في سويسرا
«هنا يبتدئ الزمن القصير السعيد من أزمنة حياتي، هنا تجيء اللحظات السريعة الهادئة التي تجعلني أقول إنني حييت. إيه أيتها اللحظات الثمينة المأسوف عليها! ارجعي … ارجعي فاسترجعي مسراك الهني، انسابي في ذاكرتي إن استطعت أكثر بطشًا مما كنت في سرعة مرك. ما عساي أعمل لأطيل كما أريد هذه الذكرى البسيطة المؤثرة، ولأقول وأعيد الأشياء نفسها ولا يمل قارئ بإعادتها كما لا أمل أنا باستعادة ذكراها! ولو أن ما كان يومئذ كونته الوقائع والأعمال والألفاظ لاستطعت وصفه وتبيانه، ولكن ما تراني أذكر عن شيء لم يقل ولم يعمل بل لم يأخذ أي مكان من الفكر، ثم هو قد أذيق بل أحس، وليس لدي ما أستظهر به سعادتي غير ذلك الإحساس نفسه؟ كنت أستيقظ مع الشمس وكنت سعيدًا، كنت أتنزه وكنت سعيدًا، كنت أرى أمي وكنت سعيدًا، وكنت أتركها وكنت سعيدًا، كنت أقطع الغابات والأحراش، وكنت أجوب الأودية، وكنت أقرأ وأسكت وأشتغل في الحديقة وأجمع الفاكهة، والسعادة تتبعني حيث كنت ولا تستطيع تركي لحظة؛ لأنها لم تكن في شيء معين، بل كانت ممتزجة بنفسي وروحي.»
هذه صورة من اعترافات جان جاك روسو عن مقامه بالشارمت على مقربة من شمبري، وهي صورة صادقة للزمن الذي أقمنا بسويسرا؛ فقد كنا نجوب خلالها وكنا سعيدين، وكنا ننزل بلادها وكنا سعيدين، وكنا نهبط أوديتها ونصعد جبالها ونخترق ثلوجها ونركب بحيراتها ونتنسم هواءها ونستمتع بأرج عبيرها، وكانت السعادة تتبعنا حيث ذهبنا؛ لأنها لم تكن في شيء معين مما نرى أو نسمع، بل كانت ممتزجة بنفسينا وبروحينا.
والحق أن سويسرا جديرة بأن تبعث إلى أشد النفوس انقباضًا ما يزيل انقباضها ويفرج كربتها؛ فقد حبتها الطبيعة موقعًا وجوًّا وجمالًا لا يدانيه فيما رأيت من ربوع العالم كله جمال؛ جبالها وبحيراتها وغاباتها ذات حياة لا يعرفها غيرها من البحيرات والغابات والجبال؛ ذلك بأن أهل سويسرا مزجوا حياة الطبيعة بحياتهم، وحوروا في صورتها بما يلهمه ذوق الجمال للإنسان، فنفخوا في سفوح الجبال وفي أغوار صفائحها وفي أعالي قللها روحًا تجعل بين الإنسان والجبل شركة وثيقة الاتصال طويلة العمر قديمة التاريخ، أكبر غرضها التعاون على المزيد مما حبت الطبيعة الجبل به من جمال ليزداد الإنسان بالجبل وجماله متاعًا، وقد امتدت يد الإنسان إلى البحيرات كذلك، فجعلت في لجها وفي جوها الرقيق الصافي مثل هذه الشركة في المزيد من الجمال ومن المتاع به، وبلغ من متانة هذه الشركة بين الإنسان والطبيعة في سويسرا أن الإنسان يعجز اليوم لو حاول تصور أحدهما دون الآخر، عجزه لو أنه حاول أن يتصور جسمًا حيًّا لا روح فيه، أو روحًا يقع عليه الحس ولا جسم له تتصل بالحس أجزاؤه.
وهذه الشركة القديمة التي تعاقبت عليها الأجيال قد ربط بينها روح تضامن في سبيل غرض واحد وغاية مشتركة، هما بعث الحياة الإنسانية في هذه الكائنات الطبيعية ليجلي على أهل الأرض جميعًا صورة نادرة من الجمال الحي يستمتعون بها أحرارًا متساوين متاعًا مشتركًا. فأنت لا ترى صومعة معلقة في جبل تحدث عن زاهد منقطع إلى الله وعبادته، ولا ترى قصرًا منيفًا تحيط به أكواخ الأتباع والخدم محدثة عن أبيقورية مترف أثِر لا يعرف من الحياة غير نفسه، فإذا رضيت نفسه فعلى الحياة وعلى الإنسانية العفاء، بل أنت ترى الجمال منثورًا بأيدي الأجيال لمتاع من يتعاقب من الأجيال، وأنت ترى قوى الطبيعة كلها مسخرة لمتاع من شاء المتاع من أهل الإنسانية كلها، وأنت تحس حيث كنت من سويسرا كأن كل شخص من أهل هذه البلاد قد عاون جهد طاقته ليزيد في جمالها وليبعث إليها من جمال روحه كل ما حوت روحه من حب إياها وتعلق بها، وكأن كل إنسان رأى في شيء منها نبوًّا عن ذوق الجمال الوليد معه قد آلى على نفسه إلا أن يزيل النبو وأن يغرس مكانه من الجمال مزيدًا. والطبيعة العادلة المحسنة التي لا تنسى جزاء إنسان بإحسانه قد جزت هذا الشعب عن حبه الجمال أن ازدادت هي الأخرى جمالًا، وأن ازدادت في أحضان الألب تبرجًا وزينة، فثلوج سويسرا وأقمارها ونجومها وشموسها ليست ككل الثلوج ولا ككل الأقمار والنجوم والشموس، بل تكاد تكون من صناعة رب فن ماهر أبى عليه فنه أن يكون بين هذه الثلوج والكواكب وبين ما على الأرض من جمال نشاز، فشارك الإنسان في عبادة الجمال بأن جعلها أبهر زينة وأبرع جمالًا.
