الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
(١) سُلَيْمَانُ الْحَطَّابُ
كَانَ «سُلَيْمَانُ الْحَطَّابُ»: بَطَلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ يَعِيشُ فِي كُوخٍ صَغِيرٍ.
كَانَ يُحِيطُ بِكُوخِهِ الصَّغِيرِ مَرْجٌ نَضِيرٌ. كَانَ الْكُوخُ الصَّغِيرُ وَالْمَرْجُ النَّضِيرُ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ غَابَةٍ كَثِيفَةٍ مَمْلُوءَةٍ بِالْأَشْجَارِ.
كَانَ «سُلَيْمَانُ الْحَطَّابُ» لَا يَمْلِكُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا بَقَرَةً وَحِمَارًا، وَبِضْعَ وَزَّاتٍ وَبَطَّاتٍ، وَقَلِيلًا مِنَ الْخِرْفَانِ وَالنَّعْجَاتِ.
كَانَ الْحَطَّابُ وَزَوْجَتُهُ يَعِيشَانِ فِي هَنَاءٍ وَرَغَدٍ، لَا يُعَكِّرُ صَفْوَهُمَا أَحَدٌ.
(٢) الْعِمْلَاقُ الشَّرِسُ
بَعْدَ أَعْوَامٍ قَلِيلَةٍ، تَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ: جَفَّ مَاءُ النَّهْرِ. أَجْدَبَتِ الْحُقُولُ. تَعَرَّتِ الْأَشْجَارُ مِنَ الثِّمَارِ وَالْغُصُونِ. لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ نَبَاتٌ.
كَانَ سَبَبَ الْمَصَائِبِ وَمَصْدَرَ النَّكْبَاتِ، عِمْلَاقٌ جَبَّارٌ، هَائِلُ الحَجمِ طُوَّالٌ (مُفْرِطُ الطُّولِ)، يَجْمَعُ بَيْنَ الشَّرَاسَةِ وَالْقُوَّةِ.
وَفَدَ الْعِمْلَاقُ مِنَ الْغَابَةِ إِلَى الْقَرْيَةِ الْآمِنَةِ. أَقَامَ بِالْقَرْيَةِ عِدَّةَ أَشْهُرٍ جَلَبَ عَلَى الْقَرْيَةِ ضُرُوبًا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْخَرَابِ. أَكَلَ الْعِمْلَاقُ كُلَّ مَا يَحْوِي الْمَرْجُ النَّضِيرُ، مِنْ نَبَاتٍ وَثَمَرٍ.
أَتَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَم يُبْقِ وَلَمْ يَذَرْ.
هَكَذَا اسْتَطَاعَ الْجَبَّارُ الشَّرِسُ أَنْ يُشْقِيَ الْبَلَدَ الْآمِنَ، وَيُنَغِّصَ عَلَى هَذِهِ الْأُسْرَةِ السَّعِيدَةِ حَيَاتَهَا، بَعْدَ أَنْ حَوَّلَ أَشْجَارَ الْقَرْيَةِ حَطَبًا، وَبَدَّلَهَا مِنْ رَخَائِهَا جَدْبًا، وَمِنْ أَمْنِهَا رُعْبًا.
لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ.
إِنَّ الْبِلَادَ تَسْعَدُ وَتَشْقَى، كَمَا يَسْعَدُ سَاكِنُوهَا وَيَشْقَوْنَ.
كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ: مِنْهُمْ مَنْ يَجْلِبُ السَّعَادَةَ حَيْثُمَا حَلَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْشُرُ الْبُؤْسَ حَيْثُمَا ذَهَبَ، وَيُشِيعُ الْفَاقَةَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَجُرُّ عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا كَوَارِثَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ، وَفَوَاجِعَ التَّعَاسَةِ وَالشَّقَاءِ.
(٣) الْجَبَلُ الْآدَمِيُّ
كَانَ النَّاسُ يُطْلِقُونَ عَلَى الْعِمْلَاقِ الْجَبَّارِ لَقَبَ «جَبَّارِ الْجَبَابِرَةِ».
كَانَ الْعِمْلَاقُ أَشْبَهَ بِالنَّخْلَةِ الْعَالِيَةِ.
كَانَ — عَلَى طُولِ قَامَتِهِ، وَارْتِفَاعِ هَامَتِهِ — أَصْفَرَ اللَّوْنِ، قَبِيحَ الصُّورَةِ، كَلِيلَ النَّظَرَاتِ.
كَانَ ظَمْآنَ، ظَمْآنَ دَائِمًا، ظَمْآنَ لَا يُرْوَى.
مَهْمَا يَشْرَبُ لَا يَنْطَفِئُ مِنْ جَوْفِهِ لَهَبُ الْعَطَشِ.
