بين مصر والآستانة
سارت بنا الباخرة رومانيا عصر الثلاثاء ٣٠ أغسطس سنة ١٩٢٧ من الإسكندرية قاصدة الآستانة، وبرغم ما بشر به صحو الجو من سكينة في البحر، ما كادت الباخرة تتخطى باب البوغاز وتشق طريقها خلال الموج حتى تدافع الموج عن جانبيها قويًّا آخذًا بعضه برقاب بعض، تدفعه «رومانيا» ويدفعها، فيعلو بها ويهبط ويميل بها يمنة ويسرة، حتى اضطر المسافرون جميعًا إلى الهبوط إلى مضاجعهم، ومنهم من وجد في النوم دواء من دوار البحر المضطرب، ومنهم من غلب الدوار نومه فصار يتقلب على جنبيه ثم لا يجد من دواره مقيلًا إلا أن يخلو جوفه من كل ما فيه.
وأصبح الأربعاء، فإذا البحر هادئ، وإذا النسيم بليل عذب، وإذا الموج قد اختفى تحت سطح الماء أو انحدر إلى القاع في انتظار إغارة أخرى، لكن السَّفْر ما زال أكثرهم في مضجعه خيفة أن يصيبه اليوم ما أصابه أمس، وعبثًا تحاول إقناع من استطعت منهم أن الهواء فوق سطح الباخرة رقيق منعش يذهب بما قد لا يزال من بقية الدوار، وكيف تقنعهم وهم أناس في فطرتهم المحافظة والخوف والتردد، لا يقدمون إلا كرهًا، أو إلا أن يدعوهم ظفر إلى ظفر مثله، ومغنم إلى مغنم جديد، فإذا ردت الحياة ظفرهم هزيمة حسبوا الهزيمة أمرًا عاديًّا وقنعوا من الغنيمة بالإياب، فإذا بدت لهم من جديد بشائر مغنم اندفعوا إليه كاشرة أنيابهم حاسرين عن أذرعهم، بادية مخالبهم، حمرًا عيونهم، ليس ينقصهم من شهوات الحيوان وسلائقه إلا خوف الارتكاس في هزيمة جديدة.
واطمأن الكل إلى السلامة بعد ما انتصف النهار ودعا الداعي إلى طعام الغداء، هنالك رأيت كثيرين يتسللون لواذًا من مضاجعهم إلى غرفة الطعام، ولما رأوا غيرهم يأكلون أكلوا، ولما اطمأنوا إلى السلامة وأمنوا الدوار ابتسموا واستأسدوا، وتقضى مساء الأربعاء في سمر ألذ سمر، وفي سماع الألحان الممتعة ينقلها «الراديو» إلى المسافرين من الآستانة تارة ومن فينا تارة أخرى ومن باريس ثالثة، وكذلك سخر لنا العلم كل ما في العالم، وكنا من قبل نضيق بعلم أضيق بقاع العالم ذرعًا.
وتكشف نهار الخميس عن اليابسة، فما لبثت أن بدت لذهني يونان القديمة، وما خلفت للعالم من شعر وأدب، ومن علم وفضل ما يزال العالم حتى اليوم ينهل منها أعذب ورد، وسيظل الإنسان يجد فيها من بدائع آثار الخيال والذهن خير متاع وخير غذاء.
وأقلنا زورق من الباخرة إلى مرفأ بيريه، ثم أقلنا ترام أثينا في نحو ربع الساعة، وصحبنا دليل طاف معنا في أوتموبيل أنحاء العاصمة الحديثة، فلقد كانت أثينا عدة عصور عاصمة الدنيا، ومستقر حضارة العالم، ومهبط وحي شعره وحضارته، أما اليوم فهي عاصمة اليونان التي كانت مغلوبة على أمرها خاضعة لحكم غيرها من أقل من ثلث قرن من الزمان، والتي ما تزال ميدانًا للاضطراب وللثورة وللفورات البركانية الإنسانية التي تنبئ عن عدم الاستقرار إلى حال يطمئن لها الإنسان.
