ميونيخ – بادجاشتين – باريس – مصر
نزلنا ميونيخ وفي ذاكرتي منها أنها بلد البيرة، ولم تكذبني ذاكرتي؛ فقد أوينا بمتاعنا إلى الفندق، وتناولنا فيه طعام الإفطار، ثم نزلنا نسير على هدى الدليل، فلم نسر غير بعيد حتى كنا في أحد شوارعها الكبرى وبه ستة مصانع كبرى للبيرة أو أكثر من ستة، فإذا على هذه المصانع منذ الساعة الحادية عشرة من الصباح إقبال، وإذا الناس ينتظرون تناول طعامهم بها يقدم لهم منه «البفتيك» الضخم والبطاطس الجم، لكن هذه الصورة المرتسمة في الذاكرة بسبب ما لميونيخ في صناعة البيرة من شهرة، ما تلبث أن تتفانى كلما ازداد الإنسان تطوافًا في نواحي المدينة المختلفة، فرآها مدينة قديمة لها ما للمدن القديمة من جلال، ورأى فيها من آيات الفن في مختلف الصناعات، ومن صور الجمال في التماثيل الكثيرة المنثورة في ميادينها، ما يشعرك بأنها جديرة بأن تقضي فيها أيامًا بدل أن تقضي فيها يومًا واحدًا. دخلنا إحدى كنائسها لما اعتدنا أن نراه في الكنائس من جمال العمارة، ولما تدفعه إلى النفس من معنى مهوب، فألفيناها إلا تكن في شيء من عظمة «الدوم» ببرلين فهي أشد منها مهابة وجلالًا، ووقفنا في أكثر من ميدان فيها، فأعجبنا ما فيها جميعًا من فساقي وتماثيل وخضرة زاهية، ثم خرجنا إلى ظاهرها قبيل مغيب الشمس، فإذا بنا في غابة جميلة توسطتها بحيرة، فجلسنا إليها نستمع إلى الموسيقى عندها. وذهبنا في المساء إلى بهو فيه طعام وشراب وطرب وغناء، وغادرناها صبح الغد إلى بادجاشتين بالتيرول النمسوي وفي النفس من ألمانيا إكبار لعزيمتها وأسف على ما أصابها، وقد عاودنا هذا الشعور بعد عام من ذلك اليوم حين كنا بلندن في «الكورنر هاوس»، وقد جلس إلى جانبنا جماعة من السيدات والرجال لا تقل سن أحدهم عن الخمسين، وكانوا يتناولون طعام الغداء، إذ دقت الموسيقى بلحن وقف له مئات ممن في البهو جميعًا وعلى وجوههم آثار الغبطة. أما هم فاضطربت أيديهم وسقطت الشوك والسكاكين منهم وانهلت العبرات من عيونهم وحاروا هنيهة بين الوقوف والجلوس، ثم وقفوا ودمعهم مدرار ووجوههم محتقنة، فلما تم اللحن وجلس الناس جلسوا، وأخرج كل منديله يكفكف به واكف دمعه ويمسح به أنفه، وإن بقيت صدروهم مضطربة تهتز بالفجيعة والأسى؛ ذلك بأنهم ألمان، وأن اللحن الذي سمعوا لحن نصر الحلفاء على ألمانيا، فهو ما كاد يبدأ حتى تحركت في نفوسهم العزة المهيضة والعظمة المنهدة، فلم يستطيعوا كظم ما في نفوسهم، وعجزت عزائمهم عن التغلب على عواطفهم، واندفعت أنا معهم فلم أطق في تأثري بجلال هذا المظهر العظيم حبس عبرة أشارك بها المخلصين لوطنهم في سمو إخلاصهم له وتقديسهم إياه، وما يزال هذا الشعور يعاودني، وما أظن أن الأيام قديرة على أن تقضي عليه في نفسي.
