الهند القديمة
اسم «الهند» مشتقٌّ من اسم نهر هندوس، وقد كان في الأصل يُطلق على بلاد السند وجزء من البنجاب وحسب. وفي وادي هندوس وضحت أمارات الحضارة الهندية القديمة، وحسبُنا أن نذكر كتابات الملك داريوس (٣٢١–٤٨٥ق.م) و«سندهو» باللغة السنسكريتية. أما «هندو» بالفارسية فهو اسم لنهر، أما هندوستان فمعناها «بلاد النهر».
أما جملة ما خلّفه عصر ما قبل التاريخ، خاصة على الساحل الشرقي، فهو بقايا الصخور الصوَّانية الشفَّافة المتبلورة وأدوات حجرية من عصر الحجر القديم، وكذلك الفخّار من عصر الحجر الجديد. وقد وجدت في «ماسكي» سهام ذهبية من الجزء الأخير من عصر الحجر الجديد، وكذلك مقابر ما قبل التاريخ في ولاية تينفلي، إذ يُحتمل أن يكون في أوعيتها رماد جثث موتى التجّار الأجانب. والأوعية محلَّاة بالدُّرَر واللآلئ والأصداف والودَع. أما في فجر تاريخ الهند، فقد وجدت الأسوار الهائلة في جيريباجيا في بيهار.
هذا وقد أبانت الحفائر في موهينجو دارو وهارانا عن أنه قد قامت في غرب الهند حضارة عظيمة بلغت القمة حول عامي ٣٢٥٠ و٢٧٥٠ق.م؛ أي حين كانت المدن المهمة توسع ثقافتها منذ أول عصر الحجر القديم على شواطئ النيل والفراتين «الدجلة والفرات» وقارون وهيلموند.
وبينما كانت الأموال في مصر وأرض الفراتين تنفق في سخاء في إقامة المعابد وتشييد القصور والقبور على حين أن عامة الشعب كانت تسكن أكواخًا من الطين — كان الأمر على نقيض هذا في «موهينجودارو» التي تبدو في آثارها الآن كما تبدو أطلال إحدى مدن العمال اللانكشيرية المبنى العام الوحيد، وهو الحمّام العام العظيم البديع، ويتلو هذا في المرتبة الدُّورُ ذات الطابقين للسكان العاديِّين. ولم يكشف شيء من المعابد والقصور على هذا الطراز. وللمساكن أنابيب للمجاري من غرف الحمّام والمراحيض إلى مجارٍ في الشوارع، وفي الجدران مستودعات للزبالة «الكناسة أو العفاشة» تتصل بصوامع الكناسة خارج الدار. وكان سكان الدور من التجار والزراع. ويبدو أن التجار كانوا يعملون في الحقول؛ فقد وجدت في عيلام وميزوپوتاميا «أرض الجزيرة، ما بين الفراتين» خمسة أختام ذات طابع هندي قديم؛ أحدها في «أور» وآخر من «كيش». وتاريخها أقدم من العصر السارجوني. أما الزُّرَّاع فكانوا يُنتِجون القمح والشعير، ويربُّون الماشية والدجاج، كما كانوا يتناولون في طعامهم السمك وأصدافه، وكانت الثيران تجر مركباتهم ذات العجلتين، وكانوا يستخدمون الفيَلة والإبل دون الجياد، وكانوا يمارسون القمار. ومن المحتمل أن يكون ما وُجِد من القُضبان النحاسية المستطيلة بمثابة عملة نقدية يرجع تاريخها إلى ما قبل ليديا في القرن السابع ق.م، فإن هذه أقدم ما عُرِفَ في تاريخ العملة. وكان صُيَّاغهم مهرة في أشغال الذهب والفضة والعاج. أما الأختام المحفورة والألواح النحاسية، فإنها تدل على أن كتاباتهم كانت مؤلَّفة من الصور، ولما كان لم يوجد إلى جانبها لغة أخرى معروفة، لم يهتدِ العلماء إلى إيضاح هذه الكتابة المصورة. أما النساء فكنَّ يغزلْنَ القطن والصوف. أما الأطفال فكانوا يلعبون «البلي» لاهين بعربات من اللُّعَب المصنوعة من الفخّار أو النُّحاس. أما المحاربون فكانوا مسلحين بالأقواس والرِّماح والحِراب دُون السيوف والدروع الواقية.
