في البندقية
البندقية! اسم ساحر جذاب لهاته المدينة التي أنبتها الماء، كما ينبت الصخر والشجر، وأنبتها فوق سبع عشرة ومائة جزيرة لا تتصل بغيرها من المدائن، وليس فيها غير الماء وسيلة للنقل بين بعض جزرها والبعض الآخر، مما جعل أهلها في عزلة تميزهم من غيرهم؛ وهي مع ذلك مهبط فن جميل يرجع في تاريخه إلى عصور قديمة كانت البندقية فيها ذات تاريخ مجيد في التجارة وفي الحضارة وفي السلطان، وكانت مرفأ من أكبر مرافئ بحر الروم ومن أشدها منعة وقوة.
لذلك كانت البندقية وما تزال ساحرة جذابة تهوي إليها الأفئدة، وتود أن تستمتع بها الأعين، وقلَّ أن لم يقصد إليها مسافر في إيطاليا، بل هي وجهة كثيرين يقصدون إليها من أقاصي العالم يشهدون فيها عظمة الماضي وسلطان الطبيعة وجمال الحاضر، ويشهدون فيها صناعات بديعة دقيقة إن وجدت في غيرها فهي لا توجد بهذا الإبداع ولا بهذه الدقة.
ولقد قصدت زيارتها عام ١٩١١ أثناء عودتي من باريس إلى مصر عن طريق سويسرا وإيطاليا، وكنت يومئذ في آمال الصبا وزهو الحياة، أحسب ما في الحياة ملكًا لي أصرفه أكثر مما يصرفني، وأنال منه أكثر مما ينال مني؛ لذلك كفاني أن علمت وأنا بميلانو أن مياه الشرب مقطوعة من البندقية، وأنها قد تظل كذلك أيامًا حتى عدلت عن زيارة المدينة الظمأى ناسيًا أو متناسيًا أن فيما قد يجلب إليها من المياه المعدنية وغير المياه المعدنية ما لا يذر إنسانًا ظمئًا. ومالي أزور مدينة ينقصها بعض أدوات الحياة مما قد أكون إليه بحاجة، أو مما قد يعجبني أن أحتاج إليه! ولم أكن في هذه السن قدرت مبلغ ضآلة الإنسان في الحياة وخضوعه لها، ومبلغ قصر الحياة وسرعة مرها؛ لقد كنت معتزمًا العودة إلى أوربا لإتمام دراستي بعد أشهر أقضيها بمصر، وبعد أشهر تكون أنابيب ماء البندقية أصلحت، فلأعدل إليها في طريقي يومئذ في غير خشية ألا أجد ما قد يعجبني أو أحتاج إليه.
وعدت في أواخر سنة ١٩١١ إلى باريس، ولكن من طريق مارسيليا، وأتممت ما ذهبت إليه وعدت إلى مصر في سنة ١٩١٢، ولكن من طريق مارسيليا كذلك، وغامرت في ميدان الحياة، ثم ما هي إلا أشهر معدودة، ما هي إلا سنة ١٩١٤ حتى أعلنت الحرب بين دول أوربا، وحتى صار الذهاب إلى أوربا محفوفًا بالمصاعب. وشهدت البندقية من آثار الحرب ما شهدت غيرها من المدائن أو أشد من بعض المدائن هولًا، ثم كانت الهدنة فالصلح فالحركة المصرية فالمشاغل التي تخضع الإنسان للحياة غير مختار. فلما قصدت إلى أوربا ألتمس في ربوعها الجميلة مصحًّا أستشفي أنا وزوجي فيه من مصابنا، زرت المدائن والأماكن التي عرفت شابًّا، والتي شهدتني وحيدًا سعيدًا بوحدتي مملوءًا بقوة الأمل في الحياة والتسلط عليها، فإذا بها تشهدني وقد تركت في نفسي كلومًا إن لم تضعضع من أملي وقوتي فقد خلطته من المرارة بما لم أكن أعرف في بدء الصبا وفي ميعة الشباب، إلا أن يكون ذلك حبًّا في أن أستمتع من الحياة بكل ما فيها من حلو يغيب عن الشباب رحيق حلاوته، ومن مر إن عرف الشباب لون مرارته فقد غاب عنه طعمه.
