لندن – باريس – السافوا العليا
وكان يحدثنا وهو يتناول الطعام ويتناول معه قدحين من الوسكي، ولما سأل الغلام حسابه ودفع له اثني عشر شلنًا قال: لو علمت زوجي أني دفعت في أكلة واحدة مائة فرنك لغاضبتني أن لم أشترِ لها بهذا المبلغ قبعة تعجبها وأن أنفقته لنفسي؛ لذلك يحسن أن يخفي الرجل على زوجه ما يدعو لخصومة أو مغاضبة.
وظل يحدثنا في هذا وفي مثله حتى لم نشعر بالوقت ومره بين لندن ودوفر.
ولم يجد التماسنا إياه على الباخرة شيئًا أن حال اضطراب البحر بيننا وبين كل حديث، وانتقلنا من كاليه إلى باريس في ديوان لم يكن فيه من بين شركائنا، فلما كنا بالفندق شعرنا كأنا عدنا إلى بلدنا وأهلنا ومنزلنا، وخرجنا نلتمس بعض المسارح نقضي الأمسية به، ففاض هذا الشعور عن أنفسنا، وأحسسنا أنَّا لا نستطيع مغادرة هذه المدينة في الموعد الذي ضربنا، وكأنَّا منها مدنف مكبل بسحر فاتنته. وتعاقبت الأيام، وكانت زوجي قد عرفت من باريس مدة مقامنا الأول ما جعلها تنفرد بالبحث في مخازنها عما تريد، وأنجتني معرفتها من قضاء الوقت معها في مخازن اللوفر والبون مارشيه والسمارتين والفصول الأربعة وغيرها مما لا أطيق عليه صبرًا، كما أتاحت لي أن أذهب إلى باعة الكتب أبحث عن جواب عن سؤال كان ولا يزال حتى اليوم يتردد بخاطري عما صار إليه الأدب الفرنسي بعد الحرب؛ فقد كنا أيام مقامنا بالحي اللاتيني إبان طلب العلم نعرف الرءوس المتوجة في الأدب الفرنسي، وكنا نذكر أسماء أناتول فرانس وبول بورجيه وجول لمتر وإميل فاجيه وغيرهم، وكان لمن نعجب به منهم مكان القداسة في سويداء القلوب.
فمن هم أصحاب تيجان الأدب اليوم؟ حقًّا إن بول بورجيه لا يزال حيًّا ولا يزال لأدبه ما كان له من سمو المكانة، لكن فرنسا كانت غنية دائمًا بهذه الرءوس التي تعد بحق أبهى مظاهر مجدها. فمن هم هؤلاء الذين مهد لهم الخلود صفحة في كتابه وما يزالون بيننا تهز أقلامهم قلوبنا وعواطفنا وإحساسنا؟ سألت كثيرين، فذكروا لي أسماء ربما ألفت أذني بعضها ولكن قلبي لم يتحرك لواحد منها ما كان يتحرك لأولئك العظماء الذين بقيت أسماؤهم مقترنة بكتبهم في ذاكرتي وبإعزازهم ومحبتهم في قلبي. أفيكون هذا لانصراف الحياة بي عما كان شاغل معظم وقتي من مطالعة؟ أم اهتزت مذاهب الأدب مع ما هزته الحرب الكبرى فلم يثبت بعد منها ما يتوج رأس صاحبه؟ أم ضخامة ما يقوم به الناشرون من إعلان عن رجال القلم هو الذي ضلل الجمهور في شأن أقدارهم؟ لقد سمعت من هذه الإجابات غير قليل، وأعترف بأني حتى اليوم لا أستطيع الحكم أيها أدنى إلى الحق وأصدق للواقع تصويرًا.