وهذا العرس الذي قابلتنا به جنيف على جسر الجبل الأبيض تتخطى فوقه بحيرة ليمان في اختراقها مدينة كالفن، هو بعض هذه الشركة المبدعة بين الإنسان والطبيعة، وإن لم يكن أروع ما أبدعت الشركة من منشآت فذة. وبحيرة ليمان من جنيف إلى مونتريه أكبر شاهد على افتنان السويسريين في المزيد من جمال البحيرة وشاطئها، على حين ترى شاطئها الفرنسي لا يلقى من العناية إلا ما تلقى جبال السافوا العليا. على أن ليمان وحدها بدعة ساحرة تتغنى مياهها، والجبال المحيطة بها والغابات الكاسية سفوح هذه الجبال، والسماء التي تظل الجبال، ولج البحيرة جميعًا، بأنغام من ألوان باهرة تلتهمها العين فيطرب لها القلب وتنتعش بها النفس، ويشعر الإنسان معها كأن روحه وفؤاده قد استحالا أوتارًا توقع هذه الأنغام عليها، وما كان أشد طربنا لهذه الأنغام حيث سرنا على شاطئ ليمان، أو صعدنا في الهضاب المحيطة بجنيف، أو جدفنا في زورق فوق البحيرة أو دارت بنا بواخرها لتمتع السائحين بمناظر شواطئها الساحرة! وما كان أشد اختلاف هذه الأنغام باختلاف ساعات الليل والنهار! ما كان أرقها وأجملها ساعات المغيب حين يتجاذب الليل والنهار حتى يتعانقا ثم يفنى أحدهما في صاحبه. قضينا بجنيف ستة أيام نستمتع بهذه الصور جميعًا في مرح ونشوة، ولا يدع لنا استمتاعنا بها أن نتابع ما كان يجري في عصبة الأمم، وكانت منعقدة وقتئذ، وكانت جريدتها تصل إلينا مع الصباح وقبل طعام الإفطار، فلما فكرنا في مغادرة جنيف إلى لوزان ولم نكن قد ارتقينا واحدًا من جبالها، استشرنا دليل «بدكر»، كما استشرنا رجال الفندق، فأشارا علينا بالصعود إلى جبل ساليف، فلما كان الصباح رأينا الجو مكفهرًّا، فترددنا بعض الشيء، وسألنا أهل الفندق: أهم يتوقعون مطرًا؟ قال أحدهم: كلا! فجو المطر تملؤه روائح السمك كأنما هو يقترب من سطح البحيرة لينعم بالماء الجديد الساقط إليها، وليس في الجو من هذه الروائح شيء.
وارتقينا القطار الصاعد إلى جبل ساليف، فجعل يتنسم الجبل بين سفوح قامت فوقها الأشجار الباسقة والشجيرات اليانعة، وأزهار قليلة منثورة من حين إلى حين، وكنا كلما تقدمنا ازداد الجو عبوسًا وتساقط السحاب في الأودية بين القمم والجبال المختلفة. على أن تلبد السماء من فوقنا وانحدار الغمام في الأودية المنخفضة دوننا لم يبلغ من الكثافة أن يحجب النضرة اليانعة المحيطة بنا، بل ظللنا في ارتقائنا ننعم بمنظر رقيق من ورق الشجر الأخضر لما تعد عاديات الخريف منه إلا على قليل، وكنا وكان المسافرون معنا يملؤنا الأمل أن يبدد خيط من ضياء الشمس هذا القتام الذي كان يزداد تراكمًا كلما ازددنا ارتفاعًا. وكيف نرجو، إذا لم ترسل الشمس من نورها الوضاء ما يجلو الجو، أن نرى ثلوج الجبل الأبيض التي طالما نعمنا من قبل بمرآها، أو أن نمتع النظر بخضرة الجبال التي لا يعلوها الثلج. لكن القطار وصل إلى غايته وأملنا ما يزال سرابًا، فصعدنا الجبل إلى فندق قائم فوقه كأنه صومعة الناسك في عزلته، ودخلنا غرفة الطعام نتناول غداءنا، فألفينا من فيها قد أقفلوا أبوابها ونوافذها اتقاء البرد القارس في هذه الظهيرة العابسة.
وفندق الساليف كفنادق الجبال في بساطته ورشاقته، لا ترى فيه آثار نعمة المدن من فرش وثيرة وأبهة ووجاهة، لكنك تجده ظريفًا في بساطته، نظيفًا كل النظافة، على مناضده مفارش بيضاء نقية من غير تطريز، وآنية بيضاء نظيفة، وكل ما تحتاج إليه في طعامك وشرابك. ولقد أخذنا مقاعدنا إلى إحدى مناضده وأدرنا نظرنا نلتمس الخادم فلم نجد أحدًا، فانتظرنا هنيهة ثم إذا باب فتح وظهرت منه فتاة لا أحسبها تزيد على الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمرها، وإذا هذه الفتاة هي وحدها القائمة بخدمة كل الذين يتناولون طعام الغداء ويبلغون الخمسة عشر عدًّا، تأتيهم بطعامهم وشرابهم وتقوم بمحاسبتهم وأهلها من ورائها يطهون الطعام لتقدمه هي إلى متناوليه.
كانوا يحدثوننا من سنين خلت أن صبيانًا أو فتيات كانوا سبب سعادة المتاجر التي يحلون بها، حتى كان التجار يتنازعونهم لتسعد بهم متاجرهم، وكنا بعد أن تحدرت من حولنا سنو الصبا نذكر هذه الأحاديث فنضحك منها ساخرين، ولو أن كلًّا منا أتيح له أن يرى صبية فندق الساليف وأشباهها من الصبايا القائمات بشئون التجارة في مدائن أوربا وأريافها لما سخرنا من هذه الأحاديث، ولصدقنا بما يحمله الصبا في إرادته من أسباب السعادة.
وصبية الساليف ليست ذات جمال فاتن، وليس لها من الدلال ما يهوي إليه الفؤاد؛ بل هي ككل الريفيات، كثيرة البساطة شديدة الحذر، تضن بالابتسامة مخافة أن تتهم بالخلاعة، وتقل من الكلام حتى لا تكاد تجيبك إلى ما تسأل عنه بجملة كاملة، وأرنبة أنفها المستديرة تربى على قصبة الأنف بما لا تقره قواعد الجمال. وهي بعد في لباس جمع إلى الذوق الريفي حشمة الفقر، وليس لها من رشاقة الباريسيات أو خفة بنات المدن كثير ولا قليل، لكن في أردانها مع ذلك أسباب سعادة هذا الفندق المنقطع في قمة الجبل والذي يأوي إليه مع ذلك من الناس غير قليل.