لَوْ شَرِبَ أَنْهَارَ الْعَالَمِ لَمْ يَبْرُدْ أُوَارُهُ، وَلَمْ يَهْدَأْ سُعَارُهُ.
كَانَ لَا يَفْتَأُ يَلْهَثُ، فَيُخْرِجَ لِسَانَهُ الْجَافَّ، وَيُمِرُّ بِهِ عَلَى شَفَتَيْهِ الظَّامِئَتَيْنِ الْمُلْتَهِبَتَيْنِ بِنَارِ الْعَطَشِ، ثُمَّ يَصِيحُ قَائِلًا:
«ظَمْآنُ! ظَمْآنُ! أُرِيدُ أَنْ أَشْرَبَ. عَلَيَّ بِالْمَاءِ. أَيْنَ الْمَاءُ؟»
كَانَتْ هَذِهِ الصَّيْحَةُ تَتَرَدَّدُ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنَ الْغَابَةِ.
كَانَتِ الْأَرَانِبُ وَالْغِزْلَانُ تُذْعَرُ لِسَمَاعِ صَيْحَتِهِ. كَانَتِ الْفِيَلَةُ وَالْفُهُودُ وَالنُّمُورُ وَالْأُسُودُ تَفْزَعُ مِنْ صَيْحَتِهِ، وَتَهْرُبُ مِنْ صَرْخَتِهِ.
كَانَ إِذَا زَفَرَ أَوْ نَفَخَ، أَوْ تَحَدَّثَ أَوْ صَرَخَ، خَافَ النَّهْرُ، وَارْتَاعَتِ الْآبَارُ، وَذُعِرَتْ عُيُونُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
كَانَتْ مَنَابِعُ الْمَاءِ كُلُّهَا تَعْرِفُ أَنَّ الْجَبَّارَ لَنْ يُبْقِيَ مِنْهَا — بَعْدَ قَلِيلٍ — قَطْرَةً وَاحِدَةً لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ.
كَانَ دَائِمَ الْحَرَكَةِ، لَا يَسْكُنُ لَهُ بَالٌ، وَلَا يَقَرُّ لَهُ قَرَارٌ، وَلَا يَكُفُّ عَنِ السَّيْرِ لَيْلَ نَهَارَ.
كَانَ دَائِمَ الْبَحْثِ عَنِ الْمَاءِ. لَوِ اسْتَطَاعَ لَطَارَ إِلَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، يُحَاوِلُ عَبَثًا أَنْ يَرْوِيَ ظَمَأَهُ الدَّائِمَ.
إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي نَبْعٍ، أَوْ عَيْنٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَرْضِ، بَاسِطًا ذِرَاعَيْهِ، مَائِلًا بِرَأْسِهِ: يَجْرَعُ جُرْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَيَأْتِي عَلَى الْمَاءِ، لَا يَدَعُ مِنْهُ قَطْرَةً، وَلَا يُبْقِي مِنْهُ ذَرَّةً.
يَذْهَبُ إِلَى الْقَنَوَاتِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تَتَخَلَّلُ الْمُرُوجَ وَتُرْوِيهَا، فَيَشْتَفُّ مَا فِيهَا (يَشْرَبُهُ جَمِيعًا).
لَا يَنْتَهِي مِنَ الشُّرْبِ حَتَّى يَصْرُخَ مُتَهَدِّدًا، مُزَمْجِرًا مُتَوَعِّدًا: «ظَمْآنُ. ظَمْآنُ. وَيْلَاهُ! أُرِيدُ أَنْ أَشْرَبَ. تُرَى مَنْ يَسْقِينِي؟ أُرِيدُ أَنْ أَرْتَوِيَ. تُرَى مَنْ يُرْوِينِي؟»
(٤) حِوَارُ الزَّوْجَيْنِ
ذَاتَ لَيْلَةٍ قَالَتْ «سُعَادُ» لِزَوْجِهَا الْحَطَّابِ:
«كَيْفَ نَصْبِرُ عَلَى هَذِهِ الْوَيْلَاتِ وَالْمَصَائِبِ؟
أَحْوَالُنَا تَسُوءُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. الْفَقْرُ يَتَهَدَّدُنَا، وَالشَّقَاءُ يَزْدَادُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ.
فِي الْعَامِ الْمَاضِي تَسَلَّفْنَا — مِنْ جَارِنَا الطَّحَّانَ — مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَاشِيَتُنَا وَدَوَاجِنُنَا مِنَ الْعَلَفِ.
كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُؤَدِّيَ لَهُ دَيْنَهُ بَعْدَ عَامٍ. لَمْ نَسْتَطِعْ ذَلِكَ، وَا أَسَفَاهُ! هَا هُوَ ذَا الْعَامُ الْجَدِيدُ يُقْبِلُ.