فتنتنا مسارح باريس من جديد، حتى لكنا نقضي أحيانًا بعد الظهر ونقضي المساء جميعًا فيها، وما أكثر ما كنا نتحدث عن الموعد الذي نسافر فيه من باريس، فإذا بنا نرى رواية لها الشهرة يقوم بتمثيلها نوابغ الفن، فنحجز أماكننا بالمسرح الذي يمثلها قبل الموعد بأيام، ونرى أنفسنا لا مفر لنا من الانتظار هاته الأيام حتى نشهدها. فلما انقضى الأسبوع ثم انتصف الأسبوع الثاني منذ حضورنا من لندن، شعرت بأنه يجب أن أستجمع كل عزمي لأقهر كل ما يقوم من تردد بنفسي. وذهبت ضحى يوم إلى شركة القطارات السويسرية فحجزت تذاكري إلى إكس لي-بن فشاموني فجنيف فأنترلا كن فلوسرن فميلانو فالبندقية؛ وبذلك خطوت الخطوة الأولى في سبيل النصر، ثم طلبت إلى الشركة أن تحجز لي مقاعدي ليوم ١٢ سبتمبر فخطوت الخطوة الثانية. وإني لأذكر ما كانت تتبدى باريس فيه بعد هاتين الخطوتين من زينة، وما كان يظهر على لوحات الإعلان عن مسارحها من إبداعها الشيء الكثير مما خشيت معه أن أعود فأغير موعد السفر، على أني غالبت كل عوامل التردد، وبقيت على عزمي برغم ذلك كله.
ولما كانت عشية السفر ذهبت أنا وزوجي نودع غاب بولونيا ونودع باريس، وأرخى الليل سدوله، وأضاءت أنوار الكهرباء متسللة فيما بين أوراق الشجر من ثغرات، ومر الوقت مسرعًا كأنه بساعة أخرى ضنين، فطلبنا إلى سائق السيارة أن يسير الهوينى بعض الشيء في أنحاء الغابة قبل أن ينحدر بنا وسط باريس. وكم من مرة حزنا خلال الغابة في مثل هذه الساعة! وكم متع الفؤاد بما فيها من جم المعاني العذبة الساحرة! لكن هذه الساعة الأخيرة في الغاب كانت فريدة في معانيها، وفي عذوبتها، وفي سحرها؛ فكأنما كنت أرى في أثناء الشجر كله عيونًا باسمة وثغورًا متلألئة وأصواتًا رخيمة تدعونا ألا نفارق هذه العيون وهذه الأصوات، وتعدنا أن تكون أبهى جمالًا وأعذب مما كانت سحرًا. وخرجنا من الغابة إلى الشانزليزيه فكأن لم نره من قبل، وكأن أمواج النور المترامية من عند قوس النصر إلى ما بعد ميدان الكونكورد لم تكن من قبل وضاءة الضياء مثلها هذه الساعة. وأضاء برج إيفل من قمته إلى أخمصه بما لا عهد لنا من قبل به، وتبدت باريس غير باريس، ودعانا كل ما فيها ألا نغادرها. ولولا الشعور بأنَّا مغادروها ولا بد عما قريب، ولولا الأنفة أن تفتنني هذه اللعوب، لغلبت باريس عزيمتي، ولطال بنا أسرها الشهي المحبوب.
