الغزو الإسلامي في الهند
يقول السير وولسيلي هيج «في ص١ من الجزء الثالث من تاريخ الهند — طبعة كامبردج»: «إن ظهور الإسلام هو إحدى عجائب التاريخ، ففي ٦٢٢ ميلادية ظهر نبي، لم يكن في بداية أمره مستطيعًا أن يجمع اثني عشر رجلًا لمناصرته، فعمد إلى مغادرة مكة مسقط رأسه إلى المدينة، ومع هذا وَسِع خلفاءه وأتباعه أن يصلوا فيما يزيد قليلًا على القرن، إلى حكم إمبراطورية امتدت من الأطلسي إلى أفغانستان ومن بحر قزوين إلى شلالات النيل».
في مستهل القرن الثامن الميلادي وَسِع العرب أن ينقلوا لواء الإسلام إلى حد روسيا «الآن بلوخستان»، وفي ٧١١ نهض الشاب العربي محمد قاسم بغزو السند حين كان يحكمها «داهر» الملك البرهمي، الذي قُتل في المعركة في ٧١٢ وتشتت جيشه. وقد نظم محمد قاسم حكومته السند الأسفل ووكل إدارتها المحلية إلى الوطنيين أنفسهم. وفي ٧١٣ استولى على مولتان فأصبح للعرب السند والبنجاب السفلي وكانوا في كل بلد يدخلونها يُخيِّرون سكانها بين أحد أمور ثلاثة: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، وجرى الفاتحون المسلمون على سياسة التسامح تاركين للهندوس معابدهم ومخولين إياهم ممارسة طقوسهم.
ولما ضعفت الدولة العباسية في بغداد، وَسِع بعض الحكام العرب في البلاد المفتتحة أن يستقلوا بها عن حكومة بغداد، ومن هذا نشأت منذ ٨٧١ ميلادية دولتان إسلاميتان مستقلتان؛ إحداهما في مولتان وثانيتهما في منصورة، وكانت الضرائب المفروضة على الوطنيين عادلة وقليلة، وكان هؤلاء ينهضون بأكثر أعباء الإدارة، حين احتفظ العرب بالجندية وأخذوا يصاهرون الهندوسيين، ولم يحفلوا بأن يمدوا ملكهم الجديد في السند والبنجاب الأسفل إلى ما بعدهما.
هذا وقد كان من أثر اعتماد خلفاء الدولة العباسية في بغداد على المماليك الأسرى والأتراك في حماية العرش وقيادة الجيش، أن أصبحوا قوة مَخْشِيَّةَ الجانب، امتدَّ سلطانها إلى مناصب الدولة وحكم الولايات خاصة أن الأسرى كانوا يدينون بالإسلام فيكون لهم ما للمسلمين العرب من الحقوق. وفي آخر القرن العاشر الميلادي كانت الوحدة الإسلامية الممثلة في إمبراطورية كبيرة واحدة وحكومة واحدة قد انفصمت عُراها منقسمة ممالك وإمارات ودويلات متنافسة متخاصمة، ولم يبق للخليفة العباسي في بغداد سوى النفوذ الروحي.
الإسلامية من هذه البلاد التي استقلت «غزنى» فجلس على عرشها أحد المماليك أو الأسرى الأتراك المسمى سابوكيتجين في ٩٧٧ وقد وَسِع هذا أن يمد ملكه إلى أوكساس في الشمال على حدود إيران، واستولى على منطقة تشمل كابول وأصبح حاكمًا لخراسان. وبعد أن مات في ٩٩٧ خلفه ابنه الأصغر «إسماعيل» الذي خلعه أخوه الأكبر محمود غزني، وأصبح ملكًا حين بلغ السابعة والعشرين وضم إلى مملكته سبستان واعترف لملكه الخليفة القادر بالله مانحًا إياه لقب «يمين الدولة» فعُرف خلفاؤه باسم الأسرة اليمينية.
لم يواجه محمود غزني في شمال الهند مملكة هندوسية متحدة بل ممالك وإمارات متنابذة وقد هزمها جميعًا في معارك بلغت حول السبع عشرة، ولم يجد مقاومة تذكر سوى في مملكة أوند البرهمية على نهر الهندوس ثم مملكة البنجاب، التي توالى عليها من الملوك جيبال الأول، ثم أناندبال ثم جيبال الثاني وبهيميال الشجاع الذي أتم محمود غزني هزيمته … وفرَّ مع فلوله إلى أجميز، ثم تقدم غزني إلى بشاوار وأسر الملك جيبال ملك البنجاب التي عاصمتها بهاتيندا الذي افتدى حياته بمبلغ من المال نازلًا عن ملكه إلى ابنه أنانديال ثم أحمد غزني فتنة على الأكسوس، وكان هناك هنود أصليون في الجيش الإسلامي الغازي الذي كان على شفا الهزيمة حين استطاع أنانديال ملك البنجاب أن يغري إلى محالفته حكام أوجان ٤٢ من الأصل وجواليور، وكاللينجار، وكانوج، ودلهي وأجمير مما كان من أثره أن لبث غزني ٤٠ يومًا متخذًا الدفاع وحسب، وفي آخر يوم في ١٠٠٨ حدثت المعجزة التي جعلت الموقف يتحول إلى هزيمة تامة للمتحالفين، ذلك أن فيل الملك أنانديال ارتاع ارتياعًا حمَله على الفرار الذي فسَّره الجنود الهندوسيون بأنه نذير الهزيمة فشاعت الفوضى فيهم، ثم استولى «محمود» على كانجا وهي موطن كنوز الهند الشمالية الغربية عائدًا بالأسلاب إلى غزنى. وكان محمود ينتقل من نصر إلى نصر، مستوليًا على ثينيزر المدينة المقدسة في موترا وكانوج المركز الهندوسي في الهند، وبعد معركة ١٠١٨–١٠١٩ التي أخذ فيها ٥٣ ألف أسير و٣٨٠ فيلًا وكنوزًا طائلة؛ أقام محمود في غزنى المسجد العظيم من الرخام والجرانيت الذي أُسمي عروس السماء وأُلحقت به مدرسة.
وبعد أن تمت هزيمة بهيمبال، وقوي حكم محمود على الأوكساس وفي المولتان وغنم في شمال الهند الغنائم العديدة وهدم المعابد الهندوسية؛ نهض في ١٠٢٤ بأكبر الحملات العسكرية مخترقًا الصحراء العظيمة للهند ومعه ٣٠ ألف جمل لنقل الماء للجيش الإسلامي مستوليًا على سومناث، وعلى الرغم مما أبداه الهندوس من الدفاع خاصة في دفع الغزاة عن الطرق المؤدية إلى المعبد العظيم الذي كان فيه ألف برهمي يؤدُّون واجباتهم الدينية ويحرسون كنوزه — فإن الجيش الإسلامي استولى عليه بعد أن أفنى خمسين ألف هندوسي في سومناث، وعاد «محمود» إلى غزنى حاملًا الكنوز والأسلاب في ١٠٢٦. وفي خريف العام ذاته، قام بآخر حملاته الموفَّقة على نهر الهندوس ضد الجاتيين الذين يسكنون السند ساجاردوب وهزمهم بجنوده البحريين المسلحين بالقوس والسهام والقنابل اليدوية، ثم مات في ١٠٣٠، غير أن هذا الظفر كله لم يؤدِّ إلى أن يصبح محمود ملكًا للهند، وإن كان قد أسس أسرة مالكة حكمت البنجاب مدة قرن ونصف قرن. وعند «الماهارا جادهيراجا للباروان في ص١٣ من كتابه: الأفق الهندي» أن تدنيس «محمود» للمعابد الهندوسية وهدْمَها قد أدى إلى بذر العداوة بين المسلمين والهندوس، خاصة أنه كان شديد الحرص على نشر الدين الإسلامي وحماية رجاله.