ذلك بأنها صبوح الوجه ضاحكة السن، وبأن الطبيعة قد جملتها من ذلك بما يعجز أمهر فنان في صناعة الجمال. ترى وجنتيها فتدهش لتوردهما، وترى صدغيها فتدهش لنقاء لونهما الأبيض المشرب حمرة، ولها شفتان دقيقتان لا يطاوعانها إلى عبوس لأنهما دائمتا الابتسام. ونظراتها البريئة وقوامها اللدن ما تزال فيهما كل معاني الطفولة المتدرجة إلى ريعان الصبا، الجامعة إلى الطهر النزيه أسباب النضارة الودود. فإذا أقبل ذلك كله عليك رأيت ابتسامه وسمعت حديثه وإن لم تبتسم هي ولم تتكلم، ورأيت إقباله عليك فأقبلك عليه في تلطف وابتسام، وسرك ما تقدم صاحبته لك لأنها هي التي قدمته لك.
ولذلك أقبل كل الذين نزلوا فندق الساليف على طعامهم أكثر اشتهاء له وحرصًا عليه، خلا شابًّا وفتاة لم يكونا أقل ممن سواهما على الطعام إقبالًا، ولكنهما كانا معرضين عن الصبية لاشتغال كل واحد منهما بصاحبه، ولقد بلغا من ذلك أن ترك الشاب مقعده بإزاء الفتاة إلى مقعد بجانبها ليكون أقرب إلى نيلها. وما كان ليلاحظ ذلك عليهما أحد أو يأخذهما به، والناس يحترمون الحرية احترام إجلال وتقديس، لولا عجائز جلسن بإزائها وجعلن يتهامسن لكل ما يرينه من حركاتهما، وكأنما كانت بين العجائز ثقيلة السمع، فكانت بعض عبارات حديثها لا تخفى على الحاضرين وإن لم تغير من أمر الشاب والفتاة شيئًا. ولعل كثيرًا من حديث أولئك الجدات كان يشير إلى أيام صباهن وحوادث غرامهن، وإلى تلك الأوقات اللذيذة التي هوت في ظلم الماضي تاركة وراءها ذكريات تطيب استعادتها ويحز الألم في النفس أن لا سبيل من بعد إلى مثلها، وأي شيء غير هذا تراهن يذكرن بإزاء الصبا اليانع تتقارب زهراته الندية! إنهن لا شك أبعد من أن ينلن مظاهر الحب بسوء وهن يرين في الحب حياة وقوة ولا يجدن في مظاهره ما يعافه معروف قومهن من قواعد الخلق. بل لعلهن كبعض أصدقائنا المصريين الذين تحدثوا في شتى الشئون إلينا يقلن لمن ينال المحبين بسوء ويرفع العقيرة ناعيًا الأخلاق وانهيارها: هون عليك يا صاح، ولا تقف عند النظر إلى هذه الشئون التافهة؛ فليست هذه كل حضارة الغرب وإن كانت بعض آثارها، بل انظر إلى ما حولك من سائر المظاهر في الفن والأدب والصناعة والاختراع والاستكشاف، فإذا علمت أن ذلك كله من عمل أولئك الذين تنعى عليهم سلوكهم وتعيبهم أخلاقهم، فراجع نفسك وتذكر أن هذه الحضارة اليانعة القوية الثابتة لا يقوم بإنشائها وحفظ كيانها من لا أخلاق له أو من ساء سلوكه.
وكان الجو خارج الغرفة يزداد قتامًا، والسحب تزداد تراكمًا، وخرج أحد الحاضرين بعد ما ارتدى معطفه ثم عاد معلنًا أن رذاذًا يتساقط وأن الوقت قرٌّ، وأن لا سبيل إلى نزهة الجبل. وكذلك تداعى كل أمل في مشاهدة الألب السويسرية والفرنسية من هذه القمة البديعة، ولم يبقَ إلا العودة إلى جنيف من طريقها الثاني المار بأنماس، فعكف الحاضرون على قهوتهم يشربونها، وعلى سجائرهم يدخنونها. وكان بيننا رجل وزوجه ومعهما ابنتهما الطفلة التي لا تزيد على السنتين من العمر إلا قليلًا، ولما رأت من السيدات مدخنات جعلت تضع في فمها عودًا دقيقًا تقلد به بنات جنسها ممن تخطين حدود الطفولة، ولقد كانت في تقليدها وفي لعبها وفي حديثها سلوى للحاضرين عن الجو وعبوسه والسماء وقتامها.
ثم غادر الناس الغرفة الدافئة بأنفاسهم وبحرارة الطعام والنبيذ، وانحدروا يطلبون المحطة في انتظار القطار، وتلفتُّ إلى ما حولي فإذا الأودية كلها قد ملأتها السحب حتى صار كل ما حولنا لجة من غمام غرقت فيها أطواد الجبال، فاختفى بعضها بما عليه من نبت وزهر وشجر، وبقيت ظهور بعضها طافية كأنما هي حيتان ضخمة تسبح في لجة السماء المذابة ركامًا. وسرحت النظر ألتمس الأفق، فإذا منظر قفر ما أذكر أني رأيت مثله في سياحاتي، وما أحسب كاتبًا يقدر على حسن وصفه مهما أوتي من البيان؛ فهذه الحيتان السابحة، وهذه اللجج المترامية، وهذه السماء المذابة تشتملها عند الأفق ظلمة تخلط الليل بالنهار في هذه الساعة التي تتكبد فيها الشمس السماء وتعالج عبثًا أن تنفذ إلى الوجود وتبعث إليه آية الحرارة والنور. وفي هذه الظلمة لا ترى سحابًا ولا جبلًا ولا سماء، وإنما هو ديجور منتشر تعبث فيه آلهة الظلمة بآمال الناس في خيط من ضياء. وفيما اليأس يعمل في النفوس إذا برق يخفق يخطف سناه الأبصار ويضيء لحظة هذا القتام الداكن، وإذا رعد يبعث إلى السكينة الموحشة فوق قلل الجبال زئيرًا تهتز له النفس من خيفة المطر الهتون. واستغرق البرق والرعد ثانية أو بضع ثوان، ثم عادت السكينة الموحشة والظلمة المهوبة، وازدادت أشباح الحيتان السابحة جلالًا ورهبة، ولكن السماء ظلت ممسكة ماءها إلا رذاذًا، وظل من حولنا ينظرون إلى ساعاتهم يقدرون الدقائق الباقية لوصول القطار. أما الطفلة التي كانت معنا في قاعة الطعام فلم يزدها البرق والرعد إلا إمعانًا في اللهو والضحك، وكأنها آمنة، ما رأت أباها، من عدوان الطبيعة وغدر القدر، وطالت الدقائق الباقية كأنما هي باقية على ساعة البعث والحساب.