•••
غادرنا باريس صباح ١٢ سبتمبر سنة ١٩٢٦ قاصدين السافوا العليا لنمتع النظر بجبال الألب الرفيعة، وبثلوجها وأشجارها ومنحدرات مياهها، ولنتمتع بجوها اللطيف بعد أيام تشكى الناس فيها القيظ الذي لم يألفوه وإن احتفظت غانيات باريس بفرائهن استمتاعًا بزينتها. غادرناها وفي الجو نذر المطر، وفي نفوس المقيمين بها رجاء أن يذهب المطر بالقيظ وآثاره. وكانت إكس لي-بن، غاية القطار الذي أقلنا والذي يصلها بعد مسير تسع ساعات، لكن السفر في هذا الطريق لا يمله مسافر يسير به القطار بين سفوح خضراء وغابات كثيفة ومياه جارية، ويخترق به الأنفاق ليخرج من كل منها إلى منظر جديد جميل. وقد زاد هذه الطبيعة البديعة زينة أن ظلت السماء إلى ما بعد الزوال ممسكة ماءها، وإن بقيت الشمس وراء الحجب، فلما آن للقطار أن يستدير عند أبواب الألب بدأ المطر رذاذًا، ثم ما لبث أن هتن منه وابل أخذ على النظر السبيل لرؤية القمم التي نمر بها. ووصلنا إكس في منتصف الساعة الخامسة وقد سمحت السماء بفترة هدنة استطعنا خلالها أن ننتقل إلى مركبة الفندق لتصعد بنا في شوارع المدينة الصغيرة الجميلة إلى أعلاها، وما كدنا نستقر في غرفتنا سويعة حتى انهمر المطر من جديد بما أيأسنا من مغادرة صالات الفندق وصالوناته هذه الليلة، فلما كان موعد العشاء ذهبنا إلى غرفة الطعام وأخذنا منها مقاعدنا، وما هي إلا دقائق حتى رأينا منظرًا لفتنا واستثار دهشتنا؛ تلك عجوز نيفت لا شك على التسعين قد جلست في عربة صغيرة أنيقة ومن ورائها من يدفع بها في البهو إلى ناحية غرفة الطعام، فلما وصلت إلى باب هذه الغرفة عاونها رجل وامرأة — لعلهما من خدم الفندق — على النزول من العربة وأسنداها لتهبط الدرجتين وسارا بها إلى ناحية مائدتها يتقدمهم شاب في أغلب الظن أنه حفيدها، وانسحب الرجل والمرأة بعدما جلست هي بإزاء هذا الحفيد الوارث، ولما انتهيا من تناول الطعام جاء معاوناها وسارا بها إلى أن أجلساها في البهو تتناول قهوتها وتشنف آذانها بسماع الموسيقى.
كم قاست هذه السيدة من هموم الحياة وآلامها؟ ولقد تكون وهي في شيخوختها هذه قد فجعتها الأقدار بشر الفواجع، وقد يذكرها هذا الحفيد الذي يلازمها بصدع في قلبها ما ينفك تتفجر جوانبه بلذعات ألم لما يتدثر في ثوب الماضي، ولما يخفف الزمن من شدة وقعه، لكنها ما تزال تحيا. وفي الحياة جمال وروعة يعوضان مما ينزل بالناس من غدر القدر. فمن الحكمة أن ننسى في أحضان هذا الجمال وتلك الروعة أحزاننا وهمومنا، وأن ننهل منهما بما يطغى على كل ألم ويغرقه.
ولفت منظر هذه السيدة تُحمل إلى قاعة الطعام وإلى بهو الموسيقى نظرنا إلى غيرها من العجائز؛ ما أكثرهن! وما أرقهن! وما أشدهن ذوقًا للحياة واستمتاعًا بها! لا يكاد موعد طعام العشاء يجيء حتى تراهن قد لبسن لباس السهرة يبارين الفتيات البارعات في اعتدال القوام وارتداء ما يحلو لهن من الأزياء، فإذا كانت ليلة راقصة كن أسرع من بناتهن إلى الرقص وأكثر به حبورًا.
وكانت على المائدة المجاورة لمائدتنا عجوز حلوة النظرة بعينيها الزرقاوين، بيضاء الشعر بياضًا ناصعًا، وإنَّا لنتناول طعام الغداء يومًا أشرقت شمسه وصفت سماؤه وطاب هواؤه وتعطر بأريج الزهر جوه، إذا بها تقبل إلى مائدتها في ثوب أبيض وحذاء أبيض وقبعة بيضاء قد ظهر من تحتها شعرها الأبيض، وتبدو بذلك كأنها زهرة بيضاء ذات رواء وبهجة. ولو أنك نظرت إلى قوامها وهندامها وحسن ذوقها فيه لخلتها فتاة حريصة على أن تزيد جمالها جمالًا ببهاء الحلي والثياب.
