بين بورسعيد وجنوا

أتراني أتحدث مرة أخرى عن الطريق بين مصر وأوربا؟ وأي جديد أقول في الماء والسماء ورفاق السفر وما قد يتخلل ذلك من صحو في الجو أو هياج في البحر أو دوار يصيب الراكبين أو مرح يلهو به كل ليقطع أيام البطالة والكسل؟ على أني شعرت في سفري هذا الأخير بين بور سعيد وجنوا بحالات نفسية لم يكن لي من قبل بها عهد، ولست أدري إلى أي سبب أردها، فلقد كان البحر هادئًا والجو صفوًا طول الطريق، والباخرة الألمانية «أوزارامو» باخرة عادية في كل شيء فيها، وفي ركابها أكثر من كل شيء فيها، فماذا عسى أن تكون المؤثرات التي دفعت إلى نفسي تفكيراتها في هذا السفر؟ أهي الموسيقى الألمانية التي كان يعلبها موسيقار الباخرة طول الطريق؟ أم هي قراءتي ما كتبه «جول لمتر» عن «لا مارتين»، وما كتبه «إدوارد شوريه» عن «موسى»؟ أم هي حاجتي إلى التفكير في شيء غير المضطرب السياسي الذي خلفته ورائي في مصر؟ أم هو هذا الضعف الثائر الذي يملأ النفس إثر المرض وإثر الحوادث؟ لست أدري أي هذه العوامل أكبر أثرًا في نفس كانت في حاجة أشد الحاجة إلى الراحة من التفكير ومن الحركة ومن كل صور النشاط العصبي، كي تستعيد بالراحة قسطًا من نشاط فتر فيها قبيل مغادرة مصر ومغادرة العمل. ولعل الموسيقى كانت أكبر العوامل أثرًا؛ فما عرفت في كل البواخر التي سافرت عليها واحدة كهذه الباخرة الألمانية تسمع فرقة على ظهرها من الموسيقيين المتقنين في الصباح وبعد طعام الغداء وساعة الشاي وبعد العشاء توقع أحسن الألحان لأكبر المنشئين، فتملأ نفسك كل يوم مدى ثلاث ساعات أو تزيد بأحلى الأنغام وأبدعها، وبأكثرها سموًّا بك فوق المطامع الدنيا إلى عالم روحاني تنهل عواطفك العليا منه أعذب ورد، ويتهادى فؤادك فيه فوق موج هادئ حينًا، مضطرب آخر، ساكن ثالثًا، سابح بروحك وبنفسك في لجة من عذب النغم.

ما عرفت مثل هذه الفرقة فوق كل البواخر التي سافرت عليها، وكل ما أذكر أني سمعته من موسيقى، فتلك أنغام الرقص الحديث يوقعها خدم الباخرة ليتسلى بها الركب سويعة، وليساعدوا بها مِعَدهم على هضم طعام العشاء، ولست أنكر رغبتي عن موسيقى الرقص الحديث هذه وما تشنف به المسامع أنغام الجازبند والشارلستون وغيرها مما لا أذكر له مثيلًا قبل الحرب، ومما أنشأته الحرب إرضاء لشهوات الجماهير ثمنًا لفضلها في القتل والقتال دفاعًا عن الوطن؛ فهذه الجماهير لم تكن لتسيغ الموسيقى «الكلاسيك»، ولم يكن يحلو لها تجارب نغم الأجسام في رقص الفالس وغيره، ولم يكن المؤلفون يعنون يومئذ بإرضاء هذه الجماهير التي كانت قانعة بالعيش في بقعة الأرض التي ولدت فيها، سعيدة بهذا العيش أكبر السعادة، زاهدة في الموسيقى وفي الرقص وفي كل ألوان الترف، ناظرة إليها جميعًا على أنها بعض آثار البطالة مما يتسلى به الأغنياء الفارغون على ملال الوقت، فلما آن لهذه الجماهير أن تخرج من أوكارها إلى ساحات القتال، وأن تبدي من البطولة في الدفاع عن أوطانها ما أبدت في الحرب الكبرى، لم يكن بد من أن تعلو الأنغام التي تلذ الجماهير ولو إلى حين ينسى فيه الناس الحرب وما تطلعت إليه العيون من شهوات الإنسان الدنيا إلى حد التلذذ بالسفك وإراقة الدماء، ثم تعود بعد ذلك الموسيقى الإنسانية إلى مكانتها من النفوس الراقية. ولست أنكر أن من حق الملايين التي استماتت في الدفاع عن أوطانها، والتي استهانت لذلك بالموت، أن تنعم بما يرضي شهواتها على عجل، خيفة أن يجيئها الموت قبل أن ترضي هذه الشهوات، لكن ذلك لا يمنعني من أن أرغب عن تلك الموسيقى.