ولئن كان رواد التاريخ لم يعرفوا أكثر من أن الهند من الأمم ذات الحضارات التي ترجع أصولها إلى السلالة الآرية التي هاجرت إلى ربوع الهند لأسباب كثيرة بين فترات مختلفة من جهات عديدة، إلا أن منشأ تلك الحضارة العريقة أقدم جدًّا من ظهور الجنس الآري الذي نزح إلى الأودية الهندية بين القرنين الخامس عشر والثاني عشر قبل ميلاد المسيح. هذا وترجع حضارة الهند القديمة إلى ٣٧٠٠ و٤٣٠٠ كما تدل على هذا التقارير الرسمية الخاصة بالكشف الأثري في موهونجودارو وهاريا في وادي السند ١٩٢٢–١٩٣٣ وفي غيرها منذ ١٩٣٤ إلى ١٩٤٥، كما أشار إلى شيء من هذا الأستاذ أبو الحسنات محيي الدين.
لقد كان يسكن الهند قومٌ من الجنس السامي الذي ساهم في بناء صرح شامخ لحضارة إنسانية كاملة وشاملة منذ أقدم العصور التاريخية، بَيْدَ أننا لا نعرف حتى الآن متى ولماذا نزل هؤلاء القوم إلى الهند، وليس لدينا ما يرشدنا إلى آثار أقدامهم لدى الهجرة، وقد رأيناهم للمرة الأولى في التاريخ على شاكلة الدرافيديّين السُّمر الذين وقفوا في وجه السَّيل الآري ثم غُلبوا على أمرهم. وقد كشفت الدراسة التاريخية حولهم أن الشعب الدرافيدي السامي كان على مدنيَّة راقية رُقِيَّ المدنيَّة الفرعَونيَّة تجعل معها الآريين الفاتحين همجيين، وقد أكد فريق من الباحثين أنهم كانوا يَمُتُّون إلى السلالة السامية بِصِلَةٍ.
لقد عاشت الأمة الساميَّة في ربوع الهند منذ أقدم عصور التاريخ، واستطاعت أن تَتَوَجَّهَ لبناء حضارة جَمَعَتْ العناصر الصالحة للمدنية الإنسانية، بينما كانت الأمم السامية الأخرى في نزاع أدَّى أخيرًا إلى مذابح البابليين والآشوريين والكلدانيين في مواطنها المعروفة، فكانت الدماء تسيل جري الماء في أودية الرافدين وما حولها من البلدان العامرة، ولا شكَّ أن هذه الحروب المستمرة قد قضت على كثير من معالم الجنس السامي، كما قَضَت على أرواح كثيرين من رُسل الحضارة البشرية. وفي منأًى عن هذا التطاحن كانت الأمة السامية الهندية تعيش في منعزل عن العالم السامي وتُنتج حضارة إنسانية كاملة لا تقلّ قيمتها التاريخية عن حضارة المصريين الأقدمين. وكلما درسنا معالم حضارة الهنود القدماء ومعالم حضارة المصريين الأقدمين رأينا وجوه التشابه كثيرة، بَيْدَ أن الستائر الكثيفة التي أسدلها عليها الآريُّون قد شوَّهت كثيرًا من وجوه ذلك التشابُه بين الأمَّتين القديمتين.
وقد كشف العلَّامة الدكتور «پزجي» الهندي في السنين الأخيرة (١٩٢٢–١٩٣٣) كثيرًا من آثار تلك الأمة الساميَّة الخالدة في الأَودية الهندية وضفاف أمواهها، وقد اشترك معه كثير من الخبراء وكبار الباحثين من المستشرقين أمثال أوريل اشتاين (النمساوي) وجون مارشال وأرثر كيت العالم الأنتروپولوجي. وقد حدّدوا بذلك الكشف القيِّم مركز الآريين من الحضارة الهندية التي تعرفت بهذا الاسم من قبلُ.
لقد اقتبس الآريون كثيرًا من نظريات الجنس السامي في الحياة، واهتدَوْا بها إلى الطرق العقلية، فحوَّلوها من السامية إلى الآرية، ونقلوا اصطلاحاتها العلمية إلى اللغة السنسكريتية التي لم تكن معروفة في الهند قبل الهجرة الآريّة، ودوَّنوا بها كتبهم المقدسة واتخذوها لغة العبادة المقدَّسة والديوان الرسمي، وفرضوها على الشعوب المغلوبة على أمرها، وهكذا احتلَّت اللغة الجديدة «السنسكريتية» مركزًا خطيرًا في الدولة، وأخذت تُسيطر على جميع مرافق الحياة العامة، وبدأت اللغات الدرافية تختفي وتندثر شيئًا فشيئًا، ومثال ذلك لغة الماهراتا، فإن الماهراتا من الشعوب الساميّة السمراء، غير أن لغتها من أسرة اللغة السنسكريتية الآرية، وذلك أَثَر للسلطان السياسي الذي فرضه الآريون الفاتحون على غيرهم.