وقد عرف «محمود»، إلى التدين والمقدرة العسكرية والإدارية بأنه محب للفن، فقد أقام في غزنى المباني الكبيرة، وكانت داره مثوى العلماء والشعراء وعلى رأسهم الفردوسي مؤلف الشاه نامه، وأبو الريحان محمد البيروني. هذا وقد أنشأ محمود جامعة ومكتبة. ولما كان الحكم يقوم على شخصه لا على نظم ثابتة فقد استهدفت مملكته للضعف والانقسام على أثر وفاته، وقد خلفه ابنه محمد الأصغر الذي ثار عليه «مسعود» أخوه الأكبر وخلعه ونفاه إلى بلخ. ثم إن الملك الجديد «مسعود» قضى بالموت على أرياروق الحاكم التركي في البنجاب، إذ نزع إلى الاستقلال والقسوة، وقد خلفه في البنجاب أحمد نيالتيجين، وأمر الملك بأن يمتنع الموظفون الأتراك عن الشراب ولعب البولو والاختلاط بالضباط الهندوسيين في لاهور، وعن الإسراف في المظاهر الدينية. هذا ولم يستمع مسعود إلى نصيحة أبي الحسن الذي نصح بإقصاء «أحمد» عن الشئون العسكرية فاقتحم هذا بنارس وعاد منها إلى لاهور بالأسلاب، ثم أخذ يُعِدُّ حملة للاستقلال عن مسعود، حين كان السلجوقيون يهددون بلخ وكان الخليفة العباسي في بغداد «القادر بالله» في حالة الاحتضار. وهنا ظهر تيلاك الهندوسي الذي كان ابن أحد الحلاقين، وقد عينه السلطان محمود قائدًا للقوات الهندوسية برتبة «شريف»، استولى تيلاك على لاهور، وقتل الحاكم أحمد وابنه وهادن الجانتيين الذين كانوا منضمين إلى «أحمد» وعيَّن السلطان ابنه مجدود حاكمًا للبنجاب، ودخل السلطان الهند ليقضي على ما بقي من عصيان تيلاق. وفي الوقت ذاته استطاع السلجوقيون أن يقتحموا إيران وأن يغزوا خراسان هازمين السلطان مسعود في تاليكان على مقربة من مرو في ١٠٤، فتراجع إلى غزنى، ثم فرَّ مع حريمه وأمواله إلى الهند. غير أن رجال الحرس السلطاني قد خلعوه، وولّى في مكانه أخاه محمدًا، ولما مات مسعود مقتولًا بعد بضعة أشهر، سار ابنه (مودود) من غزنى إلى حيث هَزَمَ السلطان محمدًا وقَتَلَه بعد تعذيبه، وأصبح مودود سيدًا على البنجاب في منتصف ١٠٤٢، وفي ١٠٤٤ استولى ماهيبال راجا على دلهي التي بناها سلفه تومارا منذ خمسين عامًا قبل هذا، وعلى هانسي وثانيزاروكنجرا محاصرًا «لاهور» على غير جدوى.
ويقول «سير جورج دونبار في ص٩٥ في الجزء الأول من كتابه تاريخ الهند»: «إن غزوات العرب للسند لم تُؤَثِّر كثيرًا في سائر بلاد الهند؛ ذلك أن مرمى هذه الغزوات كان للحصول على الغنائم والعودة بها مع ما تخلل هذا من التدمير والمذابح وذلك على الرغم من أنهم ضَمُّوا إقليم البنجاب».
ولما نهضت دولة جهور «أو جهار» التي على مبعدة مائتي ميل شمال غزنى، حين آذنت شمس الدولة الغزنية بالمغيب — وسع الجهوريون أن يهزموا الغزنيين وأن يحرقوا عاصمتهم انتقامًا من قتل شقيق أمير جهور، فقد لبثت النار مشتعلة فيها أسبوعًا في ١١٥١، مما كان من آثاره أن أُطلق على أمير جهور (علاء الدين حسين) اسم «جهنسوز»؛ أي «محرق العالم» على أن السلطان سنجر السلجوقي قد هزمه، ثم إن بهرام ملك الغزنيين قد استعاد العاصمة التي ما لبث خَلَفُه السلطان خسرو شاه أن فقدها في ١١٦٠ على أيدي إحدى قبائل التركمان «غزي» ولم يبق للغزنيين في الهند سوى البنجاب. ثم إن غياث الدين محمد ابن أخي جهنسوز أمير جهور قد نهض بدولته ثانية فاستولت على غزنى في ١١٧٣ وعيَّن أخاه الأصغر مُعِزَّ الدين محمدًا شهاب الدين حاكمًا على إقليم غزنى وبلاد الدولة الغزنية، مادًّا سلطانه إلى أقصى حدود الهندستان.
توسيع إمبراطورية السلطان محمد غوري
كان محمد غوري يرمي إلى الاستيلاء على المستعمرات الإسلامية في الهند، ففي ١١٧٥ جاء من غزنى واستولى على مولتان عاصمة المستعمرة العربية التي كانت في أيدي الإسماعيليين، إلى أن استطاع أن يُخضِع السند كلها لحكمه؛ وأن يصبح بعد أربع سنوات سيدًا للبنجاب إلى سوتليج، وأن يأسر خسرو مالك، وأن يجعل الأسرة الغزنية أثرًا بعد عين.
ثم إنه لما أراد السلطان محمد غوري أن يغزو مملكة دلهي في ١١٩٠–١١٩١، استطاع شوبان «راجا پريثفي» أن يهزم السلطان في تاراوري مستعيدًا منه بهاتيندا، كذلك هزم بهيم الفاجهيلا «راجا انهلفارا» في جوجيرات.
وعاد السلطان مرة أخرى في ١١٩٢ لغزو الهند وهزم راجا پريثفي في تاراوري ولما قتله فرَّت فلوله، فأصبح محمد غوري سيدًا على الهند الشمالية إلى أبواب دلهي التي سقطت في ١١٩٣، وكذلك استولى على أجمير وأخذ منها أموالًا وأسرى، وعيّن أحد أبناء راجا پريثفي مكان أبيه في ولايته، على أن يدفع الجزية للسلطان، وعيّن قطب الدين أيبك أحد المماليك التركستانيين وقد دخل خدمة السلطان، مُبْدِيًا من حسن التربية وكرم الأخلاق والفروسية وصدق الرماية ما أبلغه أكبر المراتب وجعله الثقة عند جلالته، وولاه ولاية دلهي في ١١٩٢، ووَسِعَ أيبك أن يهزم جيش الراثور راجبوت ملك كانوج في شندوار «فيروزاباد» فقتل جيشاند وقبض على جيشه، وكان للمسلمين المناصب العسكرية والإدارية تاركين للهندوسيين المناصب الصغيرة. وكان هناك أمراء وحكام هندوسيون يحكمون بلادهم مقابل دفع جزية أو إتاوة للدولة الإسلامية، وقد لبث هذا إلى منتصف القرن السادس عشر.
وهناك قائد آخر كان لمجهوده وبطولته الأثر في توسيع المملكة وهو اختيار الدين محمد بن بختيار من القبيلة التركية في جلج بين سبستان وغزنى، ومنها نبتت أسرة مالكة بعد قرن منذ يومئذ. وكان قبيح الصورة وكانت ذراعه طويلة جدًّا، وكان مغامرًا وحازمًا اتجه بجيشه شرقًا غازيًا في ١١٩٣ بيهار مستوليًا على أموال عاصمتها أو دايتابوري ومقوضًا ديرها ومُنْزِلًا بالبوذية ضربة أعجزتها عن النهوض ثانية فزالت من شمالي الهند نهائيًّا وفرَّ الرهبان إلى نيبال والتبت في الجنوب، وبلغ من عزيمة «اختيار الدين» أنه غامر ومعه ١٨ شخصًا فقط باقتحام ناديا حين كان بها الملك البرهمي العجوز لاكششمان يتناول طعامه فَفَرَّ مع زوجه في أحد القوارب واحتل «اختيار الدين» المدينة ودخلها جيشُه ناقلًا أموالها وموزعًا أسلابها ثم عاد إلى لجنواتي «جور» التي جعل نفسه فيها حاكمًا على البنغال مؤسسًا المساجد والمدارس.
ولما مات غياث الدين في بداية ١٢٠٣ أصبح أخوه الأصغر مُعِزُّ الدين محمد بن سام سيدًا على شمالي الهند والحاكم الوحيد لأملاك الغوري، الذي أصبحت مملكته الهندية تمتد من السند إلى البنغال الشرقية، وكاد إجماع الهند الشمالية ينعقد على الإقرار بسيادته. على أنه لما كان يطمح إلى إنشاء إمبراطوريته في وسط آسيا فقد حاول في ١٢٠٣ غزو خفاراسم «خيوا الحديثة» غير أنه أخفق إخفاقًا هزَّ إمبراطوريته هزًّا عنيفًا؛ كان من أثره أن شقَّت مولتان عصا الطاعة وأن ثارت القبائل الشمالية في الحاجر الملحي «الصولت رينج» وأن نهب الثائرون لاهور. ومع أن محمد الغوري قد استطاع بمعونة أيبك أن يخمد الثورة في ١٢٠٦ فإنه حين كان عائدًا إلى غزنى، قتله شخص يرجَّح أن يكون من متعصبي شاهات المذهب الإسماعيلي.
