الْفَصْلُ الرَّابِعُ
(١) قَضَاءُ الدَّيْنِ
عَادَ الْحَطَّابُ إِلَى بَيْتِهِ. رَأَىَ زَوْجَتَهُ مَحْزُونَةً تَبْكِي. سَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ حُزْنِهَا. قَالَتْ زَوْجَةُ الْحَطَّابِ:
«حَضَرَ إِلَيْنَا جَارُنَا الطَّحَّانُ يُطَالِبُ الْيَوْمَ بِمَا تَسَلَّفْنَاهُ مِنْهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي مِنَ الْعَلَفِ. كَانَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلى اسْتِرْدَادِ دَيْنِهِ.»
قَالَ الْحَطَّابُ: «الْحَقُّ مَعَهُ. لَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ بِالدَّيْنِ لِصَاحِبِهِ.
اللهُ يَأْمُرُنَا بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
مَا أَجْدَرَنَا أَنْ نَشْكُرَ جَارَنَا عَلَى مَا قَدَّمَ لَنَا مِنْ مَعْرُوفٍ.»
قَالَتْ «سُعَادُ»: «مَا بَالُ جَارِنَا لَا يَصْبِرُ عَلَيْنَا حَتَّى تَنْفَرِجَ أَزْمَتُنَا، وَتَنْجَلِيَ ضَائِقَتُنَا؟»
قَالَ الْحَطَّابُ: «لَعَلَّهُ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكِ اضْطِرَارًا. لَيْسَ مِنْ حَقِّنَا أَنْ نَلُومَهُ، عَلَى أَيِّ حَالٍ. صَاحِبُ الدَّيْنِ حُرٌّ فِي أَنْ يَسْتَرِدَّ دَيْنَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَشَاءُ.
لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا نَأْخُذُ، ثُمَّ نَغْضَبَ إِذَا طُولِبْنَا بِالْوَفَاءِ.»
قَالَتْ «سُعَادُ»: «صَدَقْتَ. لَمْ تَقُلْ إِلَّا حَقًّا. لَكِنْ خَبِّرْنِي: كَيْفَ تَعِيشُ الْبَقَرَةُ وَالْحِمَارُ وَالنِّعَاجُ وَالْخِرْفَانُ، إِذَا أَعْطَيْنَا جَارَنَا أَقْوَاتَهَا مِنَ الْعَلَفِ؟»
قَالَ الْحَطَّابُ: «سُوقُ الْقَرْيَةِ بَعْدَ غَدٍ. لَيْسَ لَنَا مَفَرٌّ مِنْ بَيْعِ مَا نَمْلِكُ مِنْ دَوَاجِنَ وَمَاشِيَةٍ، حَتَّى لَا تَهْلِكَ جُوعًا.»
(٢) أَثَرُ الدِّمَاءِ
شَافَتْ «سُعَادُ» زَوْجَهَا وَهُوَ يَضَعُ مِلْطَسَهُ فِي رُكْنِ الْحُجْرَةِ.
يَا لَدَهْشَتِهَا! مَاذَا رَأَتْ؟
صَاحَتْ مُتَوَجِّعَةً: «أَيُّ دَمٍ هَذَا! هَلْ جُرِحْتَ؟»
أَقْبَلَ عَلَيْهَا يُطَمْئِنُهَا وَيَقَصُّ عَلَيْهَا مَا حَدَثَ.
جَزِعَتِ الزَّوْجَةُ مِمَّا سَمِعَتْ. أَقْبَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا تَلُومُهُ لِتَعَرُّضِهِ لِلْأَخْطَارِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ غَيْرِهِ.
قَالَ الْحَطَّابُ:
«أَكُنْتِ تَرْضَيْنَ أَنْ أَتْرُكَ الْعِمْلَاقَ يَفْتَرِسُ الْفَتَاةَ الصَّغِيرَةَ؟»
قَالَتِ الزَّوْجَةُ: «مَا كَانَ أَجْدَرَكَ أَنْ تَذْكُرَ أَنَّ أَوْلَادَكَ وَزَوْجَتَكَ أَعَزُّ عَلَيْكَ، وَأَحَقُّ بِأَنْ تَسْتَبْقِيَ لَهُمَا حَيَاتَكَ؛ فَلَا تُعَرِّضَهَا لِلْهَلَاكِ فِي سَبِيلِ مَنْ لَا تَعْرِفُ مِنَ الْغُرَبَاءِ. مَا كَانَ أَجْدَرَكَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَصْرِفَ جُهْدَهُ كُلَّهُ لِأُسْرَتِهِ وَحْدَهَا.»