وكنت في هذه المرة شديد الحرص على أن أرى البندقية ولو انقطعت عنها مياه الشرب وفتك بالناس فيها الظمأ. وفيما يجري بنا القطار من ميلانو إليها عاودتني في ابتسامة ذكرى سنة ١٩١١، وهل تعاود الإنسان ذكرى الشباب في غير ابتسام! وإن إخفاقًا في الشباب تغالبه فتغلبه لأكثر ابتسامًا من مجد تنظر من عليائه إلى الحياة فلا ترى بعده إلا منحدرًا. فلما تخطى القطار اليابسة فوق الجسر الذي يفصل القارة عن المدينة الجزيرة، انفسحت عن يميننا ويسارنا آفاق الماء المختلط عندها بالسماء، وشعرنا بالبندقية تقترب، وتصور الذهن «الجندولا» زورق البندقية، وعادت إليه ذكريات ما سمع وقرأ عن كنيسة سان مارك وميدانها، وعن قصورها الفخمة، وعن شوارعها وطرقها المائية كلها، والتي تخطر فيها الجندولات ذاهبات آيبات.
في أي فندق تنزل؟ هذا هو السؤال الذي يرد إلى خاطر المسافر أول ما يقترب من مدينة يريد أن يحط فيها رحاله، وذكرت إذ ذاك حديثًا جرى بيننا وبين بعض أصحابنا في لندن، ومنهم من كان قنصل مصر في تريستا وزوجه، وقد تناول الحديث البندقية وآثارها، فلما عرفت زوج القنصل أنَّا قد نزور البندقية أشارت من بين آثارها إلى قصر قديم أصبح فندقًا باسم دانيلي، ووصفت ما فيه من زخرف العمارة وصفًا مشوقًا، فما لبثنا حين خرجنا من فناء المحطة وأحاط بنا رجال الفنادق أن نادينا برجل «دانيلي» ناولناه متاعنا فوضعه في جوندلته، ثم أعاننا حتى نزلنا إليها ودفع بها في القنال الكبير الذي يقسم المدينة شطرين كما يقسم السين باريس والتيمس لندن، وكما سيقسم النيل القاهرة عما قريب.
تحل الجندولا في البندقية محل العربة في سائر المدائن، وكما جنت الأوتموبيلات والتراموايات ووسائل النقل الميكانيكي على العربات بجيادها المطهمة، فقد بدأت الزوارق البخارية والسفن البخارية الكبيرة تجني على الجندولات في البندقية، وإن كان أهلها لا يزالون حريصين على الاحتفاظ بها احتفاظًا بطابع قومي كان رمزًا لهم كما يرمز لمصر ببعض آلهتها القومية. لكن الحضارة الحاضرة تجني على الآلهة، وتجني على العربات والجندولات في غير رحمة باسم التقدم والعلم؛ لذلك بدأت الجندولات الفاخرة تختفي وتحل الزوارق البخارية الجميلة السريعة محلها، ولم تبقَ إلا الجندولات العادية المعدة للإيجار وبعض جندولات احتفظ بها أصحابها أثرًا نفيسًا من آثار الماضي.
وتمتاز الجندولات على غيرها من الزوارق بأنها سوداء اللون طويلة ضيقة ترتفع على مقدمها ومؤخرها عمد من خشب مزخرف ينتهي باستدارة مستعرضة كأنها رأس الأفعى الحارس الذي يرسم على قبور قدماء المصريين، ومجاديف الجندولا ليست متصلة بها، بل يمسكها النوتي بيده ويعتمد على التجديف بها على جانب الزورق. وأهل البندقية صغارًا وكبارًا ذوو مهارة في تسيير جندولاتهم، وفي تفادي تصادم بعضها ببعض في أضيق الطرق وفي أحرج المنعرجات.