من التجوز أن تسمى بادجاشتين قرية؛ فهي، بعبارة أدق، مصح بادجاشتين؛ فليس بها منازل لأهلها، وإنما كلها فنادق ومتاجر، وما بها من منازل فيؤجره ذووه للنازلين بها للاستشفاء؛ ذلك بأن من يصح أن يسموا أهلها لا يقيمون بها إلا في فصل السياحة، فإذا جاء الشتاء بثلجه وزمهريره تركوها وهبطوا الوادي إلى هفجاشتين التي تسكن طوال السنة. فنادق بادجاشتين رشيق أكثرها، وقد جهزت كلها في الطابق الأسفل منها بحمامات للاستشفاء؛ لأنه يقال إن في مياهها راديوما. وبالمصح على مقربة من المحطة كرسال تصدح الموسيقى فيه كل يوم صباحًا ومساء، وبه كذلك بعض مقاهٍ وأندية يختلف المستشفون إليها. على أن المقام بالمصح يومًا أو يومين يورث النفس الملل، ويدفع الإنسان إلى التخلص منه بالانطلاق فيما يحيط ببادجاشتين من غابات قائمة على السفوح المحيطة بها، وكلها فتنة باهرة ببساطتها وطيب هوائها وانسياب المياه في الأخاديد خلالها، وفي هذا الجو الحر الطليق ترتفع نفس الإنسان إلى أسمى مكان في تقديس الحرية وعبادة الجمال، ومن السرور الجم بالاشتراك المطلق مع الطبيعة البديعة في عظمتها وإبداعها. وقد نظمت الطرق التي يسير المصطافون فيها تنظيمًا يزيد في متاعهم بالجمال حولهم، ويدعوهم إلى الشعور العميق بمتاعهم. على أنك لا تكون أقل سرورًا إذا أنت ضللت الطريق فانطلقت خلال الغابات على غير هدى، حتى تهديك المصادفة طريقك. وإني لأذكر يومًا كنت فيه أنا وزوجي واثنان من المصريين وسيدة نمسوية نقصد مقهى يبعد عن بادجاشتين نحو نصف الساعة، فاخترنا طريقًا غير طريقه الذي اعتدنا، وسرنا فيه فضللنا وجعلنا نهبط سفوحًا ونصعد أخرى، والجهد ينال منا والطريق لا يستبين أمامنا، حتى قضينا أكثر من ساعة قبل أن نهتدي، ثم كنا بهذا الضلال كلنا السرور، وكنا نضحك بنفس راضية وقلب مطمئن ساعة بلغنا المقهى وجلسنا نتصبب عرقًا، وكلنا يحاول أن يفر من تبعة هذا الضلال.
على أن الفتنة الباهرة في مجاورات بادجاشتين تذبل وتنسى إذا ذهب الإنسان يخترق بالأوتموبيل أو الأوتوبيس جبال التيرول. هنا يحار الإنسان أيهما أروع: أوبرلاند سويسرا أم تيرول النمسا! ولقد قضينا يومًا نخترق هذه الجبال، وهأنذا أكتب بعد مضي ثلاث سنوات إلا أشهرًا وما يزال قلبي تهزه المناظر العظيمة الرائع سحرها. انطلقت بنا سيارة الأتوبيس في نحو الساعة العاشرة، وراحت تقطع سهولًا وأودية ترى سلاسل الجبال بعيدة عند آفاقها، حتى وصلنا بحيرة زي (زيلمسي) تقع على شاطئها قرية ظريفة هي إحدى مصايف التيرول، وبعد فترة قضيناها بها عاودت سيارة الأوتوبيس انطلاقها صاعدة سفح الجبل، حتى وقفت بنا عند صاعد شمتنهوهن؛ صاعد من نوع غير كل ما رأينا من قبل، فهو ليس بالفنكيلير يجري القطار على شريطين بينهما شريط مسنن يعاونه على الصعود وعلى الهبوط، وهو ليس من نوع صاعد الهاردركلم يجري على شريط معلق فوق سارية وتجذبه الجنازير، بل هو صندوق معلق في جنزير، معرض إذا انقطع الجنزير لأن يهوي ويتحطم على الصخور. وركبنا هذا الصندوق وجذبه الجنزير حتى كنا عند قمة الجبل، وفي فندق فوق القمة تناولنا طعامنا، وطفنا نمتع الطرف من فوق الجبل بما حولنا، ولم يكن ما حولنا غير جبال تغطي بعض قممها ثلوج قليلة أذاب الصيف سائرها، فلما آن للصندوق أن يهوي بنا معلقًا في جنزيره هبطنا وعدنا إلى أوتوبيسنا مسرورين بما رأينا، لكنها ما كادت تنطلق بنا بعض الساعة حتى نسينا كل ما رأينا، وحتى ابتلعتنا جبال سالزبرج وعظمة طبيعة التيرول الرهيبة المجدبة، وحتى شعرنا بأوتوبيسنا وبأنفسنا بعوضة على قرن ثور، بل دون البعوضة بمئات المرات كمًّا، وأقل من البعوضة شعورًا بوجودنا في هذه العزلة المهوبة بين الجبال الشاهقة والمنحدرات المخيفة. والعربة تجهد نفسها في تسلق السفح وفي متابعة التسلق، فلا تزداد الجبال أمامنا إلا ارتفاعًا. والتوى الطريق أمامنا وانطبقت شواهق القمم من حولنا، فحبستنا في مضيق تنحني أمام رهبته رهبة جبال البسفور وبوابات