أَجَابَهَا الْحَطَّابُ: «كَلَّا يَا عَزِيزَتِي. لَا تَنْدَمِنَّ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ. إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ ثَوَابَهُ. إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.»
(٣) السَّعَادَةُ بَعْدَ الشَّقَاءِ
جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي. خَرَجَ الْحَطَّابُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الْمَرْجِ فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ.
عَزَمَ الْحَطَّابُ عَلَى بَيْعِ دَوَاجِنِهِ وَمَوَاشِيهِ. وَدَّعَ الْحَطَّابُ حِمَارَهُ أَوَّلَ مَا وَدَّعَ. كَانَ الْحَطَّابُ شَدِيدَ الْحُزْنِ لِفِرَاقِ حِمَارِهِ. كَانَ بَيْنَ الْحَطَّابِ وَحِمَارِهِ صُحْبَةٌ جَمِيلَةٌ، وَأُلْفَةٌ طَوِيلَةٌ.
يَا لَدَهْشَةِ الْحَطَّابِ! هَا هِيَ ذِي قَدَمُهُ تَغُوصُ فِي أَرْضٍ رَطْبَةٍ.
نَظَرَ الْحَطَّابُ مُتَعَجِّبًا. قَالَ لِنَفْسِهِ مُتَحَيِّرًا: «تُرَى مِنْ أَيْنَ جَاءَ الْمَاءُ؟»
يَا لَدَهْشَتِهِ! هَا هُوَ ذَا يَرَى أَرْضَهُ خَصْبَةً سَوْدَاءَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَاوِيَةً جَدْبَاءَ، قَاحِلَةً بَيْضَاءَ.
تَلَفَّتَ الْحَطَّابُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً. كَانَ الْعَجَبُ آخِذًا مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ.
هَا هُوَ ذَا يَرَى النَّبَاتَ مُزْدَهِرًا، وَالْأَشْجَارَ مُورِقَةً مُثْمِرَةً.
هَا هُوَ ذَا يَرَى النَّهْرَ يَفِيضُ مَاءً عَذْبًا.
(٤) نَشِيدُ الْجِنِّيَّاتِ
كَانَ الْحَطَّابُ يَسْتَمِعُ إِلَى خَرِيرِ الْمَاءِ فَرْحَانَ مُبْتَهِجًا. كَانَ صَوْتُ الْمَاءِ عَلَى سَمْعِهِ أَعْذَبَ مِنَ الْمُوسِيقَى.
تَلَفَّتَ الْحَطَّابُ حَوْلَهُ. رَأَى جِنِّيَّاتِ الْمَاءِ مُجْتَمِعَاتٍ فِي حَقْلِهِ، سَاهِرَاتٍ عَلَى حِرَاسَتِهِ وَتَعَهُّدِ نَبَاتِهِ، مَاشِيَاتٍ عَلَى الْأَرْضِ حِينًا وَطَائِرَاتٍ فِي الْجَوِّ حِينًا، بَيْنَ مُجْتَمِعَاتٍ وَمُتَفَرِّقَاتٍ. رَأَى الْفَتَاةَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي أَنْقَذَهَا مِنَ الْعِمْلَاقِ تَقُودُ أَتْبَاعَهَا مِنْ بَنَاتِ الْجِنِّ الظَّرِيفَاتِ. سَمِعَهَا تَشْدُو لِرَفِيقَاتِهَا مُتَرَنِّحَةً مِنَ الْفَرَحِ. كُنَّ يُرَدِّدْنَ شَدْوَهَا مُتَرَنِّحَاتٍ:
ظَلَّتِ الْجِنِّيَّاتُ يُصَفِّقْنَ لِمَلِيكَتِهِنَّ الشَّابَّةِ الْفَتِيَّةِ. كُنَّ شَدِيدَاتِ الْفَرَحِ بِنَجَاةِ أَمِيرَتِهِنَّ. أَقْبَلَ الْحَطَّابُ الشُّجَاعُ عَلَى الْجِنِّيَّاتِ وَأَمِيرَتِهِنَّ شَاكِرًا لَهُنَّ مَا أَسْدَيْنَ إِلَيْهِ مِنْ مَعْرُوفٍ.