ثم ظهر القطار زاحفًا إلى القمة، فعلت الثغور ابتسامة التحية وأخذ كل مكانه مطمئنًا إلى اتقاء ما يخشى من صيب السماء. وانحدر القطار صغيرًا ضئيلًا تحفه السحب من كل جانب فما يكاد النظر يرى من النبت المحيط به إلا القليل، واستبدلنا به غيره هبط بنا إلى أن اتصل السفح بالأرض، ثم استبدلنا بالقطار ترامًا أقلنا إلى جنيف مارًّا بأنماس في شوارع وطرق دون شوارع جنيف وطرقها جمالًا.
•••
وأصبحنا في الغد فإذا الجو مطير والسماء هتون والشمس في الحجب، فلزمنا فندقنا آملين صلاح الجو بعد الظهيرة، لكن المطر ظل هاتنًا فحبسنا في فندقنا، فلما كان المساء ذهبنا إلى مسرح الكوميدي نمضي فيه شطرًا من الليل نعتاض به عن سجن النهار، وخرجنا في منتصف الليل، وحاولنا أن نعود إلى الفندق على أقدامنا ليطول استمتاعنا برقيق هوائه، فلم يطل بنا السير أن انفجرت أفواه السماء أكثر تهتانًا منها طوال النهار، وذهبت من ناحية وزوجي من الأخرى نصيح بعربة أو أوتموبيل يقينا هذا المطر، على أنَّا لم نعبس له ولا بعث تهتانه إلى نفوسنا أي امتعاض؛ فقد كفل المرح الذي يملأ جو سويسرا كلها طمأنينة نفسينا إلى كل شيء واغتباطها بكل مظاهر الطبيعة وبالمطر يكاد يغرقنا رغم احتمائنا منه بالجدران والأبواب. وعثرنا آخر الأمر بأوتموبيل ركبناه إلى الفندق فقابلنا رجال السهرة فيه بابتسام لما رأوا ما عليه حالنا، فلما أخبرناهم أنا مسافرون في الغد إلى لوزان نصحوا إلينا أن نتخذ طريقنا إليها فوق البحيرة على الباخرة «هلفسيا»، أكبر بواخر ليمان وأكثرها جمالًا وحسن نظام.
ونزلنا «أوشي» ميناء لوزان على البحيرة، واخترت فندق بوريفاج حيث وقعت معاهدة لوزان. وأذكرني هذا الفندق نزولي صيف سنة ١٩١٠ بفندق إنجلترا من فنادق أوشي؛ لأن لورد بيرون كتب به قصيدته «تشيلد هارولد»؛ فقد وضع فندق إنجلترا على جداره لوحة يسجل عليها هذا الحادث الجليل في تاريخ الأدب، ووضع فندق بوريفاج على جدار بهوه الكبير الذي وقعت المعاهدة فيه لوحة يسجل عليها هذا الحادث الخطير في تاريخ السياسة الدولية. وأوشي ضاحية ظريفة بسامة تقابل أفيان على الشاطئ الفرنسي لبحرية ليمان، ولكن لها من البهاء والجمال أضعاف ما لأفيان وإن لم تكن لها مثل مياهها المعدنية. وفندق بوريفاج زينة أوشي ببارع حدائقه المتدرجة من الهضبة التي يقوم الفندق عليها إلى الشارع المتصل بشاطئ البحيرة، وبجمال عمارته وبفسيح أبهائه وصالاته، وإنَّا لنتخطى صالوناته قاصدين إلى غرفة الطعام إذا بالسيدة التي نيفت على التسعين والتي استرعت نظرنا في إكس لي-بن حين جاءت إلى المائدة في عربة، ثم أسندها خادمان حتى أوصلاها إلى مجلسها بإزاء حفيدها، وإذا حفيدها يدفعها في عربتها، فلما وقع نظرها علينا ابتسمت وحيَّت برأسها تحية جميلة جعلت زوجي أشد بمشيبها برًّا وعلى المشيب كله عطفًا. ولعلها رأت بعد هذه الابتسامة أنه كان يحسن بالشيوخ وبالعجائز أن ينزووا حين كانت الحياة في اعتبار الناس شرًّا يتبرمون به ويتمنون الخلاص منه؛ لأنها كانت في نظرهم عبئًا ثقيلًا بما تقتضيه من جهد وكد لا عوض عنه في مرح أو مسرة؛ ولذلك كان من حقهم أن يروا الفضيلة في الزهد والانزواء، أما اليوم وقد تكدس في الحياة من أسباب النعمة ما خلقته الأجيال المتعاقبة خلقًا وما أبدعه الخيال والعقل، فقد وجب أن يتغير الاعتبار القديم، وأن ينظر الناس إلى الحياة على أنها خير يجتنى، ومورد سائغ يزداد عذوبة كلما كثر رواده والمستمتعون به، وكلما كان من بينهم هؤلاء الشيوخ والعجائز الذين يزيدون الحياة جمالًا بإقبالهم على الاستمتاع بكل ما فيها مما يرونه خيرًا ونعمة.