وسارت بنا الجندولا في القنال الكبير تقوم على شاطئيه قصور قديمة كما تقوم أيضًا منازل قديمة، حتى كنا عند جسر ريالتو يتخطى الناس القنال الكبير فوقه. وجسر ريالتو أو كبري ريالتو واحد من أكبر جسور البندقية الكثيرة التي تعد بالمئات. وجسور البندقية — إلا الصغير منها — عقود مقوسة من الحجر مما يضطر الناس إلى الصعود فوقها بدرج ثم النزول إلى الشاطئ الآخر بدرج كذلك، فأما جسر ريالتو فله من الامتياز على ذلك أنه محاط من جانبيه بعمد مزخرفة عقد فوقها جسر آخر لا يرتفع إليه أحد، ومن بعد هذا الجسر بقليل استدارت بنا الجندولا في طرقات ضيقة اختصارًا للطريق. وفي هذه الطرق الضيقة يتنادى المجدفون عند كل منعرج بصوت منغم لحرفي «هو» كما ينبه سائقو الأوتموبيلات بنفيرهم عند كل انحراف أو تقاطع في الطرق والشوارع.
ووصلنا «دانيلي» وارتقينا من الجندولا إلى سلمه النازل في الماء، واخترنا غرفتنا: إنه لقصر منيف، وهو قصر من طراز القصور القديمة، صنع أكثره من المرمر، وزينت نوافذه بزجاج ملون كزجاج الكنائس وبعض المساجد، يقابل الداخل من الباب بهو متسع يفضي إلى غرفة استقبال أكثر من البهو سعة وأدق عمارة. ولم نطل المكث فيه ساعة وصولنا، بل ما كدنا نزيل عنا غبار السفر حتى خرجنا والنهار في أخرياته نجتلي منظر الأدرياتيك، ونرى بعيدًا عن كبرى جزائر البندقية جزرًا أخرى منثورة تقوم فوق بعضها كنائس تظهر للنظر قبابها، وتبدو على البعض الآخر مساكن لا تستثير تطلع الناظر إليها. واستدرنا إلى يميننا وتخطينا جسرين بنيا أمام قصور أمراء البندقية الأقدمين، وانعطفنا يسرة فإذا بنا أمام ميدان سان مارك.
أليس حمام سان مارك حرامًا على كل يد قاسية! وقد كانت الحكومة تطعمه في الماضي وأيام الأمراء وتنزل بمن يعتدي على أية حمامة منه أشد الجزاء، أما اليوم فقد حل شعب البندقية محل الحكومة، وانعقدت بينه وبين حمام سان مارك الأزرق اللون في شيء من الخضرة التي تكسوه جمالًا وبهجة، ألفة وصداقة، حتى صار الاعتداء على هذا الطير الرقيق الأليف اعتداء على شعب البندقية يدفعه بما يدفع به العدوان على فرد من أفراده أو جماعة من جماعته.
الوقت مساء والنهار ولَّى، وليس إلى اجتلاء جمال الكنيسة والعمد والأبراج سبيل. فلندُرْ إذن في الميدان دورة قبل أن نعود إلى الفندق، وحذار أن تعثر القدم بإحدى حمائم سان مارك أو أن نزعجها، وليس ذلك احترامًا لعواطف شعب البندقية وكفى، ولكن جانب الخير في النفس الإنسانية يتغلب ما وجد مظاهر الخير في الجماعة بادية. والقسوة والشر لا يملكان الفرد إلا إذا اختفى المثل الصالح من أمامه، والقاسي يهيجه الدم ما رأى الدم، لكنه إن أحيط بعواطف الخير فقد حق على قسوته أن تنكمش حتى تتلاشى، فأما رجل الخير فيقطب للقسوة جبينه ولا يلجأ إليها إلا كارهًا، وهو ما رأى الرفق والبر والرحمة مطمئن لها فرح بها مغتبط بالحياة وبالنهل من وردها أشد الاغتباط.