والحق أن مظاهر أثينا الحديثة ليست مما يلفت النظر، ولا مما يقف عنده الفكر، كل ما فيها من مظاهر الحضارة مجلوب إليها عن غيرها، وتظهر فيه المحاكاة، ولا يبدو فيه شيء من الإبداع أو الذاتية؛ فهذا البرلمان وهذه المكتبة القومية وإلى جانبها الأكاديمية والكلية لا يأخذ بالنظر من أمرها إلا أنها تشرف على ميدان هو أفسح ميادين أثينا وأجملها. فأما الأرينا — أو كما تسمى في اليونانية «الأستاديوم» — والتي كانت مشهد الألعاب الأولمبية، فقد استحدثت منذ ثلاثين سنة ماضية، فطمست على آثار الملعب القديم الذي يثير في الذهن عصورًا كان فيها الجمال العريان خيرًا من الجمال الكاسي، كما أن الحقيقة العارية خير من الحقيقة الكاسية. وهذه العمائر ليست بعد من العظمة في مثل عظمة أشباهها في باريس ولندن والمدائن الكبرى مما أراد اليونان محاكاته، فإذا نظرت بعد ذلك إلى طرق المدينة ورصفها وإلى المصارف والمتاجر عن جانبيها، بدأت تدرك السبب الذي من أجله ينظر أهل أوربا الغربية إلى أهل أوربا الشرقية وإلى البلقان بنوع خاص، نظرهم إلى شعوب الشرق ممن يخضعون لحضارتهم ولا يجدون سبيلًا إلى السعادة والقوة والعظمة إلا بمحاكاتهم.
هذه الصورة التي تبعث بها النظرة الأولى لأثينا إلى الذهن لا تأخذ به طويلًا، فإنك ما تكاد ترتفع ببصرك فوق هذه المنشآت الحديثة حتى تأخذ به آثار عالية تعيد إلى ذهنك صورة الأقصر ومعبد آمون وبعض ما انتثر وراء ذلك في صحراء الدر من آثار مصرية، ثم إنك ما تكاد تسأل الدليل عنها حتى تنسى أثينا الحديثة، وحتى تنسى البرلمان والمكتبة والأستاديوم، وحتى تنسى الحاضر وما فيه، وحتى يتعلق بصرك وسمعك وفكرك وكل حس فيك وخيال بهذا الاسم الذي ينطق به الدليل الأكروبولس.
فلنذهب إذن إلى الأكروبولس، إلى المدينة العالية، وليدر بنا الأوتموبيل متسلقًا خلال الآثار ليقف عند أسفل جدارها، ولنتسلق على القدم سفح هذا التل المشرف على أثينا وعلى مياه البحر وأمواجه، ولنرتق درج هذا السلم المؤدي إلى معبد النصر المقصوص الجناح، ولنقف على مقربة من هذا المعبد نرسل الطرف إلى حيث حاول الفرس منذ أكثر من ألفي سنة اقتحام أثينا فاحترقت سفنهم، وتم للأثينيين النصر من غير كبير عناء، فأقاموا لنصرهم هذا المعبد، ولم يجعلوا له أجنحة يطير بها في عالم الخيال، خيال الفروسية والإقدام. ثم لنرتق من جديد مع دليلنا اليوناني المحدث عن القدماء كأنه أحدهم، ولنقف وإياه معجبين بهيكل تيزيه مستقر الحكمة والعلم، وبالعمد البديعة البسيطة النقش تحيط بالهيكل وقد نقشت الأحجار التي تصل بينها من أعلى نقشًا يونانيًّا قديمًا هو الجمال كله، ولندر مع هذا البناء ليقف بنا الدليل مشيرًا إلى مكان هناك في انحدار التلال حيث شرب سقراط السم تقديسًا للحرية والعلم، وإلى الناحية الأخرى من هذا القدس الذي شهد موت الحكيم لتحيي الحرية آثار ملعب كان اليونانيون الأقدمون يتلهون فيه بمشهد الخيل ولعبها، وإلى الناحية الأخرى من هيكل الحكمة هيكل ثانٍ اعتمد سقفه على ثلاث نسوة من بنات «كاريات» اللاتي عُرفن بالجمال أيام كان الجمال معبودًا، وكانت له آلهة تقدم لها القرابين اعترافًا بقداسته، وأولئك النسوة الثلاث اجتمع لهن من الرشاقة والقوة ما يلهم النفس معنى من الجمال غير ما ألفت من رقة تكاد لنحولتها تطير، ومن دماسة تكاد لجسامتها تكثف؛ رشاقة تجعل القوة لينًا