لفت أولئك العجائز نظرنا، وكن في كثير من الأحيان موضع حديثنا أن كانت زوجي وما تزال تأسى لفقد أمها الشابة وابنها الطفل، ترى في استنفادهن الحياة وإمعانهن في المتاع بها مظهرًا مؤلمًا لظلم الطبيعة وغدر القدر، وكم حاولت أن أصرفها عن هذا، وأن أرجو لها مثل شيخوختهن، فتأبى إلا أن تجعل من ذكراها ما يصور لها تفاوت العدالة وتفريقها بين الناس بما يسلبها كل معنى العدالة، وكم رأيتها إثر أحاديثنا في هذا الشأن وبعد مشهد العجائز مقبلات على الرقص آخذات بأكبر نصيب منه، شاردة البال سارحة في تيهاء الخيال بما لم أكن أشك معه في أنها كانت تقول فيما بينها وبين نفسها: ما بال هؤلاء الجدات قد خلعن عذار الوقار وتهالكن على أنواع اللهو؟! هل حسبن أنهن مستعيدات في أحضانه شرخ الصبا وروعة الشباب، أم هن يزعمن المقدرة على خداع الحياة؟!
ألا إنه لأولى لأولئك العجائز اللاتي انحدرن إلى خريف العيش أن يترفقن بأنفسهن، وأن يقضين ما بقي من أيامهن في سكينة وهدوء، فلن يستطعن، ولو حاولن، أن ينعمن بأيامهن وأيام غيرهن، وليحمدن الله الذي مد في آجالهن على حين تتحطم على صخرات القدر أعمار شباب كانت الحياة أشد حاجة إليهم وإليهن، وكانوا وكن للحياة زينة ومجدًا.
أم لعل الذكرى وحدها لم تكن مثار هذه الصورة للمشيب في نفسها، لعل مثارها ما رسمته الحياة وما ثبتته منذ طفولتها في نفوسنا صورة للمشيب، ولمشيب النساء بنوع خاص؛ فهن قد فرغن من الحياة ونصبها والعيش وهمومه، فلم يبقَ لهن إلا أن يرتجين حسن الختام بالانقطاع لله لعبادته وتقواه، وفي انتظار هذا الختام يقضين بغيتهن في الحياة راكعات ساجدات قانتات ليغفر الله لهن ما تقدم من ذنبهن وما تأخر. هذه الصورة التي كانت تمثل في نفسي جلال المشيب وهيبته ما تزال تذكرني طفولتي، وتذكرني شيوخ قريتنا يجتمعون في المسجد قبيل الفجر لقراءة الورد حتى يحين أداء الفريضة، فيصلون ثم ينصرفون يسبحون بحمد الله ويقدسونه، ويقصون على من حولهم قصص الماضين، حتى تحين فريضة الظهر فيؤدوها في المسجد جماعة كما يؤدون سائر الفرائض. وما تزال هذه الصورة تذكرني كذلك عجائز القرية وهمُّ كل واحدة منهن أداء فريضة الحج وزيارة النبي ﷺ والانقطاع بعد ذلك لله بالعبادة. على أن الحياة الغربية تأبى هذه الصورة وتنفر منها وتنكر على العجائز الفراغ من الحياة ونصبها والعيش وهمومه؛ لأنها لا ترى في الحياة همًّا أو نصبًا إلا يعوض منه ما في الحياة من رقة وجمال، وترى أن من الحق لكل إنسان أن ينعم بالعيش إلى آخر لحظاته، وأن ينظر إلى الموت على أنه عمل من أعمال الحياة هو آخرها؛ وإنما نكون سعداء إذا استطعنا أن نستمتع بحياة طويلة وموت جميل.