ودرنا في ميدان سان مارك ثم عدنا إليه بعد طعام العشاء، ثم عدنا إليه في الغد وفي الأيام التالية إلى حين غادرنا البندقية ونحن نجتلي منه في كل مرة جديدًا؛ ذلك أن هذا الميدان قلب المدينة، معرض عام لكل صناعتها وتجارتها وفنها، وفيه معرض لكل ما تستطيع البندقية أن تجلوه للسائح من صناعة إيطاليا وتجارتها وفنها. وأشد ما يلفت النظر في الجوانب الثلاثة التي تشرف عليها الكنيسة من صدر الميدان دنتلا البندقية، والزجاج المصنوع فيها، ونقش الجلود نقشًا فنيًّا. وما أحسب سيدة من السيدات ذهبت إلى البندقية إلا سحرها هذا الميدان عن أن تشهد شيئًا غيره، لولا ما يكلفها ذلك من نفقة باهظة قد تجد في سائر كنائس البندقية وجزائرها المختلفة ملجأ للفرار منها. والحق أنهم يعرضون الدنتلا في صدور حوانيتهم عرضًا يهوي إليه لب الرجل، وما بالك بلب المرأة! ولست في هذا الصنف خبيرًا حتى تستوقفني دقائقه وإن اضطررت للوقوف مع من يعرف هذه الدقائق، وإن وجدت في ابتسامات الباعة والبائعات وفيما يجري من الحديث عن هذه الحلي التي تزيد الجميلة جمالًا في كل أجزاء جسمها ما جعلني أصغي لهذا الحديث بكل سمعي. فأما النقش على الجلد فكان يجذبني مباشرة ومن غير واسطة، وللكتب وجلودها، كعوبًا وزوايا، فضل في ذلك غير قليل. فكثير مما وقع في يدي منها أثناء مطالعاتي بالمكاتب المختلفة كان من مخلفات عشاق زخرف وقاء الكتب، وكان ذلك آية من آيات فن النقش على الجلد، لكن أهل البندقية لا يعرضون كتبًا في صدور حوانيتهم، يعرضون محافظ كبيرة ومحافظ للجيب وشباشب للسيدات كلها إبداع أي إبداع. ولعل السائح أقل ما يكون تفكيره في كتاب مزخرف التجليد ليهديه لزوجه أو لصديقه أو لصاحبته. ولشبشب مزخرف الجلد تخطر به فاتنة على سجاد عجمي وثير أبعث للوحي وأنفذ إلهامًا من كثير من الكتب المتقنة التجليد.
وصناعة الزجاج مزدهرة في البندقية أي ازدهار، ولقد أتيح لنا أن نرى معارض هذه الصناعة، وأن نرى كيف يقومون بها، ويكفي أن تقف إلى جانب العاملة التي تصنع الفسيفساء لتعجب لأناتها وصبرها وهي تأخذ قطعًا صغيرة من الزجاج المختلف الألوان، ثم ما تزال تضع كل لون في المكان الواجب أن يوضع فيه حتى تكون الصورة التي تنتج من ذلك في بهاء الصورة التي يراد رسمها. ألوف وألوف من هذه القطع يوضع بعضها إلى جانب بعض على لوح أبيض كما يضع النقاش ألوانه، لكن النقاش يستطيع أن يغير وأن يمحو وأن يصلح الخطأ؛ فأما الخطأ في نقش الفسيفساء فيجب أن يزال أولًا، وإزالته ليست أقل دقة من وضع الصواب من أول الأمر، أو من وضعه مكان الخطأ. وإذا كانت صناعات الزجاج الأخرى لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه الفسيفساء من عناء فهي ليست لذلك أقل دقة ولا بهجة.
وفي الحوانيت الفسيحة على جوانب الميدان الثلاثة صفت هذه الصناعات، وصفت إلى جانبها غيرها مما ترى في إيطاليا كالتماثيل والصور، فإذا دخلت ألفيت معارض واسعة تقع العين فيها على ما تحار فيه إن كلفتها الاختيار منه، ولعل هذه الحيرة هي التي تنقذ كثيرين من باهظ النفقة، إذ يعدون أن يعودوا، ثم تشغلهم مناظر البندقية حتى يغادروها.
