الآرية والبوذية
منذ نحو سنة ٢٠٠٠ق.م. عَرَفَ التاريخ أن أناسًا ينطقون بالآرية نزلوا إلى الهند من شمالها الشرقي، وليس يُعرف هل جاءوا في غزوة واحدة أم في غزوات متلاحقة، وكيفما كان الأمر، فإنهم نشروا لغتهم السنسكريتية وهي إحدى اللهجات الآرية، وكان سكانها الأصليون قمحيي اللون أو أقرب إلى سواد البشرة. ولئن كانت حضارتهم أرقى من حضارة الشعب الآري إلا أنهم كانوا غير مستمسكين بامتلاك وديان الهندوس والجنج. كما أن الغزاة الآريين آثروا أن يكونوا بمعزِل عن غيرهم غير حافلين بالاندماج في السكان الأصليين، على أن من العسير أن يرد المؤرخ سكان الهند إلى عنصر واحد؛ إذ إنهم منقسمون أقسامًا.
أما البوذية التي أشرنا إليها فهي التي كان مُنشئها أو صائغها بوذا الذي أصله اسمه — كما قدمنا — سيدهاتا جوتاها وليد أسرة أرستقراطية كانت تحكم أحد الأقسام الصغيرة في منحدرات جبال الهيمالايا، فإنه في التاسعة عشرة قد اقترن بابنة عمه وكانت فتاة جميلة، وكان يهوى الصيد والتجوال في الحديقة تحت أشعة الشمس المشرقة والأحراش وري حقول الأرز، وكان من أثر هذه الحياة الخلية أن أصبح برمًا بها متطلعًا إلى حياة أخرى؛ حياة الجد والتفكير عوضًا عن حياة اللهو والخمول ذاهبًا إلى أن عهدها قد طال، وأنها أبعد عن أن تكون مفيدة. وطفق «جوتاما» يُفكِّر فيما ينزل بالإنسانية من الكوارث والأمراض وأسباب القلق وفقدان السعادة إلى أن اتفق له أن قابل أحد نُسَّاك الهند، الذين كانوا منتشرين في أرضها وكانوا يُمضون الوقت في التأمل والجدل الديني منقِّبين عن حقيقة هذه الحياة الدنيوية. وهنا آثر «جوتاما» أن يَقْفُوَ قَفْوَهم، ويبدو أنه قد تغشَّاه شعور روحي جعله يعود إلى داره، وعامدًا إلى مغادرته ليلًا حين كانت زوجه مع طفله المولود حديثًا، ممتطيًا جوادَه في ضوء القمر إلى أن خرج من حدود قريته تاركًا جواهره وسيغه محمولًا على جواده، الذي عاد إلى الدار، ثم ارتدى ثوبًا مرقَّعًا أخذه من أحد المارَّة بعد أن أعطاه الثوب الأنيق، وأصبح «جوتاما» عاريًا عن كل المظاهر الدنيوية إلى أن بلغ مكانًا في جبال الونديا، هناك لقي جماعة من النُّسَّاك القابعين في الكهوف، لا يغادرونها إلا لحاجة في القرية المجاورة.
لم يَقْنَعْ «جوتاما» بمذهب هؤلاء في علم ما وراء المادة، مؤثرًا أن يَأوي مع خمسة من صحبه النُّسَّاك إلى الغابة، آخذًا نفسه بالصيام والكفّارة المرهِقة عن ذنوبه، على نهج ما عُرِف عن الهنود من صرامة التنسُّك والزُّهد الذي يقوم على الصوم واليقظة ليلًا وتعذيب النفس، فقد رأى «جوتاما» أن هذه الفلسفة هي الطريق إلى القوة والعلم، وقد ذهبت لجوتاما بهذا شهرة لا ضريب لها في الهند؛ وقد لبث على هذا الضرب القاسي من التنسُّك إلى أن أُغمي عليه وأصابته رهقة، حتى إذا أفاق من غشيته، فاجأ صَحْبَه بفلسفة جديدة ترمي إلى ترك التقشُّف، والإقبال على الطعام مناديًا بأن الحقيقة التي يبحث عنها الإنسان لا يصل إليها إلا إذا شبِع وكان صحيح البدن. وهنا هجره صحبه عائدين إلى بنارس، أمَّا هو فقد مضى وحده متنقلًا بين البلاد إلى أن جلس يأكل تحت شجيرة عند نهر، ولبث مُطرِقًا مفكرًا عامة الليل والنهار إلى أن استوى له من الترميق فلسفته في الحياة، فعاد إلى بنارس مستعيدًا صحبه؛ متخذًا معهم أكواخًا في حديقة الملك دير في بنارس، وهناك أنشئوا ما يشبه المدرسة، التي أصبحت ملتقى الكثيرين من الباحثين عن الحكمة، وكان تعليم جواتيما يدور حول هذا السؤال: لماذا أنا غير مستكمل أسباب السعادة؟
أما ما يعنيه السؤال فهو أن النفس مصدر كل شيء، فإن الآلام مرجعها إلى شهوات الفرد، فإذا لم يقهرها كانت حياته شقاءً ومصيره حزنًا، وعند «جوتاما» أن شقاء الإنسان يرجع إلى ثلاثة: أولها حب الشهوات المختلفة والشراهة، وثانيها حب البقاء والأنانية، وثالثها حب النجاح الشخصي والدنيا والبخل. فمتى تمَّ قهر النفس؛ أي تمَّ القضاء على هذه النزغات، صفَت الروح وحصل الإنسان على أسمى الخير.
ولا مِراء في أن هذه الفلسفة تُناقِض الفلسفة اليونانية التي تتطلب من الإنسان أن ينظر وأن يتعرف الصواب في غير وَجَلٍ، كما تُناقِض الفلسفة العبرية التي تأمر الإنسان بأن يخشى ربه وأن يفعل ما هو حق.
ولما كان عند اليهود يومئذ أن الحكمة تجيء إلى الأرض مجسمة في شخص يُدعى «بوذا» وذلك عند كل فترة من الزمن، فقد زعم أصحاب «جوتاما» أنه بوذا وأنه آخر البوذة — جمع بوذا — مع أنه ليس ما يثبت أن «جوتاما» قد قَبِلَ هذا اللقب. وكذلك انتظر أناس من المسلمين ظهور المهدي ولا يزالون منتظرين.