قصة الطوفان وتطورها
وإذا قرأت بقية أسفار موسى، وبالأحرى الأسفار المنسوبة إليه — خروج، لاويين، عدد، تثنية — تجد أنها مزيج من أخبارٍ تاريخية تكثر فيها الأقاصيص، ومواعظ هي بين الأخلاقيات والإرشاديات. وفي جماع هذه الأسفار لا تقع على شيءٍ من انسجام الوضع، ولا من دقة التاريخ، ومن كل هذه الأشياء يذهب دارسو العبرانيات والآثار في سلسلةٍ طويلة من الأبحاث، يستنتجون منها في النهاية أن هذه الأقاصيص جمع وتوليف من أقاصيصٍ وروايات أبعد منها زمانًا وأعرق قدمًا.
من بين مجموعة النقوش الكاتدرائية، التي تعبر عن كثيرٍ من حقائق اللاهوت في العصور الوسطى، نقشٌ يمتاز بالتعبير عن مذهب لاهوتي في أصل الكون، ظل موضع الاحترام والإجلال أزمانًا طوالًا.
الواحد القهار: في صورة بشرية، جالس بوداعةٍ ولين، يصنع الشمس والقمر والكواكب، ويعلِّقها في القبة الصلبة التي تحمل من فوقها «السماوات العلا»، وتظلل «الأرض السفلى».
أما علائم التفكير الظاهرة في تقطيب جبينه فتنم على أنه أجهد نفسه إمعانًا في التدبر والاستبصار، كما يدل انتفاخ عضلات ذراعيه على أنه قد اضطر إلى أن يكدَّ وينصب. ومن الطبيعي أن يكون المثَّالون والمصورون خلال القرون الوسطى — وفي بدء العصور الحديثة — قد عمدوا إلى تمثيله على مقتضى ما تصوره كتَّاب ذلك العصر؛ إذ كانوا يقولون بأنه استراح في اليوم السابع، واضطجع في هدأةٍ، مصغيًا إلى تراتيل الثناء التي زفتها إليه سكان السماء.
من حول هذه الفكرات العتيقة التي فاضت بها الكاتدرائيات، وفي غيرها من الآراء التي عبرت عنها النقوش والصور وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والحفر خلال القرون الوسطى، وقرنين فرطا من بعد تلك العصور؛ تكشفت نواة من الاعتقاد كانت قد أخذت تتكوَّن خلال ألوف من السنين، ومضت محتكمة في كل ما أبرز العقل الإنساني من صور الفكر حتى عصرنا هذا.
أما بدايات ذلك الاعتقاد فترجع إلى أعرق عصور التاريخ قدمًا، فإننا نجدها في أوليات كل مدنية من المدنيات العظمى. بيد أنها شغلت في كل الكتب المقدسة التي ذاعت في نواحي العالم — على تعددها وكثرتها — مكانًا عليًّا، ففي كل المدنيات تقع على فكرة وجود خالق، ليس الإنسان إلا صورة منه غير كاملة، وأنه خلق الكون المنظور بطريقةٍ مباشرة مستخدمًا في الخلق يديه وأصابعه.
من بين تلك النظريات عدد غير صغير مضى محتكمًا في اللاهوت الكلداني. ومن الواجب أن نخصَّه بشيءٍ من العناية والتقدير؛ فإن النقوش الآشورية التي استكشفت حديثًا، ونقلها إلى العالم الإنجليزي أعلام من أمثال لايارد وجورج سميث وسايس وغيرهم، لترينا أنه قد تغلغلت في تضاعيف الأديان الكلدانية والبابلية قصة في حقيقة الخلق من أهم مزاياها وأخطر وقائعها، إنها لا بد من أن تكون النواة التي فرخت منها تلك القصص التي نقع عليها في كتبنا المقدسة. ولقد ظهر بأجلى بيان أن تلك الفكرات التي تشغل أعلى مكانة في أسفار العبرانيين، قد استمدت من ذلك النبع الذي فاض على المدنيات الكلدانية البابلية والآشورية والفينيقية بتلك القصص التي وضعت في حقيقة خلق العالم.