أنا أرغب عنها وإن كنت أرى الجماهير تتحرك لها وتطير إليها، لا بالنفوس والأسماع وكفى، بل بالأجسام والأرجل أيضًا. وإذا طارت الجماهير إلى شيء لم يستطع كثيرون أن يقفوا دون مجاراتها والإعجاب بها؛ أليست الجماهير هي قوة الحياة البريئة السليمة من أمراض التفكير والرفاهية والتسامي بالنفس أو بالروح أو بالعاطفة أو بغير هذه من المشاعر التي أحس بها المعلمون والمترفون، أو ادَّعوا في نظر البعض، أنهم أحسوا بها؟ ومن ذا يستطيع أن يقف أمام تيار قوة الحياة البريئة من هذه الأمراض، بل من ذا يستطيع تجنبها والازورار عنها وعدم متابعتها إلا رجل لا يزال يقدر للتفكير وللروح وللعاطفة قيمتها ويراها فوق المستوى العادي، فليس يليق بصاحبها أن ينزل إلى هذا المستوى من غير أن ينكر نفسه.

على أن فرقة «الأوزارامو» لم تضن على السَّفْر بليلة تحييها رقصًا من هذا الرقص الحديث، وفي هذه الليلة وقفت أشهد الراقصين وأسمع لأنغام الموسيقى. ما أكبر الفرق بين هؤلاء الأشخاص الذين أرى الآن يرقصون وبين هؤلاء الأشخاص أنفسهم إذ يستمعون إلى الأنغام السماوية يحيي بها الموقعون أسماء كبار الموسيقيين من أهل القرن الماضي! بل ما أكبر الفرق بين نفسي وأنا أراهم وبين نفسي وأنا أسمع لتلك الموسيقى السماوية؛ ها هم أولاء أمامي يرقصون، وهأنذا أشهدهم وأسمع إلى موسيقى تعيد إلى نفسي ذكر «دلوكة أبي الودع» في قرى الريف. انظر إلى شفاههم تبسم طربًا للساعة التي هم فيها بسمة لا تخلو من معنى قوي فيه رغبة وفيه وحشية، وانظر إلى حدق عيونهم ليس فيه معنى من معاني الأمل، ولا هو يرنو ندبًا إلى بعيد في عالم الأماني، بل هو يضحك سعيدًا باللحظة الحاضرة ناسيًا فيها كل ما سواها، شأن الحيوان جميعًا لا يعرف الماضي ولا المستقبل، لأنه لا يذكر ولا يرجو ولا يتمنى، ثم انظر إلى هذه الحركات؛ حركات الأجسام والأرجل، وما أظنك إلا تشاركني في أنها لا تعبر عن أنغام الأجسام في صورة تغتبط لها المعاني السامية. انظر إلى هذا كله وانظر إليَّ أنا أيضًا، فأنا أضحك ملء أشداقي، ولا أعرف من كل ما حولي غير هذا المنظر الساذج في براءته الحيوانية، والذي يجذبني إليه لأنه يثير من نفسي ميلها إلى الراحة. وهل أدعى إلى الراحة من أن أقف العقل فلا يفكر، والنفس فلا تحلم، وأن نستسلم بكلنا لحواسنا المشغولة بما أمامها من لهو الحاضر!

هأنذا الآن أستمع من جديد مع هؤلاء الأشخاص الذين كنت أشهدهم يرقصون إلى الموسيقى بالمعنى الذي تفهمها به الإنسانية السامية. انظر إلى حدق العيون وبسمات الشفاه ترَ الماضي وذكرياته، وترَ المستقبل وآماله، وترَ المعاني الإنسانية مرتسمة على كل جبين. هنا مسارح الأمل ولواذع الألم، وهنا يتصل الإنسان بالوجود اتصالًا روحيًّا خالصًا.