وفي ضحى وصولنا إلى البندقية صحبنا دليل دخلنا وإياه إلى كنيسة سان مارك، وسان مارك هو القديس الحارس لمدينة البندقية، نقل أهلها رفاته إليها من الإسكندرية في سنة ٨٢٩ بعد الميلاد، وبنوا الكنيسة فوق القبر الذي ثوى فيه سنة ٨٣٩، ثم أعيدت عمارتها بعدما التهمتها النيران في سنة ٩٧٦، وجددت على الطراز البيزنطي في منتصف القرن الحادي عشر. وهي شرقية العمارة ككثير مما في البندقية، ولها قباب خمس شبهها بقباب المساجد غير قليل. والقباب الأربع التي تحيط بالقبة الوسطى تقوم فوق بناء على صورة صليب متساوية أضلاعه. وأرض الكنيسة وسقفها وجدرانها بدائع فنية ليس لها في غيرها مما رأيت من الكنائس نظير. نقشت الجدران والسقف بالصور المقدسة نقشًا بالفسيفساء والذهب والمرمر، فكانت كل صورة، بل كل قطعة، آية في جمال الفن ودليلًا على الدقة والأناة. وإذا كان ما شهدنا من صناعة الفسيفساء وما تحتاج إليه من صبر ودقة قد التجأ إليه الذين زخرفوا سان مارك فما أصبرهم حبًّا في الفن وابتغاء لوجه الله، وإن ما تشهد به سان مارك وما تشهد به كنائس البندقية الكثيرة ليقوم دليلًا على أن الإيمان وحده هو القوة التي تسمو فوق الطبيعة وفوق العقل وفوق التصور والتي تتم المعجزات، وعلى صدق كلمة الإنجيل أن لو ملأ الإيمان قلبك وقلت لهذا الجبل انتقل من مكانك ينتقل، فهو الإيمان بالله وبأوليائه الذي دفع أولئك الفنانين ليتموا في سان مارك وغير سان مارك بدائع في الفن معجزة، وهو الإيمان بالعلم وسلطانه الذي أخضع للإنسان قوى الطبيعة التي لم تكن تخضع من قبل للإنسان ولا لغير الإنسان.
وعلى مثال المساجد وغير المساجد من آثار العمارة الشرقية تحيط بالكنيسة من خارجها وتنتشر في داخلها عمد من الرخام الدقيق الصنع يبلغ عددها خمسمائة، ويعتلي باب الكنيسة المزخرف أجمل الزخرف بالفسيفساء المذهب تماثيل أربعة جياد من البرونز المذهب، كذلك ذكر الدليل أن أحد دوقات البندقية جاء بها من القسطنطينية في أواخر القرن الثالث عشر فزين بها هذا المكان المقدس، كما زعم أن نابليون أخذها أثناء غزوه إيطاليا، ثم أعيدت من بعد ذلك إلى حيث هي اليوم مثال حسن ودقة في الصناعة.
