في الطيارة من كولونيا إلى برلين
كان برنامج سفري أن أذهب من كولونيا إلى برلين بعد انتهاء مؤتمر كولونيا؛ لأشهد للمرة الأولى العاصمة الألمانية الكبيرة، ولأرى مجهود هذه الأمة الممتلئة حياة ماثلًا في أم القرى الألمانية، وقد يدهش القارئ لشخص قضى في أوربا أيام الدراسة سنوات، وزارها بعد ذلك غير مرة، كيف لم يزر برلين من قبل. وبرلين جديرة بكل إعجاب، وقد يجوز لي أن أعتذر بعدم معرفة اللغة الألمانية وعدم استطاعتي لذلك أن أتصل بأهلها وأدرك من أسرارها ما لا سبيل إلى إدراكه لغير عارف لغة البلاد التي ينزلها. ولهذا العذر لا شك وزنه وأثره، لكن سببًا آخر — قد يضحك القارئ منه كما أضحك أنا اليوم — كان أقوى أثرًا؛ ذلك أن دراستي في فرنسا كانت ما بين سنة ١٩٠٩ وسنة ١٩١٢، وفي هذه السنوات كانت الخصومة بين فرنسا وألمانيا مستحرَّة، وكانت كل واحدة منهما تروج الدعاية ضد الأخرى بكل ما أوتيت من قوة، وما بين ما كانت تذيعه فرنسا عن جارتها أن في أخلاق أهلها غطرسة وجفاء، وأنهم ثقال الظل غلاظ الأكباد، وأن عسكريتهم قد جعلت منهم آلات لا تعرف شيئًا اسمه التفكير ولا الفن ولا الحرية، وإنما يقف علمها عند أن تؤمر فتطيع.
وقد بالغ بعض الكتاب الفرنسيين في تجسيم هذه الصورة عن ألمانيا، حتى ليحسب الإنسان أنه معرَّض ساعة ينزل بين الألمان للقبض عليه لأتفه سبب، وأن تساء معاملته لغير موجب، ويكفيك أن تطلع على ما كتبه جي دموباسان في هذه الناحية ليقشعر بدنك من قسوة هؤلاء الألمان الوحوش؛ فكيف يتسنى لمن يدرس في فرنسا، ومن يعجب بالظرف والرقة فيها، أن يغامر بنفسه فيذهب إلى بلاد الغطرسة والقسوة والتوحش! فلي إذن العذر إن أنا لم أزر برلين ولم أرَ من الألمان أحدًا.
وتقضَّت السنون بعد ذلك، وكانت الحرب، وبدا الإنسان في كل قسوته وتوحشه لا فرق بين ألماني وغير ألماني، وفترت في النفس أوهام الصبا، وتكشفت عن الحياة أستار الأماني البراقة، فظهر الناس جميعًا أمام البصر تصرفهم غرائزهم فتسخِّر عقولهم كما تسخر خيالهم وفنهم، وتسخر من منطقهم الذي يسمونه منطق العقل وما هو إلا منطق الغريزة الحيوية المشتركة بين الإنسان وغير الإنسان، تدفعهم جميعًا إلى البحث عن أسباب الطمأنينة والسعادة، فإذا كان للألمان في هذه الأسباب رأي غير رأي الفرنسيين أو الإنجليز، فلا تثريب عليهم في ذلك؛ سواء أكان رأيهم أدنى إلى الصواب أم أدنى إلى الخطأ.
فلنذهب إذن إلى برلين، قال صاحب: ولم لا تذهبون إليها بالطيارة وهي تقطع المسافة بين كولونيا والعاصمة في ثلاث ساعات، على حين تقطعها القطارات السريعة في عشر، وفي كل يوم بين كولونيا وبرلين طيارة يسافر الناس عليها، والكل متفق على أن السفر بالهواء مريح أكثر من سفر القطار ومن سفر البواخر. وهي بعد تريكم مناظر الأرض في صورة لم تروها من قبل، على حين أنكم رأيتم صورة هذه المناظر بالقطار حتى لم يكد يبقى لكم في شيء منها جديد. وما أحسبكم من أولئك الذين يخشون السفر الجوي لما يتوهمونه من أخطاره، وأنتم تعلمون أنه من مأمنه يؤتى الحذِر، وأن الخطر كمين في كل خطوة من خطى الإنسان، فلو أنه حاول دائمًا أن يحاذره لما تحرك ولا خطى خطوة … وظل هذا الصاحب بنا يحاول إقناعنا، وأعانه في ذلك أن جماعة ممن عرفت في المعرض ألمانيين وغير ألمانيين سمعوا منه اقتراحه فوافقوه عليه، وقص بعضهم أنه امتطى الهواء مرات، وأنه يجد فيه من الراحة ما لا يجده على الأرض ولا على البحار.