وميسًا، وقوة تجعل الرشاقة مفتولة ذات قوام وهمة. ومن بين معبد الحكمة وهيكل الكارياتيد انحدرنا إلى متحف اجتمع فيه من آثار الفن القديم ما يلهمك صورة من تطور الفن على ما كنا نفهمه من استكشاف آثار توت عنخ آمون في طيبة؛ فهذه التماثيل المصرية القديمة جالسة وأيديها على أفخاذها، أو واقفة وأيديها إلى جوانبها، دليل السكينة والطمأنينة وهي عارية أو تكاد، وهذه التماثيل المصرية القديمة هي ما كان يفهم الكل أنه بدء عمل التماثيل في حياة الوجود. ومن هذا السكون المصري تطور النحت إلى الحركة في مصر واليونان، لكن الحركة في مصر كانت بسيطة كل البساطة، لا تزيد على يد ممدودة أو ساق متقدمة إلى الحركة، أما التماثيل اليونانية فبدأت ترتدي من اللباس ما أزال عريها، وبدأت ملامحها تدل — من غير حاجة إلى تمثيلها في صورة الطير أو الوحش — على ما يدور بخاطر أصحابها من أفكار أو عواطف أو شهوات، وكان الدليل ظريفًا حين كان يشير إلى بعض التماثيل الدقيقة الصنع قائلًا: وهذا تمثال من خير ما احتفظ به التاريخ لا ينقصه إلا أن يتكلم. وربما كان غير مبالغ في تقديره هذا؛ فمن تلك التماثيل ما أبدع فيه صانعه، حتى لتخاله، وقد انقضت عليه مئات السنين، كأنه يعبر عن فكرة تمر بخاطر ابن اليوم أو شهوة من شهواته، أو عاطفة من عواطفه، وكأنه ينبئنا بأن كمين ما في النفس الإنسانية خالد لا يغيره الزمان وإن تغيرت مظاهره بتغير الأزمان.
وانتقلنا في المتحف من غرف تطور الفن إلى غرف تطور الفكرة الإنسانية في الوجود وكماله، ووقفنا أمام تمثال يشير فيه كبير الآلهة هرقل إلى رجل يعبده موجهًا نظره إلى صورة الكمال على أنها أسمى صفات الألوهية، داعيًا إياه أن يعمل كي يصل إلى الكمال ليرقى إلى مصاف الآلهة. قال الدليل الشيخ يقص ما حفظ عن ظهر قلبه: وكذلك نرى أن معنى الألوهية في الأساطير اليونانية كان معنى إنسانيًّا صرفًا هو الكمال؛ فمن بلغ الكمال بلغ مراتب الآلهة. ولم يتطور هذا المعنى ليصبح صوفيًّا إلا بعد أن تدهورت الفكرة اليونانية القديمة السامية، وهذا هو سر تعدد الآلهة في العصور القديمة؛ فكل مظهر من مظاهر الكمال صفة من صفات الألوهية، وكل من سما إلى هذا الكمال شارك الآلهة في صفاتهم فكان منهم.
وخرجنا من المتحف، وجعلت أدور في أنحاء أطلال المدينة العالية «الأكروبولس»، وأجيل الطرف في سطوح منازل المدينة الحالية وهي ساكنة تحت الشمس كأنها هي أيضًا أطلال، أو كأنها توحي إلى النفس يومًا أن ستصبح فيه أطلالًا، وستذر فيه لألوف سنين مقبلة آثارًا كآثار المدينة القديمة.
واستندت إلى بقية جدار أشهد من عنده كثيرًا من الآثار، وذكرت ما خلف المصريون في طيبة وفي غير طيبة، ثم ما كان من غزو الرومان لأثينا ومصر، ثم ما عقب ذلك من عبر التاريخ حتى يومنا الحاضر، فإذا أمامي لجة من الزمن غرق فيها كل ما أذكر، وإذا بي أستعيد ما رواه التاريخ عن قدماء المصريين الذين انتقلوا إلى اليونان حين كان أهلها ما يزالون قبائل غير مستقرة، والذين استقروا فهدوا أهل اليونان إلى حياة الاستقرار، ووجهوهم بما لديهم من فن وعلم إلى ما برع اليونان من بعد فيه وما تركوا للعالم من تراث مجيد اهتدى العالم به حتى عصوره الأخيرة، وحتى فتح العلم أمامه أبوابًا جديدة لم تعرف في الأزمان القديمة على نحو ما نعرفها نحن اليوم، وعلى نحو قد يعرفه أبناؤنا من بعد ولا نعرفه نحن.