الحديد. وآن للعربة أن تستدير فتنحدر فتقطع طريقًا للسكة الحديدية يجتاز خلال أنفاق بين جبلين، هبطنا من فوق أحدهما لنتسنم غارب الآخر، ولتجري فوق النفق، ثم لترتفع أمتارًا وعشرات الأمتار فوقه ليزج بنا من جديد بين جبلين، فتتلوى على سفوح أقل من سفوح الجبال الأولى جدبًا وأكثر منها ابتسامًا، وإن لم تكن أقل منها رهبة. ووقفت العربة بنا فجأة بين هذه الجبال، وأشير إلينا بالنزول منها وبأنها ستنتظر في الجانب الآخر من مساقط كسل (كسلفال) غاية مسيرتنا، وخاتمة مطافنا، وتاج ما رأينا من جمال طول يومنا، ودخلنا واجتزنا هذه المساقط من جانب إلى جانب. ماذا أقول وبأي ألفاظ أعبر عن مشاعري وعن إحساسي؟! وكيف أردد الصيحات التي تنفس عنها صدري وهتف بها فؤادي وقلبي لهذا السحر البارع والفتنة الساحرة؟! ليست كسلفال مساقط كمساقط الرين، وكان الأجدر بها أن تدعى حلوقًا، وهي أفخم مائة مرة من حلوق سرفوز، وأبهى وإن لم تكن أعظم من حلوق ديوزا. كان الجانب الذي دخلنا منه غاية انحدار المساقط، فكانت روعة الانحدار عنده على أيسرها، لكن دوي المياه لفتنا إلى متابعة انحدارها، فإذا هي تتلوى ثم تتلوى، وإذا نحن فوقها حينًا وإلى جانبها حينًا آخر؛ على الصخرة، وعلى درج من الخشب أو من الحديد أخرى. والدوي يزداد والحلوق تغص بمياهها، ونحن مأخوذون بهذه الروعة الحبيسة بين الجبال نسينا فيها أنفسنا ونسينا تفكيرنا، وملأ الدوي والماء والرشاش كل وجودنا، ففنينا في هذه القطعة من الكون، وصار وجودنا كله يدوي بالإعجاب والطرب دويًّا يندفع في آهات من المسرة والانشراح حينًا، ومن البهر والروعة حينًا، ومن التقديس والإجلال حينًا، ومن الإسلام والإذعان لهذه القوة الكونية العظمى ننسى عظمتها ما حبسنا أنفسنا بين الجدران، فإذا اندمجنا فيها وأصبحنا بعضها عظمنا بها وانطوى في نفوسنا العالم الأكبر بانطوائنا فيها، وصرنا لها ومنها كما صارت لنا ومنا.
وتدرجنا الحلوق ثم تدرجناها حتى فجأتنا عند أعلاها فجوة عميقة يهبط الماء إليها، ولا ندري إلى أين يتسرب منها؛ لعل له تحت الجبال أنفاقًا يتسرب فيها عالم من الجن كما نطرب نحن للمسير وهذه الحلوق والمساقط التي شهدت. وإلى هذه الفجوة يهبط الإنسان بدرج وضعته يد الصناعة لتزيد الناس سحرًا بجمال الطبيعة، وهبطنا فإذا كل ما حولنا يزيدنا غبطة وسرورًا، وإذا نحن نصعد بعد ذلك لنتناول الشاي في بيت صغير قام إلى جانب هذه الحلوق المساقط، لتعود بنا العربة بعد ذلك أدراجها إلى بادجاشتين ونحن في ذهول مأخوذون بما رأينا، حريصون على أن ننهل أثناء مقامنا بالتيرول أكبر حظ من جماله.
لكنَّا لم نقم بعد ذلك ببادجاشتين إلا يومين غادرناها بعدهما قاصدين باريس، وبلغناها بعد سفر ست وعشرين ساعة وشوقنا إليها على أشده، ونعمنا فيها بما لا تشبع النفس من النهل منه والنعمة به، على أننا صدمنا في أيامنا الثلاثة الأخيرة بها بموت المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، ثم غادرناها إلى فيشي فأقمنا بها أربعة أيام سافرنا بعدها إلى مارسيليا فإلى الإسكندرية لننخرط في الحياة من جديد منتظرين أن نفي للصيف المقبل بنذرنا أن نقضيه مستشفين في أوربا من مصابنا.
غير أن القدر المحسن، القدر البار الرحيم، رأت عدالته السامية أنَّا كفَّرنا خلال سنوات أربع عما لا أدري مما قد يكون فرط منا، وإنَّا لفي منتصف أبريل سنة ١٩٢٩ إذ عاودنا الأمل في أمومة جديدة وفي أبوة جديدة؛ أمل كانت ثمرته هاته الطفلة التي تسعدنا وتتنفس ابتسامتها لنا عن أريج ما في العالم كله من سعادة.
فليكن في ذمة الله ما احتبسنا، ولتكن هذه البقعة الطاهرة في صحراء القاهرة وسيلتنا إلى مغفرة من الله ورضوان، ولعل القدر الذي مد يده المحسنة فضمد بها جراحات قلوبنا، يكون أبرَّ بنا وأحنى علينا، وشكرًا لهذه البلاد والدول في أوربا التي كانت لنا عزاء وسلوى، وكان جمالها وفنها وعلمها كما كان اندماجنا فيها ونهلنا منها مصدر الوحي لما في هذا الكتاب.