أما اختيار الدين فقد لقي حتفه في السنة نفسها حين كان عائدًا من حملته المخفقة على منطقة الهيملايا.
أما أيبك فقد أصبح، بعد وفاة محمد الغوري مستقلًّا بحكم الهند الشمالية إلى أن وافاه القدر المحتوم في ١٢١٠ على إثر حادثة لعبة البولو، وقد أسس أسرة أطلق عليها اسم الملوك المماليك «أو العبيد». وفي ١٢١١ اختار كبار المسلمين شمس الدين الطتمس «أو اللمش» زوج ابنة أيبك سلطانًا ومن المماليك الذين ينتمون إلى قبيلة الباري التركمانية سلطانًا خلفًا لأيبك، وقد أمضى السلطان الجديد سبع عشرة سنة قبل أن يستطيع أن يخمد ثورات الهندستان والمولتان والسند على إثر وفاة أيبك. وقد حدث في عهد شمس الدين الطمش، أن غزا سلطان المغول جنكيزخان وسط آسيا والبنجاب الغربية في ١٢٢١، ولكنه غادرها إلى أفغانستان، وقد امتد ملكه من الهندوس إلى مصبَّات الكنج، وفي الوقت ذاته قوي نفوذ جماعة «الأربعين» من المماليك الأتراك وأصبحوا الآلة المحركة للحكومة وأضحى خلفاء السلطان أداة في أيديهم.
هذا وقد اقترن حكم دولة المماليك في الهند بعنايتهم بالفنون خاصة إنشاء المساجد والمدارس؛ من ذلك المسجد الجامع والقطب المنار في قلعة دلهي في عهدي أيبك والطتمش، وقد بدأ بناء الجامع في ١١٩١ وتم في ١٢٣٢، وقد عهد إلى البنَّائين الهندوسيين في بنائه من أنقاض المعابد الجينية الهندوسية.
ومما يدعو إلى الدهش أنه حين كان الطتمش يُحْتَضَر في ١٢٣٦ أوصَى بالعرش إلى ابنته «رضية» فتولت الحكم بعد اضطرابات وثورات، وكانت سافرة ترتدي ثياب الرجال والفروسية وتمتطي ظهر الفيل يتبعها جيشها في تنقلاتها. وقد سخِطت عليها «جماعة الأربعين» وذلك حين اختارت الحبشي «ياقوت» وزيرًا وكبيرًا لمستشاريها، فقد أهاج هذا التعيين جماعة الجيش السلطاني وأسرة الملكة فأجلست في مكانها بهرام في ١٤٢٠، ثم إنها اقترنت بآسرها (الطونيا) وحاولت أن تستعيد عرشها زاحفة بجيش كبير على دلهي، غير أن الأقدار قد عاكستها فقتلها أحد قُطَّاع الطريق حين كانت تنام في خيمتها في الغابة ومعها ثيابها الغالية، أما بهرام فقد قتله (جماعة الأربعين) بعد عامين من توليتهم إياه لخلاف قام بينه وبينهم، ومما يُذكر عن حوادث ذلك العهد ما كان من غزوة منغولية في ١٢٤١ ضاعت بسببها لاهور ونُهبت أموالها.
ثم إن علاء الدين مسعود الرِّعديد حفيد الطتمش حين جلس بعدئذ على العرش في ١٢٤٢، واجه ثورات السند والمولتان والبنجاب الأعلى والبنغال وبيهار فخلعته (الجماعة) وأجلست على العرش في ١٢٤٦ عمه ناصر الدين محمدًا وكان في السابعة عشرة عاملًا نابهًا ومتدينًا، اختار بالبان أحد أعضاء جماعة الأربعين وزيرًا له فأبدى من الكفاية وحسن القيادة ما جعله السيد الفعلي للملكة، مُخْمِدًا ثورة القبائل الهندوسية في البنجاب وفي إحدى الغابات المنغولية، محققًا سلطة الحكومة المركزية بين قبائل الدول الهندوسية الثائرة، وقد زوَّج ابنته إلى ناصر الدين ولما تآمرت عليه (الجماعة) نُفي إلى ناجور ثم أُعيد إلى منصبه في دلهي إلى أن جلس على العرش في ١٢٦٦ باسم غياث الدين بالبان على إثر وفاة ناصر الدين الذي كان آخر أسرة الطتمش، ولم يُقلق بالَه شيءٌ من ناحية الهندوس، وإنما كان مصدر القلق هو غزوات المنغوليين.
هذا وقد كان الحكم الإسلامي في شمال الهند يقوم على قوة الجيش الإسلامي وحامياته المنتشرة في الولايات حافظة الأمن، وكان الهندوسيون يعيشون في سلام لا يعنيهم شيء من أمر الحكم ما دام أن لهم زرع أراضيهم في غير إرهاق، وكان لهم أيضًا تحصيل الضرائب كموظفين صغار، وكان المسلمون يتركون الحكام الهندوس الوطنيين يحكمون ولاياتهم خاضعين للحكومة الإسلامية المركزية، وكان بعض هؤلاء ينزع في بعض الأحيان إلى الانقضاض عليها ثم يبوء بالخيبة. وقد مات في سن الثانية والثمانين بعد أن حَكَمَ المملكة حُكمًا مقرونًا بالحزم واستخدام العنف مع العُصاة والمجرمين والحكَّام الملوثين والقُوَّاد الخاسرين، وكان له جيش من الجواسيس، وقد قضى على نفوذ جماعة الأربعين ونظَّم الدفاع عن الحدود ضد غارات المغول، وعيَّن ابن عمه شيرخان قائدًا للجيش، وفي ١٢٨٠ أخمد ثورة في البنغال.
وفي ١٢٧٠ أعاد بالبان تنظيم الحكومة الإقليمية في لاهور. وفي ١٢٨٠ بعد أن أخمد ثورة في البنغال قتل الحاكم تيجريل وأسرته وأنصاره، وعيّن أحد أبناء السلطان باجراخان حاكمًا للبنغال.
وفي إحدى غارات المغول التي لم يُكتب لأكثرها التوفيق قُتل في ١٢٨٥ ولي العهد محمد خان دفاعًا عن مولتان، وقد مات بالبان في ١٢٨٧ حزينًا على وفاة هذا الابن البارِّ العظيم. كان بالبان إداريًّا قديرًا حازمًا وعادلًا شديد الوطأة على الثائرين والمجرمين، لا يتناول الخمر ولا يلعب الميسِر. وقد خلفه ابنه قايق باد وكان صغيرًا ضعيف الإرادة لاهيًا فاسقًا، وبعد ثلاث سنوات لقي حتفه بطعنة على رأسه.
وخلفه جلال الدين فيروز، وكان في السبعين، وهو ينتمي إلى قبيلة خلجي، التي كان منها اختيار الدين حاكم البنغال. وكان السلطان فيروز مكروهًا، لا يجرؤ على أن يبدو في دلهي فأنشأ بلدًا آخر في كيلخوري على مبعدة بضعة أميال من دلهي، ولما كان ضعيف الإرادة فقد قويت شوكة المجرمين واللصوص والسفاحين وقد أطمع هذا المغوليين الغزاة في مملكة فيروز، وبعد عامين منذ جلوسه على العرش، استطاع فيروز أن يردهم عن الحدود كنتيجة لانتصاره في الحرب أو بالمفاوضات، على أنه قد بقي البعض من المائة ألف مغولي الغزاة حول دلهي بعد إسلامهم، لكنهم بعد نحو الخمس سنوات ثاروا على السلطان علاء الدين، الذي أدبهم تأديبًا قاسيًا بذبْح عدد يتراوح بين الخمسة عشر ألفًا والثلاثين ألفًا.
