطل محطة السكة الحديدية أول مغادرتك إياها على حدائق ذات بهجة، وتجد بجوارها فندق ولسن، فيه كل أسباب الطمأنينة والراحة. وما لبثت بعدما أويت إلى الفندق واستعدت أمام ذاكرتي خريطة أوربا التي كنت أعرف قبل الحرب، والتي لم يكن فيها شيء اسمه تشيكوسلوفاكيا، حتى عاد هذا الاسم القديم الكثير الذكريات مرتسمًا أمام خيالي (بوهيميا) يمثل هذه القطعة من أوربا وتمثل براج كورته. بوهيميا، نعم! بلد غجر أوربا، ولكن غجر بغير هذا المعنى الوضيع الذي أضفاه الناس على هذه الكلمة عندنا في مصر، بل بالمعنى الذي يحبه رجال الفن ويعززونه. غجري؛ أي رجل لا يحب الاستقرار ولا يطمئن إلى الحياة المطمئنة، ولا يرضى عن العيش الساكن المتشابه مما تكره الناس عليه حياة الاستقرار والصناعة. وأحيا ذلك في ذاكرتي قصة «هنري ميرجيه»: «مناظر من حياة الغجر»، أولئك الذين لا يعرفون أين ولا كيف يقضون ليلهم، فإذا قضوه لم يعرفوا أين ولا كيف يقضون نهارهم، وليس ذلك لعجز منهم عن تدبير ليلهم ونهارهم، وإنما هو ازورار عن الحياة المنتظمة، وعن ذلك العيش الناعم الذي يتوهمه بعض الناس غاية النعمة والسعادة، وحب لمفاجآت الحياة والعبث بها والاستمتاع بما يسميه الناس شرها كالاستمتاع بما يتوهمونه خيرها. ذلك مذهب في الأبيقورية يعشقه الفن ويحسبه نوعًا من الترف لا يتذوقه، إلا من أوتوا في الفن موهبة عظيمة. استعادت ذاكرتي قصة ميرجيه وجعلت أسائل نفسي: ماذا عسى أن تكون عاصمة بلاد الغجر، وأي ألوان من الفن أبدعت فيها مواهب هؤلاء الذين لا يعترفون لغير رجال مذهبهم بموهبة في الفن؟
ونزلنا المدينة القديمة التي أصارتها الحرب عاصمة من بعد الحرب، هي ولا ريب مبنية على تلال لا يمكن أن يعزى إلى غيرها ذهاب بعض شوارعها مرتفعة أكثر من الأخرى، وإن لم تك في شيء من الارتفاعات العنيفة التي تعرفها شوارع البلاد الجبلية. والنهر يجري خلالها وإن لم يشطرها. وللمدينة على جانبيه بهجة ليست في شيء من بهجة بودابست ولا من بهجة أكثر البلاد النهرية التي رأينا، على أن بشوارعها وبمتاجرها وفي ظاهر أهلها روحًا من المرح لعله هو هذا الاستخفاف بالحياة مما عرف عن البوهيميين. مرح يبدو أثره في كثير من فنونهم وألوان العيش عندهم؛ ففي كثير من المتاجر يرى الإنسان صناعة الزجاج المزخرف بالغة من التأنق والدقة مبلغًا إلا يكن فيه من البهر ما في زجاج البندقية، ففيه من معنى الفن ما يسمو في نظر البعض على زجاج البندقية. وهنا رأيت لأول مرة انتشار المطاعم «الأوتوماتيك» انتشارًا يجعلك تعتقد أنها بعض مكونات الحياة في براج؛ ففي شارع واحد من شوارع المدينة الرئيسية أربعة من تلك المطاعم، يكفيك أن تدخل أحدها لتجد في زجاجه ألوان الطعام والشراب مما تحب، فإذا أعجبك صنف من هذه الأصناف فما عليك إلا أن تضع مبلغًا مكتوبًا على الزجاج في ثقب بجواره، فإذا هذا الطعام أو الشراب يتقدم بنفسه من الزجاج إليك دون أن تمد يدًا أو تحتاج في تناوله إلى خدمة أحد. وعلى هذه المطاعم يقبل كثيرون ساعة الظهيرة بنوع خاص حين يخرجون لتناول طعام غدائهم يريدونه قليل الثمن قليل الكلفة، فيهرعون إلى هناك يتناولون «الساندويتش» أو البيض أو السمك أو أي نوع شاءوا من أنواع الطعام أو الخضار مما تراه وراء الزجاج. وقد لا يطيق أحدهم صبرًا على أن يتم تناول هذا الطعام الخفيف في هذا المكان، فما يكاد يجيء على الشطر الأكبر منه حتى يأخذ سائره بين يديه وييمم شطر الباب ليتم هناك تناوله وليتم في الطريق مضغه. وهذا النوع من العيش وتلك الدقة في الفن مما أشرنا إليه في الزجاج وفي كثير من صناعة بوهيميا الخاصة، تبرز لك فكرة خاصة عن هذه المدينة.