هذه إذن هي الأكروبولس، هذه الأطلال البالية اليوم والتي تطل من رفعتها على أثينا الجديدة، كانت في الماضي مستقر حضارة الماضي ومجده، وكان أهل هذه الحضارة يحكمون العالم ويتحكمون فيه؛ لأنهم أصحاب الحضارة الغالبة. ولأهل هذه الأكروبولس كان يدين أهل ذلك العصر في الأمم الأخرى بالطاعة، كما يدين أهل هذا العصر بالطاعة لباريس ولندن. وكان أهل هذه الأكروبولس يسومون، ولا ريب، من ألوان العسف ما يسوم أهل أوربا الغربية الناس اليوم، وكان أولئك ولا ريب، يقولون كما يقول هؤلاء: إن الأقدار قد ألقت على عاتقهم عبء تمدين العالم وتحضير أهله. وها نحن أولاء اليوم قد نسينا ما صنع الأقدمون كله خلا التراث الخالد الذي خلفوه للإنسانية تنعم به ويرتع خيالها وذهنها فيه، ولعل أبناءنا إذا أتيح لهم يومًا أن يكونوا أصحاب الحضارة الغالبة ويلقي القدر على عاتقهم عبء تمدين العالم وتحضير أهله، ينسون ما صنع بنا أهل الغرب، ولا يذكرون لهم إلا هذا العلم العظيم الذي فتح لنا ولأبنائنا من الأبواب ما لم يكن يحلم به أهل اليونان القديمة ولا أهل مصر القديمة، أولا يكون خيرًا لو أن أهل المدنيات الغالبة كانوا أقل صلفًا، ولم يغالوا في ادعاء تحضير العالم كله، وجعلوا التعاون والتضامن بديلين من العسف والتحكم، وهدوا الكل إلى سر الحضارة؛ لتصل الإنسانية إلى أبعد حدود الكمال في أقرب زمن ممكن، فتبلغ من صفات الآلهة ما يجعلها معبودًا لا يغلو إن هو ألَّه نفسه وعبد كماله؟ أم التحكم والعسف سلائق إنسانية لن يتغلب عليها متغلب بالغة ما بلغت حكمته، وإذن فستظل الإنسانية في بعدها عن الكمال تخلع صفاته على كل ما تريد أن يكون موضع إيمانها وعبادتها؟
… طال بي الوقوف معتمدًا إلى بقية الجدار حتى جاء الدليل ينبهني إلى أن الوقت قصير، وأنَّا ما نزال مضطرين إلى زيارة بعض أنحاء المدينة والطواف في متحف أثينا القومي، فانحدرت إلى حيث الأوتموبيل، وسرت ومن معي في طرق المدينة الحديثة، وزرنا المتحف وما اجتمع فيه من آثار عثر عليها المنقبون، وبرغم ما بين تلك الآثار من بدائع نادرة فقد ظلت الأكروبولس آخذة بخيالي وذهني فلم يستبقيا مما شهدت عيناي في المتحف كثيرًا.
وعدنا إلى بيريه فإلى الباخرة «رومانيا» التي أبحرت بنا في منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر قاصدة الآستانة، فلما كنا في أخريات النهار نتحدث إلى ربانها عما يتوقع للجو وتقلبه وللبحر وموجه، طمأننا، ثم أشار علينا بأن نبكر في اليقظة صباح الجمعة لنشهد الباخرة ساعة دخولها الدردنيل ومرورها بين هذه الجبال التي شهدت من أهوال الحرب الكبرى ما شهدت، قال: قد لا تتاح لكم فرصة المرور في هذا المضيق مرة أخرى؛ وعلى كل حال فجدير بمن مر بالدردنيل للمرة الأولى أن يشهده فيذكر ما شهدت جباله القاحلة القاسية.