لقد أخذ الآريون نظرية الألوهية من الجنس السامي «الدرافيدي» الذي عاش في الهند قبل هجرة الآريين بقرون بعيدة محاكين إياه في الطقوس الدينية القدسية، كما اتبعوا النظم الاجتماعية السائدة لدى الدرافيديين، فانتقلت بذلك الحضارة السامية إلى أيدي الآريين، ولم يكتفِ الآريون بهذا القدر، بل أزالوا جميع مآثر الحضارة السامية دون هوادة ولا شفقة، وقد حرَّفوا كتبها المقدسة غالبًا ودمّروا هياكِلَها ودفنوا بعضها تحت طبقات عميقة من التراب، كما أخفَوا لوحاتها التَّذكارية غير القابلة للكسر فيها. وأخيرًا أماطت تحريات پزجي اللِّثَامَ عن وجوه تلك الحقائق الناصعة في منطقتي موهونجودارو على الضفة الغربية من نهر السند، وهاريا في أعلى الصعيد من وادي السند.
بَيْدَ أنه من المُسلَّم به أن العقلية الآرية الممتازة وذكاء الآريين الخارق بالإضافة إلى ظروفهم النادرة وثرائهم الواسع وما إليهما من العوامل قد ساعدتهم كثيرًا في تنميق تلك الحضارة وتنسيقها وإبرازها بين العالَمين، وقد تفرَّد الآريون حقبة طويلة في الأمور العقلية فذابت فيهم وذابوا فيها، ونشأت فيهم على مر الزمن مدارس فكرية كثيرة ومنها المدرسة الفيدية والمدرسة البرهمية على اختلاف أنواعها، والمدرسة اليوجية والمدرسة الجينية والمدرسة البوذية على اختلاف أنواعها.
أما ديانة الهنود الأقدمين فلم يُعرف عنها على التحقيق شيء أو قل إنه قد عُرف عنها القليل جدًّا. وحسبنا أن نذكر أنهم كانوا يعبدون الثور وأن الأم الإلهية كانت تستأثر بقصر عظيم، كما يبدو من التماثيل والصور الخاصة. وعند السير جون مارشال أنها وثيقة الصلة بما وُجد من نظائرها في إيران والبلقان وما بينهما. أما عبادة سيفا الهند فهي مركبة، ذلك أن جزءًا منها يُحتمل أن يكون مشتقًّا من سكان وادي الهندوس أو من شعب آخر نقلها إلى الآريين، على أنه لم يوجد هناك موضع النار الذي كان محفورًا في كل دار من دور الآريين. أما الموتى فكانت جثتهم تُحرق، على أنه قد وُجد في «هاريا» مقابر قليلة تَخَلَّف في بعضها آثارُ الطعام وأشياء شخصية أخرى مما كان الإنسان البدائي يقدمه إلى موتاه ليستخدموها في عالم الأموات. هذا ويبدو أن الفيضانات قد اكتسحت آثار الحضارة الهندوسية القديمة والمدى الذي بلغته. وقد وجدت في «موهينجو دارو» ثلاث من ذوات الطوابق، وكذلك في ولاية كايوت في الطريق القديم إلى الهندوس قد وُجدت آثار حضارة أقل رقيًّا كُشفت في ١٩٣٥. راجع: «موهينجو دارو وحضارة الهندوس» «تأليف سير جون مارشال».
كذلك نستطيع أن نقف على شيء كثير أو قليل من تاريخ الهند القديم، إذا استقرأنا أشعار الآريين المقدسة، وهؤلاء الآريون — كما قدمنا — يَرجعون هم والإيرانيون «الفرس» إلى أصل واحد، ويتكلمون لغة قريبة النسب بالفارسية واليونانية واللاتينية، والتيوتونية والسلافية، ذلك أن أدبهم القديم يكشف النور عن حياة الأمة الآرية وإن كان دخول الآريين الهند أو غزوها لم تتحقق الروايات التاريخية وسيلته. ومهما يكن من شيء فإنه كان من أثر دخول هؤلاء الهند أن الأفكار الدينية والآراء الفلسفية قد سيطرت على حياة سكانها من الهندوس إلى مصب نهر الجنج وجنوبًا إلى تلال الفينديا. وقد جاءت دراسة أدب القوم وفلسفتهم متأخرة، ذلك أن «شركة شرقي الهند الإنجليزية» قد ترجمت الأدب السنسكريتي القديم للمرة الأولى من الفارسية إلى الإنجليزية في ١٧٧٦. وبعد هذا بعشر سنوات جاء سير ويليام جونز عضو المحكمة العليا في كلاكاتا، فاستند إلى دراسته العميقة للُّغة السنسكريتية، في وضع أسس علم اللغات المقارنة الحديث، وكان من أثر أمثال هذه الدراسات أن انكشف شيء من الغطاء عن تاريخ الهند قبل الحكم الإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي، ولعل من أسباب هذا أن الهند كانت محوَّطة بأسوار من الجبال التي حجبت ما يتلوها، فأتيح للهندوآريين أن يشيِّدوا حضارة، وأن يُؤسِّسوا ثقافة خاصة بهم، ولعلَّ في مقدمة هذا الديانة البرهمية الوطنية والعقيدة البوذية الشاملة. هذا ولم يكن لغزوات الأجانب من فرس ويونان ومسلمين في سِيَر الحضارة والثقافة الهنديتين وتقاليدهما أثرٌ محسوسٌ أو عميق؛ إذ لا يزال الفلاح الهندي يزرع الأرض ويشعل النار بِعَصَوَيْنِ، تاليًا قراءات دينية معينة، محافظًا على تقاليد حياته وعلى أدب الحضارة الآرية على مثال سَلَفِهِ منذ آلاف السنين إلى الاحتلال البريطاني الذي أدخل معه كثيرًا من النظم البريطانية والأوربية في الحضارة والثقافة وما إليهما.