إلى جانب كنيسة سان مارك يمتد قصر دوقات البندقية مطلًّا من جانب على مدخل ميدان سان مارك، ومن الجانب الآخر على مياه الأدرياتيك. ودوقات البندقية هم حكامها أيام كانت جمهورية مستقلة تصل الشرق بالغرب وتتأثر دائمًا بالحضارة الغالبة، ولقد ترك الشرق فيها من الآثار الباقية أكثر مما ترك الغرب؛ فكنيسة سان مارك شرقية العمارة والزخرف، وأكثر كنائس البندقية وقصورها شرقية مثلها، ومن بين هذه القصور قصر الدوقات قام به أمراء البندقية عندما كانت البندقية جمهورية مستقلة، ثم أصبح اليوم متحفًا تعرض فيه النقوش والصور والتماثيل كما تعرض في غيره من قصور البندقية القديمة، وكما تعرض في كثير من القصور في فلورنسا وفي روما، في هذه القصور التي كانت في الماضي متاعًا لأمير أو لمحظية ملك، ثم جعلتها الحرية متاعًا مشاعًا للشعب كله يجتلي فيه من آثار الفن والعلم ما كان حرامًا على الشعب واستغلاله. ما أفخم قصر الدوقات هذا! يتخطى الإنسان بابه الخارجي إلى فناء فسيح يصعد بعده على سلم من الرخام إلى ديوان يطل على الفناء، ثم يدخل إلى غرف القصر فيرتقي إلى الطابق الأول سلمًا عريض الدرجات ما يكاد ينتهي منه حتى تقابله غرف القصر الفسيحة تغطي جدرانها أبدع النقوش والصور. وإن أنسَ لا أنسَ من غرف القصر غرفة مجلس أمير البندقية، مستطيلة تزيد على خمسة عشر مترًا في العرض وأربعين في الطول وقد صفت فيها المناضد كما تصف في مجالس الشورى. وفي صدر المكان منضدة رفيعة كانت مجلس زعيم الأمراء. دع عنك التاريخ وما كان الأمراء يصنعون، وقف محدقًا إلى هذا الجلال والجمال في الفن والعمارة حتى يبلغ منك الإعجاب حد الذهول. ويقول صديق كان معنا وهو يحدق معجبًا إلى الصور لتستوقف نظره صورة نقشت في السقف تمثل البندقية جالسة على عرش العالم لتشيع فيه العدل والسلام: «أليس هذا بعض فضل الاستبداد، كما أن الكرنك والأهرام وأبا الهول في مصر بعض فضله؟! وإذا استمتعت الشعوب بما تستمتع به اليوم من بدائع آثار الفن فهل ذلك إلا أن الاستبداد كان خيرًا في عصر من العصور؟!» ثم يقف هنيهة يراجع فيها نفسه ويذكر أن روح الجماعة الحرة قد شادت مثل ما شاد المستبدون، وأن آثار فن اليوم ليست أقل روعة وجلالًا من آثار فن الأقدمين.
وفي جانب القصر المطل على مياه الأدرياتيك والذي يجتلي الجزر القريبة، بهو تبلغ مساحته ضعف مساحة غرفة المجلس، لعله كان ملهى لأمراء البندقية وملعبًا للكواعب الحسان من بنات المدينة بالجزيرة ممن ترك جمالهن الرفيق المكسال في نفس دافنشي وتسيانو وروسو وغيرهم من كبار الكتاب والفنانين أثرًا تجتليه اليوم في مخالفاتهم الخالدة على الزمان.
وهبطنا نريد الخروج، فاستوقفنا أحد الحراس ليرينا جانبًا مظلمًا من جوانب القصر المنير؛ ذلك جانب السجون التي كان يسجن فيها المتهمون السياسيون: غرف ضيقة لا ترى شمسًا ولا يتجدد فيها هواء ولا يدخل أكثرها النور، وتدل وحشتها على سواد نفوس المستبدين الطغاة، وفي إحداها نافذة ضيقة تطل على جسر أطلق عليه أهل البندقية اسم جسر الدموع، ويرى السجين من خلالها نور الشمس وهواء الحياة وموج البحر. في هذه الغرفة كان يقضي المتهم السياسي الليلة السابقة على قتله فتذرف عينه الدمع. وما أحسب الظلمة كانوا يريدون بنقله ليرى بعض آثار الحياة أن يزودوه في لحظاته الأخيرة بشيء من المتاع، وإنما كانوا يريدون به أن تزيد حسرته فيزداد بذلك عذابًا. وقلب المستبد يستمرئ عذاب المظلوم، كما يستمرئ القلب الحر البر والرحمة.