ومع ذلك بقينا مترددين. السفر بالطيارة جميل، وقد حدثني كثيرون من قبل عنه، وأخبروني أن ليس به ما يتعب إلا دوي أجنحة الطيارة دويًّا يصم الآذان، مع ذلك ففي ركوب الهواء مجازفة ما دامت الطيارات لا تزال معرضة للاحتراق، ولقد جاهدت بعد وصولي برلين أن أقنع جماعة ممن رأيت من المصريين أن يسافروا في الطيارة، فكان من عدم اقتناعهم ما سوغ أمامي ترددنا الأول.
على أن هذا التردد لم يطل، فلقد ذهبت إلى كوك في كولونيا، وطلبت إليه تذكرتين للطيران يوم الاثنين الثالث عشر من أغسطس، وفي صباح ذلك اليوم شحنت ما حسبت أن الطيارة لا تتسع لغيره من متاعنا، وإن رأيت بعد وصولي إلى المطار أنها كانت تتسع لأكثر منه، وبعد ربع ساعة من ظهر ذلك اليوم ركبنا سيارة «اللفت هانزا» الذاهبة إلى المطار، ومعنا صاحبنا الذي أشار بركوب الطيارة، وقطعت بنا السيارة أنحاء المدينة وخرجنا إلى ظاهرها، وبلغنا محطة الطيران، وما كدنا ندخل ونلقي بأبصارنا على المطار حتى ألفينا أكثر من طيارة ذات سطح واحد، لكن الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة لم تكن قد حانت بعد، فجلسنا في مطعم لن نتناول فيه طعامًا، ولكنا جعلنا نطل منه على هذه الطيارات المستعدة للطيران. وفي الساعة الواحدة أقبلت إلى المطار تجري على عجلها طيارة ذات سطحين، ونادى المنادي: إلى برلين.
إذن هذه هي طيارتنا، فلنطر إليها حتى تطير بنا، وسبقتني زوجي، فلما لحقت بها أخبرتني أنها سمعت أثناء مرورها شخصًا عند مؤخرة الطيارة يذكر أن بها عطبًا وأنه يصلحه، فلما أردت أن أسكن من هذه الناحية روعي وروعها بأن سألتها كيف فهمت كل هذه العبارة الطويلة بالألمانية، أخبرتني أن الشخص كان يتكلم الفرنسية؛ فنحن إذن سنكون على أجنحة الهواء في طائرة بذنبها عطب، وإذن فلله الأمر من قبل ومن بعد، ولكل أجل كتاب، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ولست أدري ماذا كان يجري إليه حديثنا عن هذا العطب ولم تلتفت إليه جارة لنا فتخوض معها زوجي في حديث، فتعلم منها أنها فرنسية، وأنها وحيدة في سفرها، وأنها حضرت على هذه الطيارة من باريس فلم تجد في سفرها نصبًا، بل لم تجد إلا الراحة التامة والسكينة كل السكينة، لولا ضجة المحركات المزعجة التي لا مفر معها من أن يملأ الإنسان أذنيه قطنًا ليستطيع احتمالها مع شيء من العناء، ثم قالت كي تطمئننا: ولقد نزل بنا الطيار نزولًا بديعًا لم نشعر معه بأي شيء … وجعلت تمدح هذا السفر بالطيارة، وتذكر أنها ذاهبة بها من باريس إلى برلين، لتمضي بالعاصمة الألمانية أسبوعًا ثم تعود بالطيارة كذلك إلى باريس. ولما كانت قد ذكرت أن هذا هو سفرها الأول في الجو، فقد جعلنا نسألها عما شعرت به أول ارتفاع الطيارة وأثناء مسيرها وحين هبوطها، ونسأل عن تفاصيل أخرى لم تدُر بخاطرنا قبل أن نجد أنفسنا في هذا المضيق.
لم يدفعني إلى كتابة كلمة «المضيق» هذه شيء من معنى الخشية أو التخوف؛ فطيارتنا والطيارات الأخرى التي رأينا مضيق فعلًا؛ فهذه الأجنحة الفسيحة تضم بينها غرفة في صورة غلاف جسم الطائرة سواء بسواء، والغرفة التي كنا بها تتسع لعشرة أشخاص فقط، ركب منهم ثمانية وبقي مقعدان خاليان، وصادف أن كان الثمانية: أربع سيدات وأربعة رجال. وعرض الطيارة، أو بعبارة أدق، هذه الغرفة الضيقة، تتسع لمقعدين من نوع «الفوتي» الذي يريح الجالس عليه كل الإراحة، وبين المقعدين ممر ضيق لا يكاد يتسع للشخص الواحد إلا بمشقة، ووراء المقاعد في هذا المضيق مكان يوضع فيه المتاع إلى جانب دورة المياه، فأنت إذن ترى أننا كنا في «مضيق» بالصورة المادية الصحيحة لهذه الكلمة، وأني إذ تحدثت عن المضيق لم أقصد به إلى أي معنى آخر.
وكان مقعدي في المقدمة، فليس بيني وبين الطيار غير حاجز ضعيف. والمقدمة تطل على ما في الطيارة من أدوات وعُدد تلفت النظر إليها؛ فهذه المحركات الحديدية الضخمة على صورة المروحة الكهربية تدور في حركة سريعة فتدور معها لوالب وزنبركات ويايات تعدها بالعشرات، وكلها تدق في نظام هو بعينه نظام نبض الحياة في الإنسان، وهي بعينها دقات قلب المرء، وهذه الزنبركات واللوالب واليايات صغيرة إلى جانب هذا المحرك الضخم العظيم، والجناحان المزدوجان عن يميننا وعن يسارنا فسيحا السعة، حتى لا يكاد المضيق الذي يحشر الناس بينهما تتعلق به العين أو تعنى به النفس لولا أنَّا جاثمون بين جدرانه المتينة.
الساعة الأولى والدقيقة الخامسة! الموعد الذي قيل لنا إن الطيارة ستتحرك فيه، وها هي ذي مع ذلك لم تتحرك؛ إذن فلا بد أن يكون العطب الذي بالمؤخرة داعيًا إلى التأخر، ولكن ليكن! فماذا عسانا نستطيع أن نقول ومعنا ستة آخرون تبدو عليهم الطمأنينة، فلننتظر … وها هي ذي الساعة الأولى والربع والطيارة مع ذلك لم تتحرك! والأولى والثلث والطيارة مع ذلك لم تتحرك! أي عطب هذا الذي اقتضى إصلاحه هذا الوقت كله؟ والآن ها هي ذي الساعة الأولى والدقيقة الخامسة والعشرون، وها هو ذا طيار يمر من بيننا ويأخذ مجلسه إلى جانب زميله ويجيب عن سؤال زميله في لهجة استخفاف: لقد كان عطب تافه في المؤخرة أصلحناه في الوقت المناسب، وما يزال أمامنا خمس دقائق.
ما يزال أمامنا خمس دقائق؟ نعم! كذلك أجابتنا السيدة الفرنسية التي تحدثنا إليها وتحدثت إلينا؛ فالطيارة تدخل المطار الساعة الأولى والدقيقة الخامسة، لكنها لا ترتفع طائرة إلا في الساعة الأولى والنصف. ألا لو علمنا ذلك لما كان ثمة موضع لعدِّنا الدقائق والثواني لحسباننا العطب سبب التأخير.
وفي الساعة الأولى والنصف تمامًا أقبل إلى ناحية الطيارة ضابط المطار، فصفر إيذانًا لها بالسفر، وجرت الطيارة على عجلها حتى توسطت المطار عند ضابط آخر واقف إلى جانب علم مثبت في الأرض، هنالك رأينا الأرض تبتعد عنا رويدًا رويدًا من غير أن نشعر ونحن في الطيارة بأكثر من حركة الصاعد (الأسنسير) حين ارتفاعه، لكن ضيق المحشر الذي حشرنا فيه جعل أنفاس الأشخاص العشرة الذين يشغلونه تجعل منه بوتقة، فخلعت معطفي في أثناء ارتفاع الطيارة، ثم جعلت أحدق إلى الأرض وما عليها من شجر وعمارة وهضاب وجبال تبتعد عنا رويدًا رويدًا، وكلما آن للطيارة أن تزداد ارتفاعًا شعرنا بها تهبط فجأة بعض الثانية، ثم ترتفع من جديد فلا نشعر بارتفاعها. وأشهد لقد هبطت في شيء من السرعة فخلت قلبي يهبط، وأحسب أن الذين كانوا يطيرون مثلنا للمرة الأولى هبطت قلوبهم كذلك معها، لكنها في هذه المرة ارتفعت ثم ارتفعت ثم ازدادت ارتفاعًا، حتى بلغ ما بينها وبين الأرض ألفًا وخمسمائة متر.