أصل الشعب الهندي
حين غزا الآريون الهند، كان يسكن أكثر بقاعها قوم يُطلق عليهم اسم «الدرافيديين» نسبة إلى «الدرافيدا» وهو الاسم القديم لمملكة «التاميل» في جنوبي الهند، غير أن الغزاة أطلقوا على «الدرافيديين» اسم «داس» أو «داسياس» ومعناها «الوطني». وقد وصفتهم «الفيدا» بأنهم شعب ذو بشرة سوداء وأنف عريض، وكانوا في شمال الهند يسكنون قرى محصنة ويملكون قطعانًا من الماشية، وقد يكونون قد أدخلوا نظام ري حقول الأرز في وادي الكنج. أما ديانتهم فقد كانت «فالية». وعند «ب.س. فوستار» في كتابه «رحلات الإنسان البدائي وإقامته، ص٤٣ وما بعدها؛ طبعة ١٩٢٩»: أن أفراد هذا الشعب قد استعمروا غِنيا الجديدة حول نهاية الألف الرابعة ق.م، مؤلفين سكان الهند الأقصى وجنوب الصين. أما انتقالاتهم الأولى فهي غير معروفة. هذا ويبدو من اللغات التي لا تزال مستعملة في الهند، أنه يمكن أن يجد الإنسان النيوليتكي، وهو كما أوضحناه في كتابنا «تاريخ ما قبل التاريخ»، إنسان عصر الحجر الجديد، في نسل القبائل الهندية البدائية التي كانت تسكن الغابات كقبائل البهيل والميناس. وعلى هذا قد يكون الذين يتكلمون البراهوية في الوقت الحاضر قد تخلفوا عن الدرافيديين في بلوخستان، حين جازوها في طريق غزوتهم الأولى للهند.
لم يقف الدرافيديون أمام الغزو الآري طويلًا وفي كل مكان، بل إنهم تراجعوا أمام الآريين أو أذعنوا لهم؛ لأنه بينما كانت آلات الدرافيديين من الحجر، كان سلاح الغزاة وأدواتهم من المعادن، ومن ثَمَّ كانت لهم الغلبة على الوطنيين الذين فقدوا أرضهم وحريتهم وأصبحوا عبيدًا للغزاة بل قطعانًا، غير أن سكان الجنوب قد وقفوا الغزو الآري قرونًا أمام تلال الفيندايا والغابات التي تكاد لا يمكن اقتحامها.
هذا ومنذ التاريخ القديم جدًّا كان يسكن السهولَ الواسعةَ أناسٌ من الرعاة يُطلِق بعضهم على البعض الآخر اسم «آرياس»؛ أي الإخوان، دبَّ بينهم دبيب الخصومة والانقسام فهاجرت منهم جماعات في فترات غير متلاحقة جنوبًا، متَّخذين من الصخور فئوسًا عاونتهم في تحطيم الأشجار مع اتخاذ أخشابها في فلاحة الأرض والدفء وبناء الأكواخ، ووَسِعَهم أن يستخدموا أبناء الأقوام التي غلبوها على أمرها في الزراعة قانعين بالسيادة وبالحرب والغزو، الذي امتد إلى السهول الخصبة الفسيحة في الشمال الغربي من بلاد الهند، متغلبين على المقاومة العنيفة التي أبداها الداسيون، السكان الأصليون لهذه المنطقة، فدانوا للقوة الغاشمة الغازية، وأَطلَق عليهم الناس بعدئذ اسم «شودارس» الذين تألَّفت من بعضهم طبقة المنبوذين، بعد أن فرَّ الباقون إلى مستنقعات الدكن وغاباته ولبثوا هناك إلى اليوم.