هذا وقد غزا علاء الدين ابن أخي السلطان وحاكم كار، الدكن هازمًا أماخندار ملك ديجيري والدكن الغربية وعاد بعد الصلح مع المهزومين إلى كار فائزًا بالأسلاب وبتعويض قدره ٢٠ ألف رطل من الذهب و٢٠٠ رطل من اللآلئ، وكمية كبيرة من الفضة. على أن علاء الدين حين عاد من المعركة فائزًا بهذه الأسلاب عمد إلى قتل «فيروز» الذي كان قد ذهب إلى كارا لاستقبال ابن أخيه القائد الظافر «علاء الدين»! وقد حمل علاء الدين رأس فيروز على حربة وزحف على دلهي في جيش، اقتحمها وجلس على عرشها في أكتوبر ١٢٩٦ فاقئًا أعين ولدَيِ السلطان فيروز. ولما أن صفا لعلاء الدين الجوُّ بعد أن هزم قائده ظفر خان المنغوليين قريبًا من جولندار، أمعن في اضطهاد النبلاء والأشراف سَجنًا وتعذيبًا وقتلًا ونهبًا؛ وليس فيمَن اتُّهم وحسب بل في أسرهم، خاصة حين قام الخلاف على توزيع الأسلاب بعد ضم جوجيرات إلى السلطنة في ١٢٩٧، فقد انتفخت أَوْدَاجُ علاء الدين وطمع في النبوة وتأسيس ديانة جديدة وفي فُتوح تَفُوق ما فتحه الإسكندر. غير أن صاحبه «علاء الملك» قاضي قضاة دلهي، قد أقنعه بالعدول عن هذه المطامع، وبترك ما كان عليه من ظلم الرعية والإدمان على الشراب، وقد استطاع القائد «ظفر خان» أن يهزم المنغوليين المرة بعد المرة، خاصة حين وصل ٢٠٠ ألف إلى أبواب دلهي، وقد نفس علاء الدين على قائده ظفره المتتابع.
كان علاء الدين يجري في سياسته على إضعاف كبار الرعية بإذلالهم وإفقارهم واضطادهم إلى السجن والقتل والاستعانة بالمخبرين والجواسيس على الوقوف على أخبارهم ومنعهم من عَقْد الاجتماعات ومن الزواج من غير إذنه ومصادرة الثروات الخاصة والمرصودة للمؤسسات الدينية والخيرية والذهب، وبتحريم شرب الخمر والمخدرات، وقد بدأ بنفسه فحرَّم هذه عليها، وقد عامل الهندوس بالشدة، فلم يكن يرخص لأحدهم بامتطاء صهوة جواد أو بحمل سلاح مع تقييد المبالغ التي ينفقونها، وبعد أن كانت الرسوم الجمركية تحصل بنسبة سدُس قيمة البضاعة، أصبحت بنصف قيمتها. كما فُرضت الضرائب على الغنم والماعز والماشية. أما الموظفون؛ وكبار من المسلمين وصغارهم كالمحصلين والمثمنين من الهندوس فكان يعاملهم في قسوة وإرهاق. هذا ويقول كتاب تاريخ الهند طبعة كامبردج في الجزء الثالث ص١٠٧: إنه عدا الضريبة على كل رأس لم يكن هناك قوانين خاصة مسنونة ضد الهندوس في التشريع الإسلامي، هذا ويبدو مما ورد في ص١١١ و١١٢ من الجزء الثالث من الكتاب المشار إليه ومن كتاب تاريخ الهند ص٢٣٢ طبعة أكسفورد أنه لم يكن ثمة ما يقلق بال علاء الدين في مملكته المتزايدة سوى غارات المنغوليين التي لم تنقطع خاصة في سني ١٣٠٥ و١٣٠٦ و١٣٠٧ و١٣٠٨ فقد اقتحموا في غاراتهم الست حدود الهند، وقد استطاع ١٢٠ ألف منغولي محاصرة دلهي مدة لم ينسحبوا بعدها إلا تحت ضغط قوات علاء الدين الذي كان معنيًّا بتعبئة الجيوش والإكثار من الحاميات، وكان هذا يحمله على تقييد حرية رعاياه وسلب مال أغنيائهم سواء لإضعاف شوكتهم وإذلالهم أو للإنفاق على الجنود، فإذا فرغ من أمر غزوات المنغوليين عمد إلى توسيع ملكه الذي بدأه في ١٢٩٧ بتعيين حاكم مسلم على مملكة راجبوت جوجيرات، أغنى ممالك الهند يومئذ خلفًا لآخر ملك من أسرة الفاجالا. وقد عين الأغا الهندوسي «كافورا» باسم مالك نيب نصيرًا للسلطنة ونائبًا للملك مدة خمسة أسابيع.
واستطاع مالك نيب، بعد أن وطَّد الحكم الإسلامي في الدكن بمعاونة خاجاهاجي أن يستصفي أموال مملكة هويسالا في الجنوب بعد أن استوليا على عاصمتها دافارا فاتيبورا قابضين على ملكها فيرا باللالا الثالث وأتمَّ الجيش الإسلامي بعدئذ غزو مملكة يانديا وعاصمتها مادارا، مُدَمِّرًا معبدها العظيم، ثم إن مالك سار إلى الشرق مشيِّدًا مسجدًا باسم الملك وإلى بالك على الساحل ثم عاد في طريقه في ٢٤ أبريل ١٣١١ فوصل إلى دلهي في ١٨ أكتوبر ١٣١١ ومعه ٣١٢ فيلًا و٢٠ ألف جواد و٢٧٥٠ رطلًا من الذهب، وعلى هذا أتيح لعلاء الدين ملك قوي عريض يستمتع بالأمن الداخلي والخارجي ورغد العيش، إذ رخصت الأسعار.
ومنذ ١٣١١ إلى أن مات في ١٣١٦ وحين ضعفت صحة السلطان علاء الدين وأفْضت شدته وسعة ملكه إلى تمرد بعض الولايات، وافاه الموت على إثر مرض الاستسقاء، مخلفًا في علاي داروازا أثرًا يسجل حكمه كما أشار إلى هذا سيرجون مارشال في ص٥٧٣ من الجزء الثالث من كتابه تاريخ الهند طبعة كامبردج، وقد بنى علاء الدين أيضًا المدينة الثانية من مدن دلهي في سيري متخذًا منها عاصمة محصنة حول ١٣٠٣، ومع أنه لم يكن على حظ من العلم إلا أن العلماء والأدباء كانوا يحظون في قصره بالحفاوة وكان في مقدمتهم الأمير خسرو باللغة الفارسية فقد بدأ حياته الأدبية في قصر بالبان ومات في الثانية والسبعين في ١٣٢٥ تاركًا ٤٠ ألف منظومة أو بيت شعر. وعلى إثر وفاة علاء الدين ظهر نيب مالك في مظهر نائب الملك والوصي على السلطان القاصر ابن الملك الراحل طامعًا إلى اغتصاب المُلك لنفسه مستخدمًا السجن والفتك وفقأ الأعين لإقصاء كل من تُحدِّثه نفسه بمناهضة نفوذه، الذي لم يَدُمْ سوى ٣٥ يومًا، إذ قتله الحرس السلطاني وعين الابن الثالث لعلاء الدين وكان في الثانية عشرة وصيًّا على العرش، وبعد شهرين فقأ مبارك أعين أخيه السلطان القاصر البالغ من العمر ست سنوات، وجلس على العرش باسم قطب الدين مبارك شاه مفرجًا عن ١٧ ألفًا ممن سجنهم والده ومُلغيًا الضرائب والعقوبات التي كان قررها عليهم. أما سيرته فإنها تنطوي على القسوة والمذابح مبيدًا هاريال ديو راجا ديجير في الدكن في ١٣١٧، وبعد أن دام الملك أربع سنوات قتل خسروخان صديقه السلطان قطب الدين ثم خلفه بِاسْم ناصر الدين خسرو شاه (مساعد المؤمنين) وقد دام حكمه خمسة أشهر قضاها في الاعتداء على حرمات النساء وذبْح خصومه وأطفالهم وانتهاك حرمة المساجد، مما أثار الأتقياء عليه، فقتله غازي مالك المشرف على المستنقعات الغربية فهزم خسرو وقتله ونادى بنفسه ملِكًا بِاسْم غياث الدين توجلاك، وكان غازي مملوكًا تركي الأصل عند بالبان. كان ملكًا عادلًا مصلحًا قديرًا حفظ الأمن ونظَّم البريد والمواصلات ونهض بالزراعة وخفض الضرائب فجعلها عُشر المحصول. وقد بلغه نبأ وصول الرحالة ابن بطوطة إلى مصب الهندوس في ١٣٣٣ ووَسِعَ الرحالة المغربي أن يبلغ دلهي بعد خمسة أيام؛ أي أنه اجتاز مسافة تقرب من تسعمائة ميل.