ارْتَفَعَتْ حَشَائِشُ الْمَرْجِ. أَصْبَحَتْ أَعْلَى مِنْ بُطُونِ الْبَقَرِ وَظُهُورِ النِّعَاجِ وَالْخِرْفَانِ. أَسْرَعَ الْحِمَارُ إِلَى الْمَاءِ لِيَرْوِيَ ظَمَأَهُ. كَانَتِ الدَّوَاجِنُ وَالْمَوَاشِي هَانِئَةً سَعِيدَةً بِمَا تَشْرَبُهُ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ نَمِيرٍ.
حَمْدًا لِلهِ، عَلَى مَا أَوْلَاهُ. نَجَتِ الْقَرْيَةُ وَأَهْلُهَا مِنْ أَذَى الْعِمْلَاقِ الشِّرِّيرِ.
(٥) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ
أَقْبَلَتْ «سُعَادُ» عَلَى زَوْجِهَا تُهَنِّئُهُ بِمَا ظَفِرَ مِنْ ثَمَرَاتٍ وَخَيْرَاتٍ.
اِبْتَهَجَتِ الْقَرْيَةُ كُلُّهَا بِمَا هَيَّأَهُ لَهَا «قَاهِرُ الْجَبَابِرَةِ» مِنْ خَيْرٍ عَمِيمٍ وَهَنَاءٍ مُقِيمٍ. عَرَفَ الْأَهْلُونَ قِصَّةَ الْحَطَّابِ مَعَ الْعِمْلَاقِ وَأَمِيرَةِ الْجِنِّيَّاتِ.
أَقْبَلُوا عَلَيْهِ فَرْحَانِينَ. شَكَرُوا لَهُ مَا أَسْدَاهُ إِلَيْهِنَّ مِنْ جَمِيلٍ.
قَالَ الْحَطَّابُ لِمُوَاطِنِيهِ: «لَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ أَدَّيْتُ وَاجِبِي. لَا شُكْرَ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ.»
قَالَتْ «سُعَادُ» لِزَوْجِهَا: «نَحْنُ أَدَّيْنَا لِجَارِنَا مَا تَسَلَّفْنَاهُ مِنَ الْعَلَفِ لَا يَزَالُ لَدَيْنَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَقْوَاتِ، وَالْفَاكِهَةِ وَالثَّمَرَاتِ. خَبِّرْنِي:
أَيُّ أُعْجُوبَةٍ حَدَثَتْ لَنَا؟ أَيُّ مُعْجِزَةٍ سَمَاوِيَّةٍ حَلَّتْ بِأَرْضِنَا؟ أَيُّ قُوَّةٍ هَيَّأَتْ لَنَا هَذِهِ السَّعَادَةَ؟»
وَقَفَ الْحَطَّابُ وَهُوَ يُجِيلُ عَيْنَهُ الْحَالِمَةَ، تَارَةً فِي أَمْوَاجِ النَّهْرِ الْفِضِّيَّةِ الْمُتَدَفِّقَةِ، وَتَارَةً أُخْرَى فِي مِيَاهِ الْأَخَادِيدِ وَالْقَنَوَاتِ الزُّرْقِ الْجَارِيَةِ خِلَالَ الْمَرْجِ. قَالَ الْحَطَّابُ لِزَوْجَتِهِ «سُعَادَ»:
«إِنَّنَا مَدِينُونَ بِهَذَا الْخَيْرِ كُلِّهِ لِأَمِيرَةِ الْجِنِّيَّاتِ، وَصَوَاحِبِهَا الْفُضْلَيَاتِ اللَّائِي قُمْنَ بِهَذَا الصَّنِيعِ الْجَلِيلِ، اعْتِرَافًا مِنْهُنَّ بِالْجَمِيلِ.»
الْقِصَّةُ التَّالِيَةُ: «الْأَمِيرُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ»