في برلين
صدقت نظرة الطائر إلى برلين؛ فهي غابات وأحراش وبحيرات تغطي من المساحة القائمة فوقها مبانيها أضعاف ما تقوم عليه المباني. نزلنا من المطار إلى فندق «إدن» بالأحياء الجديدة من المدينة؛ فتخطت السيارة بنا إليه شوارع تحيط بها من الجانبين؛ أو من أحدهما، غابات تذهب مع البصر حتى لا يرى شيئًا غير أشجارها؛ ثم وقفت عند باب الفندق؛ فإذا إزاءه غابة هائلة أعادت إلى الذهن غاب بولونيا بجوار باريس، ونزلت بعد الغروب مع صديق رقيق يعرف المدينة العظيمة حق المعرفة، فاخترق بي طرقًا أخرى حتى وصلنا إلى بحيرة جلسنا في منتزهٍ على شاطئها، وفي الأيام التي قضينا ببرلين لم يكن يوم ينقضي دون أن نخترق غاب «التيرجارتن» أو أن نذهب إلى إحدى الغابات الكثيرة الأخرى المنثورة ببحيراتها خلال العاصمة الألمانية الهائلة وشوارع المدينة المحاطة على جانبيها بالمنازل والمتاجر أكثرها فسيح مغروسة وسطه الأشجار؛ ويجري الترام فيه فوق الحشيش الأخضر؛ حتى لتظنك حيثما كنت في حدائق ناضرة. والألمان مزهوون أشد الزهو بنظام مدينتهم هذا، ويعتبرون الغابات المنثورة خلالها، والتيرجارتن أكبرها وأفسحها، بمثابة الرئة من برلين تنفس عنها ولا تضطر الناس إلى الخروج منها ابتغاء هواء نقي وجو صافٍ ما دام هواء المدينة دائم التجدد بمروره بهذه الرئة التي تفرز فاسده وترد إلى المدينة النقي الصالح، وهم أشد زهوًا بشوارع مدينتهم وبنظافتها وبدقة نظام المرور فيها. والحق أن شوارع برلين ليس كمثلها سعة ونظافة في باريس أو في لندن؛ حتى لكانت زوجي تشير مازحة إليَّ أن يجب ألا ألقي بقية سيجارتي بها لتظل في نظافتها وفي لمعانها. فأما المرور فمنظم تنظيمًا أوتوماتيكيًّا بالأنوار الحمراء والخضراء والصفراء، تشير بالمرور أو بالانتظار، فتجيب الأوتموبيلات إشارتها في رضا واطمئنان. أخذ ذلك كله نظري؛ فجعلت أسائل نفسي كم يقتضي ذلك كله من العناية به لتبقى برلين دائمًا كما أراها؟ وتردد هذا السؤال بخاطري غير مرة؛ فألقيت به على أحد شبابنا المقيمين هنالك، فذكر لي أن ميزانية بلدية العاصمة وحدها خمسون مليونًا من الجنيهات؛ أي ما يكاد يعادل الضعفين لميزانية الدولة المصرية كلها.
ويخيل إليَّ أن النظافة بعض الغرائز الألمانية. أقمنا بفندق «إدن» أيامًا انتقلنا بعدها إلى فندق «الإسبلاناد»، فكان مما لاحظناه فيهما جميعًا أن جماعة من الخدم لا يفتئون، منذ الصباح الباكر إلى المساء المتأخر، ينظفون الأراضي والجدران والنوافذ والأبواب والسقوف، وكأنهم كلما فرغوا عادوا ينظفون من جديد، مستعينين بكل ما هدى إليه العلم وبكل ما تعاونهم به الكهرباء. وما أشك في أن سائر فنادق برلين وكل منازلها تلقى من العناية بنظافتها كل ما تدفع إليه هذه الغريزة على نحو ما رأينا في الفندقين اللذين نزلنا بهما؛ وعلى نحو ما هو بادٍ بصورة تلفت النظر في كل شوارع المدينة وطرقاتها.