وفي القرن السابع عشر ذكر الدكتور «جون ليتفوت» — وكيل جامعة كمبردج ومن أشهر من نبغ ممن درسوا العبرانيات — أن نتيجة أبحاثه القصية المستفيضة في التوراة والإنجيل قد أدت به إلى حقيقة أن «السماء والأرض، والمحيط والمركز قد خلقن معًا، وفي وقتٍ واحد؛ حيث كان الغمام الكثيف مملوءًا بالماء، وأن هذا العمل قد وقع، وأن الإنسان قد خلق بقدرة الثالوث الأقدس، في ٢٣ أكتوبر سنة ٤٠٠٤ قبل الميلاد؛ حيث كانت الساعة التاسعة من الصباح.»
وكان هذا انتصارًا لأسلوب «لاكتانتيوس»، وهو نتيجة الدرس العميق في الإنجيل والتوراة مئاتٍ من السنين. وغاية لجهد الفكرة اللاهوتية منذ أن ظهر «بيده» في القرن الثامن إلى زمان «فنسنت بوفييه»؛ حيث أعلن في القرن الثالث عشر أن الخلق لا بد من أن يكون قد وقع في فصل الربيع. لكن وا أسفاه! فإنه لم يمضِ قرنان على ما بذل دكتور «ليتفوت» من جهدٍ في درس العبارات المنزلة ليستخلص منها حقائق يحدد بها ساعة الخلق وتاريخه، حتى استكشف الباحثون أنه في تلك الساعة التي حددها هذا اللاهوتي، كانت أمة من أرقى الأمم مدنية وأمثلهن تهذيبًا، رافلة في أبهى حلة خلعتها الحضارات على الأمم في الأزمان القديمة، بل كانت منذ عهدٍ عهيد تجوب أنحاء العواصم المشيدة في مصر على ضفاف النيل، وأن أممًا أخرى لا تكاد تقلُّ عن هذه مدنية وعلمًا، قد بلغن درجة خطيرة من النشوء والارتقاء تحت سماء آسيا.
هذا ملخص أولي من رأي الباحثين في أصل الروايات المقدسة، على أن علم مقارنة الأديان قد زوَّدنا بالكثير من دقائق الشبه الواقعة بين كثيرٍ من الروايات المتناثرة في الكتب الدينية؛ لهذا نعمد إلى المقارنة بين الروايات الثلاث التي نعثر عليها في القرآن والتوراة وألواح بابل وآشور خاصة بسيرة نوح؛ لنستخلص من هذه المقارنة قاعدة نبني عليها حكمًا صحيحًا في أصل هذه الروايات ومنشئها. ويحسن بنا أن ننقل هذه الروايات كما أثبتت في القرآن والتوراة، ونترجم ما يختص بها في ألواح بابل، ثم نمضي بعد ذلك في المقارنة العلمية.
(١) الطوفان في القرآن
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ * وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (هود).
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا * قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (نوح).
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (العنكبوت).
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (ص).
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (الحاقة).
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (القمر).
(٢) الطوفان في التوراة عن سفر التكوين
الإصحاح السادس
وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات؛ فاتخذوا لأنفسهم نساءً من كل ما اختاروا، فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه هو بشر، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضًا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم.
ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه، وإنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أني عملتهم، وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب.
هذه مواليد نوح: كان نوح رجلًا بارًّا كاملًا في أجياله. وسار نوح مع الله، وولد نوح ثلاثة بنين: سام وحام ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلمًا، ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض.
فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي؛ لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكًا من خشبٍ جفر، تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخلٍ ومن خارجٍ بالقار، وهكذا تصنعه. ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعًا عرضه، وثلاثين ذراعًا ارتفاعه، وتصنع كوًّا للفلك وتكمله إلى حد ذراعٍ من فوق، وتصنع باب الفلك في جانبه، مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حيٍّ من كل ذي جسدٍ اثنين من كلٍّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرًا وأنثى؛ من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها، اثنين من كلٍّ تدخل إليك لاستبقائها، وأنت فخذ لنفسك من كل طعامٍ يُؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعامًا. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله، هكذا فعل.
الإصحاح السابع
وقال الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك؛ لأني إياك رأيت بارًّا لديَّ في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرًا وأنثى، ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرًا وأنثى، ومن طيور السماء أيضًا سبعة سبعة: ذكرًا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه الأرض؛ لأني بعد سبعة أيام أيضًا أمطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة، وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته؛ ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.
ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض، فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض دخل اثنان اثنان إلى نوحٍ إلى الفلك، ذكرًا وأنثى، كما أمر الله نوحًا.
وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض في سنة ستمائة من حياة نوح، في الشهر الثانى، في اليوم السابع عشر من الشهر. في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء، وكان المطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك، هم وكل الوحوش كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها: كل عصفور، كل ذي جناح ودخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة، والداخلات دخلت ذكرًا وأنثى من كل ذي جسد، كما أمره الله، وأغلق الرب عليه.
وكان الطوفان أربعين يومًا على الأرض، وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الأرض، وتعاظمت المياه وتكاثرت جدًّا على الأرض، فكان الفلك يسير على وجه المياه، وتعاظمت المياه كثيرًا جدًّا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء خمس عشرة ذراعًا في الارتفاع، تعاظمت المياه فتغطت الجبال؛ فمات كل ذي جسد كان يدبُّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض، وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات، فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء، فانمحت من الأرض، وتبقَّى نوح والذين معه في الفلك فقط، وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يومًا.
الإصحاح الثامن
ثم ذكر الله نوحًا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك، وأجاز الله ريحًا على الأرض؛ فهدأت المياه وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء، ورجعت المياه عن الأرض رجوعًا متواليًا. وبعد مائة وخمسين يومًا نقصت المياه، واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصًا متواليًا إلى الشهر العاشر، وفي العاشر من أول الشهر ظهرت رءوس الجبال.
وحدث بعد أربعين يومًا أن نوحًا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل الغراب، فخرج مترددًا حتى نشفت المياه عن الأرض، ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة مقرًّا لرجلها، فرجعت إليه إلى الفلك، فلبث أيضًا سبعة أيام أخر، وعاد فأرسل الحمامة من الفلك فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها، فعلم نوح أن المياه قد قلَّت عن الأرض، فلبث أيضًا سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضًا.
وكلم الله نوحًا قائلًا: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد: الطيور، والبهائم، وكل الدبابات التي تدب على الأرض، أخرجها معك، ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض، فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات، كل الدبابات وكل الطيور، كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.
وبنى نوح مذبحًا للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسَّم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: «لا أعود ألعن الأرض أيضًا من أجل الإنسان؛ لأنه تصور قلب الإنسان شريرًا منذ حداثته. ولا أعود أيضًا أُمِيت كل حي كما فعلت مدة كل على الأرض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال.»
الإصحاح التاسع
وبارك الله نوحًا وبنيه وقال لهم: أثمروا واملئوا الأرض، ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك البحر، قد رفعت إليَّ أيديكم كل دابة حية تكون لكم طعامًا، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع، غير أن لحمًا بحياته، دمه، لا تأكلوه، وأطلب أنا دمكم لأنفسكم، من يد كل حيوان أطلبه، ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه، سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه؛ لأن الله على صورته عمل الإنسان، فأثمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.
وكلم الله نوحًا وبنيه معه قائلًا: وها أنا مقيمٌ ميثاقي معكم ومعه نسلكم من بعدكم، ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم: الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم، من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض، أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضًا بمياه الطوفان، ولا يكون أيضًا طوفان ليخرب الأرض. وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم، وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر، وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض، فيكون متى نشر سحابًا على الأرض، وتظهر القوس في السحاب. إني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد، فلا تكون أيضًا المياه طوفانًا لتهلك كل ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقًا أبديًّا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض.
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك سامًا وحامًا ويافثًا، وحام هو أبو كنعان، وهؤلاء الثلاثة هم بنو نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض.
وابتدأ نوح يكون فلَّاحًا، وغرس كرمًا، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه؛ فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجًا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا لهم ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدًا لهم.
وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فكانت كل أيام نوح تسعمائة وخمسين سنة، ومات.