إلى جانب هذا الفن وهذا المرح في عاصمة تشيكوسلوفاكيا، ففيها من الآثار ما يشهد بأنه بلد قديم بين بلاد أوربا قلَّ من كبرياتها من تعرف ما يعرف من الآثار القديمة؛ فيها ساعة في ميدان ضيق يشير إليها أهل المدينة على أنها من أقدم الساعات المعروفة، وتتصل ببوابة تذكرك إذ تراها «ببوابة المتولي» بالقاهرة، وهي على ضيقها يمر من تحتها الترام، فيقف ساعة مروره حركة الجهة كلها وقفًا تامًّا، وفيها سراي رئيس الجمهورية يقيم فيه مسيو مازاريك مطلًّا على النهر ومتصلًا بمتحف جميل يزوره الناس ليروا فيه بعض الآثار البوهيمية في الفن الجميل وصورة من تاريخ بوهيميا. ولقد كان من شأن هذا كله أن يستبقينا ببراج أسبوعًا على الأقل، لكنا لم نقم بها غير أيام؛ إذ كانت حالتنا النفسية قد بدأت تهوي إلى السآمة والملل، وبدأت نفسنا تشعر بحنين إلى باريس عجيب … حنين لذاع فيه معنى تأنيب النفس كيف نمضي كل هذا الوقت بعيدين عنها وهي هي صاحبة الفضل علينا، وهي هي التي حلت من قلب زوجي وحلت من قبل ذلك بسنين كثيرة من قلبي أنا محل إعزاز وإكرام، حتى لأعدَّها وطني من ناحية الثقافة والتهذيب، لكن برلين على مقربة منا، أفلا نذهب إليها؟ كلا! كلا! لم تبقَ للنفس طاقة بالسفر إلى بلد غير باريس، ولم تبقَ لها طاقة بالمقام بعيدًا عنها، لم تبقَ لها طاقة بأن تشاهد ما حولها في براج، وبأن تقف مأخوذة معجبة به كما وقفت في الآستانة ورومانيا وبودابست. والطريق بين براج وباريس يستغرق ثمانٍ وعشرين ساعة. فليكن! ولتكن مشقة الطريق بعض ما نكفر به عن التباطؤ على باريس، كما أن مشقة الحج إلى بيوت الله المقدسة بعض ما يزيد الحاج أجرًا. وعبثًا حاول صديقنا أن يستبقينا معه ببراج زمنًا أطول لنزور معًا «كارلسباد»، فقد نفد كل ما في النفس على اللحاق بباريس من صبر، ودلفت أنا وزوجي يومًا مطيرًا في الطريق الموازي لطريق فندقنا، حتى بلغنا محلات كوك، فأخذنا منها تذاكرنا وحجزنا للغداة أماكننا، وأنبأنا بذلك صديقنا، وكنا في الساعة العاشرة من صباح الغد نودعه وأهله ويودعوننا.