وعدنا آخر النهار إلى ميدان سان مارك من جديد؛ ما أشد سحر هذا الميدان! إن الزمن الذي يكفيك لترى البندقية كلها خلا هذا الميدان لأقل من الزمن الذي تحتاج إليه كي تحيط بكل ما احتواه، أليس هو قلب البندقية ومجتمع أهلها والنازلين فيها؟ أوليست فيه أبدع آثارها؟ عدنا إليه آخر النهار إذن معتزمين أن نصعد إلى أعلى برج البندقية. وبرج البندقية ليس مستديرًا كالبرج المائل في بيزا، بل هو مربع كبرج فلورنسا، وهذا البرج أنشئ مكان برج قديم اختلَّت عمارته في سنة ١٩١٢؛ لذلك ترى فيه من آثار حضارة هذا العصر مصعدًا يرتفع بك إلى أعلاه دون أن تتجشم ارتقاء مئات درجاته مما يصد عن غيره كثيرين ممن تقدمت بهم السن أو غدر بهم المرض. وتبدت شواطئ إيطاليا أمام نواظرنا ونحن فوق البرج خاشعة متواضعة، وتبدت كذلك أعالي البندقية بعد أن كانت تتيه كبرًا بارتفاعها، فهذه قباب سان مارك تلمع أشعة الشمس المتدرجة إلى المغيب فوقها فتذر رخامها متوردًا برهة، ثم ما تلبث القصور المحيطة بالميدان أن تحول دونها، وهذا برج الساعة وقف فوقه تمثالان يدقان على جرس هائل عدد ما ينقضي من حياة الوجود من ساعات، وهذه قباب الكنائس الكثيرة المنثورة في البندقية مدينة الكنائس، وهذه قصور الأمراء والفنادق المصطفة على رصيف سكيفولا، وثمة الحديقة العامة في آخر المدينة، وثمة ربوع أهل البندقية ومنازلهم وراء الفنادق متواضعة منحدرة في الماء.
بدأ الهواء يهبُّ باردًا حين بدأت الشمس تنحدر إلى المغيب، وبلغ من برودة الجو، وما نزال في منتصف أكتوبر، أن ذكر الناس زمهرير الشتاء، وظن عامل المصعد أن لا بد أن الناس هابطون اتقاء الهواء اللاذع، فصعد إلينا وفتح باب مصعده على مصراعيه، وقصد جماعة أصابتهم الرعشة يريدون الهبوط، لكنهم ما كادوا يقتربون من المصعد حتى عاودهم التردد، فعادوا يشهدون منظرًا جلَّ عن كل وصف: منظر الشمس المنحدرة نشرت حولها أبهى الصور والألوان. وعلى ركن ضيق من المكان يحميه الزجاج من لدغ الزمهرير اجتمع العشرات من الحاضرين يجاهد كل يفسح لصاحبه كي يجتلي مشهدًا قلَّ أن يتاح له اجتلاء مثله روعة وجلالًا وجمالًا وسحرًا، ونسينا البندقية والبرج، وسان مارك، ونسينا كل شيء إلا هذه الشمس التي صبغت الوجود نورًا ونارًا ودمًا، وصرنا لا نسمع إلا آهات الإعجاب تنطلق من صدور الحضور جميعًا بالرغم منهم، وظل عامل المصعد زمنًا ينتظر هؤلاء المرتعدين بقارس البرد المأخوذين بروعة المنظر، حتى أتاحت الرعشة له بعض أفراد هبطوا معه، ثم عاد إلينا وخرج من مكانه يشاركنا في عبادة الجمال. فلما آن للبحر أن يبتلع في جوفه ملك النهار هبطنا إلى البندقية والنفوس ذاهلة والوجوه واجمة والقلوب خفاقة بروعة المشهد العظيم.
أرأيت كيف خلق فن الإنسان وصنعته من هذا المكان الضيق، سان مارك، عالمًا فسيحًا يستوقفك أيامًا، وهو جدير بأن يستوقفك أسابيع بل شهورًا؟! على أن بالبندقية غير ميدان سان مارك وقصور الأمراء كثيرًا من الكنائس والمتاحف وما شادت العمارة مما يجذب السائح إليه.