(٣) الطوفان في أساطير آشور وبابل
وهنالك ظلت هذه الألواح ألفين من السنين حتى أدركها سير أ. ﻫ. لايارد ومستر جورج سميث بتقنياتهما، فأخرجاها إلى الناس مرة أخرى. ولا مراء في أن الألواح الاثني عشر التي تتضمن قصة «غلغامش» (أو أجزاءها الباقية منها والتي استكشفت حتى الآن) مشوهة تشويهًا كبيرًا. فقد تجد أن معنى فقرة برمتها قد غمض وتعذَّر فهمه بفجوةٍ حادثة في المتن الأصلي. ولا جرم أن مثل هذه الفجوات ليست بالشيء التافه عند الذين يريدون أن يدرسوا الأساطير الميثولوجية درسًا وافيًا، ويقفوا على تفاصيلها بدقةٍ تفي بأغراض البحث العلمي. غير أنه على الرغم من كل هذا، فإن علم مقارنة الأديان قد تقدَّم في العهد الأخير إلى درجةٍ أصبحنا معها أقدرَ على أن ندرك من أهمية هذه القصة الشعرية الميثولوجية، وأن نقرأها بدقةٍ لم يبلغها البابليون أنفسهم؛ لأنهم لم يعرفوا من هذه القصة إلا أنها مجرد رواية للمخاطرات والأفعال العظيمة التي قام بها أحد أبطالها.
مولد غلغامش
وعلى الرغم من أنه بعد ذلك يهيئ «غلغامش» بفرصة أن يأكل من «شجرة الخلود» فإنه يفقد الفرصة، ثم يشفي «أوت-نابشتيم» «غلغامش» من مرضٍ ينزل به عندما كان يعبر «بحر الموت»، ثم يعود بعد ذلك إلى مدينة «إريخ»، وفي هذه الأعمال تتخيل كيف تنحدر الشمس نحو المغيب إلى العالم السفلي، عندما تميل نحو «جبل الغروب»، كذلك يستحيل على الشمس أن تكسب الخلود وأن تظل أبد الآبدين مشرقة على أرض الأحياء، إنها لا بد من أن تعبر «بحر الموت» وأن تختفي في العالم السفلي.
غير أن عودة «غلغامش» إلى «إريخ» تمثل تنفس النهار مرة أخرى، وفي هذا معنى الصراع الدائم بين الليل والنهار، والصيف والشتاء، فالظلمة قد تغزو النور، غير أن النور لا بد من أن يبرز منتصرًا مرة أخرى، والصراع دائم لا نهاية له.
إيباني
أما الصورة الميثولوجية الأخرى فهي الصورة التي تمثل «أوت-نابشتيم» وهو «نوح البابلي». وبينا نجد أن القصص الدائرة حول شخصية «إيباني» وشخصية «غلغامش» قد تدامجتا بعضها في تضاعيف بعض، وإن كان في مستطاعنا حتى الآن أن نميز بينهما ونفرق بين عناصرهما، فإن أسطورة الطوفان وبطلها «أوت-نابشتيم» قد أدخلت في اللوح الحادي عشر من ألواح القصة كرواية رواها «أوت» نفسه لغلغامش. وعندما يظهر «أوت» لأول مرة على مرسح القصة، يظهر مزودًا بكل صفات الآلهة وقواتهم وسلطانهم، تلك الأشياء التي خلعها عليه الآلهة جزاء وفائه لهم، أثناء الطوفان الذي أغرقت مياهه كل أفراد النوع البشري ما عداه. ويلوح لنا أن المقصود من رواية الطوفان ومزجها بقصة «غلغامش» الإشارة إلى البطل الكبير بأنه لا ينجي الإنسان من حتفه المحتوم إلا ظروف استثنائية، بل ظروف نادرة جدًّا في الحياة.
وفي القصة صور ميثولوجية أخرى بينة المقاصد، منها وقعة «غلغامش» مع المسخ «خومبابا»، وحب «إشطار» لغلغامش، والقتال مع الثور المقدس الذي أرسله «عانو» الإله، والبحث وراء شجرة الحياة. وهذه الصور مهما كان أصلها ومهما كان منشؤها، فإن الحقيقة أنها أدمجت في قصة «غلغامش» إدماجًا. وعلى الرغم من العناصر التاريخية والميثولوجية التي تقع عليها خلال هذه العصور، فإن فيها قدرًا غير ضئيل من مذاهب بابل الدينية، تظهر بجلاءٍ في اللوح الحادي عشر (وفيه إشارة إلى أن كل الناس لا بد من أن يأتيهم الموت)، ولكن ذلك لا نقع له على أثر في اللوح الثاني عشر؛ حيث يظهر شبح «إيباني» لغلغامش، ويروي له ما يرى الموتى المدفونون تحت الثرى من إرهاق، أو أولئك الذين لا يُعنى بهم أهلهم بعد موتهم، وزعمه بأن عناية الأحياء بالموتى هي السبيل الأوحد الذي يمكنهم من أن يفلتوا من الآلام المحمضة التي يصادفونها في العالم السفلي.