أنت هنا لا ترى غرائز تحركها الأنغام الوحشية، ولكنك ترى أرواحًا تستحيل أنغامًا وتذهب مع الأنغام إلى حيث يريد مؤلفها أن تذهب. إن هذه الموسيقى لا تنسيك نفسك، ولا تنسيك الماضي والمستقبل لتقيدك باللحظة الحاضرة. كلا! إنها لتوقع من نفسك على أوتارها التي تكونت في الماضي والتي ترجو للمستقبل، فتستثير من هذه الأوتار معاني ما أشد ما تشعر أنت بالحاجة إلى التعبير عنها، فتعجز الكلمات وتعجز الأصوات عن أدائها غير صوت الموسيقى الشجي الحنون.

أترى؟! لقد أنستني الموسيقى نفسي، وأنستني ما قصدت إلى كتابته، وهذا الذي أشرت إليه عما شهدت في ليلة الرقص التي أحيتها فرقة «الأوزارامو» لما يأت موضعه. فليلة الرقص هذه كانت ليلة السبت ونحن ركبنا الباخرة ليلة الأربعاء، وفيما بين الأربعاء والسبت قرأت وفكرت واطمأنت نفسي إلى أن أكتب شيئًا عن هذا السفر. والمقارنة بين موسيقى الرقص الحديث والموسيقى الإنسانية، وأن الأولى بعض نتائج الحرب، لم تكن بنت ليلة السبت بل كانت سابقة لها. لكن الموسيقى هي أول ما لقيني في تلك الباخرة الألمانية ساعة صعدت إليها في ساعة الشاي، وساعة عدت إليها في المساء بعد وقت قضيته في بورسعيد في صحبة خير صحبة. والموسيقى ساحرة، فليعذرني القارئ إذا أنا سُحرت ونسيت نفسي في حديثها وفي المقارنة بين ما قارنت بينه منها.

ثم لعل على الموسيقى بعض التبعة في تأثري بما تأثرت به من بعد، فلست أعهد نفسي سريعة إلى الطيرة ولا إلى التفاؤل، وليس يسيغ عقلي أن يكون لحادث يقع نبوءة بحادث بعده لا صلة له به. مع هذا فقد تحطم زجاج إحدى نوافذ الباخرة في يوم الأربعاء، فإذا أعصابي تهتز وإذا بي أتطير. ولماذا؟ ما علاقة نافذة تحطم زجاجها بالحوادث التي تقع بعد ذلك؟ أريد أن أعزو هذا إلى شحذ الموسيقى لنفسي، ولعلي أجد في ذلك عذرًا خيرًا من العذر الصحيح، خيرًا من أن أعصابي كانت مجهودة ساعة تركت مصر إلى حد أن هبطت إلى مستوى من لم تهذب أعصابهم، فهبطت إلى التأثر بما به يتأثرون، وإلى الإيمان بما به يؤمنون.

ولقد أضحك الآن من نفسي إذ أذكر جهادها لتصل بين هذا الحادث وحادث آخر وقع في يوم الخميس، فبينما الجو صحو في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم والبحر ساكن والشمس تنعكس أشعتها على صفحة الماء، إذا ضباب يهبط دفعة واحدة حتى حجب الشمس وملأ الجو بريح كريح الدخان، ثم إذا بنا في ظلمة لا يبصر الإنسان معها شيئًا، حتى لقد اضطر ربان السفينة إلى أن يطلق في الجو صفارته ليسمع البواخر التي يمكن أن تكون على مقربة منا، فلا ترتطم بنا ولا تذهب أرواحنا وأرواح سَفْرنا إلى قاع البحر. هنالك تصورت الموت جاثمًا خلال هذا الضباب الكثيف، وذكرت زجاج النافذة المحطم، وأيقنت بأنه سيصيبنا، ولا شك، مكروه، وأسلمت أمري لله، إليه تصير الأمور. والمسافرون غيري في مرح كأن لا ضباب يجثم الموت خلاله، وكأنهم لا يذكرون النافذة التي تحطمت، فأعجب لهم وما يصنعون. واستمر قتام الجو ساعة كاملة كان صفير الباخرة، أو نحيبها إن شئت، يعلو بين فترة وفترة اتقاء الخطر، أو كأنها تستمطر الرحمات على هذا الجدث السابح سيبتلعه الموج عما قريب، فلما تكشف الجو عاودتني سكينة مشوبة بالخوف. من يدري! أليس الإنسان يسير في الطريق فيدهمه أوتموبيل قد يقضي على حياته وقد يصيبه بمكروه؟ وقد تصطدم الباخرة وسط هذا الضباب فلا ندري أينا ينجو وأينا تبتلعه رحمة الله.