على أن ما يسَّر لبرلين سعة شوارعها أن برلين مدينة حديثة، لا يرجع تاريخ أكثر الأحياء فيها إلى مائة سنة، ولا يرجع أبهى أحيائها إلى أكثر من خمسين سنة، وحداثتها هي بعض ما يطوع للناس في باريس وفي غير باريس أن يوجهوا لها ما يوجهون من نقد؛ فهي عندهم كالرجل المحدث الثروة؛ كان بالأمس في كوخ أو في بيت صغير، فلما أنعمت المصادفة عليه بما أنعمت من ثروة، تبدى في وجاهة المحدثين ووقاحتهم، وابتنى لنفسه قصرًا على أحدث طراز وجهزه بأحدث أسباب النعمة، فأما العريقون في حسبهم ونسبهم فيقيمون في قصور آبائهم وأجدادهم، قد لا تبدو هذه القصور في وجاهة دور المحدثين ولا في ترفها؛ ولكن لها من حديث التاريخ ما تعتز به؛ إذ في كل غرفة من غرفها وفي كل بهو من أبهائها من الذكريات ما يتضاءل أمامه هذا الجمال الحديث طهيه. ثم إن مقاومة هذه القصور القديمة لصروف الزمن قد جعلتها بمأمن من زعازع الحياة، على حين ما تزال دور المحدثين عرضة لأعنف الهزات كيما تستقر، فإذا كانت شوارع برلين وغاباتها على ما وصفت، فليس في برلين ما يحدث حديث باريس وحديث روما وحديث لندن؛ وليس فيها من صور الفن ما محصه الزمن في بوتقته القاسية، فسما على الزمن وارتقى إلى مكان الخلود.
لست أريد أن أقف عند هذا النقد وبرلين أمامي في جلال جمالها وبهر عظمتها تحدث حديث الروعة والبهاء؛ ولكنى أعترف بأن بي ضعفًا أمام القديم، يجعلني أقف بين يديه خاشعًا مقدسًا. قد يكون هذا الضعف في نفسي المصرية راجعًا إلى تقديسي آثار الفراعنة الأقدمين، وقد يكون راجعًا إلى اعتقادي بأن ما يتركه الزمن من ندوب فيما يعجز الزمن عن دك صرحه أبلغ حديثًا من كل فن حديث. على أن هذا الضعف لم يحل بيني وبين الإعجاب ببرلين والاستمتاع بما فيها من جمال وعظمة تتجلى فيما للألمانيين من ميل خاص للضخم وللعظيم، حتى إن أهل ألمانيا رجالًا ونساء أضخم من غيرهم من أهل أمم الشمال، كما تتجلى في دأبهم وتعمقهم بما يجعلهم يميلون في طريقة بحثهم وتفكيرهم إلى التقصي لأبعد الحدود؛ كي يظهر بحثهم عظيمًا وتفكيرهم ضخمًا، كيما يظهر كل أثر لبحثهم في العلم أو الصناعة ضخمًا عظيمًا. وكان أول ما لفت نظري من مظاهر عظمتهم أن الشهوة لم تخرج بهم ما خرجت بالفرنسيين أثناء الحرب إلى صغائر تأباها العظمة؛ من ذلك أن الفرنسيين ألغوا من حياتهم ما له أيسر اتصال بألمانيا، فاستبدلوا بما كان من أسماء الشوارع متحدثًا عن الإمبراطورية أسماء فرنسية أو متصلة بالحلفاء، أما في برلين فلا يزال الميدان الذي يقابل ميدان الكونكورد يدعى، كما كان يدعى قبل الحرب، ميدان باريس، وكما بقي لهذا الميدان اسمه فقد بقيت سائر الأسماء لم تغير، ولو بعض ما عفت عليه عداوة الحرب. وميدان باريس يتصل من ناحية بالتيرجارتن، ويفصل بينه وبينها عقد كأنه قوس النصر يسمى «برج براندبور»، ويتصل به من ناحيته الأخرى طريق «أنتردن لندن»؛ أي طريق الزيزفون، منافسًا طريق الشانزليزيه بباريس، ممتدًّا حتى يبلغ غايته عند تمثال القيصر فرانس جوزيف، وتقوم على جانبيه مبانٍ غاية في الفخامة؛ منها مباني الجامعة، وبناء دار الأوبرا والمكتبة الملكية والترسانة، ويتخطى السائر أحد فروع الأسبري إلى «اللستجارتن»، وهي حديقة قامت خلالها تماثيل شتى كلها للنصر والغلب، وكلها تدخل في روعك سجايا ألمانيا الحربية متجلية ناطقة، في التماثيل نفسها أو في الصور البارزة التي نقشت على قواعدها. وأشد هذه التماثيل أخذًا للنظر تمثال فردريك غليوم الثالث، على أنك إذ تقف معجبًا بالحديقة وتماثيلها يأخذ نظرك بناءان غاية في العظمة والفخامة: أحدهما القصر الملكي؛ والثاني الكنيسة «الدوم»، ولم نزر نحن القصر؛ ولكنا زرنا الكنيسة. هي كنيسة جميلة، لكنها حديثة بنيت في هذا القرن المتم العشرين؛ إذ تمت عمارتها في سنة ١٩٠٥، وهي على جمالها لا تبعث إلى النفس شيئًا من معنى الرهبة التي تبعثها إليها كنائس كثيرة مما زرنا، وبحسبي أن أذكر أن هذه المعاني الدينية التي شعرنا بها العام الماضي في كنيسة ميلانو والتي شعرنا بها منذ أيام في مدينة كولونيا، لا تجد أي مدخل إلى النفس في كاتدرائية برلين، ما بالك بما تبعثه إلى النفس كنيسة نوتردام في باريس، وكنيسة القديس بطرس في روما؟! دخلناها فإذا هي أقرب إلى أن تكون بهو محاضرات منها إلى أن تكون مكان عبادة، بل إن بهو السوربون الكبير لأكثر منها مهابة ورهبة، وعلى جدرانها وفي بعض مقاصيرها العليا صور لا تعبر عن معنى ديني رهيب. وصعدنا إلى طابقها الأعلى، فإذا به تزين جدرانه صور جميلة تجعل المكان متحفًا أكثر منة كنيسة، وما أدري لعل جماعة البروتستانت يريدون لبيوت الله في مذهبهم ألا تبلغ هيبتها من النفس موضع الرهبة؛ حتى تكون عبادة المرء ربه عبادة جمال لا عبادة سر قوي مخوف. أم لعل الأمر لا يتصل بالبروتستانتية، وإنما يتصل بمذهب جديد في فن العمارة، على أنه أيًّا كان السبب في هذه البدعة في المعابد فإني أراني أشد ميلًا للهيبة في العبادة ولو كانت عبادة الجمال.
يتصل طريق الزيزفون «الأنتردن لندن» بأكثر الأحياء التجارية في برلين نشاطًا وحركة، فهو يقطع شوارع «ولهم شتراس» «وفردريك شتراس»، ويوازي «ليبزج شتراس»؛ وكلها شوارع تنبض بحركة برلين في التجارة نبضًا قويًّا. ويمر هذا الشارع الأخير، كما تمر شوارع غيره، بمتاجر فرتيم التي تزدهي برلين بعظمتها وضخامتها وتضعها مكانًا عليًّا فوق اللوفر والبون مارشيه في باريس، بل فوق سلفردج وهارودز في لندن. وأشهد أن فرتيم عظيم حقًّا؛ ففيه كل صنوف التجارة من مصرف إلى محل الفاكهة والخضر وما بين ذلك، لكني أشهد كذلك أني شعرت بفرق بين فرتيم ومتاجر باريس الكبرى، كالذي شعرت به بين طريق أنتردن لندن والشانزليزيه، فكلا الطريقين جميل وعظيم؛ لكن طريق باريس — على ما وصفت في الكتاب الأول من هذا المؤلف — مجموعة فيها اتساق عجيب، حتى لكأنما لوحظ في كل بناء شيد فيه أنه يجري مجرى الاتساق مع سائر الأبنية؛ فأما طريق برلين فينقصه هذا الاتساق، وترى فيه من صور النبو عن فن الجمال ما يفجأ نظرك مع إعجابك بما هو عليه من عظمة ونظافة، كذلك ينقص الاتساق والجمال الفني متاجر فرتيم على عظمتها وضخامتها، وهو ينقص الكثير مما ترى في برلين؛ لأن العظمة والضخامة مقدمة عند الألمانيين على الاتساق وجمال التجاوب.
يعاودك الشعور بهذا المعنى إذ تتخطى الطريق الذي يخترق التيرجارتن والذي أقيمت على جانبيه تماثيل ملوك ألمانيا في عصورها المختلفة بما يجعله حقيقًا بأن يدعى الطريق الملكي. كل واحد من هذه التماثيل جميل، والطريق في اختراقه الغابة جميل، لكنا نحن الذين اعتدنا ذوق الجمال على ما فرضته في نفوسنا الثقافة، كنا نشعر في هذا الطريق بنقص في الاتساق، ولكنه كان مع ذلك ومع قربه من فندق «الإسبلاناد» يجعلنا نهرع إليه المرة بعد المرة لنستريح إلى جماله؛ ولشد ما ذكرت خلال المرات التي اخترقناه فيها نصف دائرة الملكات في حديقة اللكسمبور بباريس؛ وما فيها من معادن، وما لجمال تجاوبها واتساقها من سحر يحببها إلى النفس. وبرلمان برلين القريب من ها الطريق الملكي، فيه كذلك من الفخامة والضخامة أكثر مما فيه من حسن التجاوب والاتساق، لكن ذلك لا يعني نقص الجمال في هذه التماثيل والمباني والطرق، وإنما يعني أن الألمان أكثر تقديرًا للفخامة منهم للاتساق في الجمال، وهذا ما يؤدي بهم إلى تفضيل موسيقى فاجنر الضخمة على غيرها من أنغام الموسيقى الإيطالية والفرنسية الميالة دائمًا إلى الاتساق والانسجام.
على أن الضخامة التي امتازت بها الميول الألمانية لم تبدُ في أوضح مظاهرها ما بدت لنا في مصانع الكهرباء لشركة زيمن، ومصانع الكهرباء هذه تقع بمدينة زيمن على نحو الساعة من أهلها، وصعدنا إلى إدارتها مع مهندس الشركة في مصعد «أسنسير» ضخم يديره مزارع خضراء ذات بهجة تنساب خلالها أحيانًا غدران صغيرة، وقد زرناها يومًا بدعوة رقيقة من أهلها، وصعدنا إلى إدارتها مع مهندس الشركة في مصعد «أسنسير» ضخم يديره عامل مبتور الذارع من أيام الحرب. وقوانين ما بعد الحرب في ألمانيا تقتضي هذه المصانع الكبرى أن تستخدم نسبة معينة ممن أصابتهم الحرب بعاهة من العاهات؛ لتعلم الأمة أن ما يصيب أبناءها في سبيلها لن يحول بينهم وبين الكسب وعول ما تلقي عليهم المقادير عولهم من أهل وولد. وبعد أن قابلنا مديري المصنع ذهبنا في أوتموبيل جرى بنا نحو ربع الساعة إلى مصنع الأسلاك الكهربية. أية ضخامة هذه! لقد قابلنا شيخ ألماني جاوز السبعين طويل القامة جم النشاط، طاف معنا في هذه المصانع التي تتسع لسبعة آلاف من العمال ساعات متوالية، كان نشاطه في ختامها كنشاطه في بدئها، وكان أول ما اتجه بنا نحوه الماكينة المحركة لجميع الآلات التي تدير مصنعه، والتي قيل عنها إنها أقوى محرك من نوعها في أوربا كلها، ثم انحدرنا إلى مصانع الأسلاك، فإذا الضخامة هي الضخامة، وإذا العمال والعاملات ينقلون الأسلاك إلى الماكينات فتخرج منها، في دقائق، مستوية صالحة، ثم تلتف على عجل من الخشب ينقلها إلى ماكينات أخرى تكسوها ورقًا، ثم إلى ماكينات ثالثة تكسو الورق قارًا، ثم ماكينات تكسو القار كاوتشوكًا، ثم تلتف الأسلاك كلها معًا بالعدد المطلوب، وتحاط بأنابيب من الزنك تحميها حين تلقى في الماء لنقل أخبار العالم التلغرافية والتليفونية في أنحاء المعمورة. وكضخامة مصنع الأسلاك مصنع الأمشاط وما إليها مما يصنع من الكاوتشوك ممزوجًا بمسحوق الفضة، فأما مصانع مولدات الكهرباء من مساقط المياه فأشد من ذلك ضخامة بكثير، وما ترى في مصانع زيمن من ضخامة تراه في مطابع أولشتين التي ترتفع اثني عشر طابقًا، كلها ماكينات ومطابع تخرج مئات الصحف والمجلات في كل يوم.