وطأت الأتن أولادها إلى الحضيض، وفرت الأبقار صغارها فوق الثرى بأقدامها، والرجال يزأرون كالسوائم، والعذارى ينحن محزونات كالحمائم. لقد تبدلت آلهة «أرك» الشامخة الأسوار إلى ذبابٍ هائم، يئز بأجنحته في الطرق والممرات، وأرواح «أرك» الحصينة المسورة قد انقلبت أفاعي تنساب في الجحور. لقد حاصر العدو «أرك» ثلاث سنوات، والأبواب مغلقة والمنافذ مقفلة، كل هذا و«عشتار» في سباتها لا ترفع رأسها أمام العدو.
فإذا صح يومًا من الأيام أن هذه القطعة جزء من قصة «غلغامش»، فإنا ولا شك نعجز عن أن نحكم في «غلغامش»: أكان صاحب الحصار أم رافعه؟ أم أن له بهذه المسألة أية علاقة على وجه الإطلاق.
غلغامش مستبد
والآن نبدأ في شرح هذه القصة الشعرية، كما تبدأ على بقايا لوح من الألواح، يقول فيه بعض ثقات الباحثين إنه بدء اللوح الثاني، ولكن آخرين يرجحون أنه جزء من اللوح الأول. وفي هذا الطور نجد «غلغامش» يلعب على مرسح القصة دورًا مزدوجًا؛ إذ يظهر كأنه ملك على «إريخ» مستبد بأهلها. على أن مظهر الاستبداد غير جدير ببطل، بل إنه ليس من أخلاق الأبطال في شيء، وليس هنالك ذكر لحصار، كما أنك لا تعثر على شيءٍ يستدل منه على المصدر الذي جاء منه «غلغامش»، على الرغم من أن الأرجح أنه جاء «أرك» كفاتحٍ غاز.
ولما سمعت الآلهة «آرورو» هذه الكلمات صورت في ذهنها بطلًا يكون على صورة «عانو»، وغسلت «آرورو» يديها، وأخذت قطعة من صلصال كالفخار فكسرتها، ثم نبذتها إلى الأرض، وبذلك تمَّ خلق البطل «إيباني».
ولما تم خلق هذا الشخص ظهر في صورة رجل متوحش يقطن الجبال والحراش، «فكان كل جسمه مغطًّى بالشعر الكثيف، بل كان مكسوًّا بشعرٍ طويل كشعر النساء، وكان شعره ناميًا قويًّا كشعر إله القمح، ولم يكن يعرف الأرض التي خلق من فوقها، ولا الناس الذين هبط عليهم، فكسي بأكسية تشابه أكسية إله الحقول، ومع الغزلان أكل العشب، ومع السوائم أروى عطشه ونقع غلته، ومع حشرات الماء رقص قلبه طربًا.»
ولقد عثر على خراطيش وأختام أسطوانية منقوشة، مثل فيها «إيباني» كأنه مسخ — ساتير — له رأس إنسان وذراعاه وجسمه، وقرنا وحش وأرجله وأذناه. وكما رأينا من قبل نجد هنا أن هذا الرمز إنما يمثل الإنسان الحيواني — البدائي — يسرح مع السوائم في الحقول والأحراش، وهو على جهلٍ تامٍّ بكل ما في المدينة من طارف وتليد.
خدعة إيباني
وقرأ البعض هذه القطعة فرجح عندهم أن اللقاء كان اتفاقًا، ومهما يكن من هذا الأمر، فإن «تسايدو» رجع إلى «إريخ» وقصَّ على «غلغامش» نتيجة تجاربه مع «إيباني»، وذكر له قوة الرجل المتوحش البالغة، وسرعته في العَدْو وقطع المسافات البعيدة في أقرب حين، وكذلك أخبره عن الخجل الشديد الذي يتولاه عندما يلتقي بأحد من أبناء النوع البشري، ومن الجلي أن «غلغامش» لا بد من أن يكون قد تأكَّد من السبب الذي أرسل الآلهة من أجله «إيباني»، فيحاول أن يفسد ما صمم عليه الآلهة بأن يلتقي شخصيًّا بالرجل المتوحش، وأن يضع لهذا اللقاء تصميمًا، فيأمر «تسايدو» بأن يعود إلى الجبال وأن يأخذ معه «أوخوت»، وهي إحدى الفتيات المقدسات التابعات لهيكل «عشتار».