ولقد زرت من ذلك ما اتسع وقتي لزيارته، والوقت في البندقية ليس يتسع لكل ما يتسع له في غيرها، وكيف السبيل إلى مثل سرعة الأوتموبيل في مثل هذه الطرق المائية الكثيرة التعاريج! وليس ذلك وحده ما يضيق من الوقت، بل إنك لتشعر أحيانًا إذ تجوب بعض أحياء البندقية بانقباض يزهدك في قضاء الوقت بها، فأكثر طرقها ضيقة غاية الضيق، حتى لتسائل نفسك كيف يعيش أهل هذه المنازل المحرومة ضوء الشمس الغائصة من أجيال وأجيال في الماء الراكد النتن الرائحة وأنت مضطر لكي تصل إلى بعض المتاحف والأماكن الفخمة إلى اجتياز هذه الطرق، وهي لذلك تصدك عن المضي في كثير من زيارتك، وتضطرك أن تذهب إلى بعض الجزر كليدو أوجويدكا تطلب فيها هواء أصح من هواء البندقية.
على أن الأثر الذي يبقى في نفسك من المدينة الجزيرة هو ميدان سان مارك؛ هو هذه البدعة الفنية التي جمعت الكنيسة والقصور والميدان والحمائم والدنتلا والزجاج والجلد المنقوش والتماثيل، والتي جعلت من البندقية متحفًا يمتاز على المتاحف كلها برشاقته وظرفه، كما تمتاز هي على المدائن كلها بطبيعة موقعها وعجيب تكوينها مما يجعلها ساحرة جذابة تهوي إليها الأفئدة، وتود أن تستمتع بها الأعين.
ولعل للبندقية سحرًا آخر لمحته عشية سفرنا منها؛ إذ كنت بالفندق على مقربة من سيدة أمريكية تتحدث إلى بعد خدمه بلهجة فيها من رفع الكلفة غير قليل، وبصوت كأنه متعب من الحياة ملول لما فيها، بعد أن فاض بصاحبته المتاع بها حتى سئمت كل متاع، وحتى تضعضعت أعصابها عن أن تطمئن لما اعتاده الناس لونًا للحياة، فهي قد زارت البندقية مرات كما زارت غيرها من البلاد والمماليك، لكن بها إلى ليل البندقية هوى لا تجد في نفسها مثله لليل مدينة غيرها، ليل البندقية الذي تسبح فيه الجندولات والزوارق بأنوارها الضئيلة المستحيية فوق لجة لا هي بالعباب يضطرب موجه ولا بالراكد، والتي تميل لذلك بمن فيها ميلًا رفيقًا يدع الخيال يذهب في مسارحه ناسيًا ما استطاع الضجر والألم، وتهزهم بحنان كأنها مهد الطفل تترفق في هزه يد أم رءوم، فتنيم في نفوسهم أنات مكظومة كانت تنفجر في الضوء الصارخ وفي الرجة العنيفة. إلى هذا الليل تهوي السيدة الأمريكية وقد يهوي كثير غيرها، وهذا الليل الساحر لا يستمتع به الذين يقضون ساعات نهارهم في التنقل بين المتاحف والكنائس وفي مشاهدة ما خلف ماضي البندقية العظيم من تراث خالد، والذين يقتضبهم الليل نومًا يستعيدون به نشاطهم لجلاد الأيام التي تليه.
لم أعرف إذن سحر ليل البندقية، ولم أعرف كذلك كثيرًا مما فيها؛ أنَّى لطاقة الإنسان أن يجتلي في أيام روح مدينة تضم ألوف أمثاله، وتضم إلى جانب هذه الألوف حياة ألوف من عصور الماضي ترك كل في روح المدينة من أثره ما تحتاج معرفته إلى انقطاع ودراسة؛ فليس ميدان سان مارك وحده، وليس ليل البندقية الذي يهز في رفق ملل من أضنت الحياة أعصابهم، وليست الكنائس والجزر وما بينها من طرق مائية، هي التي تجذب الناس إلى البندقية أو إلى أية مدينة سواها، وإنما يجذبهم إليها روح المدينة القديم الباقي على العصور، والذي يجعلنا نشهد في لحظة ما أتمه أمثالنا في أجيال وقرون.