وأفضيت غير مرة بهذه الخواطر إلى زوجي، وذكرت لها أن الأيام لا تضيق بالشباب عن أن يتمتع بها إذا تمتع بها من تخطوا الشباب؛ فالأيام رحبة الصدر تقبل على كل من أقبل عليها، وتدبر عمن قطب لها جبينه، لا تفرق في ذلك بين شاب وشيخ، وبين رجل وامرأة، وهي في ذلك محسنة عادلة. وإذا كان الشيوخ والعجائز قد تخطوا إلى خريف الحياة، فللخريف جمال وروعة لا يقلان عن روعة الربيع وجماله، وما دمنا أحياء فللحياة علينا حق الاستمتاع بها؛ والصادق عنها كالجالس إلى صديق وفي، ثم هو مع وفاء صديقه منصرف عنه إلى التفكير فيما لا يرضاه، بل لعل الشيوخ والعجائز أحق أن يستمتعوا بالحياة من الشبان والغانيات؛ فهؤلاء ما تزال عليهم للحياة واجبات السعي والعمل، وما يزال شبابهم لذاته متاعًا لهم يغنيهم عن التماس غيره من أسباب المتاع. أما أولئك فقد أدوا للحياة واجبها، وقد أصيبوا في الحياة بألوان من المحن تؤلم ذكراها، ثم هم قد تحدر شبابهم في غيب الماضي؛ فالحياة عبء ثقيل عليهم حمله إذا هم لم يلتمسوا نسيان أثقاله في المرح والمسرة، والحياة كريمة محسنة لا تأبى المرح على عجوز ولا على شيخ إذا هدته حكمته فطلب من ألوان السرور ما يجمل الهرم ويجعله كالصبا بهاء وروعة. ولعل الإنسان إذا جلس إلى واحد من الذين تريدهم صورة المشيب في نفوسنا على الانزواء فرآه مقبلًا على الحياة محبًّا لها، يغتبط بجلسته معه مقدار اغتباطه بجلسته إلى شاب ذكي أو سيدة جميلة، في حين هو إذا جلس إلى منزوٍ عن الحياة زاهد في العيش لم يجد فيه مما يحسبه جلالًا وهيبة إلا ما يجده في الدور المهدمة الخربة التي تطن بأصوات الحشرات الكريهة، ولا تسمع فيها شدوًا مشجيًا كالذي تسمعه في القصور القديمة الآهلة بأسباب الحياة والنعمة.
وفي صبح الغد ركبنا سفينة بخارية تخطت بنا بحيرة بورجيه لنزور عند شاطئها الثاني ديرًا ينقطع للعبادة فيه جماعة من الرهبان، ويحتوي بعض آثار فنية قيمتها في قِدمها، على أن ما يحيط بالبحيرة من جبال هي مقدمات الألب الفرنسية أسبغ على البحيرة من الجمال ما يكفل متاع من لا تعنيه آثار الأديرة، فلما عدنا كان القطار الذي سافر بنا إلى سان جرفيه يقوم على أثر عودتنا، على أنَّا آثرنا أن نقطع الطريق عند آنسي لنبيت بها ونطوف في صباح الغد أنحاء بحيرتها، ثم نستأنف السفر ظهر ذلك اليوم. ودعاني إلى هذا الإيثار ذكرى ما قرأت في جان جاك روسو عن آنسي وبحيرتها وما حولها ومنطقة شامبري كلها، هذه المنطقة التي كان عاشق الطبيعة يتحدث عنها في تهدج وإجلال، ويرى فيها مبلغ ما أبدع الله على الأرض من جمال، ولم يكذب الواقع ظني؛ فقد دارت بنا السفينة فوق بحيرة آنسي محاذية الشاطئ حينًا، متخطية البحيرة من جانب إلى الآخر حينًا، راسية عند بلاد هذا الشاطئ البديع، مفنية في دورتها ذهابًا وجيئة خمس ساعات كاملة استولى علينا البهر فيها جميعًا، ولم ندرِ أية بقعة من بقاع هذه الشواطئ يمكن أن تفضل الأخرى، وقامت القرى المتصلة بها بين ألوان من الخضرة ذات رواء ولين وبهجة، تظلها سماء تغري روحها بالمحبة والعطف، وتفتح النفس لحياة هذا الجو الفسيح كله جمال وهوى، وأشهد لقد انقضت الساعات الخمس، وعدنا إلى آنسي، وتناولنا فيها طعامنا وركبنا القطار ولا حديث لنا إلا بحيرة آنسي وسحرها وفتنتها، مما كان جديرًا بأن يسبينا عن أنفسنا ويمسكنا في إحدى قراها المحبوبة، لولا ثقتي بأننا في الألب نتخطى من جمال إلى جمال، فالخير في أن ننهل من هذا الجمال جميعًا.