يسلكان الطريق المستقيم من غير أن ينعطفا يمنة أو يسرة. وفي اليوم الثالث يصلان إلى المكان الذي اعتاد «إيباني» أن يشرب منه، ويستخفي «تسايدو» والفتاة، ويظلان حيث هما يومًا ثم يومين، على مقربةٍ من مكان الاستسقاء، ثم يقدم «إيباني».
إنك جميل يا إيباني! إنك أشبه بالآلهة! لماذا تبقى في الوديان تذرعها مع وحوش البرية وسوائمها؟ تعالَ معي؛ فإني سأقودك إلى «أرك» الحصينة ذات الأسوار القوية، إلى القصر اللامع، مقر «عانو» و«عشتار»، إلى قصر «غلغامش» الكامل القوة، والذي يخضع البشر بقوته العظمى، كما يخضعهم ثور الجبال.
ووجد «إيباني» في كلام «أوخوت» حلاوة وقصدًا محببًا، فرغب في صداقة «غلغامش»، وصارح أنه راغب في أن يتبع الفتاة إلى مدينة «إريخ»، وبذلك بدأت رحلة «تسايدو وإيباني وأوخوت» إلى المدينة.
غلغامش يلتقي بإيباني
هذا غلغامش صديقك وأخوك، سيعطيك عربة عظيمة لتنام فيها مهيأة بكل المعدات الضرورية، وسيخصص لك مقعدًا عن شماله، وتقبل ملوك الأرض قدميك.
فيقتنع «إيباني» في الظاهر، ويكفُّ عن الشكوى من محيطه الجديد، ويخضع راضيًا عما سبق له في القدر.
وهنا ينتهي هذا الدعاء المملوء حرارة، الفائض بالروعة والجلال.
المسخ خومبابا
•••
فإذا انتقلنا إلى الأجزاء التالية من الألواح، كنا في اللوح الخامس؛ فإن البطلين وقد وصلا إلى جبلٍ مخضوضر خصيب، يجلسان في هدوء ليلقيا بنظرة على «غابة السيدر»، ولما يلجان الغابة يحلم أحدهما أو كلاهما بمقتل «خومبابا»؛ ولذلك يقدمان إلى العراك مسرعين، غير أنه من الأسف لم يبقَ من اللوح تلك القطع التي تصف صورة المعركة. أما مقتل «خومبابا» فيستدل عليه من الألواح التالية.
عشتار وحبها لغلغامش
في اللوح السادس الذي يروي قصة حب عشتار «لغلغامش»، وقتل الثور المقدس، يلازم الانتصار البطلين. غير أننا في الوقت ذاته نقع على الأسباب التي تعزو إليها هذه الخرافة سر ما يلقيان من النحس وسوء الطالع، فتجد أن غلغامش بعد أن يقتل «خومبابا» ويقفل عائدًا إلى «أرك» يذيع صيته ويرتفع ذكره؛ ولذا ينبذ الثياب الملطخة بالوحول المجللة بدماء فريسته، ويرتدي ثيابًا لا يرتديها إلا الملوك الفاتحون، وتقع عليه عينا «عشتار» وتراه في أبهة الملك وعظمة السلطان، وزهرات الانتصار تزين جبينه وتكلل رأسه، فيلتهب قلبها حبًّا وتهيم به غرامًا، وبكلمات ملئن حرارة وعاطفة، تمت إليه أن يكون بعلها، وتعده بأنه إذا دخل منزلها — حيث يقوم في جوف غابة السيدر المظلم — فإنها سوف تفعمه بعطاياها وتبهره بهباتها، وأن قطعانه سوف تزيد، وأن خيوله وثيرانه سوف لا يكون لها نظير، وأن نهر الفرات سوف يقبل رجليه ويخضع له، وأن الملوك والأمراء سوف يخضعون له ويقدمون له الإتاوات.
ومن حول رواية حب عشتار «لغلغامش» تقوم أسطورة طبيعية، يغلب أن تكون أسطورة ذات علاقة بفيضٍ ربيعي. فإن «غلغامش» إله الشمس، أو البطل الذي اختص بالصفات التي يختص بها إله الشمس، قد تعشقته «عشتار» إلهة الحب، الإلهة الأم العظيمة، التي تتعهد برعايتها منتوجات الربيع الجميلة. فإننا إذا رجعنا إلى حوادثها الغرامية الأولى نقع على قصة «تموز» الخرافية، التي تقتل فيها «عشتار» حبيب قلبها وصفيها «تموز»، مشفوعة بقليلٍ من الروايات الميثولوجية المتناثرة المتدابرة، ولا يبعد أن يكون لهذه الأسطورة اعتبارات تنجيمية — استرلوغية — في هذه المرحلة من القصة الكبرى.
