بين صيفين
غادرنا البندقية إلى تريستا في الرابع عشر من أكتوبر، وأبحرت الباخرة حلوان بنا غداة ذلك اليوم، ورست بنا في الإسكندرية بعد مسيرة ثلاثة أيام كان البحر خلالها مصقول الصفحة، والهواء رخاء، وكل شيء على ما نود ونهوى. وانخرطنا من جديد في حياتنا العادية بنفوس هادئة وقلوب مطمئنة، يعاودها الأسى بين حين وحين، فنرى في مثل هاته الرحلة لونًا من لذة الحياة، إلا يكن فيه ما يجنب النفس الألم ففيه ما يحبب إلى النفس الحياة. وتركت رحلتنا في نفوسنا أثرًا جعلنا نردد دائمًا أنَّا متوجهون إلى أوربا كل صيف. وتقضت الشهور، وأقبل الربيع يحمل في أردانه حرارة الصيف، فبدأنا نفكر في رحلته، وتشاورنا في الطريق التي نسلك، واستنصحنا بعض أصدقائنا، ثم استقر بنا الرأي عند الذهاب إلى الآستانة ورومانيا دون أن نضع خطتنا لما بعدها؛ ذلك لأني أعتقد أن خير السياحات ما يترك فيه الإنسان الخطة للظروف، فلما كنا بعاصمة الإمبراطورية العثمانية التي لم تبقَ عاصمة كما لم يبقَ لآل عثمان ملك، ولا للأتراك إمبراطورية، فكرنا فيما عسانا نفعل بعد وصولنا قسطنزة، وتشاورنا وأصدقاؤنا الذين لقينا بالآستانة، فرسموا لنا طريقنا إلى بخارست فبودابست ففينا، قلت: إذن فليكن هذا طريقنا إلى باريس. ولو أن الوقت انفسح أمامي لكان لبرلين نصيب من رحلتي، فلما كنا بفينا ذهبنا بعدها إلى براج فباريس، واستغرقت رحلتنا هذه من ٣٠ أغسطس إلى ٣ نوفمبر سنة ١٩٢٧، كانت حالنا النفسية أثناءها في طمأنينة سمحت لي بأن أسجل كثيرًا من الملاحظات في شئون شتى وقفت عليها، وأشهد أن سفراءنا وقناصلنا ورجال السلكين السياسي والقنصلي كانوا جميعًا ذوي عون صادق فيما وقفت عليه من ملاحظات؛ سواء بما أبدوه لي من معلومات كنت أسأل عنها، أو بما مكنوا لي من الاتصال بأهل البلاد التي مررت بها ممن لم أكن لأتصل بهم لولا حسن وساطة رجالنا المحترمين الذين شعرت لهم في نفسي بتقدير واعتراف بالجميل لن تنسيه الأيام.
وهذه الرحلة وما وقفت عليه خلالها من ملاحظات هي موضوع الكتاب الثاني.