وفي الساعة الخامسة من صباح الجمعة كنا أيقاظًا، فارتدينا ملابسنا وزدنا عليها معاطفنا نتقي بها برد البحر في ساعة البكور، وخرجنا إلى سطح الباخرة ننتظر مشرق الشمس ومرور الباخرة من خلال الدردنيل، وكنا نحسب من يدفعهم التطلع إلى مثل تبكيرنا كثيرين، فإذا الكل في مضاجعهم إلا أشخاصًا معدودين من بينهم سيدة مسافرة وحدها وجدت في حماية بعض كبار البحارة ما أتاح لها الوقوف عند مقدمة الباخرة والاحتماء من البرد بما يحتمي به الربان وأعوانه.
وتبدي الدردنيل في هدأه الصباح وسكونه، وتبدت الشمس مشرقة من وراء جباله، وخطرت الباخرة بين هذه القمم الجرداء والناس من فوقها في طمأنينة وسكون، ولو أنَّا كنا في مثل هذا الوقت منذ عشر سنوات ماضية حين كان الدردنيل بقعة جهنمية في ميادين الحرب الكبرى لما خطر لمسافر أن يقترب من الدردنيل إلا كارهًا باسم متطوع أو جنديًّا يريد لأمته الظفر والاستعلاء.
فأما اليوم فها نحن أولاء نخطو خلاله آمنين، نلقي عليه نظرة إعجاب بالشمس البازغة والمياه المطمئنة، وبهذه الجبال الجرداء على الجانبين لا تميز فيها من آثار الإنسان شيئًا حتى يقع نظرك على أثر على الشاطئ الأوربي هو النصب الذي أقامه الحلفاء تذكارًا لمن استشهد منهم في هذه البقعة دفاعًا عن مبادئ الحلفاء التي كانت ترى الحرب دفاعًا عن الحرية، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، والقضاء على المعاهدات السرية وعلى استعباد الشعوب، والتي انقلبت بعد ظفر الحلفاء عبثًا بمصير الشعوب وبحريتها. وحول هذا التمثال مقابر أولئك الألوف الذين استشهدوا وأكثرهم مخدوع بما زين الساسة من الألفاظ المعسولة، وأكثرهم يحسب أنه يستشهد في سبيل الحق والحرية.
ومررنا بشناق ومن بعدها بجاليبولي والجبال من الجانبين هي الجبال الجرداء، ثم تخطينا الدردنيل إلى مرمرة، فانفسحت عن جانبي السفينة أرجاؤه وصرنا يخبط بنا الماء كل جانب، ثم ما هي إلا سويعات حتى تبدى البسفور، وحتى بدت تباشير الآستانة وطلائعها.
الآستانة — القسطنطينية — بل، أستغفر الله، إستامبول، فذلك هو الاسم الذي قصره الأتراك على المدينة القديمة بعد ظفرهم الأخير، وبعد نقلهم عاصمة ملكهم إلى أنقرة. إستامبول وما حولها هو مدخل البسفور، هذا البوغاز البديع الجمال الفذ من بين ما أبدعت الطبيعة من أمثاله؛ الفذ بموقعه، وبتاريخه، وبما شهد من تطورات، وبالحركة السياسية والاجتماعية التي تدور اليوم حوله. والآستانة مدخل لا يقل عن البوغاز نفسه جمالًا ولا عظمة في الموقع الجغرافي، وفي التاريخ، وفي التطور السياسي.
تخطت الباخرة مرمرة إلى البسفور وإلى الآستانة على مهل، كأنما تريد أن تمتع ركابها بكل هذا الجمال، أو كأنما بهرت هي أيضًا برغم مرورها به عشرات المرات، ووقفنا نحن نحدق إلى ظاهر المدينة القديمة العظيمة التي أصبحت غير عاصمة، والتي شهدت حكم الرومان وبيزنطية وعظمة النصرانية، ثم اقتحمها محمد الفاتح فأقر فيها حكم المسلمين وجعلها خلفاؤه من بني عثمان مستقر خلافة المسلمين حتى أجلاهم الأتراك عنها وثلوا عرشهم منها، وتركوها اليوم مدينة سقط منها تاج الخلافة واسم العاصمة ثم بقي لها برغم ذلك كله جمال الطبيعة وعظمة التاريخ.