هَا هِيَ ذِي أَوَائِلُهُ تُنْذِرُنَا بِأَنَّهُ أَسْوَأُ مِنَ الْعَامِ الْمَاضِي وَأَشَدُّ جَدْبًا.
قَلَّ الْعَلَفُ وَعَزَّ الْحُصُولُ عَلَيْهِ. أَصْبَحَ نَادِرَ الْوُجُودِ. ارْتَفَعَ ثَمَنُهُ ارْتِفَاعًا عَظِيمًا لَا عَهْدَ لَنَا بِمِثْلِهِ. لَيْسَ لَدَيْنَا مَالٌ فَنَشْتَرِيَهُ.
لَمْ يَبْقَ فِي قَرْيَتِنَا أَحَدٌ نَتَسَلَّفُ مِنْهُ قُوتَ مَاشِيَتِنَا فِي هَذَا الْعَامِ.
لَا مَفَرَّ لَنَا مِنْ بَيْعِ الْوَزِّ وَالْبَطِّ وَالْبَقَرَةِ وَالْحِمَارِ، وَالنِّعَاجِ وَالْخِرْفَانِ.
إِذَا لَمْ نُعَجِّلْ بِبَيْعِهَا هَلَكَتْ جُوعًا وَهَلَكْنَا مَعَهَا.»
قَالَ الْحَطَّابُ: «الْحَقُّ مَعَكِ. لَكِنْ صَبْرًا — يَا زَوْجَتِيَ الْعَزِيزَةَ — صَبْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.»
قَالَتْ سُعَادُ: «كَيْفَ يَعِيشُ أَوْلَادُنَا الْمَسَاكِينُ؟»
قَالَ الْحَطَّابُ: «كُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ فَرَجَ اللهِ قَرِيبٌ.
لَا تَنْسَيْ أَنَّ الضَّائِقَةَ إِذَا بَلَغَتْ أَقْصَاهَا، كَانَ ذَلِكَ إِيذَانًا بِانْفِرَاجِهَا وَجَلَائِهَا، وَبَشِيرًا بِزَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا.
اصْبِرِي يَا عَزِيزَتِي، وَلَا تَيْأَسِي مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
اصْبِرِي يَا عَزِيزَتِي. إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
مَاذَا يُجْدِينَا الْجَزَعُ وَالْهَلَعُ؟ أَيُّ فَائِدَةٍ نَجْنِيهَا إِذَا اسْتَسْلَمْنَا لِلْحُزْنِ وَالْأَلَمِ؟ لَنْ يَجْلُبَا عَلَيْنَا غَيْرَ الشَّقَاءِ وَالنَّدَمِ.
هَلْ يَنْفَعُنَا الْبُكَاءُ إِذَا بَكَيْنَا أَلْفَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ هَلْ يَجْلُبُ لَنَا حَبَّةَ شَعِيرٍ تَأْكُلُهَا دَوَابُّنَا؟ هَلْ يُنْبِتُ لَنَا سُنْبُلَةَ قَمْحٍ يَقْتَاتُ بِهَا أَوْلَادُنَا؟
لَيْسَ أَمَامَنَا غَيْرُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ. حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.»
قَالَتْ سُعَادُ زَوْجَتُهُ: «مَاذَا أَنْتَ صَانِعٌ الْآنَ بَعْدَ أَنْ يَبِسَ الْحَقْلُ وَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْمِنْجَلِ؟»
أَجَابَهَا الْحَطَّابُ: «لَا تَنْسَيْ أَنَّنِي كُنْتُ — إِلَى وَقْتٍ قَرِيبٍ — حَطَّابًا قَبْلَ أَنْ أَشْتَغِلَ بِالزِّرَاعَةِ وَأُعْنَى بِتَرْبِيَةِ الدَّوَاجِنِ وَالْمَاشِيَةِ.
لَا تَنْسَيْ أَنَّ الْغَابَةَ لَا تَزَالُ مِنَّا دَانِيَةً قَرِيبَةً. لَا تَنْسَيْ أَنَّ الْمِلْطَسَ (الْفَأْسَ) لَا يَزَالُ جَاهِزًا.
لَا بَأْسَ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى حَيَاتِيَ الْأُولَى، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا.»
قَالَتْ زَوْجَةُ الْحَطَّابِ:
«الرَّأْيُ مَا تَرَاهُ. اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. اخْرُجْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.»
•••
حَمَلَ الْحَطَّابُ مِلْطَسَهُ. وَضَعَ الْحَطَّابُ كِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ فِي حَقِيبَتِهِ.
وَدَّعَ الْحَطَّابُ زَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ، بَعْدَ أَنْ أَوْصَاهُمْ بِالْبَقَرَةِ وَالْحِمَارِ وَالْوَزِّ وَالْبَطِّ وَالدَّجَاجِ وَالْخِرْفَانِ وَالنِّعَاجِ.