وانطلق بنا القطار، وانكشف من حولنا السهل وانفسح الأفق، وليس قطار براج – باريس من نوع السهم الذهبي الذي يصل بين لندن وباريس فلا يقف بينهما إلا ريثما ينتقل المسافرون على الباخرة فوق المانش؛ كلا! بل هو يقف في محطات شتى كانت «بلسن» في مقدمتها. ولبلسن في البيرة شهرة عالمية؛ لذلك ما كاد القطار يقف بها حتى رأينا باعة البيرة يجرون بعرباتها، ورأينا المسافرين يتسابقون إلى شربها، كأنما هي جرعة من ماء زمزم يتبركون بها. وهؤلاء الباعة يحمل الواحد منهم في يده عشرة أكواب، فإذا وزعها طار إلى عربة يجيء منها بأكواب أخرى. وعاود القطار انطلاقه بعد ما ترك للمسافرين الفترة الكافية للمتاع ببيرة بلسن، وبقينا تحيط بنا الطبيعة الأوربية السهلة في هذه الجوانب من بوهيميا وألمانيا، حتى إذا كان الصباح كنا عند الحدود الفرنسية، وكنا قد بدأنا نشعر بأن السفر حقًّا قطعة من العذاب، لكن وجهتنا باريس، وقد قطعنا أكثر من عشرين ساعة، فلم يبقَ إلا أقل من ثماني ساعات؛ فلنصبر، ولنمد الأعناق تجاه مدينة النور، فإذا بلغناها في الساعة الأولى من بعد الظهر كان لنا أن نسرع إلى مخادعنا، وأن ننال فيها قسطًا من الراحة يعوضنا عن هذا الجهد المضني وهذه المشقة التي هدت الجسم ورضته.
لكنا ما كدنا نصل باريس حتى شعرنا بحياة جديدة ونشاط جديد يسريان إلى أعصابنا وإلى قلوبنا وإلى أرواحنا، شأنك حين تلقى أعزة لم ترهم من زمان، فإذا رأيتهم بعثت الغبطة بهم إلى نفسك انتعاشًا يقضي على كل ما قد ينتابها من سآمة أو ملل، وبلغنا من ذلك حتى لم تطرف لنا بغفوة عين، بل قمنا بعد أن نظمنا متاعنا في غرفة الفندق، ونزلنا نطوف أنحاء باريس نتنسم ريحها ونحس روحها، ونضم إلى صدرنا ما في كل نسمة من نسماتها من عطف وفن وحياة، ونحن الذين أجهدنا السفر لم نطق صبرًا على مسارح باريس ألا نؤمها، فأخذنا تذاكرنا في ممثل «أنتوان» وقضينا إلى منتصف الليل يغالبنا التعب ونغالبه ويعيننا التمثيل الجميل المملوء بالنكتة الظريفة والحكمة السامية والحياة القوية على التغلب عليه، وانخرطنا في حياة باريس فرحين بها مستبشرين بكل شيء فيها، ميممين التويلزي والكونكورد والشانزليزيه تارة، مستمتعين بغاب بولونيا تارة أخرى، منتقلين إلى الشاطئ الأيسر حينًا، مسافرين إلى ضواحي العاصمة الكبيرة حينًا آخر، مقرين دائمًا إقرارًا خالصًا بالجميل الذي غمرتنا به مدينة النور منذ ردت إلى زوجي طعم الحياة.
على أن ظرفًا خاصًّا كشف لنا من باريس عن ناحية ما كنا لولاه لنراها، ذلك ما كان من زيارة جلالة ملك مصر لعاصمة الجمهورية الفرنسية واستقباله بها رسميًّا في اليوم التذكاري لموقعة نافارين التي فيها حطم حلفاء ذلك العهد، ومن بينهم فرنسا، أسطول مصر حين صولتها وسطوتها أيام حكم محمد علي، حتى لا تكون دولة قوية على البحر الأبيض تنازع دول أوربا السيادة فيه، وكان ذلك في ٢٠ أكتوبر سنة ١٩٢٧. وأكتوبر في باريس شهر ساحر تعود فيه لباريس كل حياتها؛ إذ يعود إليها كل أهلها، فينشط كل شيء فيها، ويزداد نشاطًا بجو الخريف الساحر تتضوع به كل أرجائها. وقد زاد ذلك في غبطتنا بالزيارة الملكية لعاصمة الجمهورية، كما زاد فيها أن وزارة الخارجية الفرنسية والجمعيات والهيئات الفرنسية التي احتفلت لجلالة الملك فؤاد دعت