ثور عانو
فتذهب «عشتار» وتتسلق أسوار «أرك» الحصينة، وهنالك بعد أن ترتقي أعلى قمة من الأسوار ترسل لعنة من لعناتها الأبدية قائلة: لتكن ملعونًا يا غلغامش، أنت يا من أثَرْتَ في قلبي الغضب، ويا من قتل الثور الذي أرسلته السماء.
ولما سمع إيباني هذه الكلمات التي تفوهت بها «عشتار»، قطع أوشاج الثور إربًا إربًا ورمى بها أمامها قائلًا: كما غزوته وقهرته سوف أقهرك، وسأفعل بك مثل ما فعلت به.
فتملك الغضب «عشتار»، وبلغ منها الحنق كل مبلغ. أما غلغامش ورفيقه فقد أهديا إلهة الشمس قرني الثور العظيمين، وبعد أن غسلا يديهما في نهر الفرات قفلا راجعين إلى «أرك».
وخرج الناس يحيون البطلين كلما مرَ بطرق من أطراف المدينة موكب استقبالهما.
أما بقية اللوح فيصف مأدبة أقامها غلغامش؛ ليحيي بها ذكرى انتصاره على الثور «عانو»، ويتلو ذكر بعض أحلام يرويها «إيباني».
موت إيباني
لقد لعنت يا صديقي؛ ولذا سوف لا أموت ميتةً من يخر في ساحة الحرب قتيلًا.
والسبب في اختلاف القارئين راجعٌ إلى تهشيم الألواح وتشويهها تشويهًا كبيرًا. والراجح أن تكون القراءة الأخيرة هي الأصح. وهذا رأي الباحث «لويس سبنس» الإنجليزي، فإن «إيباني» قد أغضب «عشتار» قادرة القادرات، ولا يبعد أن تكون اللعنة التي أسكنته الأرض وأوردته موارد الدمار هي لعنتها، وبموت «إيباني» ينتهي اللوح الثامن. أما اللوح التاسع فكله وصف لحزن «غلغامش» على موت صديقه ووفيه الحميم.
مطلب غلغامش
تحمل الأحجار الكريمة بدل الثمار، وقد تدلت فروعها وأغصانها على أجمل نظام رأته عين، وقد ثقلت بالأثمار التي تخطف البصر إذا حدق فيها الناظر.
وبعد أن ملأ «غلغامش» ناظريه من جمال الحديقة، انطلق يطلب الشاطئ.
ولما لاقى «غلغامش» «آداد-إيا» نصحه أن يرجع، ولكن البطل كان على تصميمه وعناده، فبدأ يحطم سفينة الملاح بفأسه، فاضطر الملاح أن ينفذ رغبة «غلغامش»، فأرسل مساعده إلى الغابة ليحضر إليه ما يصلح به سفينته، وبعد إصلاحها سافرا معًا.
غلغامش وأوت نابشتيم
إني أرى يا «أوت-نابشتيم» أن مظهرك لا يختلف عن مظهري، فإنك مثلي، لا تباينني في أي شيء، وإن فنك ليشابه فني، وقلبك يتحرق للقتال … فكيف بك قد دخلت حظيرة الآلهة …؟ كيف وقعت على سر الحياة …؟
أسطورة الطوفان
ردًّا على هذه الأسئلة يروي «أوت-نابشتيم» أسطورة الطوفان البابلي. وهي أسطورة إذا رويت وحدها كوَّنت قصة مستقلة عن قصة «غلغامش»، بل هي أسطورة ميثولوجية كبيرة الخطر عميقة المغزى.
إن نذير الطوفان قد غشي «أوت-نابشتيم» في حلمٍ من الأحلام. سمع صوت الإله يقول:
أما الغرض من هذا الجواب فكان ظاهرًا جليًّا، غير أن الأسطر التي تأتي بعد ذلك في اللوح — وهي التي تكمل الكلام — فناقصة مبتورة.