ويصل الترام بين أوشي ولوزان في دقائق معدودة مرتقيًا هضبة بنيت فوقها المدينة تطل منها على مياه ليمان، يستمتع أهلها بمنظرها في أماكن عدة منها. وليس في المدينة كثير يستوقف النظر ما يستوقفه قصر العدالة بها، قامت عمارته الجميلة بين حدائق وأشجار هي لأهل لوزان متنزه حر وموضع جمال ومسرة، على أنَّا لم نكن نعني بتقصي ما في المدينة من آثار وعمارة بعد الذي شهدنا منهما بالعاصمتين الفرنسية والإنجليزية وبعد قصور جمعية الأمم في جنيف، ثم إن ما يحيط بالمدينة من غابات كان أكثرها اجتذابًا لنا كي نجد فيه هذا الهواء الصافي الصحيح الذي يقوي حب الحياة في نفوسنا. خرجنا ذات صباح إلى غابة قاصية يقطع الترام أكثر من ساعة في مسيره إليها في بطيح من الأرض لا يقع النظر حتى آفاقه على جبل أو شبه من جبل. وهبطنا قرب الظهيرة، فكان أول همنا أن نعرف أين نتناول غداءنا، وسألنا فدلنا رجل هو وحده الذي استمر معنا إلى غاية ما وصل إليه الترام، على مكان قال إنه الوحيد في الناحية، وقطعنا إليه مسيرة ربع الساعة، فإذا هو كوخ ما كنا لنرضى أن نجتاز بابه لو لم يضطرنا إليه أن لا سبيل إلى غيره، ودخلنا إلى صالة فسيحة كثيرة النوافذ، بها بار وبها بضع مناضد حولها كراسي من الخشب المكسو بالقش من ذلك النوع الذي عفا ولم يعد يرى إلا في أحياء العوز والمتربة. ولم يك إلا دقائق حتى دخل إلى المكان عدة أشخاص في قبعاتهم ريشة خضراء وهم يلبسون لباس الصيد ويحمل كل منهم بندقيته ويتكلمون لغة لا نكاد نفهمها. وجاءت خادم سألناها عما تستطيع أن تقدمه لغدائنا، فعلمنا أنها تصيد السمك من نهر قريب، ولكن صيدها لم يكن في ذلك اليوم مثمرًا. وكنا قد رأينا حول المكان دجاجًا، فسألنا أتستطيعين أن تطهي لنا منه شيئًا، فترددت، ثم أجابت رغبتنا بعد ما أخبرتنا أن الطهي يحتاج إلى ساعة أو نحوها، فوافقناها على ذلك، وخرجنا نقضي هذه الساعة في الغابة الهائلة الممتدة إلى ما لا نعرف حدوده نجد خلالها روعة جمال وبديع متاع، وعدنا بعد انقضاء أكثر من ساعة، فقدمت الخادم الطعام إلينا دجاجًا وبطاطس أقبلنا على التهامه بشهية، ووجدنا فيه لذة لم نجدها في أفخر طعام تقدمه أعظم الفنادق، مما جعلنا نأنس إلى هذا الكوخ الذي كان موضع ازدرائنا وتقززنا حين وقع نظرنا عليه ساعة مجيئنا، وعدنا إلى الغابات حتى قارب المغيب، فعدنا إلى لوزان ثم إلى أوشي وكلنا على طعام العشاء إقبال وله شهية.
وآن لنا أن نغادر لوزان إلى أنترلاكن، فركبنا البحيرة حتى مونتريه والقطار إلى مدينة اليونج فراو. هنا يقف بي القلم إن أنا حاولت وصف هذا الطريق يتعلق النظر والقلب والفؤاد بكل جزء منه؛ لأنه يرى في كل جزء منه جمالًا جديدًا. مرت الباخرة «بففي» فذكرت روسو، وذكرت هلويز الجديدة، وذكرت بيرون وشلي، فكنت لهم جميعًا عذيرًا مما بعثته هاته البقاع إلى نفوسهم من حب وشعر وولع بالجمال وجنون بالطبيعة. كلا! ليست ليمان هنا بحيرة، ولا هذه الأرض من حولها شواطئ، ولا هذه المرتفعات جبالًا، وليست تظلنا هاهنا سماء كالسماء التي تظل العالم كله، بل هذه صورة افتن فيها خيال روفايل فنقشها بريشته ثم قيل لنا هي ماء وشواطئ وجبال وسماء، وكيف سما خيال روفايل ليضع في هذه الصورة الساحرة ما فيها من حياة وغرام وفتنة وبهر! لقد كنت أرى على وجوه المسافرين جميعًا من طمأنينة النعمة الراضية، وفي نظراتهم من الاستسلام لروعة هذا الجمال، مثلما ترى في نظرة المحب وعلى وجهه ساعة يلتقي بمحبوبته الفاتنة. وهل كانوا يستطيعون مقاومة هذا السحر وما حولهم من موج البحيرة وضحك الزهر وابتسام الشجر ورقة الهواء وخضرة السفوح وحنان السماء كله سحر وحب وهوى؟! وظلت الباخرة تجري بنا فترينا من اختلاف مناظر الشاطئ ما يزيد في أسره ألبابنا، حتى بلغنا مونتريه قرب الظهيرة، وأخذ حمال متاعنا على عربة يد وتبعناه إلى محطة السكة الحديدية نصعد الطرق إليها في هذه المنطقة الجبلية تتجاوز مدنها الشوارع مرتفعًا أحدها عن الآخر أمتارًا عدة. على أنا لم نسر وراءه غير بعيد حتى رأيناه يجري بالعربة، ثم انعطف إلى طريق غاب فيه عن أنظارنا، حتى خيل إلينا أنه فر بمتاعنا فرار لص أثيم… وأغذذنا السير حتى بلغنا المحطة وجعلنا نلتمسه فيها فلم نجده، فقصصنا الأمر على أحد رجالها فقيل لنا إنه قد يكون في المحطة العليا. والمحطة العليا ترتفع عن المحطة السفلى أكثر من عشرة أمتار يصعد الإنسان إليها على درج أحسبه منقورًا في صخر الجبل، فأشرت إلى زوجي أن تنتظر حتى أصعد فأرى الحمال وما صنع الله به وما صنع هو بمتاعنا ثم أعود إليها، ووقفت أجيل بصري في هذه المحطة العليا، فإذا الفتى مقبل عليَّ يخبرني أنه التمسنا فلم يجدنا، وأنه أودع متاعنا في الأمانات، وأن القطار يقوم في الساعة الثانية. وذهبت معه إلى الأمانات، فاطمأننت حين رأيت كل شيء كما أحب، وحمدت في نفسي للفتى أمانته وجزيته عنها، ثم عدت فهبطت، وخرجنا من المحطة إلى فندق يقابلها نتناول فيه طعام الغداء انتظارًا لموعد قيام القطار في الساعة الثانية من بعد الظهر.