رحلة ابن بطوطة إلى الهند
حول ١٣٣٣م أو في المحرم من عام ٧٣٤ هجرية وصل إلى الهند (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة) وهو الرَّحالة العربي المسلم المشهور الذي قام برحلات من بلاد المغرب إلى البلاد العربية والهند والصين. قال في الجزء الثاني من كتابه رحلة ابن بطوطة المعروف باسم تحفة النظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: إنه في التاريخ المشار إليه قد وصل إلى وادي السند المعروف ببنج آب. ومعنى ذلك المياه الخمسة. وأن هذا الوادي المزروع تابع للسلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند، وكان أمير أمراء السند على ذلك العهد مملوك السلطان «سرتيز» ومعناه «الحاد الرأس».
ومن عادة هذا السلطان إكرام الغرباء وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة، ولا بد لكل قادم على جلالته من هدية يُهديها إليه فيكافئه جلالته بأضعاف مضاعفة.
الإحراق بالنار
وقال ابن بطوطة عن إحدى الغزوات التي رآها في الهند الإسلامية: رأيت الناس يهرعون من عسكرنا ومعهم بعض أصحابنا، فسألتهم الخبر فأخبروني أن كافرًا من الهند مات، وأُجِّجت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه، ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروني أنها عانقت الميت حتى احترقت معه، وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة والناس يتبعونها من مسلم وكافر والأطبال والأبواق بين يديها، ومعها البراهمة، وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان واستأذنوا السلطان في إحراقها، فيأذن لهم فيحرقونها، ثم اتفق بعد مدة أنني كنت بمدينة أكثر سكانها الكفار «أي الهندوس» تعرف بابجري، وأميرها مسلم لقتالهم، وكان لثلاثة من الكفار القتلى ثلاث زوجات، فاتُّفق على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها مندوب إليه «أي مطلوب ولكنه غير واجب». لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفًا ونسبوا ذلك إلى الوفاء، ومن لم تحرق نفسها، لبست خشن الثياب، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها.
قال «ابن بطوطة»: إن البريد ببلاد الهند صنفان؛ بريد الخيل، وبريد الرجالة، وهو الأسرع لأن في الطريق قبابًا بها رجال يأخذون الكتاب الذي يحمله الراكب حين يسمعون جلاجل الخيل النحاس.
سور دهلي وجامعها
دهلي وتُدعى دلهي أيضًا كانت عاصمة للهند. وقد وصف «ابن بطوطة» السور المحيط بمدينة دهلي قائلًا: «إن عرض حائطه أحد عشر ذراعًا، وفيه بيوت يسكنها السمَّار وحُفَّاظ الأبواب. فيها مخازن للطعام ويسمونها «الأنبارات»؛ ومخازن للعدد، ومخازن للمجانيق والرعادات».
ووصف جامع دهلي قائلًا: «إنه كبير الساحة، حيطانه وسقفه وفرشه، كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة أبدع نحت، ملصقة بالرصاص، وفيه ١٣ قبة ومِنبرُه من الحجر، وله أربعة من الصحون، وفي وسط الجامع العمود الهائل من سبعة معادن، وعند الباب الشرقي صنمان كبيران جدًّا من النحاس، وفي الصحن الشمالي الصومعة التي لا نظير لها في الإسلام من الرخام والذهب الخالص، وهي من بناء السلطان معز الدين بن ناصر الدين بن السلطان غياث الدين. وأراد السلطان قطب الدين أن يبني بالصحن الغربي صومعة أعظم منها فبنى الثلث وقُتل، وأراد السلطان محمد إتمامها فتشاءم».
افتتاح دهلي
قال ابن بطوطة: «إن مدينة دهلي افتتحت في ٥٨٤ﻫ على يد الأمير قطب الدين أيبك الملقب «بسلار»؛ أي مقدم الجيوش، وهو أحد مماليك السلطان شهاب الدين محمد بن سنام الغوري ملك غزنة وخراسان المتغلب على ملك إبراهيم ابن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان «شمس الدين للمش» أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلًّا به، وكان قبل ذلك مملوكًا للأمير قطب الدين أيبك، فلما مات هذا خلفه.
ولما تُوفي السلطان شمس الدين، خلَّف من الأولاد ثلاثة: ركن الدين، ومعز الدين، وناصر الدين. تولى الأول وقتل الثاني، ثم قتل الناس ركن الدين انتقامًا، فخلفته أخته رضية، وكانت سافرة تركب كما يركب الرجال، فخلعها الناس وولَّوا أخاها الأصغر ناصر الدين وقتلوا رضية، ودام الملك له عشرين سنة وكان ملكًا صالحًا، ينسخ بيده نسخًا من القرآن ويبيع المصاحف المنسوخة ويقتات بثمنها، لكن «غياث الدين بالبان» مملوكه والنائب عنه قد قتله، وخلفه في الملك عشرين سنة، وكان من خيار السلاطين حليمًا.
ولما تُوفي السلطان غياث الدين ليلًا وكان ابنه ناصر الدين غائبًا، أصبح ابنه «معز الدين» سلطانًا ودام حكمه أربعة أعوام، كثرت خيراتها ورخصت أسعار حاجاتها، وكان السلطان يكثر النكاح والراح فاعترته علة ويبس أحد شقيه، وخلفه نائبه بِاسْم السلطان جلال الدين الذي قتله ابن عمه وخلفه باسم السلطان علاء الدين محمد شاه الخلجي، الذي بعد وفاته خلفه ابنه السلطان شهاب الدين، الذي خلعه أخوه وجلس على العرش باسم «السلطان قطب الدين بن السلطان علاء الدين» بعد أن قتل إخوته، لكن أكبر أمرائه قتله وخلفه باسم «السلطان خسرو خان ناصر الدين» وكان فاتحًا شجاعًا، لكنه أخفق بين المسلمين حين عمد إلى استرضاء الهندوس بتحريمه ذبح البقر، فإن جراء من يذبحها في شريعتهم أن يحاط في جلدها ويحرق، وهم يشربون بولها للبركة وللاستشفاء، ويلطخون بيوتهم بأرواثها، لكن قتله وخلفه «السلطان غياث الدين تغلق شاه» وكان فاتحًا، ولما مات خلفه ابنه محمد شاه وكنيته أبو المجاهد».
أسرة تقلق المالكة
شق الرجا الهندوسي في وارانجال عصا الطاعة للأسرة المالكة الجديدة التي أسسها تقلق أو تغلق، ولم يقع هذا العصيان إلا في ١٢٢٣ على يد آلك خان ابن السلطان حين ضُمت مملكة تلينجانا إلى الإمبراطورية، فأصبحت ولاية منقسمة محافظات ومراكز تولاها المسلمون، كما جعل تقلق مملكة البنغال الشرقية التي ظلت مستقلة ١٣ سنة إحدى ولايات دلهي، ووطَّد سيادته على البنغال الغربية تاركًا ناصر الدين من أحفاد بوغرا خان من بيت بالبان نائبًا عنه فيها، كذلك ضم إليه تيرهوت، وحين كان تقلق عائدًا إلى مقر ملكه في تقلق باد التي بناها جنوبي دلهي دبر ابنه ألك خان مؤامرة تفضي إلى موته، وذلك بأن جعل السقف يسقط على رأسه، فقد كان هذا الابن الأكبر عاقًّا على غير ولاء لوالده وكان صفيًّا للشيخ نظام الدين أوليا، الذي أبدى الأب كراهيته له. وبعد هذا جلس ألك على عرش دلهي في ١٣٢٥ باسم محمد شاه، وكانت المملكة تمتد من ممر خبير إلى السندر باند، ومن الهيملايا إلى ميسور.