زوار باريس من المصريين جميعًا إلى جميع حفلاتها؛ بهذا أتيح لنا أن نحضر حفلة المسيو دومرج رئيس الجمهورية في قصر الإليزيه، وأن نشهد في بهوها الفسيح الجميل تمثيل قطع من روايات مختلفة يقوم بها ممثلو الكوميدي فرانسيز والأوبرا كوميك والأوبرا وموسيقاروها، وأن نشهد كذلك حفلات في الجمعية الجغرافية وفي متحف اللوفر وفي أماكن شتى، وأن نستمع إلى أكابر العلماء والوزراء الفرنسيين يرحبون بجلالة الملك ويوضحون بين يدي جلالته ما يعرضونه أمامه مما يقع عليه نظره. وما كان أظرف مظهر بعض البارزين في الحياة السياسية منهم والمعروفين بالتطرف في الرأي الجمهوري وهم يقومون بواجب الضيافة والإكرام في ظرف ورقة. كان مسيو هربو الزعيم الاشتراكي والجمهوري المتطرف وزيرًا للمعارف فللفنون الجميلة بطبيعة الحال، وكان عليه لذلك أن يستقبل الزائر الكريم في صالة بمتحف اللوفر نظِّم فيها معرض لصور تتصل بمصر وتاريخها من بينها صورة لمحمد علي الكبير، فلما دخل جلالته صالة ذلك المعرض خطب مسيو هريو بين يديه مشيدًا بأعماله وأعمال أبيه وجده، مستريحًا إلى أن الخلاف في العقيدة السياسية لا يغير شيئًا من واجبات اللياقة، كما يجب ألا يغير شيئًا من أسباب المودة أو الصداقة.
وآن لنا أن نعود إلى مصر، فأقلتنا إليها الباخرة «إكسفردشير» وأرتنا أثناء سفرها على البحر منظرًا عجبًا؛ فقد كان المسافرون أصيل يوم سادرين في مرحهم ولهوهم، وإذا سحب تحجب الشمس، وإذا موج يهز السفينة، ثم إذا المطر ينهمر هتونًا فيحيل الوجود كله؛ سماءه وموجه وبحره وسفينته، ماء يجعلنا في آن سابحين غرقى، ويبعث إلى نفوسنا من أسباب الرهبة ما يزيدها انكماشًا كلما برز الوجود أمامها بما يشعرها بعظمته وصغرها أمامه. وظل تهتان المطر سويعة، ثم أمسكت السماء وإن بقيت الشمس في حجاب من السحب، على أن هذه السويعة أدنت ساعة مغيب بديع ردتنا سابحين غرقى في لجة عسجدية، مما أفاضت السماء على السحب، وما سكبت في الماء من ذوب أشعتها القانية الحمرة، حتى لكأنها تهمي دمًا يصبغ الجو كله مدى ساعة كاملة، تجيء بعدها ظلمة الليل فتبتلع كل أثر للمغيب.
وبلغنا مصر وانخرطنا في حياة العمل، حتى إذا كنا في أول يونيو سنة ١٩٢٨ في عطلة عيد الأضحى باغتني أوتموبيل، فاضطررت إلى وضع ساقي في الجبس ولزوم منزلي ستة أسابيع كاملة خرجت بعدها متعب الأعصاب محتاجًا أشد الحاجة إلى الراحة والسكينة، ففكرت من جديد في أن أفي بالنذر الذي نذرته لنقضين الصيف في أوربا، واخترت جنوا مرفأ البداية لرحلتي، وغادرت القاهرة في ١٧ يوليو لأستقل الباخرة «أوزارامو» في ميناء بورسعيد. غادرتها وجو مصر السياسي مثقل باحتمالات ما كنت لأستطيع — وأنا فيما أنا فيه من جهد — أن أقوم على وجه مرضٍ بواجبي الصحفي، وكأنما أراد القدر أن يجعل نصيبي من الاستشفاء في هذه الرحلة أوفر من نصيب زوجي؛ فقد أشار الطبيب عليَّ بأن أذهب إلى «بارجستين» أعالج بمياهها ما أصاب كتفي اليمنى أثناء مقامي بالدار سجين ساقي، ولم أكن أدري أن القدر المحسن قد كتب لنا في لوحه أن يكون هذا الصيف آخر صيف لاستشفائنا، وأن سيعود لنا أكبر الرجاء في العوض عما أصابنا قبل صيف العام المقبل، فتكون مغادرتنا مصر إلى أوربا في مهمة سياسية بدل أن تكون مهمة استشفاء وانتظار ورجاء.