أضحك الآن، بعد يومين اثنين، من تفكيري في تلك الساعة، ولا عجب من ذلك التفكير ولا من هذا الضحك؛ فأربعة أيام في جو كهذا الجو البديع الذي تخطر الباخرة فوقه قمينة بأن تعيد النشاط والقوة إلى أضعف الأعصاب، وإلى أعصابي التي كانت مضناة ساعة غادرت مصر. على أن هذه اليقظة العصبية بعد ذلك الحادث اصطحبت بقراءة من شعر «لامارتين» وبأخرى عن حياة موسى، فجعلني ذلك كله أفكر فيما حولي من لا نهايات لا تحدها الآفاق تفكيرًا أشرك القارئ فيه وأترك له حرية تقديره، معتذرًا له دائمًا بأني ربما كنت ما أزال في حالة فكرية كتلك الحال العصبية التي ضحكت منها.

يعرف القراء مقدمة كتاب الرحالة الكبير أحمد بك حسنين عن رحلته خلال صحراء ليبيا؛ وكل من يعرف هذه المقدمة لا يستطيع أن ينسى هذه الصحف البديعة الخالدة التي دبَّجها يراع حسنين عن الإيمان سندًا للنفس وسط الصحراء. هذا الإيمان الذي يعتمد عليه راكب الصحراء أكثر من اعتماده على إبله؛ لأن الإبل قد تنفق، وأكثر من اعتماده على دليله؛ لأن الدليل قد يضل، والذي يحبب إليه الموت فيها لأنه موت في أحضان الرحمن الرحيم، هذا الإيمان هو الذي كنت أفكر فيه حين كنت أقرأ شعر لامارتين وحياة موسى، وحين كانت تهبط كسف الضباب فتملأ الجو وتحجب عن عيوننا ذلك الحيز الضيق المتصل بيننا وبين الأفق، وتعرِّضنا بذلك للخطر وللهبوط إلى قاع البحر بين الأسماك.

ولكن ما أكبر الفرق بين إيمان وإيمان! ما أكبر الفرق بين إيمان بالحب العطوف الرفيق يصل بين الخلائق بعضها وبعض، ويصل ما بين الحاضر والماضي والمستقبل، وإيمان بالعدم يبتلع الأشياء في جوفه الأسود فلا يبقي منها ولا يذر ولا يصل بين شيء منها والشيء الآخر بصلة، وإيمان عبوس بالقدر القاسي فيه العذاب وفيه الألم وفيه الانتقام تمتد أيديها الملتهبة لتحرق ما في الأرض وما في السماء فتذرها هشيمًا تذروه الرياح. دع عنك هذا الإيمان بالعلم إيمانًا خلاصته أنَّا لا نعرف من العالم إلا قليلًا، وأنَّا يجب أن نحتاط فلا نقامر بعقولنا ولا بنفوسنا في مجاهل ما لا نعلم.