على أنك إذ تزور هذه المصانع وتلاحظ هذه الضخامة ترى نفسك أمام مظهر بالغ غاية الروعة، لا في اشتراك الرجال والنساء في العمل على قاعدة المساواة في المجهود والإنتاج، ولكن في عناية هذه المصانع بطمأنينة العمال والارتقاء بعيشهم ليكون عيشًا إنسانيًّا صحيحًا إلى حدود تستريح لها النفس التي تؤمن بالديمقراطية غاية الاستراحة. تناولنا طعام الغداء مع مديري مصنع زيمن، فعلمنا أن الطعام الذي تناولناه هو الطعام الذي يتناوله العمال جميعًا تطهوه لهم الكهرباء، وأرونا في أولشتين حمامات العمال وأماكن غدائهم، فإذا الحمامات كأفخم ما تعرف الطبقات الراقية، وإذا الغداء صحي جيد. وبمدينة زيمن مساكن صحية أمامها حدائق يأوي إليها العمال الذين يشتغلون في المصانع، ولا عجب في ذلك كله والحركة الاشتراكية في ألمانيا حركة قديمة قوامها الديمقراطية الصحيحة التي تأنف التحكم البلشفي كما تأبى الاستبداد الفردي، وهذه النعمة التي توفرها المصانع الكبرى لعمالها هي خير كفيل بتثبيت أقدام الحرية وإقامة أسس السعادة الإنسانية.
هذا التعاون بين المال والعمل هو الذي يجعل للحياة جمالًا لا سبيل إليه حين يتنافسان، ويطوِّع للناس جميعًا ذوق هذا الجمال، بل النهل منه أحرارًا سعداء. والحق أن في برلين موارد لهذا النهل شتى يرودها الناس من مختلف الطبقات. كانت الأوبرا الكبرى معطلة، فذهبنا إلى أوبرا البلدية لعلها في حكم الأوبرا كوميك بباريس، وهناك سمعنا موسيقى وغناء أنسيانا الضخامة والعظم، وأعادا إلى أنفسنا من معاني الاتساق وجمال التجاوب ما أشجانا وأطربنا، ثم مثلت أوبرا صامتة لا غناء فيها، لكن تهيئة مسرحها جعلتنا نحس كأنَّا في عالم من الملائكة والجن تطير أشخاصه إلى سماوات نارية الحمرة حينًا، بديعة الخضرة حينًا آخر، تسعدها موسيقى هي الجمال كل الجمال، وذهبنا يومًا إلى «الكولزيم»، فإذا به يجمع بين الضخامة والجمال في عمارته، وإذا المناظر المختلفة التي تعرض فيه تفوق بكثير ما يعرض من مثله بباريس في مسارح الأولمبيا وأشباهها، وإن لم يكن فيه شيء مما في الفولي برجير والمولن روج. وأراد أصدقاؤنا الترويح عنا ليلة، فذهبوا بنا إلى ملهى من نوع فريد في بابه، على كل مائدة من موائده تليفون، ولكل مائدة رقم، فإذا أردت التحدث إلى أي شخص على أية مائدة طلبت رقمه فتحدثت إليه وسألته: أيرغب في الرقص أم لا يرغب؟ ثم تابعت الحديث ما شئت وما دام محدثك على استعداد لمتابعته. هذه موارد مرح قلَّ في غير برلين نظيرها، أما ما له نظائر في سائر المدن فببرلين ما لا يعد ولا يحصى، وإن يكن أكثره دون ما بباريس بهاء وروعة.