أما غرض «إيا» مما ألهم به «أوت-نابشتيم»، فأن يصرف الناس عن الشك في أمر الفلك، بأن يعرفوا أن «أوتا» إنما يبني الفلك ليستطيع بعد بنائه الهرب من غضب «بعل»، الذي سوف يحل به وحده إذا هو لم ينجُ بنفسه، وإنه من الواجب عليه أن يتنبأ للناس بتهطال المطر، غير أنه يوحي إليهم أن تهطاله علامة خير وبركة، سوف ينزلها «بعل» على أهل «شوريباك»؛ لأن «أوت-نابشتيم» سوف يفارقهم.
الفلك البابلي
واستمر الظلام والفوضى يسودان الأرض يومًا كاملًا. وعجز الناس عن أن يرى بعضهم بعضًا. ولقد كان الفزع شديدًا، حتى إن الآلهة في السماء تملَّكهم الخوف، ونزل بقلوبهم الفزع الشديد، فكانوا «ككلاب الصيد»، يبكون حيارى آسفين على أنهم اشتركوا في تخريب الأرض وأخذوا بضلع في إفناء النوع البشري.
طيور الاستكشاف
وعندئذٍ أحضر «أوت-نابشتيم» أهل بيته وكل أمتعته إلى الفضاء، وقدم إلى الآلهة قربانًا من حطبٍ وخشب السيدر وعطر البخور، وارتفعت رائحة العطر إلى مقر الآلهة فاجتمعوا «كالذباب» — على ما تصفهم الرواية — من حول القربان، وكان من بين الآلهة «عشتار» سيدة الآلهة، فرفعت عقدها الثمين الذي أعطاه لها «عانو» وقالت:
ولقد غضب «بعل» أشد الغضب عندما عرف أن بقية من الإنسان لا تزال حية فوق الأرض، وأراد أن يهلك «أوت-نابشتيم» وأهله، غير أنَّ «إيا» صرفته عن عزمه ودافعت عن صفيها «أوت»؛ لأنه لم يستشر الآلهة عندما أمر بحدوث الطوفان العام وإفناء الأحياء، ونصحت إليه بأن لا يعاقب إلا المذنبين بذنوبهم دون بني الإنسان في مجموعهم. وأخيرًا اقتنع «بعل»، فجاء إلى سفينة «أوت» التي كانت تحمل البقية الباقية من النوع البشري، وأخذ بيد «أوت-نابشتيم» وزوجه وقادهما إلى العراء خارج السفينة؛ حيث أنعم عليهما وحباهما البركة. ثم يقول «أوت»: ثم قادوني بعيدًا إلى مصب أحد الأنهار، وأمروني بأن أعيش هناك.
هذه هي القصة التي رواها «أوت-نابشتيم» «للبطل غلغامش». ولا يظهر للمطلع على القصة سبب في إفناء النوع البشري، اللهم إلا العداء الذي استحكم بين البشر وبين الآلهة، وعلى الأخص بين أبطال بني الإنسان وبين الإله المحارب «بعل» الكبير. ولكن يظهر بجلاء من سياق القصة أن «مجمع الآلهة» قد قرر تخريب مدينة «شوريباك» وحدها، وأنه لم يوافق على إفناء النوع البشري. ولا مراء مطلقًا في أن هذه القصة عبارة عن أسطورتين تدامجتا معًا على مر الزمان، ثم أصبحتا من بعدُ قصةً واحدة تدور حول بطلين أولهما غلغامش بطل «أرك» وأوت-نابشتيم سلفه العظيم، الذي رفعته الآلهة إلى مصافهم.
وعلى الرغم من أن هذا اللوح مشوه تشويهًا كبيرًا، فليس من الصعب أن تستدل من قراءته على مشابهاتٍ، تعرف منها أواصر العلاقة بين الرواية التي تروى فيه وبين قصة «غلغامش».
•••
إلى هنا نصل إلى الحد الذي يجب علينا ألا نتعداه، فلا شجرة الحياة التي أخذها غلغامش وسرقها منه الأفعوان في الطريق، ولا طلبه الخلود من «أوت»، ولا وصوله إلى «أرك» مرة ثانية، بمفيدٍ لنا في سياق هذه القصة شيئًا ولا هو بضروري لسياق البحث. أما الذي حدا بنا إلى ذكر هذه الأسطورة بالتطويل فضرورة، سوف تظهر في خلال ما سوف نمضي فيه من بحوث.