وبين هذه الصورة من الإيمان ذكرت تاجور شاعر الهند، وذكرت شخصه المهيب المحترم، وصوته العذب الملائكي الذي يسيل محبة ورحمة. الإيمان والعلم خصيمان؟ ولماذا؟ الإنسان والوجود خصيمان؟ ولماذا؟ الحياة والموت خصيمان؟ ولماذا؟ أليس ذلك كله بعض ما في الوجود؟ وكيف يكون البعض خصمًا لكلٍّ هو منه ولا حياة له إلا به؟ وهل كان للناس أن يصلوا إلى العلم الذي وصلوا إليه لو لم يسبق العلم إيمان؟ فإذا هم جمعوا إلى علمهم اليوم إيمانًا أوسع مدى وأسمى غاية من إيمان أسلافهم فقد يصبح بعض هذا الإيمان علمًا في المستقبل، وقد يرتفع بهم وبإيمانهم درجات جديدة. ولم لا؟ أليس للوجود وحدة كما أن لكل ذرة من ذرات الوجود وحدة؟ وكيف نأبى على الكل صفة نعترف بها لجزء منه؟ وإذا لم نكن نحن قد بلغنا من العلم إلى معرفة دقائق وحدة الوجود هذه، فنحن نستطيع أن نحسها وأن نقدرها، وأن نؤمن لذلك بها كما آمن آباؤنا من قبل بأشياء أصبحت بعض ما يحيط به علمنا إحاطة تامة نعرف منه كل سننه وقوانينه، فليكن من عمل المفكرين منا أن يفكروا في الوجود كوحدة، وفي صلة هذه الوحدة بأجزائها صلة نظام ورفق كالذي نراه في صلات الموجودات جميعًا. وهم، ولا ريب، مهتدون في مستقبل قريب أو بعيد إلى شيء من سنن وحدة الوجود على صورة علمية إن لم يتح لنا الاهتداء إليها جميعًا على هذه الصورة العلمية.

•••

كذلك كنت أفكر صباح الجمعة، فلما كانت الظهيرة وتناولنا طعام الغداء، وسمعنا إلى الموسيقى وفكر البعض في الهبوط إلى مضاجعهم، إذا برجال الباخرة يوزعون على الناس قبعات من ورق صنعت على أشكال مختلفة، بعضها صيني وبعضها هندي وبعضها تركي وبعضها تيجان للسيدات تلمع فيها أحجار كما يلمع الألماس. ما هذا؟ ذلك ما لم أعرفه لساعتي؛ لأني ركبت الباخرة من بورسعيد، فأما الذين استقلوها من قبل ذلك بأسابيع فيعرفون أن ليلة السبت ليلة راقصة هي التي حدثتك من قبل عن موسيقاها، وهي ليلة راقصة في ملابس الخفية.

وأنت تعرف كيف يفتنُّ الأوربيون في ملابس الخفية؛ لذلك اتخذ كل من القبعات التي أشرت إليها ما يتفق وما عنده من لباس، واستعدوا بذلك لحفلة المساء، فلما كنا ساعة الطعام إذا كلٌّ قد استبدل ملابس السهرة بملابس عجيبة؛ فشيخ عرب و«قبضاية» وصيني، وآخرون اكتفوا بالقبعات التي اختاروا ساعة الظهر، فأما السيدات فافتنت كل منهن ما استطاعت، وبلغ بعضهن من ذلك حدًّا بدا على غرابته جميلًا، وبلغت أخريات من التستر حدًّا ظريفًا. واجتمع الرجال والنسوة من الدرجتين الأولى والثانية بعد أن استمتعوا بعشاء خاص في هذه الليلة الخاصة، ودقت الموسيقى ودار الرقص، ونسي الناس أنفسهم في هذه اللحظة التي لا تعود إلا كل أسبوع مرة، ولهم عن هذا النسيان العذر. ليس بعضهم قد قضى على سطح البحر ستة أسابيع في حين قضى آخرون ثمانية وغيرهم عشرة! فماذا تراهم يصنعون؟ ألا لو أنهم كانوا فلاسفة لوجدوا في تشابه الحياة حولهم ما يزهد في الحياة وفي الفلسفة بعد هذا الزمن الطويل. ما بالك وأكثرهم من رجال المستعمرات الإنجليز والألمان ممن يعودون إلى بلادهم ممتلئة نفوسهم إليها حنينًا وشوقًا! هم إذن في حاجتهم إلى اللهو مفعمون بالليلة الراقصة سرورًا، وهم إذن في هذه الحال الساذجة التي وصفت لك.