على أن ما ببرلين من صور الجمال وما يتخللها من غابات وبحيرات يدعوك إلى أن ترى مجاورات برلين، وإلى أن تزور ضواحيها، وإلى أن تزور بوتسدام بنوع خاص؛ ففي بوتسدام قصور ثلاثة ملكية؛ منها قصر فردريك الأكبر، وقصر سان سوسي وحديقته، وفيها الطاحون التاريخية التي أراد الإمبراطور ضمها لقصره، فأبى صاحبها وأنصفه القضاء من الإمبراطور بحكم سجَّل للعدل في ألمانيا هذه الكلمة المشهورة: «إن في برلين قضاة»، وسجل للإمبراطور احترام العدل باستبقائه الطاحون بإذن صاحبها أثرًا قوميًّا ناطقًا بقداسة العدالة وسموها فوق كل اعتبار وفوق كل مقام. ذهبنا إليها نشق طريقًا تحيط به سهول ممرعة الخضرة المموهة بالزهر مختلفًا ألوانه، وتتخطى بحيرات وغابات حتى دخلناها، فذهبنا إلى قصر بوتسدام، ومررنا فيه بغرف فردريك الأكبر، ثم زرنا حديقة «سان سوسي»، وتناولنا طعام الغداء في مطعم يطل على نهر الهافل، ومع أن الإمبراطور غليوم كان يقيم في بوتسدام كما كان الإمبراطور فرنسوا جوزيف يقيم في شونبرن، فإننا لم نشعر هنا بمثل ما شعرنا به العام الماضي حين زرنا فينا؛ لم نشعر بما رزأت به الحرب ألمانيا، ولا شعرنا بأن أهل هذه القصور قد فروا منها ولم يضع الشعب، مالكها الجديد، يده عليها. كلا! بل شعرنا في ألمانيا بأن لهزيمتها عظمة لعلها أروع ما شعرنا به للنصر من عظمة في كثير من الدول المنتصرة، شعرنا فيها بقوة وشباب ومضاء عزيمة للعمل بما فوق طاقة الإنسان؛ للتغلب على ما أصابها، وللسمو بنفسها فوق همومها. ولئن بدت على الوجوه سحابة كآبة وهمٍّ كلما ذكر الألمان الحرب وانتصار الحلفاء فيها وتجريدهم ألمانيا العظمى من ممتلكاتها؛ فإن القلوب الفتية الكبيرة التي تحتل ما بين جنبي كل ألماني تنبض في اللحظة نفسها بمعاني الإخلاص المتقد لهذا الوطن الذي يجب أن يسمو إلى مثل ما كان له قبل الحرب من مكانة، وبروح التضحية أكبر التضحية في سبيل درك هذه الغاية العليا. وهذه العزيمة هي التي دعت الحلفاء إلى أن يروا سلام العالم متصلًا بسلام ألمانيا، وإلى أن يروا ضرورة وجود ألمانيا معهم في عصبة الأمم، وجلائهم عن أرضها، واعترافهم لها بسمو مكانتها وعظيم مجهودها.
وآن لنا أن نغادر برلين قاصدين «بادجاشتين»، فأقلَّنا قطار سافر في الساعة العاشرة مساء إلى ميونيخ حيث قضينا أربعًا وعشرين ساعة سافرنا بعدها إلى التيرول البديع نخترق جباله وأوديته حتى نزلنا بادجاشتين.