وقفنا نجتلي عروس البسفور تتدرج مبانيها صاعدة من مياهه، مرتفعة فوق التلال السبعة التي بناها عليها قسطنطين كي تضارع المدينة الخالدة والتلال السبعة التي بنيت عليها، لتكون كما كانت روما عاصمة الدنيا قوة وحضارة، وتتدرج هذه المباني لتندلع من خلال قباب مساجدها المآذن ذاهبة في السماء ينادى من فوقها للصلاة كلما آن موعد الصلاة. ومن حول هذه المساجد هابطة نحو البسفور تبدو سقوف وتبدو أبواب هي منازل المدينة؛ وتبدو، خلا السقوف وخلا الأبواب، قصور تشرف كلها على البسفور، تلاطم جدر بعضها مياه البوغاز البديع، ويرتفع بعضها فوق الجبال كأنه منارة تهدي السفن، أو حصن يحمي المدينة من عدوان هذه السفن.
وكان أقرب بناء إلينا قصر ضلمه بخشه، أم لعله لم يكن أقربها، وإنما كان أشدها لفتًا للنظر والذهن فبدا لذلك منهما قريبًا. والحق أنه أنسانا ما سواه؛ إذ صرنا لا نحدق إلى غيره ولا نوجه منظارًا مقربًا إلا إلى بديع صنعه ودقة عمارته، وإلى هذه الأقواس عقدت فوق نوافذه كلها الدقة، حتى لكأنها قطعة من الدنتلا صنعتها لنفسها سيدة صناع، محبة لفنها، لا تطيق أن ترى فيه إلا كمالًا، ومن هذه الدقة البالغة في التفاصيل تجتمع عظمة قل أن تضارعها عظمة؛ عظمة ليست في مجرد تجاوب أركان القصر بعضها مع بعض، فمنه أقسام لا تتجاوب مع سائره، ولكنها عظمة الاتساق في فن جميل لا نبو في قطعة من قطعه، ولا نشاز في نغمة من أنغامه، يدعو جمال كل جزء منه جمال سائرة كأنها أنغام تزداد عذوبة، وحلاوة كلما قلت تشابهًا وإن توافقت جوابًا. مدخل القصر كأنه قوس النصر زركشت جوانبه بنقوش عربية وأحاطت به عمد عربية كذلك، وعقدت فوقه شواهد وأفاريز عربية هي الأخرى دقيقة عظيمة، وعلى جانبي المدخل جناحان سما فوقهما عقد القوس كأنه رأس النسر المنتصر، وامتد الجناحان في دقة عمارة وزخرف بينه وبين زخرف المدخل اتفاق وتجاذب وتجاوب. وبعد أحد الجناحين مقاصير ذات أعمدة وقباب هي للكل خير كمال. وهذا القصر ومدخله وأجنحته ومقاصيره وقبابه هو مأخذ ذهن الداخل إلى الآستانة فوق موج البسفور، حتى لينسيه مآذن المساجد وتدرج العمائر فوق التلال، وينسيه قصورًا أخرى لا تقل عن «ضلمه بخشه» جمالًا، ولكنها ليست مثله على مياه البسفور ظهورًا وجلالًا.
واقتربت الباخرة من مرساها، واختفى القصر رويدًا رويدًا، وصرنا أمام الميناء وأمام الجمرك، وأنستنا مشاغل النزول إلى المدينة ما بدا منها على البسفور وما تدرج فوقه وما تحدث به المصريون ممن معنا عن قصر الوالدة أم المحسنين في ببك، وعن قصر الخديوي في شبوكلي. ووقفنا نحدق من فوق السطح إلى هؤلاء المستقبلين الذين حضروا على رصيف الميناء، وإلى هؤلاء الحمالين الذين تدافعوا نحو السفينة. قالت سيدة مصرية من بين السيدات المسافرات: لم يبقَ الآن في الآستانة طربوش! يرحم الله الإسلام! وضحك من الإشارة سيدات ورجال، وما أدري أفي ضحك السيدات شيء من الإشفاق على زوال الشارة الحمراء التي كان يتفق فيها الطربوش مع العلم التركي ويثير بها ذكرى الإسلام والخلافة الماضية؟ فأما ضحك الرجال فأذكرني برواية قصها عليَّ يومًا أحد أصحابنا في مصر، ولست كفيلًا بصحتها: ذلك أن شيخًا من شيوخ المسلمين ذهب يومًا في أنقرة لزيارة الغازي مصطفى كمال، وفيما هم يتحدثون مد الغازي يده فرفع عمامة الشيخ عن رأسه ووضع مكانها قبعته هو، ورجا الشيخ أن يظل كذلك إلى أن ينتهي المجلس. وفي شيخ تركيا كما في شيوخ الدين جميعًا في مختلف بقاع الأرض لين لذوي السلطان وأولي الأمر، فامتثل الشيخ لأمر الغازي وظل متقبعًا، حتى إذا انتهى المجلس استأذن ولبس من جديد عمامته. هناك سأله الغازي: أرأيت ديننا نقص شيئًا بلبسك القبعة؟ قال الشيخ: لا، فالدين في القلوب والرءوس، لا في الجبب والعمائم.