وركبنا القطار وبدأ مسيره، ولئن كان الطريق الذي مر به والذي مر به القطاران الآخران اللذان انتقلنا إليهما حتى وصلنا أنترلاكن كله روعة؛ بسمو جباله البديعة السفوح وأوديته الممرعة الخضرة، إني لن أنسى حياتي الساعة الأولى لمغادرتنا مونتريه حين جعل القطار يتسلق الجبل ثم يستدير صاعدًا، فتتبدى البحيرة منحدرة إليها سفوح خضر غاية في النضرة، ثم يستدير ثانية فإذا الجبل يعدل البحيرة جمالًا، ثم يستدير مرة أخرى فإذا البحيرة في منظر أروع وأشد سحرًا. في هاته الساعة كان السَّفْر يبدون من الإعجاب كلما تبدت البحيرة لناحية منهم ما جعل العربة والقطار كله إعجابًا متصلًا. ويرتفع القطار فوق الجبل وتتبدى البحيرة أمام المنظر تتسع خضرة السفوح الفاصلة بيننا وبينها في كل استدارة للقطار فترينا منظرًا جديدًا عجبًا. وبعد استدارة أخرى أوغل القطار في الجبل يشق طريقه إلى سويسرا الألمانية.
وبلغنا أنترلاكن في الساعة العاشرة من المساء، وأوينا إلى فندق فيكتوريا ويونج فراو. وأنترلاكن قرية صغيرة لا يزيد سكانها من السويسريين على ألفين، ولكنها مصيف قد يقصد إليه عشرات الألوف كل صيف تجذبهم الأوبرلند تتجلى الألب فيها بما لا تتجلى بمثله من روعة في سائر أنحاء سويسرا مما شهدت؛ ذلك أن الألب فيها عظيمة الروعة بارتفاع قممها، وبأن الإنسان شارك في تجميلها وفي تيسير ألوف الأمتار التي ترتفعها ليصعد المصطافون إلى قممها أو ليخترقوا جوفها. هذا إلى أن بحيرة ثون وبحيرة بيين المحيطتين بها تبلغان الغاية من الروعة حين تحصرهما القمم الرفيعة تتراءى بعضها في إثر بعض، حتى لترى أحيانًا قممًا ثمانيًا تقابل نظرك، وترى الماء منحدرًا منها إلى البحيرة في اندفاع وقوة تحيلانه رغاء وزبدًا. ومما شارك الإنسان الطبيعة فيه مما حول أنترلاكن كثيرًا ما أذكر منه هنا ثلاث صور تصدم كل واحدة منها الخيال وإن تفاوتت في ذلك بين العجب المخيف في هاردركلم، والدهشة المرتاعة في بياتس هوهلن، والإجلال والإكبار في اليونج فراو. فأما الهاردركلم أو قمة الهاردر فالعجب فيها هو القطار الصاعد إليها. هو لا يصعد على السفوح منعرجًا مع ميولها كما كان يصعد القطار الذي ذهب بنا إلى الساليف أو إلى ثلوج بيوناساي في السافوا العليا، بل هو يصعد في خط مستقيم على شريط حديدي معلق فوق أخشاب في الهواء يعتمد على قواعد متينة فوق الجبل، ويصعد في زاوية أكثر من نصف قائمة. وهو قريب من أنترلاكن يصل إليه الإنسان في أقل من ربع الساعة سيرًا على الأقدام. ذهبنا إليه أصيل الغداة من وصولنا إليها، فألفينا المحطة في بناء به ثلاث غرف يصعد الإنسان إليها عشرين درجة أو نحوها، ومنها دخلنا إلى القطار عجلاته تحت عربته في مثل المثلث، ليكون الجلوس فيه مستريحين على مقاعد أفقية. وصعد القطار، فلم يكن إلا دقائق حتى كنا وإياه معلقين في الفضاء فوق شريطه، وحتى كنا ننظر من زجاج نوافذه فلا نرى حولنا إلا فضاء. وبدا على وجه بعض الراكبين نوع من الوجل خيفة أن يهوي وأن نتحطم فوق صخر الجبل. والقطار يسحبه جنزير تديره الكهرباء فيصعد ونصعد معه، فلما كنا عند منتصف الطريق مر بنا القطار الهابط، وظللنا نحن في ارتفاعنا حتى وصلنا القمة، فسرنا فوقها إلى فندق قريب من المحطة تناول المسافرون فيه فنجانًا من الشاي، لكن الجو ما لبث فيه أن دكن فلم يسمح لنا بمقام طويل فوق هذه القمة. درنا فيها فإذا الطرق الممهدة قليلة، وكأن الغاية من الصعود إليها أن يحدق الإنسان إلى سلاسل الألب في الأوبرلاند. ودكنة الجو تحجب بين النظر وهذه الجبال، فلا خير في المقام وقد انقطعت السبيل إلى هاته الغاية.