وغادرنا سان جرفيه إلى شاموني، غاية الألب الفرنسية وأكثر البلاد الجبلية ارتفاعًا وشهرة. وفي طريقنا إليها بالقطار الكهربي شققنا جبالًا جرداء وصخورًا بعضها فحمية اللون تلمع في تموج يجعلك تقتنع بأنها كانت أخشاب غابات هائلة أتت عليها ريح صرصر عاتية فعصفت بها، فضمرت تحت الأرض أكداس جذوعها فاستحالت جبلًا، فتفحمت فصارت ما ترى. وبين هذه الجبال وجبال بعدها انطلق القطار في أودية خضر ممرعة يروي بهاء خضرتها النظر الظمئ بعد تلك الجبال الفحمية إلى خضرة نضرة، فلما كنا بشاموني أحاطت بنا حياة الألب في أوضح صورها ومعانيها. يلبس الناس غير ما يلبس المصطافون في البلاد الأخرى، ويحمل الكثيرون في أيديهم عصيًّا في أطرافها حديد مدبب تعاونهم على تسلق الجبل. ولا تكاد تغادر المحطة وتميل بعد ميدانها إلى الشارع الرئيسي حتى ترى نهرًا يجري خلاله متدفقًا ماؤه الأبيض اللون كأنه ثلج ما يزال، وعلى حافة هذا النهر قهوة يقصد إليها من لا يريد المكث بأماكن الشاي والحلوى، على أن القهوة وأماكن الشاي قلَّ قاصدوها في شاموني؛ لأن زوار هذا البلد يقصدون نهارهم إلى الجبال يرتقونها ويستمتعون بجوها الصحيح، فإذا كان الليل وجدوا في فنادقهم ما يغني أكثرهم عن القهوة وعن مكان الحلوى.
وزرت كثيرًا من البلاد الجبلية المحيطة بشاموني، على أنَّا لم نكن لنغادرها دون أن نزور بحر الثلج بها. وتسلق بنا القطار الصاعد بعد ظهر يومنا الأخير بالمدينة إليه فوق سفوح قلَّ شجرها؛ أن كان جو المنطقة تكثر الثلوج فيه، وتنحط حتى في الصيف درجة حرارته إلى ما تتعذر معه حياة الشجر والنبات، فلما بلغ القطار غايته سرنا غير بعيد، فبصرنا بين جبلين بوادٍ منخفض يملؤه موج جامد لا حركة به، واستوقف هذا الموج نظرنا، فقيل لنا هو بحر الثلج، وطلب إلينا أن ننزل إليه وأن نسير فوقه. والذين يغريهم هذا النوع من الرياضة يلبسون فوق أحذيتهم جوارب حتى لا ينزلقوا فوق الثلج فيصيبهم من صلابته أذى، ويمسكون بأيديهم هذه العصي المدببة الأطراف يستعينون بها على حفظ توازنهم في مسيرتهم. وهبطنا حتى كنا عند شاطئ هذا البحر العجيب، ولم تطاوعنا أنفسنا على هذه الرياضة الخطرة، وإن كان من أهل هذه المنطقة من يعاونون عليها جماعة الذين تغريهم المخاطر ليقولوا إنهم فعلوها أكثر من معونتهم جماعة المولعين بالرياضة، والذين يقبلون عليها تدفعهم فطرتهم وسليقتهم أكثر مما يدفعهم التطلع أو حب الغريب من الأشياء. وبرغم ذلك كله وبرغم الذين تخطوا الجبل إلى بحر الثلج، فقد ظل بعضهم وفي نفسه ريبة أن يكون هذا الوادي كله بحرًا، أو بالأحرى نهرًا من الثلج، حتى كان المرتاضون فوقه يكسرون قطعًا منه يقذفون إلينا بها ليزيلوا كل شك من أية نفس تظل بها من الشك خلجة. وهو بالأحرى نهر الثلج، كالنهر في مجراه وفي طوله وفي عدم انفساح شاطئيه حتى لا تراهما العين معًا، لكن أهل هذه المنطقة يسمونه بحر الثلج إجلالًا وإكبارًا، ولأن موجه الجامد هو بموجب البحر أشبه.