هذا ويؤخذ مما ورد في «تاريخ ظهور الإسلام الجزء الأول ص٤٠٩–٤٤٣» تأليف فيريشتا، والفصل السادس من الجزء الثالث من تاريخ الهند طبعة كامبردج، أن هذا الملك كان متدينًا لا يشرب الخمر، وكان قائدًا مظفَّرًا وإداريًّا قديرًا يوضع في صفوف أعظم القواد والإداريين غير أنه كان شديدًا في معاملة رعاياه إلى حد القسوة، يقتل أحدهم على الذنب الصغير. ولما قتل ابن عمه بهاء الدين جورشاب الذي ثار عليه ذبحه وقدم رأسه لأسرته، وذلك في السنة الثانية من الحكم، وقد أنشأ مدينة «دولة آباد» وجعلها العاصمة، وساعده موقعها في القضاء على ثورة المولتان والسند وإقرار السلام في الدكن، وهزم المنغوليين بعد أن اجتازوا الحدود وعاد إلى دلهي فوجد سكانها متذمرين؛ إذ إن نقل العاصمة منها قد ألحق بها الضرر، فأمرهم بإخلائها والذهاب إلى دولة آباد التي تبعد عنها أكثر من ٦٠٠ ميل.
وقد فرض على الحكومات الإقليمية تقييد الوارد والمنصرف في السجلات، ثم إنه حين زاد الضرائب في ولايتي دوب وكانوج ثارتا عليه، واستخدم الورق بدلًا من العملة في النقود، وهذا ما عرفته الصين وإيران قبلًا ولكنه لم يُوفَّق إذ اختلطت النقود الصميمة بالنقود المزيفة، ولما رخَّص لسكان دلهي بالعودة إليها أمدهم بالذخيرة والغلال ولم يكن هذا كافيًا فأمرهم بإخلائها للمرة الثانية وبنى بديلًا منها عششًا ثم مباني سارا جادواري.
ولما كان يطمح إلى أن يكون سيد العالم طرًّا؛ هاجم الصين من التبت بجيش مؤلف من ١٠٠ ألف فبادوا في الطريق ولم يعد منهم سوى قائدهم مالك نيكباي وضابطان، وذهبت الأموال سدى مما أفضى إلى انقضاض ٢٣ ولاية عليه، واستطاعت البنغالان الشرقية والغربية استرداد استقلالهما في ١٣٣٩ وتألفت منهما مملكة واحدة تحت حكم مالك إلياس في ١٣٥٢، كذلك ظهرت المجاعات فأصبح الناس من آكلي لحوم البشر، واسترد فيرا باللالا استقلاله في دافارا فايتبورا وحكم أيضًا أحد الراجات كامبلي، ونادى كريشنا نيك الذي أقصى من تيلينجاتا بنفسه مكافي وزانجال. وفي ١٣٤٧ انتهى هذا الملك المترنح إلى حسن ظفر خان الذي كان محصلًا للضرائب واستطاع أن يجمع الثائرين المسلمين حوله وأن يستولي على الدكن، وقد مات محمد تقلق بالحمى، وخلفه في آخر أغسطس ١٣٥١ ابن عمه فيروزشاه، وكان وزيره القدير مالك مقبول برهميًّا ثم أسلم، وخفض الضرائب، وجعل الحكم غير مركزي، ومنح الولاة الأراضي بدلًا من النقود، وألغى ديون الفلاحين للحكومة، ونظم الري بالخزانات والترع، وأنشأ حول دلهي ١٢٠٠ حديقة للفاكهة والعنب، وبلغ إيراد المملكة ٦٨٥٠٠٠٠ج، وكان متسامحًا لم يُلغِ المعابد ولكنه منع استرسال الهندوس في مذاهبهم الجديدة، وكان قاسيًا على الملحدين وأصحاب المذاهب الإسلامية الشاذة، وكان عاملًا على التبشير بالإسلام، معفيًا من الضرائب أو مانحًا الهدايا لمن يدينون بالإسلام، وكان من أثر هذا أن أصبح الملايين من الهندوس مسلمين وكذلك الأسرى وعددهم ١٨٠ ألفًا مسلمين، وقد أنشأ فيروزآباد متصلة بدلهي، وأنشأ قصرًا هو مدينة في جونيور، وقامت الاضطرابات في دلهي في أثناء حملات الملك في البنغال حيث قام شمس الدين بن إلياس شاه المستقل، وكذلك في ١٣٥٩ أخفق للمرة الثانية في ضم البنغال إلى ملكه، ولكنه غزا أوريا في شتاء ١٣٦٠ لكن الجيش ضلَّ الطريق ستة أشهر في عودته، وكذلك أخفقت حملة فيروز في ١٣٦٢ في السند، وفي ١٣٦٢ اضطر جام مالي حاكم السند إلى عقد الصلح مقابل دفع الجزية. وفي ١٣٧٧ قام بحملة أخرى موفقة في إتاوا ولما بلغ الخامسة والسبعين كان إدراكه العقلي في هبوط ثم مات في ١٣٨٨.
قبل المغول
في عهد علاء الدين الخالجي، كان لعرش دلهي سيادة قصيرة على الهند كلها، أما بعد وفاة فيروز فقد زال ما كان لدلهي من السيادة، وانقسمت الهند ممالك كانت جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية، ثم ثارت على محمد تقلق، كما أن ظهور مملكة الهندوس العظيمة في الجنوب قد عاون على زوال سيادة دلهي، كما أن هذه الممالك لم تتأثر بالغزوات المريعة التي قام بها تيمور لنك. ولقد كان محمد تقلق يترنح من أثر النكبة التي نزلت بجيشه في التبت والمجاعة التي تفشت في شمالي الهند، إلى أن كان عام ١٣٣٦ فاعترف ابن عم تقلق «فيروز» بشمس الدين إلياس ملكًا على البنغال الشرقية والغربية المتحدة، فلما مات الأخير لبثت أسرته في الحكم حول خمسين عامًا، وفي المدة الأخيرة ذاتها كان الراجا جانيش في ديناجيبور الذي هزمه حمزة ملكًا حاكمًا متعصبًا مضطهدًا لمسلمي البنغال إلى أن مات في ١٤١٤، وكان حكمه الفعلي لم يزدد على سنة واحدة، ثم إن أباه جاتمال أو جادر قد خلفه وأصبح مسلمًا تحت اسم «جلال الدين محمد».