وفي أثناء هذا الهبوط ثم الارتفاع كنا في شغل بحركة الطيارة عن أن ندقق في الإحاطة بما تقع عليه أنظارنا من زجاج نوافذها، وكنا كذلك ممتلئي النفوس شعورًا بأنَّا لا نقدر من أمرنا على شيء، وبأنَّا في حاجة إلى عون كل القوى لتمدنا من لدنها بما يعيننا على مواجهة هذا الجديد الذي لا نعرفه قبل ساعة حشرنا فيه، وإن كنا قد سمعنا وقرأنا عنه ما جعل من اليسير علينا أن نهرع إليه لنزداد بأمره خبرًا، لهذا دعتني زوجي أن أقرأ «أية الكرسي»، وانطلق لسانها هي بالدعوات الحارة إلى الله رجاء كل مستعين، وذكرت أهلنا ومن خلفنا في مصر، فوجهت إلى السماء من صالح الدعوات لهم ما يرتفع به القلب حين يصفو من مشاغل الحياة الدنيا. على أننا لم نستطع التفاهم على ما نقرأ وما نتلو من الدعوات إلا زمنًا يسيرًا؛ فقد قوي دوي المحركات أثناء مسير الطيارة وارتفاعها، حتى كان لا يسمع أحد أحدًا، ولا يستطيع جار أن يتفاهم مع جاره إلا بالكتابة.
وفيما هي في ارتفاعها كانت تسير بنا صوب برلين؛ أين نحن الآن منا في القطار، نطل من نوافذه الواسعة على المزارع تارة وعلى الجبال أخرى وعلى الأنهار ثالثة، نعبرها فوق الجسور المختلفة الصناعة! ها نحن أولاء تشهد أعيننا الجبال والمزارع والأنهار والغدران والقصور والطرقات، وكلها كأنها خطوط مستقيمة تارة، ملتوية أخرى، خضراء حينًا، مغبرة حينًا آخر، لامعة بالموج ثالثًا! ولكنها في هذه الأحوال جميعًا لا تزيد على خطوط رسمت على خريطة مسطحة مستوية من الأرض، لا تختلف في شيء عن الخريطة السطحية المستوية من الورق التي ترسم عليها الصور الطبيعية والجغرافية لهذه الكائنات التي نراها عن قرب بارزة أو غائرة، مرتفعة أو منخفضة، ضخمة أو ضئيلة. وكما صرنا بالعادة نعرف ما تشير إليه الألوان على الخرائط، كذلك استطعنا أن نعرف ما تمر فوقه الطائرة في مروقها كالسهم، فنميز بين الجبل والسهل والبناء، وإن كنا ننظر إليها جميعًا نظرة علو واستكبار، فلا نرى لها من العظمة ولا من الجمال ما نراه لها؛ إذ نمر بها ونحن صغار إلى جانبها وهي عظيمة تبهر عظمتها الأبصار ويأخذ جمالها القلوب؛ ولم لا ننظر إليها كذلك؟ ألنسا منها في سمواتها العلى؟ ألسنا نطل من نوافذ زجاج الطيارة فنراها صغيرة دوننا، ونرى قممها التي كانت شامخة متعالية وقد طأطأت هامتها لنا وكشفت عما كان مخبوءًا منها لأنظارنا؟ فماذا بقي منها غيبًا علينا حتى نجلها أو نعظمها! والإنسان لا يجل إلا العيب، ولا يعظم أمامه إلا المحجب.
وهدأت النفس واطمأنت إلى مكانها بعد روعها من سلوك السبيل إلى هذه المكانة، ألم يكن هذا السبيل مجهولًا أمامها؟! فلتستعن إذن بالغيب وبالمجهول ما دامت قادمة على غيب ومجهول! لتصبح ذرة في وحدة الوجود العظيمة، ولتفنَ مع غيرها من الذرِّ، ولتلتمس لها في فنائها هذا أنسًا لها من وحشة، ومعونة على المجازفة، وسكينة في أحضان الاستسلام. أما وقد تسنمت الذروة وأطلت من فوق الكائنات على هذه الكائنات فما الروع، وما الغيب، وما الاستعانة إلا ضعف غير لائق بالنفس التي تؤمن بالعلم، نعم! ما دام العلم فالوجود كله للإنسان، وإذا هو لم يكن لإنسان اليوم فهو لإنسان مائة سنة أو ألف سنة أو ألوف من السنين مقبلة. أليس الوجود هو هذا الذي نحدق إليه حولنا؟ أولسنا نكشف كل يوم منه عن جديد؟ ففيم استحالة أن نكشف يومًا من الأيام عنه كله؟
وذهبت في هذه التأملات وفي مثلها، لكني شعرت بشيء يلفتني عنها ويردني إلى حقائق الوجود الذي حولي؛ ذلك هو البرد الذي جعل يشتد رويدًا رويدًا. أليست طيارة قد ارتفعت ألفًا وخمسمائة متر! فهذا الهواء الذي كانت الأنفاس أدفأته قد بدا يتأثر شيئًا فشيئًا بالجو المحيط بالقفص الذي نحن فيه، وها هو ذا الآن قد أمسى باردًا، فأنا في حاجة إلى معطفي أضعه على ساقي؛ كلا! بل أرتديه، فدفء ساقي لم تدفأ له أكتافي. وارتديته ثم ضممته إليَّ كأشد ما يضم الإنسان إليه رداءه في ساعات القرِّ المرعد، وعدت إلى تفكيري من جديد، عدت إليه إذ ليس لي إلى غيره من سبيل، فلست أستطيع أن أتحدث إلى جارٍ لي وقد ملأت أذنيَّ قطنًا أتقي به دوي المحرك المزعج المصم.
ولعلي كنت أجد من مجرد التأملات مندوحة لو أنه كانت تحت نظري خريطة تفصل لي ما نمر به من بلاد وما تقع عليه العين من مناظر، أو لو كان معي منظار معظَّم أتبين به هذه البلاد والمناظر، لكنه لم يكن مع أحد ممن في الطيارة جميعًا خريطة ولا منظار، وأحسب أن هذه الخرائط لم توضع بعد للمسافرين بالطيارات؛ لأن عددهم لا يزال قليلًا، أو لأن سرعة الطيارة تجعل التحديق إلى ما نمر به أمرًا غير ميسور.
ها ساعتان مضتا وبقي لنا ساعة كاملة للهبوط في مطار برلين، فماذا عساي أصنع؟ أسندت رأسي إلى زجاج الغرفة وأغمضت عيني فنمت، وأحسبني نمت هنيهة غير قصيرة؛ فقد شعرت بجاري يوقظني، ورأيته يشير إلى ما تمر الطيارة فوقه، ويكتب إليَّ على غلاف كتاب معه: برلين. إذن وصلنا! ولكن لا! فكيف تكون هذه برلين ونحن نرى تحت أنظارنا غابات مبعثرة هنا وهناك، ونرى بحيرات تلمع مياهها خلال الغابات، ونرى كل ما عهدنا في المروج الفسيحة وفي الأحراش الواسعة! صحيح أن هذه الأشجار الخضراء وتلك البحيرات التي تتخللها تحيط بها عمارات وأشباه عمارات، لكن العمارات صغيرة لبعدها عن النظر؛ ولاكتظاظ ما تجاور منها؛ ولتبعثرها بما تفصل الغابات والبحيرات بينها. فهل تكون العاصمة الألمانية في هذا الجمال الذي تجلوه نظرة الطيارة منها؟ لا بد أن يكون ذلك هو الواقع؛ لأن الساعة أوفت على الرابعة والنصف، ولكن كيف تكون هذه برلين؟! وصادف أن أشار إليَّ جاري الأمريكي بأنَّا ننزل عند «مجدبرج»؛ أو بينها وبين برلين! ولم يَرُعني إلا الطيارة قد بدأت تهبط ثم تهبط … حتى قاربت الأرض؛ وحتى صرنا نستطيع أن ننزع القطن من آذاننا فلا يزعجنا دوي المحرك؛ ولم نشعر في أثناء هبوط الطيارة بأكثر من مثل حركة هبوط الأسنسير أيضًا، ثم جرت الطيارة بعد ذلك على عجلها في المطار حتى أبوابه، فوقفت وهبطنا منها فوق درج صغير.
هبطنا منها، وجعل ركابها يهز بعضهم يد بعض حمدًا لله على السلامة، وأقبل علينا حاجب المفوضية المصرية يخبرنا أن القائم بأعمال المفوضية تفضل فحضر بنفسه، وسلمنا الحاجب متاعنا؛ وذهبنا جميعًا إلى الفندق؛ فأوينا إليه وأنا أشد ما أكون غبطة بسفري هذا، ورجاء في تقدم المواصلات الجوية تقدمًا يقرب أجزاء العالم بعضها من بعض؛ ويجعل العالم كرة صغيرة في قبضة الإنسان.