فأما البيانس هوهلن فيثير الدهشة المرتاعة حقًّا. أخذنا إليه الترام عند آخر البلد المتصل ببحيرة ثون، وانطلق بنا في طريق جميل محصور بين شاطئ البحيرة وسفح الجبل حتى وقف بنا في المحطة التي تؤدي إليه، وتسلقنا الجبل بضع مئات من الأمتار قامت على جانبي طريقها المتعرج في صعوده أشجار وحشائش، حتى كنا عند فوهة في الجبل تخطينا إليها بعد رسم دفعناه، فإذا بنا في فوهة مغارة نقرت في مختلف جوانبها كهوف صورت فيها تماثيل تصف حياة القديس بياتوس التي سميت هذه المغارة باسمه؛ فترى تمثال هذا الشيخ الطويل اللحية البيضاء وأمامه أدوات ما كان لأهل العصور القديمة، وفي كهف آخر تماثيل أهل العصر الحجري، وهلم جرًّا. وجاء الدليل خارجًا من فوهة المغارة الموغلة في جوف الجبل يتبعه زوار سبقونا إليها، وآن لنا أن ندخل بدورنا، فإذا نحن في مضيق من الصخر أشبه بأبواب بعض الأهرامات، وإذا بنا نوغل ثم نوغل في جوف الجبل وتضيء لنا الكهرباء الطريق نصف إضاءة لا تذهب بالظلمة ولا تذهب بالروعة. وبعد مسير عشر دقائق في هذه الدهشة الموحشة بدأنا نسمع خرير الماء في أعماق جوف الجبل، كأنما انفجر فيه شريان فهو مقبل علينا يكتسحنا. وما هي إلا لحظة حتى كنا نصعد درجًا نعبر بعده على قنطرة من خشب تقينا الماء وفيضانه. ونوغل ثم نوغل يتقدمنا الدليل ونحن آنًا نصعد درجًا وآنًا نهبط درجًا غيره، وثالثًا نكاد نخطو في الماء، وأنوار الكهرباء خلال جوف الجبل قد نظمت ولون بعضها بما يزيد المكان الموهوب مهابة والمدهش دهشة. وكنا نقف فوق قنطرة من الخشب نحدق دونها إلى الماء يتسرب خلال الجبل، فإذا موقفنا إلى جانب رجل وسيدة سبقانا إلى هذا المكان ثم بقيا لا تنفرج شفاهما عن كلمة إعجاب؛ لأنهما صنعا من الشمع ووضعا في هذا المكان العجيب ليزيداه عجبًا وإغرابًا. ويقص الدليل دقائق المكان مما خلفت العصور البعيدة في أطوار التاريخ في الصخر من آثار بعض الأسماك أو الحيوان أو ما يزعم أنه نقر المعتزلة الذين اختاروه مقامًا لهم أيام بياتوس وأتباعه من بعده، ونحن مأخوذون عن قصصه بعجيب ما حولنا وبموقفنا هذا، وقد ابتلعنا الجبل في جوفه كما ابتلع الحوت يونس في القصص المقدس، وانشعبت أمامنا المسالك حتى كدنا نضل لولا ان تقدمنا الدليل خلال شعبها، فلما آن لنا أن نخرج من جوف الجبل بقينا في دهشتنا وذهولنا حتى ركبنا الترام، ووصلنا إلى الفندق ساعة طعام العشاء.
وكان برنامجنا في الصباح أن نرتقي اليونج فراو المرتفع أربعة آلاف وثلاثمائة متر في هذه القطارات الصاعدة التي أنفقت الشركة السويسرية في إنشائها أكثر من عشرة ملايين فرنك ذهب، فلما جاء لنا الخادم بطعام الإفطار سألناه عن حالة الجو وهل هو ملائم أن نصعد، ونحن في خيفة أن يصيبنا ما أصابنا في جنيف يوم صعدنا الساليف، فأجابنا بأن السماء محملة بالسحب، وأن جو أنترلاكن ينذر بأن يكون مطيرًا اليوم كله، وأن التصعيد في الجبل وفوق السحاب خير ما نتقي به ظلمة اليوم. فلما أخبرناه بخبر الساليف ابتسم ابتسامة معجب باليونج فراو (السيدة الصغيرة) وذكر أن ارتفاعه إلى أضعاف ما يرتفع الساليف يسمو به فوق السحاب وفوق المطر. ولم يكذبنا الرجل؛ فقد خرجنا وركبنا القطار والمطر يداعب الوجوه مؤذنًا بأنه سينهمر بعد ساعة صيبًا هتونًا. وانطلق القطار مارًّا بمحطات شتى حتى وصل بنا إلى القطار الصاعد والسحب في الجو تزداد كل ساعة تراكمًا، وذهب القطار الصاعد يتسلق السفح تارة ويجري في بطيح فسيح من الجبل أخرى، ثم يتسلق ثم يجري، وهو كلما ازداد تصعيدًا ازدادت السحب من حوله تكاثفًا. حتى كنا في لجة لا نرى خلالها إلا مثل ما نرى في لجة ماء البحر إذا أنت غطست فيه. وظللنا كذلك زمنًا، ثم إذا القطار يخترق اللجة فجأة وينفذ منها، فإذا الشمس ساطعة والسماء صفو والجو إبداع، وإذا هذه اللجة تنحدر إلى أسفل منا، كلما أمعن القطار في صعوده، وإذا القمم تتبدى صاعدة من خلالها ممتدة إلى غاية مدى النظر، حتى لكأنما غرس هذا السحاب كله قممًا. ونزلنا من القطار في البطيح، وانتقلنا إلى القطار الصاعد إلى قمة اليونج فراو، وما هو إلا أن صعد بنا ثم استدار حتى دخل بنا في نفق جعل يصعد أثناءه ثم يصعد ويصعد، ونحن لا نعرف متى ينتهي النفق ولا إلى أي شيء ينتهي، ووقف القطار في محطة ونزل المسافرون منه فيها بإزاء كهوف فسيحة نقرت في الجبل، وينفذ النور من أشباه النوافذ فيها غطيت بالزجاج السميك اتقاء للبرد وأعاصير الطبيعة. وذهبنا إلى أحد هذه الكهوف على مقربة من النافذة، فإذا المنظر يقع منها على سفوح بيضاء لا يدرك حدودها، قد كستها الثلوج ثوبًا ناصعًا. ووضعت عند هذا الشبه النافذة