وقد زاد عدد المسلمين في الهند؛ ففي البنغال أصبحوا ٥٥ في المائة، وفي البنجاب كان كل ثمانية من المسلمين يقابلهم ٣ من الهندوس واثنان من السيخ، وكان المسلمون في السند ٧٠ في المائة «وأصلهم من العرب». وفي الجهة الشمالية الغربية كانوا ٩١ في المائة. أما في الهند كلها فإن نسبة المسلمين ٢٢ في المائة والهندوس ٦٨. وقد أبدى جلال تعصبًا للإسلام لم يكن يبديه الحكام المسلمون الأصليون، فقد كانوا يجرون على سياسة التسامح. وفي ١٤٤٢ قتل شمس الدين أحد ملوك ديناجيبور، وخلفه أحد رؤساء وزارته ناصر خان من نسل إلياس؛ وجاء بعده ابنه ركن الدين برتك. ولما مات في ١٤٧٤ عمد العبيد الأفريقيون وعددهم ثمانية آلاف كان منهم من تولوا أكبر المناصب، إلى قتل الملوك المتعاقبين وجلس من الأفريقيين ثلاثة على العرش، خلعهم أحد سلالة إلياس بين ١٤٨٦ و١٤٩٣ حين انتخب فيها أحد الأشراف السيد علاء الدين حسين من تيرموز وكان وزيرًا قديرًا، ملكًا قضى على جيوش الهندوس وطرد الأفريقيين وأحلَّ المسلمين محل الفريقين. ثم غزا أسام في سنة ١٤٩٨ مستوليًا على عاصمتها عاصمة آهوم. غير أن الحملة كان مصيرها الإخفاق بسبب رداءة الطقس وعدم إرسال الإمدادات في موسم الأمطار، فوقف منذ يومئذ نشاطه على إنشاء المساجد وتحصين الحدود وتأمينها إلى أن مات في ١٥١٨، فخلفه ابنه الأكبر ناصر الدين نصرت شاه، الذي كان قويًّا في مستهل حكمه ثم أضعفته الشهوات، وفي عهده غزا المغول شمال غربي الهند، وظهر البرتغاليون في البنغال، وقد قُتل في ١٥٣٣ في مؤامرة على حياته، وقد استطاع علاء الدين أن يحرر الدكن من ظلم محمد تقلق في ١٣٤٧، وانتخب ملكًا باسم علاء الدين بهمان شاه، وقد استطاع بهمان أن يوطد حكمه على حين حمل زعماء الهندوس في الدكن على الاعتراف بسيادته، وحين قضى على ثورة بعض الضباط المسلمين عقد لواء السلام بالتسامح والتغاضي، وقد جعل مدينة جولبارجا «إحسان آباد» عاصمة ملكه، ونظم مملكته بتقسيمها أربعة أقسام: جولبارجا، ودولة آباد، وبيرار، وتالينجايا الإسلامية. وقد امتدت فتوحه غربًا إلى جوا وبالبهول وشرقًا إلى تالينجانا الهندوسية، وقد أضعف صحته إدمانه على الشراب فمات في ١٣٥٨ وخلفه ابنه محمد الأول، الذي اسْتَوْزَرَ ثمانية وزراء عاونوه في إدارة المملكة كمساعد المملكة، ورئيس الوزارة، ووزير المالية، ووزير الخارجية، والوزير المساعد للمالية، والبيشوا، والفتوال رئيس البوليس وقاضي العاصمة، وقاضي القضاة الذي كان وزيرًا للأديان والأعطيات. وكان حُكَّام الأقاليم الأربعة يدبرون المال والرجال للملك كما يدبرون شئون الأقاليم؛ أي كان للحكام ما يشبه الحكم الذاتي، وقد ثار على الملك حاكم دولة آباد ولكنه أخفق في ثورته. وقد عمد محمد، لأسباب سياسية ودينية، إلى أن يسك عملة ذهبية من دار سكه الخاصة لتحل محل العملة الهندوسية في الدكن، أما بهمان فكان قلما يصدر عملة ذهبية. على أن بوكا الأول ملك فيجاياناجار وكانهاية ملك فارانجال قد ناهضا قرار محمد حاملين مَصْرَفِيِّي الهندوس على أن يصهروا ما عندهم من الذهب ويخبئوه، وقد قابل محمد هذا التصرف بأن أمر بقتل جميع الهندوس المصرفيين ومبادلي النقود في المملكة وذلك في صيف ١٣٦٠، فأعلن هذان الهندوسيان الكبيران الحرب على محمد؛ واشتدت نار الحرب، مفضية إلى ذبح ٤٠٠ ألف هندوسي من الذكور والإناث نتيجة لانتصارات محمد في مملكة الفيجابانجار في ١٣٦٦–١٣٦٧. وقد جاء في ص٣٨١ من الجزء الثالث من تاريخ الهند طبعة كامبردج؛ أن ملك الدكن قد أخذ المدافع من حصونه وحولها إلى بطاريات فيلة يديرها مدفعيون من الأوربيين والأتراك؛ وقد اتفق محمد وبوكا على أن يكون غير المحاربين بمنأى عن ويلات الحرب.
وفي ١٣٦٧ أتم محمد بناء المسجد العظيم في جالبارجا، والحصون في «دولة آباد» ثم مات في ١٣٧٧ وخلفه ابنه مجاهد الذي تابع محاربة مملكة فيجاياناجار إلى أن قُتل في السنة التالية، فخلفه حفيده بهمان شاه، محمد الثاني، الذي كان محبًّا للسلام والأدب وصديقًا للشاعر الإيراني «حافظ الشيرازي»؛ وقد أخفقت ثورة حاكم ساجار ودام حكمه ١٩ سنة. ولما نزلت بالدكن مجاعة بين عامي ١٣٨٧ و١٣٩٥ نهض محمد الثاني لتخفيف ويلاتها، فكان يرسل الحبوب من ملوا وجوجيرات فتُباع رخيصة الثمن في الأسواق خاصة للمسلمين، كما أنشأ المدارس المجانية لليتامى الذين كانوا يتناولون طعامهم ويبيتون فيها على حساب الحكومة. ولما مات في ١٣٩٧ مات في اليوم التالي سيف الدين الغوري المعمَّر أكثر من مائة سنة وهو الوزير المخلص لمؤسس أسرة بهمان وخلفائه. وفي خلال ستة أشهر تقلب على العرش المضطرب ملكان تبعهما ابن عم محمد الثاني فيروز شاه في نوفمبر ١٣٩٧، وكان شابًّا فطنًا قوي البنيان وجيه الطلعة، شهمًا كريم المهزة شديد الوطأة على الهندوس. ويقول المؤرخ فيريشتا: إن المملكة البهمانية قد بلغت في عهده الأوج، غير أنه لما كان فيروز مدمنًا على الشراب محبًّا للنساء، فإن أعصابه وهنت، وحمله هذا على أن يَكِلَ شئون مملكته إلى المماليك الأتراك، وحين بلغ الثانية والخمسين انهارت صحته على إثر إخفاقه في حملته على الفيجياناجار في ١٤٢٢ فنزل عن العرش ومات توًّا، وخلفه أخوه الصغير أحمد شاه الذي كان قائدًا كبيرًا برزت مواهبه في حملته على الجونديين في ١٣٩٩. ومنذ حملة البنجاب التي سبقت جلوسه على العرش مؤدبا راجا فيجاياناجار ورعيته، ندموا على نقضهم الاتفاق الإنساني المعقود عن حقن دماء غير المحاربين في ١٣٦٧ وارتكاب الهندوس أشنع الفظائع، مما أثار حنق أحمد شاه، فذبح عشرين ألفًا منهم داخل مملكتهم وأسر الألوف من نسائهم وأولادهم مرغمًا راجافيرافيجايا على تأدية جزية كبيرة، كما أن ابن الراجا قدم إلى معسكر أحمد شاه الفيلة الملكية، مع احتفاظ المسلمين بالأسرى الهندوس الذين كان منهم اثنان من البراهمة دانا للإسلام ففازا بالمناصب العالية؛ أحدهما «فتح الله» حاكم بيرار ومؤسس الأسرة المستقلة للدولة حين تداعت مملكة الدكن، أما الآخر فكان «حسن» الذي كان الساعد الأيمن للملكة تاركًا ابنه «أحمد» الذي أسس في ١٤٩٠ أسرة نظام شاهي في أحمد ناجار إحدى ممالك الدكن الخمس. وقد لبثت مستقلة أكثر من مائة سنة، وقد كانت سياسة أحمد شاه الحربية ترمي إلى أن يضم إليه في ١٤٢٤ «نيلينجانا»، غير أنه بعد أن ضم هذه المملكة قد أخفق بعدئذ بأربعة أعوام في حملته على جوجيرات وقد نقل العاصمة من جالباراجا إلى بيدار التي كانت مقر الحكومة الإقليمية وأصبح اسم العاصمة القديمة لفيداربها «أحمد آباد بيدار» وهي تعلو ٢٥٠٠ قدم عن سطح البحر في أجمل مكان في الدكن. وفي ١٤٣٢ تم إنشاء القلعة الجديدة، وتلاها منشَئات عديدة مهمة من ذلك أن أحمد شاه قد بنى لنفسه ضريحًا منقوشًا على الطراز الفارسي ومكتوبًا عليه بالذهب على الزنجفر وباللون الأزرق والقرمزي، وقد كان أحمد شاه يُؤثِر أن يستخدم في الجيش الأجانب على الوطنيين، وقد كان من آثار هذا — إلى كثرة الزواج المختلط — الإضرار بصحة سكان البلاد الباردة المهاجرين حين يقيمون في الدكن الحارة، فكان لا بد من تجديد قوتهم باستمرار هجرتهم إليها. على حين أن الغزاة في شمالي الهند قد وسعهم أن يحتفظوا بمستواهم، وكان وزراء أحمد شاه من الأفغانيين والإيرانيين، وقد مات حول ١٤٣٥ في الرابعة والستين؛ وخلفه «علاء الدين أحمد» الذي دام حكمه ٢٢ عامًا؛ نشبت في خلالها الحرب مع الفيجاياناجار وإن كانت الخصومات قد لبثت مستمرة بين السنيين من الدكنيين المسلمين والمهاجرين الأحباش وبين الشيعة وهم من العناصر الأجنبية من العرب والترك والفرس والمغول، وقد قتل الدكنيون غدرًا ١٢٠٠ سيد، وألف أجنبي وبين خمسة أو ستة من ألوف الأطفال، مع إلقاء القبض على زوجات الضحايا. وسرعان ما فصل الملك موظفيه فكان هذا فوزًا للأجانب المتقدم ذكرهم. ولما مات علاء الدين في ١٤٥٨ خلفه ابنه الأكبر جمامايا همايون، وكان قاسيًا — قمع ثورة هندوسية في أحمد آباد، كان قائده كتوال قد عجز عن قمعها فعاقبه بتصفيده في قفص حديدي، مقتطعًا من لحم بدنه يوميًّا شيئًا إلى أن مات، كذلك عذَّب جنود الحرس حين اتهمهم بخيانته إلى أن ماتوا، وكان جزاء زوجات الثائرين وزوجاتهم ما يعجز عنه الوصف مبالغة في الوحشية.