وفي صباح السبت عدت أسائل نفسي: ما مكان هؤلاء الراقصين في نظرية وحدة الوجود؟ وإذا مكانهم في هذه النظرية أمتع مكان، أليسوا هم الإنسانية مصغرة وحدتها الكبرى! فهم لا يعرف أحدهم الآخر من قبل إلا على أنه إنسان لا يعنيه من أمره أهو غني أو فقير، عظيم أو حقير، كما لا يعنيه من أي جنس هو؛ بينهم الإنجليزي الحاكم في جنوب إفريقية، والبلجيكي المستعمر في الكونجو، والألماني المقيم في إفريقية مالكًا لقطعة أرض ضيقة أو واسعة بعد أن كان قبل الحرب سيدًا للمستعمرات الألمانية الإفريقية حتى انتزعها الحلفاء قسرًا من ألمانيا، وإلى جانب هؤلاء جميعًا جماعة من الذين استوطنوا إفريقية، فهم إنما يغادرونها إلى أوربا كما نغادر نحن مصر طلبًا للراحة أو الاستشفاء، وحرصًا على الوقوف على أحدث صور حضارة الإنسان. هؤلاء جميعًا وغيرهم معهم اجتمعوا في ملابس الخفية يحيون ليلة راقصة وهم يرقصون على أنغام الموسيقى، سواء أكانت هذه الموسيقى دلوكة العبيد أم كانت أرقى صور الفالس، فإن الأنغام تتصل بنفوسهم وهي التي تحركهم، تتصل بنفوسهم وتصبح جزءًا من مجموعهم ومن هذه الوحدة التي تمثل الإنسانية مصغرة، وقد لا أعدو الحق كثيرًا إذا ذكرت أن هذه الوحدة من الموسيقى والكهرباء والناس ما كانت لتكون لولا أن السفر على الباخرة وفوق سطح البحر. وإذن فالباخرة والبحر بعض هذه الوحدة، وبين هذه المكونات للوحدة جميعًا رابطة تربطهم هي الجاذبية، إذا اخترت تعبير علماء الطبيعة، وهي التقارب Des Affinites إذا اخترت تعبير علماء النفس، وهي الحب إذا سموت بهذه الكلمة إلى معناها الروحاني تعبر به عن سر الحياة الذي يربط الكائنات جميعًا إنسانًا وجنًّا وملائكة، أرضًا وسماء وأثيرًا، صراطًا وجنة وسعيرًا، برابطة القربى والمودة والوحدة التي تبعث فيها الروح وتبعث فيها الحياة.

وأصبحنا يوم الأحد وللسَّفْر جميعًا حديث واحد: اليوم سنرى في طريقنا جزيرة «ألبا» حيث نفي نابليون لأول مرة، ومنها عاد ليرتقي عرشه ثانية في فرنسا حتى يهوي نجمه فينهزم في واترلو وينفى أخيرًا إلى جزيرة القديسة هيلانة. واليوم نستعيض بمرأى جزيرة «ألبا» عن مرأى جزيرة كورسكا مسقط رأس نابليون. وكذلك اتصلت النفوس في هذا الجو المطمئن الساكن بروح قوية عاصفة سخرت العالم لشهواتها منذ أكثر من قرن من الزمان، وتختلف هذه الفترة عن غيرها من فترات التاريخ لا لشيء إلا لذكرها هذه الجزر التي شهدت مثل هذا الدور من أدوار التاريخ. وظللنا كذلك طيلة النهار تتبدى لنا بين وقت ووقت شهبات من الأرض يذكر الربان أن بعضها مصب «التبر» حيث تقوم المدينة الخالدة روما العظيمة، وأن الآخر نتوء من إيطاليا وسط البحر، حتى إذا قاربت الساعة الثامنة من المساء وآن للشمس أن تنحدر في مغيبها كانت «ألبا» قد تكشفت لنا وما كدنا نتم تناول طعام العشاء.