مناظير مقربة يميلها الناظر إلى حيث شاء ليرى هذا العالم من الثلج الذي تخترق خلاله، والثلج لا شك يعلو هذا النفق الذي نسير فيه ما دام يمتد على ما دونه من قمم وأباطح. وعاود القطار مسيره حتى وقف بنا عند غايته، فهبطنا منه وصعدنا في رافع (أسنسير) وقف بنا في فناء غرفة الطعام، دخلنا إليها فإذا هي نقرت في الجبل، ونسقت أبدع تنسيق، وفرشت أوثر فراش، ودفئت وأعدت فيها خير وسائل الراحة، مما يجعلك وأنت في قمة من أعلى قمم الألب تجد من الرفاهية ما تجده في خير الفنادق وإن دفعت ثمنها غاليًا. وتناولنا طعام الغداء، ثم آن لنا أن نتسلق إلى القمة، وأن نخرج من فوهة النفق المؤدية إليها. يا لجلال الطبيعة وإبداع فنها البارع الباهر! ما كدنا نرتقي الدرجات القليلة ويأخذ الدليل بيدنا ونمسك العصي المدببة لتعاوننا في سيرنا، ونسير بضع خطوات، حتى أحسسنا أن عيوننا تكاد تعشى دون مقاومة لألاء هذا الضياء ترده الثلوج من أشعة الشمس الساطعة. وحاولنا الإمعان في السير، فأنذرتنا الثلوج تحت أقدامنا بالتعرض للانزلاق في كل خطوة نخطوها برغم العصي التي نعتمد عليها. وجازفنا مع ذلك وسرنا، فإذا إلى يميننا قبو نصح أهل المنطقة إلينا بالدخول فيه، فإذا هو مغارة كلها من الثلج قد مدت الكهرباء داخلها لتنير السبيل لمن يسلكون سبيلهم خلالها. وخرجنا من مغارة الثلج إلى بقعة من القمة كشفت عنها الثلوج وأحيطت بسياج من الخشب يحمي اللاجئين إليها من السقوط في الوهاد السحيقة المحيطة بها والمكسو بعضها بالثلج، على حين تجرد بعضها الآخر، أن ذاب أثناء الصيف ثلجه. وأحاطت بهذه البقعة وهاد وقمم تتالى أمام النظر، فينتقل من إحداها إلى الأخرى وهو بها وبالثلوج التي تكسوها وبهذا الجو الجبلي المنعش مغتبط أشد اغتباط. وكان الثلج يكسو أقرب الوهاد من بقعتنا، فيتخذ محبو الرياضة الجبلية طريقهم إليه يسيرون أو ينزلقون فوقه، ونحن فوق قمتنا وقوف نرقبهم ونزداد بمشاهدتهم غبطة على غبطتنا ومسرة على مسرتنا. وبقينا كذلك حتى آن للقطار أن يعود، فالتمسنا من جديد فوهة النفق، ونزلنا على الدرج إلى حيث «الأسنسير» وإلى حيث القطار الذي انحدر بنا خلال النفق حتى انتقلنا منه إلى القطار الثاني الذي ما لبث أن زج بنا من جديد في لجة السحاب لا سبيل إلى رؤية شيء من خلالها، وإن هوى بعد ذلك تهتن الأمطار فوقه، حتى إذا كنا من جديد بأنترلاكن كانت المدينة غرقى بمطر النهار كله، وكان قضاء الأمسية في الفندق أمرًا لا مفر منه.
وفي ظهر الغد ركبنا القطار إلى لوسرن بعد أن أعد رجال الفندق لنا طعام الغداء نتناوله أثناء الطريق؛ إذ لم يكن بالقطار عربة للطعام. وأعاد القطار في تلويه بين بحيرة بيين وبين الجبل صورة مصغرة من المنظر الذي رأينا عند مونتريه. وبلغنا لوسرن في المساء، فلما أصبحنا جعلنا ننعم ببحيرتها البديعة الجمال، وبمنظر جبلي الريجي والبيلات من حولها وبالزوارق تخطر فوق لجها، وشاركنا راكبي هذه الزوارق كما شاركناهم من قبل على بحيرة ليمان. فلما كان الغد أرشدنا دليل «بدكر» إلى غابة أخذنا القطار الصاعد إليها وجعلنا نجوس خلالها، حتى إذا كانت الظهيرة التمسنا مكانًا نتناول فيه طعام الغداء. ومع أن الدليل ذكر لنا أن بالغابة مطعمًا جميلًا، فقد وقفنا عند بناء خلناه هذا المطعم ولم يكن إياه، ولم نكن نعلم هذا! فجعلنا نطوف حوله نلتمس بابه، فإذا أبوابه موصدة كلها، وإذا بنا نعتقد أن لا سبيل لنا إلى طعام ما دام المطعم مقفلًا. على أن طوافنا هدانا في جانب منه إلى جوسق من خشب وضعت أمامه موائد ومقاعد، فحسبناه المطعم. وصفقنا فجاءت امرأة سمينة مفتولة الساعد حمراء الوجه تسألنا بالألمانية ما نريد؟ وعبثًا حاولنا أن نخاطبها بالإنجليزية أو الفرنسية؛ فهي لا تعرف غير الألمانية ونحن لا نعرفها؛ وإذن فلا سبيل إلى تفاهم إلا بالإشارة، وأشرنا إلى أفواهنا علامة أنا نريد أن نأكل، فجعلت ترطن ونحن لا نفهم، ثم انتهينا إلى أن قامت زوجي معها لترى ما قد يكون من طعام عندها، ثم عادت فذكرت أن غداءنا اليوم بيض ولحم بارد. ومع تفاهة هذا الطعام فقد اغتبطنا به أشد الاغتباط، وفاض بنا السرور أثناء تناوله ومن بعده، ونعمنا بهذه السعادة التي أحاطت بنا كل مقامنا بسويسرا والتي لم تكن في شيء معين، بل كانت في هذا الجو السعيد الصافي الذي يبعث إلى النفس نشاطًا يزيد فيها قوة الحياة فيعلو بها على الضعف وينسيها أحداث الزمن.
وقمنا بعد طعامنا لنطوف بالغابة، فلم نمضِ في السير أكثر من نصف الساعة حتى كنا عند هذا المطعم الذي أشار الدليل إليه، على أن ذلك زادنا غبطة بطعام الجوسق، وسرورًا بنزهتنا الجميلة خلال الغابة الفاتنة.