وعلى أثر قتل همايون في ١٤٦١ خلفه ابنه الطفل نظام شاه، واقتحمت جيوش الهندوس في أوريسا وتبلينجانا حدود مملكة الدكن، غير أن محمود جافان من أعظم الساسة في مملكة البهمان، قد طرد المغيرين. ولما مات نظام شاه في ١٤٦٣ خلفه أخوه محمد الثالث وكان في التاسعة من عمره، وكانت أمه تدير الملك كوصية للعرش إلى أن بلغ السادسة عشرة، وكان محمود جافان لا يزال رئيسًا للوزارة. وقد سار الحكم سيرة العدل نحو الدكنيين، الذين اقتسموا المناصب مع الوافدين. ومنذ ١٤٦٩ أخذ محمود الثالث يقمع حملات سفن القرصنة التي غزت ساحل مالابار، مضيفًا إلى ملكه أراضي راجات الكونكان ومكبرًا أسطوله الذي استولى مع جنود البر على جوا وهي من أهم ثغور مملكة الفيجا باياجار، وعاد محمود إلى عاصمته في ١٤٧٢ ضامًّا بيلجام، وفي ١٤٧٣ تفشت الكوليرا والمجاعة في الدكن، مما كان من أثره هجرة السكان إلى جوجيرات ومالوا، وفي آخر ١٤٧٧ قمع محمود ثورة في تيلينجانا، واستولى اختيار الدين على ناديا، وقد استولى محمود على معبد كانشي إحدى المدن السبع المقدسة عند الهندوس، وقد أصبحت مملكة الدكن تمتد غربًا إلى ساحل البحر، أما في الشرق فقد زادت رقعة جالبارجا ودولة آباد وتيلينجانا، ثم إن «محمد» قد عمد إلى تقسيم كل من الولايات الكبرى الأصيلة إلى ولايات صغيرة لكى تكون الإدارة أقرب إلى الدقة وحسن النظام، كما أنه ضيَّق من سلطة حكام الأقاليم، من ذلك أن الملك قد استعاد سلطته في تعيين العسكريين، وانه أدخل نظام التفتيش والرقابة على الحكام، غير أن محمدًا قد مال إلى الشراب الكثير، مما كان من آثاره أن وسع حزب الدكنيين أن يزوِّروا كتابًا من رئيس الوزارة إلى راجا أوريسا يتضمن خيانة الأول، محمود جافان لمليكه، وقد تسرع محمد فقضى بقتل وزيره الأول القدير المخلص في ١٤٨١ بعد أن رفض سماع دفاعه عن هذه الفِرية وبعد خدمة دامت ٣٥ سنة فمات في سن الثامنة والسبعين، وكان سنيًّا وعادلًا وحكيمًا وكريمًا، لم يترك ثروة ما؛ لأنه كان ينفق كل شيء في سبيل البر، ومن آثاره المدرسة التي بناها في بيدار على الطراز الإيراني قبل وفاته بتسع سنوات، وقد اشتملت على مسجد كبير ومكتبة، وقاعات للمطالعة وأماكن وأندية للمدرسين والطلبة وحَوْشٍ، وقد توافرت فيها أسباب الراحة والتسلية والإنارة والهواء «راجع ص٦٢٩–٦٣٦ لسير جون مارشال، الجزء الثالث من كتاب تاريخ الهند، طبعة كامبردج». وقد مات الملك محمود شاه في ١٤٨٢ في الثامنة والعشرين، ولقي في عامه الأخير من المشكلات ما أضعف حالته الصحية المتدهورة، وخلفه ابنه الصبي الملك محمود المتهالك على لذاته؛ فكان قاسم بريد المماليك التركي هو الحاكم الفعلى في المملكة، وأخذ حُكَّام الأقاليم واحدًا بعد آخر يعلنون استقلالهم، إلى أن مات محمود في ١٥١٨ ومملكته محصورة في المنطقة المحيطة بعاصمته، وقد خلفه ملوك صغار السن والحلم كانوا أداة في أيدي وزرائهم وحاشيتهم، إلى أن انتهوا بهرب الملك كليم الله، وجلس على عرش بيدار الأمير أبو بريد، وثارت الممالك الخمس في الدكن، وكان منها مملكة بيجابور التي أسسها عادل شاه، الذي يرجح أنه ابن السلطان التركي مراد الثاني، بعد أن فرَّ عادل مع أبناء الأسرة المالكة في تركيا. ويقال: إنه قد بيع مملوكًا إلى خواجه محمود جافان الوزير الدكني المشهور، إلى أن أصبح حاكمًا إقليميًّا، منضمًّا في ١٤٩٠ إلى حاكمي أحمد ناجار وبيرار. قد اشتهر عهد عادل شاه بحملاته على جيرانه الهندوس والمسلمين إلى أن مات في ١٥١٠ في الخامسة والسبعين لمرضه بالاستسقاء، ولم يبرز في حوادث عهده سوى محاولته فرض المذهب الشيعي على رعاياه السنيين، مما كاد يُودي بعرشه. هذا وفي أوائل حكمه اقترن بابنة أحد رؤساء الماراثا، ثم إنه قد عيَّن الكثيرين من الهندوس في المناصب الحكومية العالية، وكان مولعًا بالموسيقى والأدب، وكان حكيمًا في تصرفاته. غير أنه في أواخر عهده آلت شئون الدولة إلى وزيره الخائن «كمال خان الدكني» حين غزا البرتغاليون ميناء جوا في فبراير ١٥١٠، فبعد أن تبادلها الفريقان ثلاث مرات، مات خلالها عادل شاه، استولى عليها الباكيرك البرتغالي في نوفمبر ١٥١٠ ذابحًا سكان جوا المسلمين (راجع ص٤–٨ في الفصل الثالث، الجزء الثالث من كتاب «المسلمون في الهند»).
ولما خلف عادل ابنه «إسماعيل» هاجم البرتغاليين مخفقًا في ١٥١٥ ثم فائزًا في ١٥٢٠ بِرَدَّ أرض جوا دون جزيرتها، غير أنه حين غزا كريشنا راجا فيجاياناجار وبيجابور حاربت القوات البرتغالية المسلمين فكانت نتيجة هذه الحرب انتصار الهندوس. وقد أخفق كمال خان نائب الملك في مؤامرته ضد «إسماعيل عادل شاه» الذي مات في ١٥٣٤ وخلفه ابنه ماللو الذي خلع بعد قليل وبعد ستة أشهر أي في ١٥٣٥ خلعه أخوه إبراهيم عادل شاه الأول، وكان مستشاره الأول خسرو لاري، وكان تركي الأصل قديرًا وأصبح اسمه «أسعد خان»، ومنح إقطاعًا كبيرًا في بيلاجوم، وكان من آثار هذا العهد طرد الأجانب من الوظائف والجيش وإحلال الدكنيين والأحباش محلهم، ومحاربة مملكة فيجايانجار في ١٥٣٥ وجيرانه الدكنيين، وإمعانه في الشراب والشهوات إلى أن مات في ١٥٥٧ فخلفه ابنه «علي» الذي كان شيعيًّا متحالفًا مع فيجاياناجارا على أحمد أناجار جاره المسلم في ١٥٥٨. وبعد ست سنوات تحالفت الممالك الإسلامية الأربع وهي بيجابور وأحمد أناجار وبيدار وجواكند فانتصرت على مملكة فيجاياناجارا في موقعة ٢٣ يناير ١٥٦٥ فجعلتها أثرًا بعد عين كمصير قرطاجنة، ومن ثمَّ تمَّت للمسلمين السيادة على الدكن.
هذا وقد أخفق علي وحليفاه مرتضى نظام شاه أحمد أناجار، وزامورين راجا كاليكوت الهندوسي في محاولة طرد البرتغاليين بقيادة دوم لويزدي أتايد بعد أن خسر المهاجمون كثيرًا بعد حصار جوا.
وقد قتل علي عادل شاه، وفي ١٦٨٦ اندمجت بيجابور في الإمبراطورية.