وجاء مراقبو جوازات السفر، فكانوا أول صلة بيننا وبين الحياة التركية، وعهدي بمراقبة الجوازات في فرنسا وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا غير بعيد، ولكن ما أكبر الفرق! يكفي مراقب الجوازات في هذه البلاد أن يطلع على تأشيرة قنصل دولته بإباحة دخولك ليقنع منك بمعلومات طفيفة تختلف في مختلف الدول، ولكنها لا تزيد على السؤال عن سبب دخولك البلاد وعن المدة التي تنوي أن تقيم فيها. أما عمال إستامبول فأمامهم دفاتر قيدت فيها الأسماء، وأمام كل اسم ما لا يقل عن عشرين «خانة» تستوفى. وأشهد لقد تضايقت من هذه الإطالة، لكني أشهد كذلك أنها كانت بالنسبة لنا على غير طائل؛ فمنذ دخلنا الآستانة لم يسألنا أحد أمرًا، ولم نلقَ إلا كل تحية وإكرام.
ولعل ما يحيط بالحياة السياسية التركية في الوقت الحاضر وما عاناه الأتراك أثناء حروبهم من محن، هو الذي يدعوهم إلى كل هذا الاحتياط والتدقيق.
وأقلتنا الأوتموبيلات إلى الفندق في طرق صاعدة هابطة أذكرتنا مارسيليا والبلاد الجبلية، وإن لم تذكرنا رصف مارسيليا، بل أذكرتنا طرق الإسكندرية المؤدية إلى الميناء بأحجارها التي تضطرب فوقها العربات اضطرابًا وتحدث فوقها من الضجيج والعجيج ما يصم الآذان، وأنت مع ذلك مضطر، إن لم تجد أوتموبيلات، إلى مقاساة ذلك كله؛ لأنك لا تستطيع أن تسير على قدميك فوق هذه الأحجار التي تحفي الأقدام من خطوات معدودة.
ونزلنا فندق «بيرا بالاس» في غرف مطلة على قرن الذهب، فتبدى لنا، وإن كنا في قلب الآستانة، ظاهر من الآستانة جديد، تبدت مساجد تندلع مآذنها في السماء، وقصور تأخذ زينتها بالعيون، وإلى جانب المساجد والقصور منازل متواضعة يقطنها الفقراء ومتوسطو الحال، وتبدى من خلال ذلك كله أتراك اليوم في قبعاتهم وسراويلهم الأوربية؛ فكان لنا من هذا الظاهر الذي كشفته لنا غرفتنا صورة صحيحة لإبداع الطبيعة في وضع الآستانة، ولهذا التاريخ القديم الذي تمتاز به على كثير من المدائن؛ وللتطور العظيم الذي يهز اليوم أحشاءها، والذي لم يكن منه مفر لحياة تركيا الإسلامية وإن كره كثير من المسلمين.
على أن ما يدل عليه ظاهر الآستانة من موقع وتاريخ ونهضة ليس إلا صورة فيها كثير من الخداع يتجلى إذا أنت تغلغلت في حياة الآستانة أو بحثت في مختلف نواحيها، ولعل الأكثرين يعرفون عن موقعها الطبيعي وعن تاريخها كثيرًا، لكن النهضة الجديدة، وعلاقتها بهذا التاريخ وبهذا الموقع ورجاءها في مستقبل قريب، يحتاج إلى شيء من حدس الباحث، حدس قد لا يبعد كثيرًا عن الحق ما اعتمد على الملاحظة الصادقة.