وآن لنا بعد مقامنا بشاموني أن نغادر الألب الفرنسية، وأن نغادر فرنسا إلى سويسرا نبدؤها بجنيف، وفيما نحن نعد عدتنا لسفر يكاد يستغرق يومًا كاملًا استعدت أمام ذاكرتي هذه الأسابيع السبعة التي انقضت منذ سفرنا من مصر، والتي قضينا منها بفرنسا شهرًا كاملًا، فتوجهت بكل قلبي إلى هذه البلاد الجميلة وإلى عاصمتها مدينة النور، وإلى جبال السافوا شاكرًا بإخلاص أنعم الله علينا فيها أن أحالت لون الحياة أمام عيوننا فقضت فيه على صورة اليأس البشعة السوداء، وأن بدلتنا منها صورة فيها من بسمات الرجاء ما كنا نلتمس قبل سفرنا خيطًا منه فلا يساورنا أمل فيه. وعاد بنا القطار الكهربائي من شاموني إلى لفاييه، ثم انتقلنا إلى قطار آخر سار بنا ثلاث ساعات وسط زروع نضرة وجبال تتبدى قريبة آونة، بعيدة أخرى، مختفية حتى ما يكاد يلمحها البصر ثالثة. ومن هذا القطار انتقلنا إلى قطار ثالث بدأ مسيرته مع الليل حتى بلغ بنا الحدود بين فرنسا وسويسرا، ثم نزلنا جنيف، وأقلتنا خلالها عربة إلى فندق روسيا، أول الفنادق المطلة على بحيرة ليمان، وما هو إلا أن قاربت العربة جسر الجبل الأبيض الذي يجتاز البحيرة على مقربة من منابع نهر الرون وعند جزيرة جان جاك، فإذا الجسر كله أعلاه وأوسطه وأسفله عرس من الكهرباء يهز القلب بالفرح والنشوة، ويجعل الحياة أمام النظر كلها ضياء وأملًا، هنالك توجهت لله بشكر خالص مرة أخرى. لقد حشدت باريس ولندن أمام النظر والذهن والخيال فنونًا من ألوان الحياة جعلت زوجي ترى الحياة بغير العين التي كانت تراها بها قبل أن تحل فيهما، وتشعر بأنا قادرون على الحياة بالغة ما بلغت قسوة الحياة بنا، والألم والأذى اللذان يصلان منها إلينا؛ فكان لها من ذلك شفاء للنفس والروح. ولقد تكشفت السافوا العليا عن صور من جمال الطبيعة ومن صفو الهواء بما فيه شفاء للجسم وأعصابه. وها نحن أولاء ندخل من سويسرا في محفل الطبيعة الأكبر، فيه غذاء للروح والجسم معًا، فلنسارع إلى النهل من ذلك، وإلى الاستمتاع بعرس الطبيعة الدائمة الابتسام. لذلك ما كدنا نصعد إلى غرفتنا بالفندق حتى جلست أنا وزوجي إلى شرفته المطلة على هذا العرس، وعلى بحيرة ليمان، وعلى سماء وضاءة بنور القمر، وعلى جو معطر بأريج الجمال، وعلى حياة كلها نعمة كافر بالحياة من ينكرها، نستمتع بذلك كله فيدخل المتاع به إلى نفوسنا وقلوبنا وأرواحنا فيضًا من السعادة.