انظر إلى الشمس تنحدر في مغيبها وتخلف بعدها ألوانًا مختلفة من برتقالي وبنفسجي! وانظر إلى هذا الهلال الوليد يحبو على استحياء في لجة السماء ويرقب «ألبا» وإيطاليا وأضواءهما التي بدأت تظهر في جوف الليل الساجي وما تزال موليات الضياء تغالب سواده! ثم انظر إلى مياه البحر! لقد كان البحر في أثناء سياحتنا كلها جميلًا رفيق الموج حلو النسيم، لكنه الليلة ملائكي وأكثر من ملائكي؛ يسري النسيم منه فوق صفحة مصقولة صقل المرآة أو هي أصفى، تنعكس عليها تلك الأشعة المتعاقبة الألوان مما خلفت الشمس ساعة مغيبها، وتندمج فيها الساعات القليلة التي يحاول الهلال أن يبعث بها من سمائه، والليل يطارد النور ويطرده، فتبدو أنوار «ألبا» مبعثرة كأنها النجوم ألقي بها في الماء، أنوار يقف عندها نظرك وانتباهك وسمعك وقلبك وكل حواسك، وتنسيك نابليون والتفكير فيه، والتاريخ وصفحاته، والماضي والمستقبل، وكأنما هي والماء والنسيم والهلال وكل ذلك المنظر الساحر ينسكب في نفسك انسكابًا ويجري في روحك عذبًا سلسبيلًا. ويدور الناس إلى الجانب الثاني من الباخرة ليروا شاطئ إيطاليا وفناره وأنواره، وإذا «ألبا» تجذبهم إليها من جديد، كأن النسيم إلى ناحيتها غير النسيم إلى الجانب الثاني، وكأن روحها التي حسبنا أنَّا نسيناها في جمال الوقت، هذه الروح التي قويت بقوة نابليون واشتدت جاذبيتها بشدة جاذبيته، لها على كل ما يحيط بها من بحر وقمر ونسيم وناس سلطان ليس لأحد دون الولاء له سبيل.

ما بال البحر في الليلة الأخيرة من ليالي سياحتنا يلبس كل زخرفه ويزدان، كأنما يريد أن يكفر عن هياج منه سلف، وما كان خلال رفقته إيانا إلا أرقَّ صاحب وألطف عشير! أم مثله في ابتسامته هذه الساحرة كمثل الفاتنة تودعك بابتسامة أشد في نفسك فعلًا من ابتسامة اللقاء، لتكون بهذه الابتسامة أسيرها، فلا تبرح طول بعدك عنها عن التفكير فيها واللهفة عن ساعة لقائها.

وكلما فكرنا في مغادرة «ألبا» لنستريح، خفنا أن تتخطى الباخرة الجزيرة الساحرة وقد فاتنا من سحرها كثير أو قليل، فلما بدأت تبعد عنا جعلت أنوارها تتدثر في جوف الليل رويدًا رويدًا، حتى صارت شبحًا، فخيالًا، فوهمًا، فماضيًا نذكره مغتبطين بذكره. هنالك أخذنا مجالسنا إلى جانب زوجين بلجيكيين لهما على الباخرة ثلاثة وعشرون يومًا، قصا علينا عن سياحتهما وعن الكنجو البلجيكية شيئًا غير قليل، ثم قمنا جميعًا إلى مخادعنا نعد متاعنا للنزول به في الصباح الباكر إلى جنوا.

ودخلت الباخرة الميناء والسَّفْر لا يزالون نيامًا، فلما علونا سطحها قابلتنا البواخر الكثيرة متراصة متزاحمة، وفاجأت نظرنا مباني الميناء، فأخرجنا ذلك من طمأنينة السكينة إلى حلبة ما كان أحلى الفرار منها والبعد عنها! ورست السفينة فإذا المستقبلون من أجناس مختلفة يتحدثون بلهجات ولغات مختلفة، ويقصون من أخبار تجارة الحياة ما ينسي التفكير في وحدة الوجود، ويعيد الذهن إلى نطاق ضيق من التفكير في الإنسانية أممًا وأفرادًا تتنافس وتتباغض ويفني بعضها بعضًا، ثم انحدرنا إلى جنوا وأقمنا بها يومين لقينا فيهما من لهيب القيظ ما وددنا معه لو أنَّا أقمنا على ظهر الباخرة حتى «سوذامبتن» أو «رتردام» أو «هامبور»، لكنا لقينا في جنوا أنيسًا أنسانا ظرفه قيظها حتى حين حديثه عن قيظها، ولقينا فيها صورة أخرى من صور وحدة الوجود أشد للنفس أخذًا من كل ما أجاله البحر في ذهني من خواطر. وإذ انقطع رجاؤنا في أن نجد بإيطاليا غير القيظ المحرق، فقد تركناها بعد هذين اليومين إلى سويسرا، آملين أن نجد في جوها وفي جبالها وفي جمالها ما يعيد إلى النفس السكينة التي عرفت أيام سفر البحر، والتي نسيت في جنوا من شدة القيظ الذي زاد في رطوبته وثقله على قيظ مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